عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية

دفاتر إنسانيات

افتتاحية العدد

إن حقل الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية ومناهج دراستها من بين الحقول المعرفية التي أصبحت تلقى عناية خاصة من طرف دوائر البحث الأكاديمي في مختلف البلدان ولدى المنظمات الدولية المعنية بالثقافة والبحث،نظرا للإدراك المتزايد لأهميتها في معرفة الشعوب لذواتها ولبعضها،في إطار العلاقات بين ثقافات الشعوب البشرية المختلفة التي تطمح في بداية الألفية الجديدة إلى التحاور والتعايش في كنف تواصل إنساني يستبعد الهيمنة وفرض الرؤى المركزية الموروثة عن عهد الاستعمار والتبعية، وكذلك بغرض توجيه تغييرات وتطورات حياة الجماعات البشرية بالاعتماد على حريتها الثقافية التاريخية واستنادا إلى وعي الأجيال الجديدة بخصوصيتها وهويتها الثقافية.

ويأتي إصدار "دفاتر إنسانيات" في سياق يعرف تطورا منهجيا متسارعا في مجال البحوث الإنسانية والأنثروبوجية التي أصبحت تمثل ملمحا عالميا يتزايد الاهتمام به من طرف الأوساط العلمية المختلفة، كما أنه أصبح يشكل قطبا يجتذب إليه مختلف المقاربات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويسمح بتحليل النصوص ومختلف الظواهر الثقافية بمراعاة زوايا النظر المتعددة الاختصاص،مما يمكن من رؤية شاملة.

إن الباعث الحقيقي على إصدار "دفاتر إنسانيات" هو البحث عن إقامة جسر متين من الحوار العلمي والفكري بين الباحثين في الوطن العربي،بالإضافة إلى إفاء الحركة الثقافية بالجزائر حقها في الانتشار، خاصة وأن إخواننا بالمشرق العربي كثيرا ما يشكون من غياب هذا التواصل بين المغرب والمشرق العربيين.

ينبثق هذا المولود الجديد من رحم ممارسة علمية ظلت لسنوات تكابد من أجل التأسيس لتقاليد صلبة ومنتظمة في النشر والبحث، وبإصدار العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" يحقق مركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية مشروعا ظل رهن التفكير لمدة طويلة،ويحقق هدفا أساسيا من أهداف مجلة إنسانيات، رغم حداثة سنها،فهي لم تتجاوز بعد عامها السادس (1997-2003)، لكنها على حداثة عمرها الزمني استطاعت بفضل القائمين عليها أن تخطو خطوات هامة من خلال نشر العديد من الدراسات والبحوث التي استرعت اهتمام القراء والنقاد المتخصصين على المستوى الوطني والدولي. وقد كان هذا المشروع ممكن الإنجاز قبل هذا الأوان ؛ لكن الأمل في نضج الفكرة والعمل على توفير الشروط التي تضمن تحقيق الحد الأدنى للنوعية والدوام من جهة، والاستجابة لأفق انتظار القارئ في الوطن العربي من جهة أخرى، هما العاملان اللذان حالا دون تحقيق هذه الرغبة من قبل. ولئن تأخر صدور هذا النوع من التأليف للأسباب المذكورة ولغيرها، فقد حان الأوان لإنجاز هذه المحاولة، وستعقبها محاولات أخرى.

لقد تزامن ميلاد "دفاتر إنسانية" مع تجسيد استراتيجية مجلة "إنسانيات" الرامية إلى توسيع مقروئيتها في اتجاه الوطن العربي أملا في ترقية البحث العلمي وتشجيع الاحتكاك بين الباحثين العرب في مجال الأنثروبولوجية والعلوم الاجتماعية والآداب.

يقدم العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" إلى القارئ العربي مستخلصات بحثية منتقاة من ثلاثة أعداد (العدد الثامن، العاشر والحادي عشر) من مجلة إنسانيات سبق نشرها في الفترة ما بين سنة 1999 و 2000 وهي فترة شهدت أحداثا كثيرة وتحولات عميقة في الجزائر.

وتأتي أهمية النصوص المختارة كونها تتناول قضايا في غاية من الأهمية على المستوى الفكري وحرية التعبير، وعمق الطرح والمساءلة، وهي أبعاد أساسية تركز عليها مجلة إنسانيات في نشر موادها.

وانطلاقا من هذا الموقع لا يمكن النظر إلى المواد المختارة باعتبارها بناء فكريا أو إسقاطا نظريا مفصولا عن واقع الجزائر،وما جري فيها من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية، بل هي نصوص أقرب إلى الممارسة والمعيش التاريخي المتأصل في "مجتمعنا بتراثه وبؤسه، بنجاحاته ومآسيه،بانتماءاته وتمزقاته، بجاذبيته وتنافره، بقطيعاته واستمراريته."

تتوزع مادة العدد الأول عبر محاور ثلاثة : العنف، مساهمات في النقاش-الحركات الاجتماعية،الحركات الجمعوية-المقدس والسياسي، وهي مادة تعكس آراء متباينة بالنظر إلى تعدد المناهج والتوجهات الفكرية ومعالجة المسلمات التي تنطلق منها،بالإضافة إلى كيفية التعامل مع المعطيات العلمية والمرجعيات التاريخية والجغرافية والدينية واللغوية. فهو عدد يشتمل على دراسات تتبنى في مجملها مادة متداخلة الثقافات، قابلة لعمليات التهجين الخطابي لمختلف الحقول المعرفية المتقاطعة، خاصة عندما يتعلق الأمر بخطاب المقدس والسياسي، العنف والحركات الجمعوية.

وعلى الرغم من أن كل محور صدر أصلا عن مسعى مرتبط بحقل بحث معين،تسهل مقابلة ومقارنة الموضوعات المقترحة فيه،ويتيسّر من خلالها النظر إلى المضمون تارة في شموليته وتطوره، وتارة أخرى في تراكيبه وديناميته الجدلية الفاعلة، فإنه لا يمكن اختزال أبحاث هذا العدد في ظل سياق مغلق.

وقد حرصنا أن يكون مستوى التداخل بين المحاور الثلاثة أكثر انفتاحا،ذلك أن الصلة البارزة/الخفية التي تخترق أبحاث هذا العدد يجمع بينها السياق التاريخي، الإقليمي، السياسي والإيديولوجي، فهي حصيلة فكرية تؤسس لخطاب يرمي إلى وضع مورفولوجية ثقافية، مستلهمة من الترسبات التاريخية والدينية والفكرية العميقة. لذلك تتجلى النصوص المختارة في شكل نسيج من القضايا المتشابكة، وهي في عمومها تحيل على تراثنا الثقافي والتاريخي الذي طبعته آثار الشعوب التي تداولت على احتلال أراضيه وسواحله لفترات طويلة، بالإضافة إلى التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الجزائري المعاصر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى العمراني.

إن إنجازا مثل هذا خليق بالمباركة والدعم من طرف الباحثين الجامعيين ومن طرف الهيئات المعنية، لكي يتم ضمان استمراره وتطوره. إنه لبنة تضاف لأساس صرح البحث العلمي في الجزائر.



تـقـديـم المحور الأول : الحركة الاجتماعية، الحركة الجمعوية

يتفق المختصون في نظريات الحركات الاجتماعية على وجود نوعين من الحركات الاجتماعية عرفتها المجتمعات المتطورة الما بعد المصنعة.

النوع الأول : يخص الحركات الاجتماعية الكلاسيكية التي ارتبطت عموما بالعالم العماليو نضالاته داخل الحركات النقابية احتجاجا على التجاوزات المفرطة للرأسمالية الصناعية.

النوع الثاني : و المتمثل في الحركات الاجتماعية الجديدة التي تتميز بالأفعال الجماعية الاحتجاجية (المنظمة أو الغير المنظمة) و التي تبرز خارج الفضاء الاقتصادي و الإنتاجي. و ينفرد هذا النوع الثاني من الحركات الاجتماعية بنوعية المشاكل الجديدة التي يطرحها، و المجالات أو القطاعات التي يستهدفها و ينشطها، الفئات الاجتماعية التي يجندها و الإستراتيجيات التي يستعملها في منهجيته لمعالجة النزاعات و طريقة التصدي لها و أخيرا إلى الطابع الظرفي و الآني الذي يتصف به عموما[1].

و في هذا المجال، يعتقد عدد من المؤلفين أن بروز و تطور الحركات الاجتماعية الجديدة و الظهور المتجدد للحركة الجمعوية في أوربا على وجه الخصوص مفاده سد الفراغ الذي تركته الحركات النقابية و الازمة الحادة التي يعاني منها العالم العمالي و كذا التمثيل السياسي على حد سواء[2] حتى و أن بَيَّنَ البعض عكس ذلك مثل ت.و.تكسيتي في دراسة له يتنبأ فيها بظهور ديناميكية و نفس جديدين للحياة النقابية في فرنسا نظرا لتوفر العديد من الفرص و التموضع المرموق الذي بدأت تحتله تدريجيا الحركات النقابية داخل ميزان القوى الدائر حاليا في عالم الشغل[3].

من جهة أخرى، شهدت الدول المتخلفة و دول المغرب العربي على وجه التحديد في العشريتين الأخيرتين، انفجارا لا مثيل له للظاهرة الجمعوية.

و يمكن تفسير هذه الظاهرة في بلدان المغرب العربي بعاملين:

1- الهيمنة المطلقة لتسيير النظام الاجتماعي و من ثمة الخلفيات المترددة و النظرة السلبية للحركة الجمعوية. مما أدى إلى إيقاف كل محاولة لاستقلالية الفئات الاجتماعية أو النشاطات الجماعية (المنظمة و الغير المنظمة) القائمة خارج المؤسسات الرسمية للدولة.

2- التغييرات الاجتماعية، السياسية و الاقتصادية التي اجتاحت المعسكر الاشتراكي سابقا و التي اعتنقت كلها النهج الليبرالي في المجال الاقتصادي والسياسي. هذا الوضع الدولي لم يستثن الدول المتخلفة و مجتمعات المغرب العربي.

- إذن، تاريخيا فإن الظاهرة الجمعوية في هذه المجتمعات ظاهرة حديثة العهد و قلما اهتم بدراستها الباحثون. و من جهة أخرى نلمس العديد من أوجه التشابه في هذه المجتمعات (المغرب / الجزائر / تونس) للتجربة الجمعوية مثلا.

و بالفعل، جغرافيا نجد تمركز الظاهرة الجمعوية في المناطق الحضرية التي تجند فئات اجتماعية مختلفة و جديدة، و تشمل قطاعات و فضاءات متنوعة : اجتماعية، ثقافية، دينية، حقوق الإنسان و المرأة و مشاكل الهوية (الأمازيغية)، المهنة و المحيط و البيئة الخ ...

و انطلاقا مما سبق، فإن سلسلة من التساؤلات الأساسية تواجهنا ؛ أهمها :

- هل يمكن اعتبار التواجد الهائل و المكثف للظاهرة الجمعوية مؤخرا في المجتمعات المغاربية ترجمة لعهد جديد و قطيعة تبشر بديناميكية و تغيير ممارسة الدولة إزاء المجتمع المدني في التعامل معه بمنظور و تصور مخالفين للعهود السابقة؟

- بمعنى آخر، هل لنا أن نجزم أن هذه الظاهرة "الجمعوية" هي بمثابة فضاء مميز و إطار منظم لتطوير الثقافة الديمقراطية تمكن "المجتمع المدني"[4] أن يبرز من خلالها تدريجيا كطرف مؤثر قادر على فرض آراءه و مقترحاته على السلطات العمومية في المجالات المختلفة الني تهمه و تعنيه حتى يقوم بدور الوسيط و الفعال بين الحدوثة و المجتمع الذي يمثله.

هل تخضع الظاهرة الجمعوية إلى إستراتيجيات السلطة تديرها حسب اهواءها و مبتغياتها و تحصرها في قفص اللعبة السياسية الرسمية و من ثمة تفرغها من مهمتها الأساسية لتتحول باستمرار إلى جمعيات شكلية هشة قابلة للبقاء أو الفناء.

- تلك هي الاهتمامات الرئيسية التي دفعت بفريقين من الباحثين (الاول بمركز الأبحاث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية بوهران و الثانية بمعهد المغرب العربي / أوربا بجامعة باريس 8) ؛ بمشروع مشترك حول موضوع "الحركة الجمعوية بالجزائر و في المهجر" تحت إشراف السيدين : ر.قاليسو و ع.دراس

- و قد انصبت هذه الدراسات على محاولة إعادة النظر من جديد في شبكة القراءات للحركات الاجتماعية في الجزائر و بخاصة الحركة الجمعوية باعتبارها ظاهرة مميزة، شملت المجتمع المدني بشكل هام هذا من جهة، و الغرض الآخر ينكب على مقاربة مقارنة مع المجتمعات المجاورة (المغرب و تونس) و الحركة الجمعوية للجالية المغاربية بفرنسا من جهة ثانية.

- إن مجمل المساهمات التي يحتويه العدد الثامن من مجلة إنسانيات و المخصص للحركات الاجتماعية و الجمعوية يحاول الإجابة على معظم التساؤلات المذكورة أعلاه، مدركين جيدا أن هناك مجالات و جوانب عديدة لم نتطرق إليها لتكون ابحاثا لاحقة خاصة تلك التي تتعلق بالمواضيع ذات الطابع النظري و المنهجي كموضوع تيبولوجيات الحركات الاجتماعية الجديدة، مشكل تصنيف الجمعيات و المقاييس الموضوعية بين صنف الحركات الاجتماعية الكلاسكية و الصنف الجديد منها في المجتمعات المغاربية[5] و أخيرا الجمعيات الغير الرسمية و الغير المعلنة و التي نجهلها تماما.

و يصنف هذا العدد من المجلة في عدة مجالات : بادئ ذي بدء التساؤلات المنهجية التي يتطرق إليها ر.غاليسو من زاوية تاريخية للعلاقة بين الحركات الاجتماعية و الحركات الجمعوية في إطار التفاعل بين الدولة و المجتمع ليبرز في تحليلاته المعنى و الأشكال المختلفة للحركات الاجتماعية التي ظهرت و ميزت المجتمعات المغاربية و ذلك من خلال ثلاثة مراحل كبرى :

- المرحلة الماقبل استعمارية مع تكوين الجمعيات الدينية و الطائفية عن المرحلة الاستعمارية و التي أفرزت الانتقال من الجمعيات ذات الطابع العرقي و الهوية إلى المجموعات السياسية التي تمثلت في النماذج الوطنية للدولة و أخيرا المرحلة ما بعد الاستقلال و التي تتصف بهيمنة الدولة و الاستراتيجيات التي طبقتها لايقاف المحاولات المتعددة لاستقلالية الفئات الاجتماعية و المجموعات عن الدولة و أجهزتها.

- يخصص المحور الثاني لهذا العدد جزءا كبيرا لدراسة الحالات بدءا بالمثال التونسي مع ن. سريب الذي يقدم لنا تحليلا للجمعيات الثقافية إبان الفترة الكلونيالية بتونس و التي أوكلت لها وظيفة أساسية ألا و هي إنتاج التجمعات السياسية معتمدا بذلك على استعراض المسيرة السياسية لبعض الفاعلين المميزين في ميدان النشاطات الجمعوية.

أما الدراسات المخصصة للجزائر فهي تشتمل على ستة أمثلة الأولى مع م. رمعون التي تقترح علينا تاريخية خصصتها للحركة الجمعوية النسوية و تطور نضالاتها و الاتجاهات و الخطابات التي عرفتها خاصة بعد صدور قانون 31/12/1990.

بعدها يقترح علينا ع.دراس دراسة ميدانية لمائة جمعية نشطة في ولاية وهران ليعطينا تقييما للوضعية الحالية للحياة الجمعوية بهذه الولاية عن طريق دراسة ثلاثة مواضيع متكاملة: الخصائص و الملامح الأساسية للجمعيات و التركبية الاجتماعية لموطربها و ماهي تمثلاتهم و كيف يقيم هؤلاء مصير الحركة الجمعوية في الجزائر حاليا و مستقبلا.

ب.صالحي اختار حالة الجمعيات بالقبائل ليبرز أن المجموعات التي تخوض عملية العصرنة مثل الجمعية أو الحزب السياسي تعود للظهور من جديد معتمدة على أدوات جديدة مع المحافظة في نفس الوقت على الأدوات التنظيمية التقليدية.

د.بلبيار يلفت اهتمامنا حول التفكير في مصداقية العلاقة المتبادلة و الارتباط القائم بين ثلاثة هيئات: كرة القدم، العالم الحضري و الديمقراطية ليستعرض اشكاليته معتمدا على أربعة أفكار قوية.

- ص. بن قادة يقدم لنا منوغرافيا مفصلة لجمعية الجغرافيا و علم الأثار بوهران ما بين 1918/1998 الجمعية العلمية الوحيدة التي استأنفت نشاطاتها بعد الاستقلال مبرزا في ذلك الدور الذي لعبه الفاعلون الجدد في المجال الثقافي لاعادة الاستحواذ على هذا الارث الثقافي و العلمي المتواجد اثناء الفترة الاستعمارية.

أخيرا ب.سنوسي يقدم لنا شهادة لجمعية المحافظة على البيئة و علاقاتها "النفعية" مع السلطات المحلية و المركزية.

* م. رولاند تدعونا للتعرف على الحركة الأمازيغية بالمغرب لتعرض علينا الاستراتيجيات المختلفة التي إعتمدت عليها، و ماهي ردود أفعالها إزاء هيمنة الدولة من خلال دراسة الخطابات التي انتجتها هذه الحركة و مدى تكيفها مع الأوضاع السياسية وفقا لميزان القوى التي طبع كل مرحلة من حياة هذه الحركة.

* يهتم ج. بريفو تطور الحياة الجمعوية للجالية المغاربية بفرنسا معتمدا على فرضية مفادها أن مبدأ النظرية المبنية على دوافع عملية التنظيم الذاتي ليبين لنا أن الحركة الجمعوية المغاربية بفرنسا ماهي إلا ركيزة مؤسساتية للأشكال المختلفة للتنظيم الذاتي باعتبارها ورقة في يد السلطة و أرضية صراع سياسي من خلال جعل هذه الجمعيات وسيلة تستعمل في اللعبة السياسية و الكيفية للاستحواث عليها. و من ثمة ماهي ردود افعال الجمعيات في محاولة التصدي للهيمنة، و محاولات الانفصال عنها.

* و أخيرا نختم هذا العدد الثامن بتقديم حصيلة نقدية لمختلفة التيارات الفكرية لنظريات الحركات الاجتماعية و الأفعال الجماعية للتجنيد الاجتماعي التي عرفتها أوربا و الولايات المتحدة. ليقترح علينا د. لصاوت بعد ذلك تعويض النقائص و محدودية هذه النظريات بالأخذ بعين الاعتبار البعد التاريخي و وزن المحددات الاجتماعية للنشاطات التاكتيكية لكل الأفعال للتجنيد الاحتجاجي.



الهوامش

[1]- أنظر توران، آلان.- إكتشاف الحركات الاجتماعية في الفعل الجماعي و الحركات الاجتماعية.- مطبوعات PUF، 1993.- ص.ص. 17-38 و مقالات ر. غاليسو حول هذا الموضوع خاصة العدد 98/1990/4 من مجلة الإنسان و المجتمع.

[2]- برتليمي، و ايون يؤكدان أن الحياة الجمعوية توصلت إلى فرض وجودها بقوة على انقاد الحركة النقابية نتيجة تحول بعض القطاعات في المجتمع إلى حالة أنيميا.- س. جوان .- الحدث الجمعوي.- مجلة علم إجتماع العمل، العدد 41، 1999.- ص.199.

[3]- ذكر المرجع.-ص.ص 53-60.

[4]- دار نقاش ثري حول مصطلح "المجتمع المدني" بمزيد من المعلومات أنظر غاليسو، ر.- تجاوزات المجتمع المدني.- مجلة الإنسان و المجتمع، العدد 102، 1991/4.

[5]- رولاند، م. تقترح مقاربة في هذا الموضوع إذ تعتمد على تحليل و دراسة تداخل و مزج النوعين من الحركات الاجتماعية عبر الفترات التاريخية المختلفة.- دفتر 1 لمعهد مغرب / أوربا المخصص للحركات الاجتماعية في المغرب العربي، 1997.- ص.8.

الحركات الجمعوية و الحركة الاجتماعية : علاقة الدولة و المجتمع في تاريخ المغرب

يعتبر الإنتقال من دراسة الحركات الإجتماعية إلى البحث في الحركات الجمعوية سمة العصر. و ارتبط ذلك بأزمة الحركة العمالية التي اتخذت نموذجا لمعاينة الحركات الإجتماعية و بتجليات الحركات الإجتماعية الحديثة التي نتجت عن ظاهرتي إستقلالية التنظيمات الجمعوية و لحظات التضامن العارضة. في الواقع، تتميز هذه الحركات الجمعوية بإنسياقها ضمن شبكة العلاقات الإجتماعية أو الجمعنة، أو الوشائج الولادية و الأسرية القريبة، تلك الشبكة التي تمتد داخل تكتلات علائقية تتجسد في الروابط المحلية التي تربط المجموعات و أوساط السكن و العمل أو غيره. يتم إسقاط هذه الجماعات الإنتمائية في أسطرة نظام جماعاتي مرجعي شامل : أسطرة الجماعات الكبرى المتخلية على أساس سلالي أو ديني أو قومي بالنسبة للأزمنة المعاصرة.

يخترق هذه التجمعات التي تستند إلى التضامن المتغير، فوارق بدءا بالتفاوت الإجتماعي المرتبط بالجنس. إنها لا تخرج عن دائرة العلاقات الإقتصادية و التراتبات الإجتماعية التي تشكل الأغلبيات المهيمنة و الأقليات، ثمة تمايز كبير يطبع الجمعيات التي تعمل على التأسيس للمجتمع العمومي ضمن المجتمع القائم و القائم من قبل الدولة، و يطبع هذا التمايز الجمعيات أو الحركة الجمعياتية غير الرسمية، المناوئة للدولة أو التي تضع نفسها خارج الدولة. في الواقع تنتمي الحركات الجمعوية إلى العلاقة بين الدولة و المجتمع : علاقة تقوم على التنازع.

الحركات الجمعوية و تخارج الدولة التقليدية (ما قبل الإستعمار)

لم تكن السلطات ما قبل الإستعمارية و ما قبل الوطنية تعمل على بسط نفوذها بعمق في المجتمعات، بل كانت تكتفي بإشراف يستند إلى أنماط عسكرية ودينية سائدة و مفروضة من الأعلى ترمي إلى قيادة السكان بشكل أو بآخر.

كانت الدولة بعيدة أو بالأحرى غائبة : لم تكن أجهزتها ممتدة في أعماق المجتمعات و لم يتم دمجها اجتماعيا. تخضع حركات التعبئة الجماهيرية التي لم تكن مستقلة -مثل الحركات الإجتماعية المعاصرة- لدوافع ترتبط بالمعارضة الدينية الداعية إلى الصفاء الأخلاقي و الأخوة الصوفية التي تحل محل المساواة. تفسح هذه الهبات الكبرى المجال للحركات المرابطية -على الخصوص- التي تعبر عن إحتجاج معتدل قابل للتفاوض أو مفتوح. إنها تشكل ركيزة قديمة للتعبير عن إستياء إجتماعي يحيل إلى النزاعات القبلية المحلية. تشكل هذه الحركات دليلا على تكوين الدولة كلما اتخذت طابعا معاديا للجباية، إنها الدلالة المناوئة للدولة سيعمل الإستعمار على توسيعها جذريا.

الحركات الجمعوية و التخارج الأجنبي للدولة الإستعمارية

تبقى الدولة الإستعمارية أجنبية بفعل الإحتلال العسكري و المقاومة التي تسبب فيها. إنها كذلك دولة عدائية تحولت إلى دولة أجنبية بفعل صعود الحركة الوطنية. توطد تخارج الدولة إذن و لذا ستعمل الحركات الإجتماعية لا خارج الدولة أو على هوامشها بل ستتحول إلى حركات معادية للدولة، لقد فقدت الدولة الإستعمارية قيمتها مثل نظامي المخزن و البايليك بالرغم من قوتها التنظيمية المبالغ فيها. إتخذت الدولنة الإستعمارية شكل الدولة الإدارية التي استحوذت عليها فئة الموظفين و المعمرين و بالتاالي لازمت المجتمع الإستيطاني و ابتعدت عن الأهالي عدا بعض المتعاملين معها أو العملاء. تحول مطلب الدولة الوطنية فيما بعد، إلى تطلع إلى الدولة و إلى الوظيفة العمومية اللذين إعتبرا بمثابة الوجه المعاكس للظلم و التمييز الإستعماري.

لقد تم تدعيم توظيف الدولة و الإحتقار الإجتماعي. إن سرقة الدولة و الإستفادة من خدماتها مهما كانت الوسائل المستعملة، لم تعتبر جريمة.

هكذا تم الإنتقال من قطع الطرق و اللصوصية إلى تحويل الأموال العامة و إختلاس الممتلكات العمومية و الاستعمال الفردي للخدمات العامة، و في ذات الوقت إلى تكريس الرشوة(البقشيش) و المحاباة التى أصبحت طريق دولنة العصبيات. ثمة تمهيد أولي للعلاقة الجمعوية إلى الدولة : في هذه الحالة يمكن الحديث عن تعود جماعي.

حين ندرس-بشكل رئيسي- الحركات السياسية و النقابية نتناسى الحركات الجمعياتية المستقلة، ذات النمط الطائفي، التى ترتبط بالجماعات التى تنتمي إلى ناحية معينة او إلى رابطات "القدامى" التى تكرس تعاونا قويا في مجال التكوين و السكن و العلاج و الخدمات. بإختصار نتناسى نظام التعاضد الإجتماعي الذي قد يكون غير عمومي و لصالح الهيمنة الإستعمارية و المتنفذين إلى الدولة الإدارية. يتوقف النظام الجمعياتي على الوضع الإجتماعي و الموقع داخل الدولة الإستعمارية.

الجمعيات الإستيطانية المختلطة : وضع المجتمع المضاد

كان النظام الجمعياتي مختلطا إلى درجات متباينة بين المعمرين الاوروبيين و المستعمرين الأهالي و هو بذلك يشكل مركبا ثقافيا مختلطا. و متلث المدرسة و النقابة فضائين رئيسيين حملا هذا اللقاء بين المعمرين و الأهالي و شكل الجيش الإستعماري على صعيد أخر -فضاءا ثالثا- و تنشأ الحركة الجمعياتية كذلك في محيط المدرسة،تجمع تلامذة المدارس و الإعداديات و الثانويات و الكشافة بما فيها جمعيات الرعاية و حتى الإتحادت الطلابية فيما بعد أو في التردد على أفواج الشباب العاملين في ميدان التبشير أو الخلايا السياسية، في غالب الحالات، نجد في هذه الجمعيات نفس المدرسين. و تبرز الجمعيات الرياضية في ظل هذه التجمعات و المعاشرات و من جهة أخرى عن طريق الإمتداد المهني و ثمة فضاء آخر للإختلاط- الإختلاط في ظل الشغل- تمثل في بورصة الشغل أولا ثم الكنفيديرالية العامة للشغل التي ظلت البيت المشترك للعمال إلى غاية الخمسينات حيث تأخر تأسيس المركزيات النقابية الوطنية.

صحيح ان هذا الإختلاط كان غير متكافئ في الشغل أولا، بفعل تفاوت الأجور و في الوظائف عموما. فالسكن يقوم على التمييز العنصري، الكل يعود إلى حيه بعد عمله. أما الممارسات العلائقية، عدا بعض الإستثناءات، و الوشائج الأسرية فقد غاب عنها الإختلاط.

ثمة إختلال بين أنماط التضامن و الجمعيات التى لا تملك نفس التوطين و تعمل على تدعيم الهيمنة الذكورية إلى حد الحصر. لقد زرعت الظاهرة الإستعمارية الشك في الممارسات الجمعوية و إن كانت ترفيهية و وضعت الرابطات و نوادي الدراسات تحت الرقابة. فالقمع الإستعماري يسعى إلى تحطيم هذه العلاقات التقاربية. هكذا كان الحفاظ على الأمن الإستعماري يضع الممارسة الجمعوية للجمعيات المختلطة و الجمعيات الجزائرية المسموح بها أو الممنوعة في وضع مجتمع مضاد.

إتجهت الدوائر الجمعوية حينها، إلى التحول إلى جماعات مصغرة و إلى شبكات تآلف و تآزر دون ان نتحدث عن اللحظات و الأشكال الإندماجية التي تمنح فرصة تكوين إطار جمعوي آخر. كانت الحركة الجمعوية تنمو في مواجهة المجتمع الإستعماري و تعبر عن نفسها بوصفها مجتمع مضاد، من الداخل إن صح القول، في حين كان العمل المناهض للإسعمار يواصل التصدي الى دولة أجنبية و مغايرة وطنيا.

الإختلاط و الهوية الإسلامية

يعمل التمييز الإستعماري بشكل شمولي على تحجر المجتمع المستعمر بحصره في وضع قانوني متدني يسد باب الحصول على المساواة المدنية و الحقوق السياسية بدعوى إحترام قانون الأحوال الشخصية و بطريقة أدق عند تقنينه لوضع معتقدي يحيل إلى قانون الأسرة يؤكد العصمة لرب العائلة. يقوم الخط القاسم خلال الفترة الإستعمارية على التعيين العقائدي (المسلمون و غيرهم). إن مثل هذا التعريف يتضمن تمييزا عرقيا أصبح مقياسا لتحديد الجنسية، في هذه الحالة أصبحت فكرة المواطنة القومية في ظل التعددية العرقية، و الإمتزاج و الإنفتاح مهمشة مهما كانت القناعات المنطقية المعتمدة ضمن الإختلاط الجمعوي.

ظل المجتمع المستعمر و هو في وضع مجتمع مضاد يتسم بطابع الجماعة المسلمة التي تحتفظ بمعايير أسرية و تمثلات و معاملات جماعية. هكذا لم تكن تنعت الجمعيات بصفتها الدينية فحسب بل كانت تحقق تظافر الأنماط العلائقية المنفردة و الذاتيات الجماعية التي تجسد الهوية الجماعية الشاملة: هوية أمة ذات مرجعية دينية. في بلدان المغرب توصلت السياسية الإستعمارية إلى فسح المجال لنموذج وحيد للوطنية : وطنية المسلمين.

العلاقة بالدولة الوطنية بعد الاستقلال

على إثر الإستقلال، جرى العمل على تحقيق خطة مزدوجة :

تأميم فوري لأجهزة الدولة عن طريق الإمتلاك السياسي لها. فالحكومة و المجالس و إدارة أملاك الدولة و المصالح العامة أسندت إلى مناضلي الحركة الوطنية. أما المصالح الإدارية الأخرى فتم الإشراف عليها تدريجيا، فالوجه الثاني للخطة - الوجه المقابل للأول - تمثل في دولنة المجتمع التي حققتها - أجهزة الرقابة و الأمن - بكثافة أكثر من العدالة الإجتماعية التي كان يحققها التسيير العمومي و الدعم المادي للسكان. كانت حملات التعبئة الوطنية ترمي إلى تعويض نقائص السياسات الإجتماعية. و تحولت آنذاك العلاقة بين وجهي الخطة المذكورة : تأميم الدولة و دولنة المجتمع، إلى علاقة مفارقة.

لقد كان التجاوب مع الدولة الوطنية قويا و تحول الفكر الوطني إلى رباط إجتماعي أساسي إلى درجة تعليق المسألة الإجتماعية، أو بالأحرى إدراجها ضمن فوائد إعادة الترتيب داخل الدولة و توزيع العائدات و المزايا الممنوحة من قبل الدولة. فالأمة أصبحت القيمة المقدسة و للإستعمال الخارجي تم تبجيل الدولة الوطنية بفعل مماثلة بينها و بين الأمة، غير أن الدولة الفعلية، على المستوى الداخلي بوصفها جهاز بوليسي و عسكري أساسا و نظام تأطير و رقابة، ظلت - جزئيا - في موقع تخارج إزاء المجتمع. تتجسد القطيعة بين الدولة و المجتمع في مظاهر تمتد من اللامبالاة إلى الإحتقار، من غطرسة الموظفين السامين و تعسف المستخدمين دون الحديث عن التصرفات القمعية إلى التعبير عن طريق الكاريكاتور و الريبة و الرفض و الإختلاس و تخريب العمارات و الأملاك العمومية. فالعلاقة بين الدولة و المجتمع تفتقد إلى الرباط المدني و السياسي غير أن قوتها تتجلى في الطلب الإجتماعي، محققا كان أو مكبوتا و في الدعوة الوطنية. إنها علاقة مصلحية و إيديولوجية في آن واحد. مثل هذه المفارقة نجدها في العمل الجمعوي. تفتقد الأشكال و الممارسات الجمعوية التي ارتبطت بالحركة الوطنية و التي تشكلت على نموذج الحركة العمالية (إذ الحزب يمارس وصايته على المنظمات الجماهرية) أو التي إرتبطت - جزئيا - بالعمل النقابي : شبيبة، ثانويون، طلبة، نساء، إتحادات مهنية تعاضديات، نوادي رياضية و ترفيهية، موقعها و وظيفتها و محتواها المعارض لتندمج بأشكال مختلفة في أجهزة الدولة خاصة و أن نظام الأجور الذي تعتمده، اصبح عموميا أو شبه عمومي في غالبه، فارتفعت نسبة الأجر الإجتماعي الذي كانت تمنحه الدولة أو تضمنه. و إن حافظ على مطلبية قاعدية فإن التنظيم الجمعياتي الوطني إفتقد - أساسا- طابعه المناوئ للدولة.

تداخلت الشبكات التي تسند الحياة الجمعوية مع أجهزة الدولة و هيئاتها، و لا يعني ذلك استمرار المحاباة و إستعمال الوسائط في الإدارة فحسب بل تكريس العلاقات العائلية و المحسوبية الجهوية و اللجوء إلى رابطات القدامى و الزمالة الدراسية و روابط الأخوة النضالية و العسكرية التي تحمل العصبيات المختلفة إلى دواليب الدولة و هيئات التسيير العمومي.

أفضى قيام الدولة الوطنية إلى إضفاء طابع رسمي على الحياة الجمعوية، فالدولة تعمل على تطويق المجتمع حين تجعل المنظمات الإجتماعية مجرد وسائط لها. إن ممارسة الإشراف الرسمي و البيراقراطي عليها يرافقه تقديم إعتمادات مالية لها أي بعبارة أخرى فرض تبعية مالية عليها. يتضح ذلك عند الكشف عن المقارنة بين صناديق الضمان الإجتماعي و التعويضات العائلية و بين الإتحادات النقابية، فالعمل النقابي أصبح نشاطا تأطيريا بشكل واضح في نطاق السعي إلى دولنة المجتمع، إمتد التأطير الرسمي إلى الأقاليم و الولايات و البلديات عن طريق تزايد الجمعيات الرياضية و نشاطات التسلية و الفرجة التي استحوذ عليها الأعيان و الإتحاديات الرسمية. بإيجاز أصبح كل نشاط جمعوي ينزع إلى الإستقلالية معرضا للشك أو للحظر بسبب خروجه عن التأطير القائم. عموما كانت الدولة ترمي إلى حظر أية حركة جمعوية معارضة تهدف إلى التشكيك في الوضع القائم. أدت التبعية إلى الدولة إلى تبديد الحركة الإجتماعية المشكلة على نموذج الحركة العمالية. إنها تفسح مجال العمل للحركة الجمعياتية التي تخضع لمدونة قانونية رسمية خاصة بنوادي التسلية و للتنشيط الموجه الخاص بالرياضات المشهدية و التظاهرات العامة غير أنها تعمل على حظر أو تجميد النزعة الإستقلالية لأي نشاط إجتماعي أو نشاط يمارس حق التعبير و الحقوق السياسية الأخرى.

خارج االإطار المؤسساتي أو في حدود الحظر، تقوم تظاهرات العمل الجمعوي، خاصة تلك التي تدعو إلى المطالبة بالحقوق : جمعيات حقوق الإنسان ضد التعسف السلطوي و الإعتقالات و الإختطاف و التعذيب، ثم جمعيات النساء ضد القوانين التي تكرس الإمتيازات الأسرية للزوج و لرب العائلة، ثم الحركات الثقافية التي تدعو إلى التعددية الثقافية و اللغوية، و حتى الحركات التي تدعو إلى تكريس حق التعبير و الإجتماع. فانتقل النضال من الحركة النقابية الرسمية و المنظمات الرسمية و شبه الرسمية إلى الحركة الجمعوية الجديدة الشرعية- و إذ كانت شرعيتها ضعيفة فتعمل على التنازل- و غير الشرعية التي تعمل باستمرار على تجديد تنظيماتها. و إن قامت هذه الحركة الجمعوية على حرية التعبير و العمل فإنها لا تعمل على قطع صلاتها العضوية بالنموذج الحزبي بل تسعى إلى تحريكها من جديد في التنافس بين الجمعيات أو السباق من أجل قيادتها. فجمعيات حقوق الإنسان تابعة لأحزاب و الجمعيات النسوية العديدة تخترقها نزاعات داخلية ترتبط بالخلافات القائمة بين الأحزاب الصغيرة (التي تتواجد فيها) أو بالخلاف القائم بين المواقف المعتدلة و المتطرفة من قضية المرأة.

سوسولوجيا، تنتمي الحركات الجمعوية إلى فئة المثقفين، المعارضين أو المقهورين إلا أنهم تابعون إلى الدولة إذ ينتمون إلى المجتمع العمومي. حينذاك، قامت الإنتفاضة في الطرف الآخر من المجتمع : مجتمع الجماهير، شباب شغيلة المدن و البطالين. تراجعت المنظمات الجماهيرية بحكم انتمائها إلى المجتمع القائم و أصبحت عاجزة عن النضال الإجتماعي و التكفل بالقاعدة الجماهيرية و النفوذ إلى الأحياء الشعبية. في هذه الحالة ليس غريبا أن تحل محلها الجمعيات الإسلاموية التي تصدرت النضال الإجتماعي.

في هذه السياق تبدو الحركات الجمعوية في المهجر و كأنها حركات مكملة. ما يميزها هو المسافة التي أقامتها مع وطنية البلد الأصلي خاصة الإيديولوجية العربية الإسلامية ذات البعد الإقصائي و الايديولوجيا الإندماجية الفرنسية و الأوروبية المعاصرة. يكشف هذا التطور عن عملية تمازج بين جماعات الشتات في المهجر التي خلقت إنتماءا عرقيا لا وطنيا مثل الإنتماء المغاربي. بشكل معين نحن أمام عودة إلى فكرة الإختلاط، او بالأحرى عودة إلى فكرة التعددية الثقافية التي تجد صداها كذلك في الدعوة إلى الإختلاط عن طريق الزواج و العلمانية. في بلدان المغرب، يسعى العمل الجمعوي بجهد إلى شق طريقه في ظل التأرجح غير المتكافئ القائم بين مجتمع عمومي يتبع للدولة و لو بشكل ضعيف، و مجتمع يعيش على الدعم و بالتالي يعمل على تضخيم الطلب الإجتماعي و اليأس الناتج عنه.



نقله إلى العربية :

ممارسات ثقافية و جمعنة سياسية : المثال التونسي

بأية حال يمكن أن تشكل الممارسات الثقافية رهانا أو رهانات سياسية؟ إنه الموضوع الذي نريد تفحصه انطلاقا من جمعيتين ثقافيتين هما "الخـلـدونـية" و "جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية" اللتين تأسستا على التوالي سنة 1896 و سنة 1905 بالعاصمة تونس.

اتجه اهتمامنا الى هاتين الجمعيتين لأنهما تمثلان ما أسماه "جان-فرنسوا سيرينلي هياكل الجمعنة أي "تجمعات دائمة أو مؤقتة، مهما كانت درجة تأسيسيتها، يتم اختيار المشاركة فيها" إنها شبكات جمعنة "تفرز مجالات إجتماعية مصغرة و يمنح نشاط المثقفين الذين يكتبون بها و غالبا ما ينتمون إليها، سمات خاصة تضفي على هذه المجالات خصوصية معينة". من وجهة النظر هذه، تعني كلمة الجمعنة شأنين ملازمين : شبكات لها قدرة الهيكلة و مجالا مصغرا يميز مجموعة ثقافية معينة".

يدفعنا مصطلح "الممارسات الثقافية" إلى تحديد ما نعنيه بالثقافة. نقصد بالثقافة معنا مزدوجا: الأحداث الثقافية و الممارسات و طرق التعبير الثقافي التي تدخل ضمن التاريخ ؛ ذلك التاريخ الذي عرفه لوسيان فيبر[1] بأنه علم الإنسان إذ يختص بتجليات هذا الكل الحي و وظائفه " في الزمان و المكان، يدرس التاريخ التحولات البشرية المتعاقبة و المتزامنة التي تعني السياسة و الدين، الفعاليات العسكرية أو الاقتصادية، التقنيات البسيطة أو الفنون الراقية، الفولكلور المتواضع أو الفلسفة السامية".

كيف نشأت هاتان الجمعيتان و لماذا ؟

إن تناول هذه القضية يستدعي العودة إلى ما نعتبره ظاهرة خاصة بالحياة الثقافية و السياسية التونسية.

خلافا لبلدان المغرب الأخرى، شهدت تونس حركة إصلاحات، بدءا من الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، لم تشهدها لا الجزائر التي احتلتها فرنسا من قبل، و لا المغرب الأقصى. و شملت إحدى النقاط الرئيسية لهذه الاصلاحات التعليم التونسي آنذاك. و تمثل ذلك، خاصة، في إصلاح التعليم الزيتوني سنة 1842 و إن لم يكن لهذا الإصلاح نطاق واسع.

و تمثل الاجراء الثاني في إنشاء مدرسة العلوم التقنية بباردو سنة 1832 غير أن العمل بها لم يبدأ إلا سنة 1840. كانت هذه المدرسة تهدف إلى تزويد عساكر الباي بتعليم تكميلي و بالمعارف العسكرية اقتداءا بما كان يجري في أروبا.

يهمنا هذا المشروع لأكثر من سبب، إذ لاول مرة في تاريخ تونس، يتم ادخال تعليم من نوع حديث إلى جانب التعليم الأصلي الزيتوني الذي يختلف عنه مضمونا و غاية. لقد أضيفت علوم دنيوية أو نافعة و كذلك تعليم اللغات الاجنبية إلى التعليم الذي كان يلقن بجامع الزيتونة في تونس. و ادخلت هذه العلوم الحديثة بإيعاز من شيوخ الزيتونة المناصرين لحركة الاصلاح الجارية في الاقطار الاسلامية التابعة للسلطنة العثمانية (تركيا و مصر على الخصوص).

أخيرا ثمة عامل بالغ الاهمية في رأينا، تمثل في تشكيل "كتلة تاريخية" نشأت انطلاقا من هذه المدرسة، بفعل تعاون علماء الزيتونة و الضباط الشباب المتخرجين من المدرسة العسكرية لباردو الذين اضفوا طابعا خاصا على نمو تونس المعاصرة.

كان وصول خير الدين إلى دفة الحكم كوزير أول عام 1873، و قد شغل مناصب هامة من قبل، بمثابة دفع آخر لحركة الاصلاحات إذ حقق مجموعة من الانجازات الهامة منها تأسيس المدرسة الصادقية سنة 1875. انطلاقا من هذه المؤسسة التكوينية الحديثة سيعمل شيوخ الزيتونة المصلحون و قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية على تخليد روح التجديد التي ميزت خير الدين. لقد أضفت هذه الروح التجديدية طابع الاستمرارية لحركة اصلاحية كانت تتعزز و تتأصل مع توطد نظام الحماية الجديد الذي فرض على التونسيين. و سينمو أسلوب عمل هؤلاء المصلحين وفقا لتطورنظام الحماية ذاته.

جماعة الحاضرة

كان الجيل الأول المؤسس لجريدة "الحاضرة" يتألف من صادقيين و زيتونيين عاصروا خير الدين و تأثروا بروح التجديد التي كانت تميزه. لقد بدا لهؤلاء أن آنتصاب نظام الحماية في بدايتها كان ملائما لتنفيذ القيم التحررية لفرنسا سنة 1789 إذ كانت نصوصه تقر احترام سلطة الباي و السيادة التونسية. و قد كان خير الدين ذاته يحيل في كتابه " أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك[2] إلى هذه القيم التحررية.

لذا تبنى هؤلاء المثقفون اصلاحا ثقافيا كان يدعو إلى مطابقة العلوم الغربية لحاضر العالم الاسلامي بهدف حمايته من الهيمنة الاوربية و إعداد مستقبله إعدادا حسنا. إن مثل هذا الالتزام المحايد -ظاهريا- إن لم يعمل على التشكيك في السلطة الاستعمارية، كان يسعى -على الأقل- إلى ايقاظ الوعي الوطني إذ كان يركز على القضايا الثقافية مثل قضية اللغة و الدين و يرمي إلى تعريف عصري للأمة التي تتوفر على حق الوجود أولا ثم حق تقرير المصير أخيرا.

يقول شارل أندري جوليان في حق هذه الجماعة "كان محرر و جريدة الحاضرة أول من هاجموا الجمود الذي كانت عليه تونس و نددوا بالتغني السلبي بالماضي المجيد و اللامبالاة إزاء المشاكل الاجتماعية و السياسية التي تسببت فيها الحماية و عدم العناية بمستجدات العالم المعاصر".

شكل نشاط جماعة الحاضرة بداية توعية التونسيين بهذه القضايا. و على إثرها، ظهرت جمعيتان ثقافيتان : الجمعية الخلدونية سنة 1896 و جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية سنة 1905.

الجمعية الخلدونية

تأسست هذه الجمعية بإيعاز من المقيم العام "روني مييى". كانت فكرة "ر.مييى" ترتكز على وجوب اصلاح التعليم الاسلامي عن طريق ادخال المناهج الفرنسية و العلوم في كل ما لا يمس بجوهر التعليم الديني. بهذه الطريقة، يمكن لفرنسا - في نظره - أن تستكمل عملها الحضاري في تونس. و يجب كذلك، مواصلة العمل الذي باشرته الحماية الفرنسية بهدف تحقيق الترقية الفكرية و الاخلاقية للشعب التونسي. مثل هذا العمل، لو أضيف إلى الاصلاحات السابقة، سيؤدي إلى ترسيخ ذهنية عامة و تيار نهضوي دونهما لا يمكن للإصلاحات أن تثمر[3].

لقد لقيت هذه المبادرة صدا ايجابيا لدى المصلحين التونسيين الذين كانوا يأملون إدخال إصلاحات على التعليم بالزيتونة الذي أهمل كليا تدريس العلوم الحديثة.

يشير محمد الأصرم بهذا الصدد إلى " الاجتماع الذي انعقد في نهاية اكتوبر 1896 بالمرسي شاركت فيه ثلة من الشبان المسلمين ذوي التكوين اللبيرالي و الفكر المستنير تم تعيينهم من قبل المقيم العام بحكم مواقعهم الاجتماعية. في هذا الاجتماع، تمت مناقشة الأراء التي تعمل على تكوين مجتمع يهدف إلى ترقية تعليم الاهالي و الطلبة الذين يزاولون دروسهم بجامع الزيتونة حيث أبعد تدريس العلوم الحديثة".

هكذا أنشئت الجمعية بعد المصادقة على مرسوم 22 ديسمبر 1896. بناء على المادة الثانية من القانون الأساسي، حددت الجمعية لنفسها الأهداف التالية :

- تنظيم دروس و ندوات حول التاريخ و الجغرافيا، اللغة الفرنسية و الإقتصاد السياسي، و الصحة و النظافة و الفيزياء و الكيمياء.

- تسخير الوسائل لمن هم أهل لذلك، بهدف تكميل تعليمهم.

- تشجيع إنشاء المكتبات.

- إصدار نشرية بالعربية و الفرنسية يكون هدفها الرئيسي تعريف الفرنسيين بالحضارة العربية و المسلمين بالحضارة الفرنسية.

و تنص المادة الثالثة على أن "الجمعية تمتنع عن كل مناقشة أو إعلان ذي طابع سياسي أو ديني".

وفقا لمواد القانون الأساسي، عملت الجمعية على تجسيد "الوفاق الودي" بين "المتطورين" التونسيين و سلطات الحماية، إذ كانت الرغبة المشتركة بينهما إدخال العلوم الحديثة في المؤسسات التي كانت آنذاك تناوئ هذه العلوم، و مع ذلك، نعترف أن الأهداف ذات المدى المتوسط أو البعيد، لم تكن متشابهة بين الطرفين.

بالنسبة لسلطات الحماية، كانت الغاية توفير الشروط المناسبة لادخال إصلاحات جديدة و تكريس فكر يؤمن بالحضارة الغربية أي الفرنسية. بالنسبة للتونسيين، كانت الغاية مواصلة العمل الذي باشره خير الدين قبل انتصاب الحماية، و الذي يرمي إلى اصلاح التعليم بهدف تكوين الاطارات الكفئة لتسيير شؤون البلاد. كان شيوخ الزيتونة و قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، منفذو هذا المشروع و إن لم يكونوا أصحابه الأولين، واعين بالثغرات التي يحتملها التعليم الزيتوني و عدم مطابقته للظروف الجديدة التي تولدت عن تطور العلوم و التقنيات في أوربا خاصة و عن انتصاب نظام الحماية. فوجدوا في جماعة قدماء الزيتونة من تلامذة الشيخ محمود قابادو و معاصري الوزير خير الدين أمثال الشيخ محمد السنوسي و الشيخ سالم بوحاجب، من يؤيدهم و يساهم في حركة التجديد. فليس من الصدفة أن يلقي الشيخ سالم بوحاجب خطابا بمناسبة تدشين الجمعية الخلدونية يوم 15 ماي 1897 و أن تتناول محاضرته موضوع موافقة الاسلام على تدريس العلوم.

و في مؤتمر الجغرافيا بتونس سنة 1904، صرح بشيرصفر قائلا: "تساهم هذه الجمعية في حدود امكانياتها، في ترويج العلوم بين المسلمين و في ترقية قدراتهم الفكرية و اطلاعهم من خلال الجغرافيا، على مكانة كل أمة، و أخيرا تدعوا إلى محاربة الاحكام المسبقة و إلى فتح آفاق كانت مجهولة لديهم، في مجال العمل و التجارة. إنه عمل يستحق كل تنويه إذ يرمي إلى يقظة المسلمين الأخلاقية و الفكرية و هو الهدف الذي نأمل بحزم، إلى تحقيقه تدريجيا" [4].

سيؤسس هؤلاء الصادقيون، و يحذوهم في ذلك نفس الهدف : أي نهضة المسلمين الأخلاقية و الفكرية، جمعية ثانية : جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية.

جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية

يشير على باش حامبة، و هو يتحدث باسم لجنة المبادرة، عن عمل خير الدين و التغيرات التي أحدثها في الذهنيات، إلى الأهداف التي حددتها الجمعية لنفسها قائلا : "لقد عملت الجمعية على نشر التربية الديمقراطية بين الشبيبة حين جمعت على مقاعد مشتركة و في نفس المرقد و المطعم، أطفالا من كافة طبقات المجتمع التونسي. تلك الشبيبة التي كانت تقاوم التمييز الذي كان قائما - و مازال- بيننا. فنشأ التعارف و التأخي بين الأمير و البرجوازي و إبن الشعب و بفضل النظام الداخلي، احتك أبناء الريف و الاقاليم بابن العاصمة الذي كان يحتقرهم سابقا، فعمل على التعرف بهم و استحسانهم. إن مثل هذا النمط الحديث في المعيشة، الذي كان مجهولا سابقا- افضى إلى تكريس مشاعر الصداقة و الاتحاد و التضامن بين الشبيبة التونسية. و تحول قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية إلى عائلة واسعة تتألف من أفراد، رغم تبعثرهم في انحاء البلاد، سيحتفظون برباط قوى بالفترة التي قضوها في المدرسة. أيها السادة، إنها مشاعر الصداقة و الوحدة و التضامن و هي كلها تقاليد مستجدة نريد العمل على تطويرها و المحافظة عليها بتأسيسنا لجمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية"[5].

ركز المتحدث على التقاليد الجديدة التي تتمثل في الصداقة و الوحدة و التضامن و رأى ضرورة إنشاء مكان للاجتماع و اللقاء بين الاجيال المختلفة. بهذه الطريقة يمكن المحافظة على روح الصداقة و على التضامن الذي يتجسد في المساعدة المتبادلة و الدعم المعنوي الذي يقدمه كل فرد و الإعانة الفعلية في الاوقات الصعبة عن طريق إقطاعات من أموال الجمعية.

و توقعت الجمعية انشاء مكتبة و تنظيم ندوات ترمي إلى "الرفع المتزايد للمستوى الثقافي لأعضائها و إلى ترقية الرغبة في العمل بينهم".

إلى جانب هذه الأهداف التي كان يرمي إلى تحقيقها تلاميذ المدرسة الصادقية توقعت جمعيتهم تنظيم نشاطات ما بعد دراسية. إن مثل هذه النشاطات ستكون مثمرة إذ اعتبر على باش حامبة "إذا تمكنا من غرس الرغبة في العمل بين مواطنينا ووفرنا الوسائل الضرورية لذلك، و اذا تمكنا من توعية الجماهير بنشر الافكار الحديثة و تعميم العلوم، نجحنا -وقتها- في ايقاظ الهمم و عجلنا تحولنا إلى وضعية أكثر ملاءمة بمستلزمات العصر، وضعية تساعدنا على دعم نضال من أجل الحياة أصبح أشد قساوة في هذا البلد" [6].

هكذا، نلمح قيما جديدة كالوطنية و الرفاه المادي للمواطنين و قيم الرقي و العمل تحل محل القيم القديمة في المجتمع مثل الورع و الوازع الديني و ازدراء الحياة الدنيا. لعل هذا "التفكير الجديد" الذي أشار إليه على باش حامبة، كان وراء نشاط قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية سواء داخل الجمعية الخلدونية أو الجمعية الصادقية.

برامج العمل

كانت برامج عمل الجمعيتين متكاملة بل متشابهة. و أشرفت شخصيات بارزة على الجمعيتين أو على الأقل شاركت في نشاطاتهما. على سبيل المثال، كانت اللجنة التي تم انتخابها يوم 3 ديسمبر 1905 على رأس الجمعية الصادقية تضم على باش حامبة الذي عرض أهدافها و محمد الأصرم و أحمد الغطاس و رشيد بن مصطفى. و كان هؤلاء في نفس الوقت أعضاء اللجنة المديرة للجمعية الخلدونية و يتضح التكامل أو التشابه بين الجمعيتين في أن الندوات التي كانت تعقد هنا و هناك تناولت موضوعات واحدة مثل الصحة و النظافة، القانون العقاري، الفقه الإسلامي و القانون الفرنسي، الإقتصاد السياسي، الاقتصاد الزراعي و التنظيم القضائي في تونس.

و إذا نظرنا إلى محتوى هذه الندوات و الدروس التي كانت تنظمها الجمعيتان، لاحظنا أنها تبدو غير هامة إلا أن ذلك رأى السلطات الاستعمارية التي كانت تسعى إلى ممارسة مراقبة شديدة على نشاطاتهما. هكذا فقد أبدت هذه السلطات تحفظات، عند ايداع القانون الأساسي للجمعية الصادقية، يصدد الفقرة الأخيرة من المادة الثانية التي تنص "على أنها (الجمعية) ستنشيء مكتبة و تنظم دروسا و محاضرات و تصدر نشرية بهدف تعميم الثقافة".

خشيت السلطات أن تنمو تيارات معارضة داخل هذه الجمعيات فألزمتها بتقديم إذن مسبق على نشاطاتها و ربطت المساعدة التي كانت تمنحها إياها بدرجة ولائها للحكم الاستعماري. هكذا جلب الوزير فوق العادة و المفوض لدى الاقامة العامة انتباه المدير العام للشؤون الداخلية بتونس في رسالة يقول فيها : "يخشى السيد المدير العام للتعليم العمومي أن تكون اتجاهات المجلة التي تسعى لجنة الجمعية الصادقية إلى إعادة إصدارها غير موالية لفرنسا و يقترح الامتناع عن مساعدتها طالما لم يتأكد ولاءها لسلطة الاقامة العامة" [7].

ماهي الأخطار التي مثلتها هاتان الجمعيتان ؟

في ظل الاستعمار، يعتبر إنشاء جمعيات تهدف بشكل صريح إلى اليقظة الاخلاقية و الفكرية للأهالي، في حد ذاته، تحديا لسلطة الحماية التي يفترض أنها تسهر على تحقيق هذه اليقظة. و استحال على النخبة المثقفة، نظرا لعددها المحدود و اعتبارا لميزان قوى كان يتجه - تدريجيا- إلى ترسيخ دعائم الاستيطان، أن تقترح مشروعا سياسيا يرمي إلى إعادة النظر في السيطرة الاستعمارية. لهذا السبب، أعتمدت موقفا شرعيا إذ تخيلت أن نظام الحماية الجديد قد يعمل على تطهير المؤسسات في البلاد اقتداءا بالديمقراطية الفرنسية التي اعتبرتها نموذجا يحتدى به.

غير أن سلطة الحماية كانت تفتقد إلى الوسائل الكفيلة بتنفيذ سياسة موالية للتونسيين. في غالب الأحيان، كان نشاطها يواجه موقف المتفوقين المعادي لكل اصلاح في اتجاه هؤلاء. أمام تهاون السلطة، أخذت مجموعة من التونسيين على عاتقها تحقيق ما أسماه الشاذلي خير الله "وصية خير الدين الأدبية" "و لا يتوهم أن أهلها (أروبا) وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصب أو اعتدال في أقاليمهم… و لا أن ذلك من آثار ديانتهم… و إنما بلغوا تلك الغايات و التقدم في العلوم و الصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي و تسهيل طرق الثروة و استخراج كنوز الأرض بـعلم الزراعة و التجارة. و ملاك ذلك الأمن و العدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم. أما الأمة الاسلامية فكانت عظيمة إذ كانت حرة و ذات علم ثم تراجعت أحوالها بسبب التزمت و الجهل"[8].

وجدت هذه الرسالة مناصرين من قبل الأجيال الأولى للصادقيين أمثال بشير صفر، على بوشوشة و الأخوين باش حامبة، خير الله بن مصطفى محمد الأصرم و غيرهم و كذلك من قبل شيوخ الزيتونة المصلحين بصفة خاصة سالم بوحاجب و قد ساهم هؤلاء و أولائك في النشاطات الثقافية التي كانت تنظمها الجمعيتان قبل أن يقبلوا على تأسيس حركة سياسية سنة 1907 تمثلت في حركة الشباب التونسي.

كان التعليم احد القضايا الكبرى التي خاضت من اجله النخبة المثقفة نضالها. في البداية، اتخذ هذا النضال شكلا فرديا ثم أضحى مطلبا رئيسيا لحركة الشباب التونسي. نتوقف عند مظهرين اثنين من هذا النضال : تأسيس الكتاتيب القرآنية العصرية و ما أطلق عليه إسم النضال من اجل البكالوريا.

تم تأسيس أول كتاب عصري سنة 1906 بالعاصمة تونس بمبادرة من خير الله بن مصطفى، وراء هذا التأسيس سببان على الأقل :

- لسدّ النقص الخاص بالمدارس و بالتالي التصدى لضعف نسبة التمدرس لدى المسلمين التونسيين و هي حالة فرضتها مراكز القوى في السلطة الاستعمارية التي كانت تخشى "إقبال الأهالي على الدراسة" على حدّ تعبيرها.

- إعطاء التعليم الإبتدائي التونسي مضمونا يختلف عن مضمون المدارس العربية الفرنسية التي أنشأها لويس ماشويل : المدير الأول للتعليم العمومي بالمستعمرة التونسية ابتداء من 1883. كان تدريس اللغة العربية قائما بهذه المدارس غير أن الغلبة كانت للغة الفرنسية و ثقافتها و هما وسيلتا التفرنس أو بالأحرى إدماج الشعوب الخاضعة للسيادة الفرنسية. في هذه الحالة تتخذ اللغة الوطنية و الدين الاسلامي قيمة استكشافية لانهما عاملا التعبئة ضد العدوان الثقافي الأجنبي.

في الحالات المتباينة، تشكل المدرسة رهانا و إن أرادت السلطة أن تبقيها في وضع محايد وهمي إذا أعتبرنا دور التنشئة الاجتماعية الذي تضطلع به كل مدرسة. فكانت السلطة الاستعمارية و المتفوقون في البلاد يعلمون ذلك جيدا. لقد كان المتفوقون ينظرون إلى الجمعيات الثقافية كالجمعية الخلدونية و كأنها بؤر قادمة لمقاومة الاحتلال الاستعماري. كتب فيكتور كارنير، الناطق باسم حزب المعمرين و رئيس الغرفة الفرنسية للفلاحة، قائلا : "لو قامت انتفاضة في تونس لخرجت هيئة أركانها من الجمعية الخلدونية[9]" و وصف أندريه سرفييه من جانبه الدروس التي كان يلقيها بشير صفر في الجمعية الخلدونية بهذه العبارات "إلى جانب الحفلات الرسمية، لم يترك محروسونا أية فرصة لانتقاد العادات الأروبية و أخلاقنا، و للتنويه بأمجاد الإسلام السابقة ثم لاستعراض مراحل حركة النهضة و اليقظة التي شهدتها تركيا و مصر. لقد برع السيد بشير صفر، المكلف بدروس التاريخ و الجغرافيا التي كان يلقيها مجانا، في هذا النوع من الممارسات. فكان يسهب في ذكر الأحداث التي كانت تسيء إلى عظمة الأمة الفرنسية و كرامتها و بلغت به الجرأة النضالية إلى توظيف الوقائع اليومية للتعريض بمواطنينا و الاستهزاء بما كان يسميه "أحكامهم المسبقة". فقد كان المعمرون الفرنسيون موضع سخرياته و تهكماته ؛ كما كان يسخر من "غلظتهم" و "كبريائهم" و "جهالتهم". أما المستمعون له الذين حملهم التعليم الديني لجامع الزيتونة على التعصب، فقد كانوا ينفجرون بالضحك عند حديثه عن المعمرين".

يصف نص أ. سرفيه - أكثر من غيره - ذهنية النخبة المثقفة خلال هذه الفترة الزمنية، كما يساعدنا على ادراك شكوك المتفوقين ازاء التونسيين الذين كانوا يتابعون - أو يريدون - الدراسات العليا في الجامعة الفرنسية. بهذا الصدد، لاحظ "كارنيار" مايلي "إن أخطر أعدائنا هم أولائك الشبان المنحدرين من الأسر البرجوازية و الذين ربتهم مديرية التعليم على الطريقة الفرنسية… و لو قامت انتفاضة في تونس لكانوا على رأسها".

هكذا، بدأت المعركة من أجل تحسين تعليم التونسيين. و كان أعضاء الجمعيتين : الخلدونية و الصادقية ينتهزون الفرص المناسبة لنقد وضعية التعليم في المدرسة الصادقية التي تحولت إلى مؤسسة لتكوين الموظفين بدل أن تعد تلامذتها إلى المهن الحرة كما أراده لها مؤسسها. فقد أوضح محمد الأصرم في مؤتمر المستعمرات الذي انعقد بمرسيليا سنة 1906 أن مهمتها انحصرت "في إمداد مصالح الدولة بالمترجمين و الأعوان البسطاء".

و في مجلس تحسين التعليم بالمدرسة الصادقية الذي تأسس بموجب مرسوم 28 مارس 1906، نوقشت مسألة الباكالوريا لأول مرة. فقد طالب التونسيون من حكومة الحماية أن تسهل الوصول إلى المهن الحرة و أن تمد التلاميذ الأكثر استحقاقا بمنح التعليم العالي و أن تضمن للطلبة الذين تابعوا دراسات ثانوية أو جامعية الحصول على مناصب مناسبة في المصالح العمومية. في الواقع، لم تتحقق هذه المطالب التونسية إلا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ استقرت السلطات الاستعمارية و حزب المعمرين على معارضة زيادة عدد التونسيين الحاصلين على الشهادات. فقد كانت ترى أن ارتفاع عددهم في المستعمرة سيؤدي إلى هيمنتهم على دواليب الإدارة و الإقتصاد. و كان ذلك رهانا لا يمكن الاستهانة به.

و شكل التونسيون الحاصلون على الشهادات خطرا آخر في نظر السلطات الاستعمارية، إذ كانت تعتقد أنهم سيتكفلون بالنضال المعادي للاستعمار و سيعملون على تنظيمه.

لقد حدث ما توقعته السلطات الاستعمارية داخل المدرسة الصادقية، إذ عاد إلى تونس عدد من التلاميذ القدماء الذين أنهوا دراساتهم الجامعية بفرنسا و أصبحوا أساتذة بالمدرسة المذكورة أو أعضاء عاملين بالجمعية الخلدونية و الجمعية الصادقية و لقنوا تلامذتهم أفكارهم الثورية آنذاك. أفضى هذا التكوين شبه المدرسي إلى تغذية النشاط السياسي في المدرسة و في البلاد و أشرف عليه شباب كانوا متأثرين بمواقف أساتذتهم. و آتضح ذلك عند اعتقال الأستاذ علي بلهوان، فكان رد تلاميذ الصادقية أن اعتبروه قدوة لهم و لقبوه بزعيم الشباب كما تؤكده الشهادات المختلفة.

علمت الحياة بالعاصمة التونسية التلاميذ القادمين من الأقاليم معنى التنظيم. إن التردّد على الجمعية الصادقية و الجمعية الخلدونية و مخالطة طلبة العاصمة دربتهم على الحياة الجمعوية. في هذا الاطار، كان الاحتكاك بالزعماء الوطنيين و نشاطاتهم داخل المدارس - مثل المدرسة الصادقية و الجامعة فيما بعد- قد بلورت شيئا فشيئا وعيهم السياسي.

في الحقيقة، اهتمت هذه الجمعيات بالنشاطات الثقافية. يقدم محمد مزالي شهادة على ذلك في مذكراته، إذ كتب يقول " بالمنستير و أثناء العطلة، كنت أناضل في صفوف "الشبيبة و الأدب"، فلم أكن أنهل من الكتب العربية و الفرنسية التي كانت تزخر بها جمعيتنا فحسب بل كنت، كذلك، ألقي محاضرات تناولت موضوعات أدبية و إجتماعية. و بمساعدة رفاق لي، كنت أنشط فرع المسرح بالجمعية و أنظم رحلات إلى الأقاليم التونسية مرة في كل نصف شهر".

و غالبا ما كانت هذه النشاطات الثقافية تخفي نشاطات سياسية. كم من مرة، عرضت هذه الجمعية أو تلك، مسرحيات بهدف جمع التبرعات لتمويل خزينة حزب الدستور الجديد.

إضافة إلى العروض المسرحية، فسحت المحاضرات و الندوات مجال التعبير للشبيبة، فكانوا يلقنون للكبار و الصغار المعارف التي كانوا يتحصلون عليها في الثانوية أو الجامعة. لنستشهد - مرة أخرى - بمذكرات محمد مزالي :

"أثناء العطلة الجامعية، كنت أقبل على الاتصال بخلية بالمنستير لحزب الدستور الجديد، و قضيت ساعات طوال في دكان عمي : ش ج الأمين العام للخلية، أستمع للمناضلين و أناقشهم. و بحكم رئاستي لجمعية الطلبة المنستيريين، كنت القي محاضرات و أشرف على مناقشات و أنظم رحلات. فكنت أتناسى جامعة الصربون و محاضراتها لأنغمس في بيئتي بهدف تعميق انتمائي إلى الحضارة الإسلامية و بخاصة إيقاض وعيي بخصوصيات الشخصية التونسية و تاريخ بلادي و تقاليدها الأدبية و اسهامها الهام في ترقية الفنون و الأداب و العلوم التي ميّزت العالم العربي الإسلامي… لقد كنت أبحث عن كل أمر يغذي عزة انتمائي إلى الأمة التونسية. لهذا، كانت النشاطات الإجتماعية و الثقافية تأخذ مني وقتا هاما. استحضر ذكريات فياضة ترتبط بهذه الفترة. ففي شهر سبتمبر من سنة 1949 و خلال محاضرة علنية ألقيتها بالمنستير تحت عنوان " حقيقة يجب أن تعرف" نددت بالطريقة الاستعمارية في كتابة التاريخ، إذ تعلمنا زيفا في المدرسة الصادقية، أن فرنسا اضطرت إلى احتلال تونس لتوقيف غارات "جحافل جبل خمير" المتكررة على المستعمرة الفرنسية في الجزائر. و في يوم ما و أنا طالب بجامعة الصربون، كنت سعيدا لحضور درس للأستاذ "بياررينوفان" المختص في تاريخ العلاقات الدولية. فقد كان يتحدث في مدرج ديكارت عن السياسة الفرنسية على إثر حرب سنة 1870 و أبرز استنادا إلى الوثائق أن انتصاب الحماية الفرنسية على تونس كان عملا تم تدبيره بين الجمهورية الفرنسية الثالثة و ألمانيا البيسماركية و انكلترا. مثل هذه المعلومات الثمينة، لم يكن في وسعي الاحتفاظ بها إذ استغلت أول فرصة اتيحت لي، لافادة الشباب التونسي بها".

يتضح من هذه الشهادة أن العلاقة بين الثقافة و السياسة كانت وثيقة في القرى التونسية خلال عهد الحماية الفرنسية. لقد كان تأسيس الجمعيات الثقافية و الرياضية وسيلة استفادت منها المنظمات السياسية لبسط نفوذها داخل المجتمع التونسي. كان تلامذة الثانويات، أثناء العطلة، يشعرون بأنهم مكلفون بتحقيق مهمة مقدسة يحدوهم في ذلك شعور وطني واضح، إذ طالما قرأوا على جدران مدينة تونس شعار "حب الوطن من الإيمان" لهذا، اعتنقوا العمل السياسي.

فالتاريخ السياسي، كما حاولنا تفسيره و على حد تعبير ج.ف.سرينلي، هو "في نفس الوقت تاريخ السلوكات و الذهنيات و الثقافات و الأفكار".



نقله إلى العربية :

الهوامش

* باحث بمعهد البحوث و الدراسات حول العالم العربي و المتوسطي. المركز الوطني للبحث العلمي "أكس آن برفانس". "Aix en Provence" و أستاذ مدير معهد الدراسات العربية بجامعة Nancy 2 .

[1]- راجع التوطئة بقلم فيبر من كتاب

Moraze, Charles : Trois essais sur histoire et culture.- Paris, A.colin, 1948.- p.p.VI-VII. (cahiers des Annales 2).

[2]- الوزير خير الدين .- أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك.- طبع لاول مرة بتونس سنة 1867 وعرف عدة طبعات منها الطبعة التي حققها و قدم لها المنصف الشنوفي.- الدار التونسية للنشر سنة 1972.- ص.337.- و قد ترجم الكتاب إلى الفرنسية و نشر سنة 1867 و أعيد نشره تحت عنوان :

Essai sur les reformes nécessaires aux Etats musulmans.- présenté et annoté par Magali Morsly.- Aix en Provence, Edisad, 1987.- p.155.

[3]- Cf. Servier, André.- Le péril de l’avenir, le nationalisme musulman en Egypte, en Tunisie, en Algérie.- Constantine, Boet Ed, 1913.- p.76.

[4]- Cité par Khayrallah, Chedli.- Essai d’histoire et de synthèse des mouvements nationalistes tunisiens. Le mouvement Jeune Tunisien.- Tunis, Bonici Ed..- p.26.

[5]- نفس المصدر.- ص.35.

[6]- نفس المصدر.- ص.46.

[7]- Archives de la sûreté nationale.- Tunis, n°81.

[8]- Khayrallah Ch..- Op.cité.- p.p. 20-23.- Voir aussi M. Colombe.- Trois aspects des institutions de l’Islam au XIXème siècle.- in Etudes d’orientalisme dédiées à la mémoire de Levi Provençal.- Paris, Maisonneuve-Larousse, Ed., 1962, t.1.- p.p.99-100.

[9]- Cité par Julien, CH.A..- Colons….-p.p.120-120.

التحديث و إعادة الأقلدة من خلال الحقلين الجمعوي و السياسي منطقة القبائل نموذجا

كيف يمكن أن نقرأ - في المجتمع الجزائري- بروز أدوات التحديث مثل الجمعية و الحزب السياسي اللذين يفترضان، أصلا، أشكالا جديدة للإتصال ؟ تسعى الدراسة، إنطلاقا من حالة منطقة القبائل، إلى إظهار مجموعات مستها عملية التحديث، تراوح مكانها، و هي تعيد توظيف هذه الأدوات الجديدة. فالفاعلون الحاملون لهذا النمط الجديد في التنظيم يتفاوضون حول اندماجهم. ثـمة صفقة تشير إلى الازدواجية، إذن. فممارسات العاملين في مجال التحديث يكتنفها لبس - ظاهريا - إلا أن مثل هذا اللبس ضروري. و من جهة أخرى، يمكن أن تنتج المجموعات، في ظروف خاصة، تقليدا أي أن تعمل على تفعيل عملية إعادة الأقلدة. نشرح من خلال أمثلة دقيقة، كيف يحدث ذلك و كيف يتم العمل به. يصدر تفكيرنا من مبدأ عدم وجود إستمرارية تاريخية بين وضعية تحديث مفروضة اقتضتها حركة الاستعمار و أخرى نتجت عن نشأة الدولة الوطنية، بل ثمة ثبات لعناصر ترتبط بسلوك مزدوج لفاعلين يطوعون استراتيجياتهم وفقا لمصالح مرتقبة. في الأساس، تبدو المواقف التي تبنتها السيدة "جان فيقري" صالحة نسبيا كما هي صالحة الخلاصة التي وصل إليها بلانديي بشأن التحولات في البلدان المستعمرة قديما :"كل شيء يتغير إلا أن كل شيء لا يتغير جملة".

تاريخيا، ظهرت الجمعيات على إثر صدور القانون الفرنسي لسنة 1901، الذي امتد نفوذه إلى الجزائر بوصفها مستعمرة فرنسية. فعمل الجزائريون بدائرة تيزي وزو السابقة، ابتداء من الثلاثينات على تأسيس جمعيات تتألف من أصحاب المهن أو الموظفين في المؤسسات (معلمون، قدماء التلاميذ). و في مجري ذلك، ظهرت جمعيات رياضية إسلامية اتخذت بعدا رمزيا لأنها كانت عموما، وجها معاكسا للجمعيات الرياضية التي أسسها الأروبيون و لأنها كذلك، كما هو الحال مع الجمعية الرياضية القبائلية، واسطة للعمل الوطني الذي كان يتأكد شيئا فشيئا. و في سياق الدعوة الاصلاحية، ظهر نوع جديد من الجمعيات تمثل في الجمعية الدينية. كانت "جمعية الاصلاح" لمدينة دلس (تم تسجيلها يوم 20 نوفمبر 1931) و جمعية "الشباب الإسلامي" لتيزي وزو (تم التصريح عنها يوم 20 فيفري 1934) أولى الجمعيات الدينية التي ظهرت بمنطقة القبائل. و في الأربعينات و الخمسينات، برزت جمعيات أخرى ذات نطاق محدود. يؤكد عدد من المؤشرات أن هذه الأشكال الحديثة للتنظيم لم تكن تستبعد وجود الأشكال التنظيمية التقليدية. في البداية، احتل الفاعلون الجدد موقعا معينا في المجتمع سمح بإعادة توظيف دلالات الخطاب الحديث و تنظيماته. يتجلى هذا المطعى التوفيقي بوضوح مع تغلغل الحركة الوطنية بمنطقة القبائل خاصة منها حزب الشعب الجزائري و حركة انتصار الحريات الديمقراطية إذ كان المناضلون السياسيون يمزجون في مجال توسيع نفوذهم، بين الأساليب الحديثة و الأساليب الجماعية التقليدية و توقفت فعالية رسالتهم السياسية و وجودهم النضالي على مدى استنادهم إلى النسيج الأسري و الديني القديم و اعتمادهم على التنظيمات الاجتماعية التقليدية (الجماعة بشكل خاص). هكذا تتحقق فعالية الحركة التحديثية كلما مرت عبر القنوات الأسرية. يجب الإشارة إلى أن ادراك هذا الاندماج يمر بتحليل عالم هؤلاء الفاعلين الخاص الذي يبدو و كأنه مزيج حقيقي بين القيم المحلية (قيم المجموعة) و القيم العالمية التي تحملها الحداثة. عمليا، ينتج الفاعلون ما أسماه "ج. بلانديي" ازدواجية ضرورية تتلخص ملامحها في قوله "تسعى الأحزاب إلى التأسيس خارج الخصوصيات، و إلى ضمان بث الأفكار الجديدة، و إلى منح دور رائد للعاملين في مجال التحديث، غير أن اندماجها في الوسط الفلاحي يفرض عليها تقديم تنازلات لصالح النظام القديم."لذا تعتمد هذه الأحزاب" حتما الإزدواجية الثقافية عند بداية نشاطها و أحيانا بعد هذه المرحلة. و إذ تسترجع رموزا تقليدية ناجعة، تعمل على تنظيم مراسيم الحياة السياسية بهدف تقديسها، و تضفى على زعيمها وجها مزدوجا فتضع له شخصية بطولية (و إذا اقتضت الحاجة، تنسبه إلى سلالة الأبطال الشعبيين) ثم تلجأ إلى الأساليب التقليدية لحمل السكان على الانخراط في صفوفها و لتكريس هيبة مناضليها" و من جهة أخرى، تكشف حالة الجمعية التربوية لتيزي وزو "الشبيبة (1944-1963). كيف يعيد الأعيان المحليون البارزون و "الجماعة" (قرية تيزي وزو القديمة) توظيف هذا الإطار التحديثي لغرض تأكيد نفوذهم و بلورة مكانتهم الإجتماعية. نستخلص من ذلك، أن الحزب السياسي يمكن أن يتحول إلى بديل للأطر التقليدية عندما تنعدم هذه الأطر لأسباب تاريخية.

تشكل هذه الظواهر، خاصة الاتجاه إلى التعامل مع الأطر التقليدية و الإزدواجية المتولدة عنه، عناصر ثابتة في الحقل الجمعوي المحلي كما تبين لنا ذلك بوضوح خلال السنين الماضية. تحت تسمية معاصرة "لجنة القرية" أو تحت غطاء "الجمعية القروية"، يتم إعادة تفعيل "الجماعة" التقليدية. فجمعيات الشباب ذات الطابع الثقافي التي تتمركز في القرى، غالبا ما تشرف عليها، بل تراقبها "الجماعة" و تحدد دائرة نشاطها. في الواقع، تعمل هذه الجمعيات في ظل وضعية تحول اجتماعي و اقتصادي سريع أو فريد من نوعه، على أساس خطاب و مواقف تحيل كلها إلى المرجعية الهوياتية و ذلك بانتهاجها أسلوب تنشيط أنماط التسيير التقليدية (أعراف أخرجت من النسيان، يعاد تكييفها). ثمة عملية مزدوجية تتمثل في إحتواء للحداثة و إعادة الأقلدة في نفس الوقت. لقد حللنا هذه الظواهر في ظل سياق تميز بانبثاق الحركة الجمعوية و انتشار نفوذها في الميدان.

في الخلاصة، نرى أن إمكانيات التحديث التي تتطلع الحركة الجمعوية إلى تحقيقها (خاصة الحركة السياسية) غالبا ما يعاد تطويعها و تحويرها فتتجسد من جديد في لغة محلية خاصة بالمجموعة. و اذا كانت التنازلات ممكنة بين قيم الحداثة و أطرها من جهة و قيم الجماعة و أطرها من جهة أخرى، فإن هامش استقلالية الأطر الجديدة غالبا ما يكون ضئيلا كما تكون فعاليتها محدودة.



نقله إلى العربية :

كرة القدم، الحضر و الديمقراطية

كيف نواجه بين حقل إنتاج خطاب موضوعه الرياضة و المدينة و بين حقل ملاحظة و أبحاث مركزها مدينة و لتكن قسنطينة ؟

أي سداد نراه للتمفصل كرة القدم / حضر / ديمقراطية ؟

تعني إقامة رباط بين هذه الهيئات الثلاث اعترافا بأن المغامرة على حافة الطريق كما تعني اعترافا بأن هناك مخاطرة .

يكمن الخطر الأول في تناذر اللوح المصقول و الذي يلازمه مناهضة التعقلية بينما يعود الثاني إلى إنكار الصعوبات في الوقت الذي نلاحظ فيه ندرة البحوث حول النشاطات الرياضية بل حتى حول المدينة.

بعض عناصر الإشكالية للتوضيح: يرتكز هذا البحث على أربعة أفكار أساسية:

1– تكشف الدينامية الرياضية عن رهانات جديدة جمعوية و حضرية. تتجاوز الممارسة و الفرجة الرياضيتين ما يحسم إنتاج الرياضة، في حين أن هذه الفرجة تنتج المعنى

2- إلى أية حاجة يستجيب إنشاء جمعية رياضية عندما نعلم أن التمايز الاجتماعي لم يكتمل بعدُ في مدننا ؟ تتواجد هذه الاستفهامات في قلب مسائل الهوياتي التي يمكن فهمها و قراءتها من خلال شعارات مناصري الفرق الرياضية المختلفة و التي تعبر عن ميل إلى الاستقلالية لدى الأفواج الاجتماعية الفتية ؛

3- تعبر الحركات الاجتماعية عن أزمة المؤسسات و الفضاءات التقليدية . هكذا فإن الحضر الجدد يعبرون عن أشكال جديدة للتضامن بفضل ثقل القـطاع غير الرسمي، بفضل انفتاح الحقل السياسي، بفضل الإمكانيات التي تتيحها الرياضة و بفضل تطور الجمعيات؛

4- أخيرا فإن لآخر عنصر علاقة بالفكر المنهجي. علينا أن نعرف كيف نمر من الأجنحة: التأريخ للجمعيات الرياضية و القيام بسوسيولوجيا الأشكال الجديدة للتألق الاجتماعي.

لنتمكن من وضع تأريخ للجمعيات الرياضية في علاقتها بتاريخ المدن، علينا أولا أن نتعرف عن الموضوع " الرياضة " ثم أن نتفادى فكرة حركة رياضية وطنية. لكن علينا أن نتقبّل و نعترف بطمس الواقع الرياضي الاستعماري و أن نقف على ندرة الدراسات حول الرياضة في المدينة عندما لا نعلم – في الغالب - من المدينة سوى ملعبها.

كتابة تأريخ الجمعيات الرياضية بالأحرى أمر مستعجل عندما نعيش نوعا من التشويش في الخطابات: الحرب من أجل العمدية بين مولودية الجزائر و شباب قسنطينة كما أن المنافسة بين "الشباب" و "الموك" في قلب الأساطير و الصراعات من أجل الهيمنة في المدينة. هذا ما يفسر العودة إلى تاريخ الممارسة الرياضية في أوساط الأهالي خلال الفترة الاستعمارية. إلا أن هذا التاريخ لا يمكن أن يكون بإلغاء مسألتين: هل يمكن طمس دور الأوربيين ؟ هل يمكن الحديث عن جمعيات إسلامية عندما نعلم أن الفضاء كان مختلطا ؟

ربما أسهمت أنتربلوجيا الفرق الرياضية في إزالة الوهم عن الخطابات الشمولية حول الهوياتـي و كذا في توضيح مسألة التراث شيئا فشيئا. يطرح التعلق بالرموز العتيقة و دوام المعالم الهوياتية طوال العصور مسألة أن دراسة المناصراتية  قد تساعد على مس أهميتها.

تولد المناصراتية و ترتكز على أشكال رمزية جديدة للتألق الاجتماعي.

في الوقت الذي تتواجد فيه حركة المناصرين في قلب الإخراج الذي ينظم الملحمة الرياضية، إلا أنها بقيت لوقت طويل محصورة فـي مكانة مستهلك. تشكل في الثمانينات و التسعينات – في إطار غير رسمي بقيم جديدة و معايير جديدة تؤسس أكثر فأكثر يوميا جديدا و علاقة جديدة إلى المدينة.

هكذا لئن بقيت الجزائر باستمرار في مواجهة صورتها، فإن الجزائريين، في علاقتهم المعيشة بالرياضة، يعبرون عن رهانات سياسية و اجتماعية و ثقافية هامة. يعبر المناصرون عن أسلوب حياة جديد بمغالاتهم في المظهر. المنوال الجزائري للمناصراتية (مؤسسة هي الأخرى على إجلال الشاف (الرئيس) يبنى محاكاة لأشكال تعبير المناصراتية الأوربية، تترجم هذه الظاهرة علاقة جديدة إلى المجتمع و إلى العالم، يعبر عن رغبةِ أن نكون من هذا العالم. أثناء هذا يعبر الشباب و يفرضون مناويل جديدة لاستهلاك المدينة. يفجر تشكل مخاييل حضرية جديدة بتوسيع الاجتذاب إلى القاعدتين الاجتماعيتين لأكبر فريقين، يفجر الحدود الإدارية لقسنطينة و الانشطار حضراً / بدواً.يصبح نمط الانخراط في الجمعية أحد أشكال الحق في المدينة. يعني الوصول إلى المدينة الأسطورية أو تحدي الآخر فوق ميدانه، الوصولَ إلى الرؤية الاجتماعية، يعني اعتراف الآخرين بك من أجل تقاليدك وحيويتك و محليتك. و الأمثلة كثيرة نعثر عليها في الثقل الديمغرافي للشخصيات التي أصلها من الميلية و مناصري الموك، في علاقة سكان الخروب و شباب قسنطينة. يمكن إقامة تواز بين أنماط تعبئة المناصراتية الرياضية و تلك التي استعملها الفيس. فلا يبني الانخراط الوجداني العلاقة الاجتماعية أكثر مما يفعله العقد بل فإن الإسلام المناضل و كرة القدم يعيدان لشباب قلق حاجة أساسية: الحلم.

لا يمنع هذا أن المال يبقى الواسطة إلى التألق الاجتماعي. هذا المال يوجد إما في الخارج إما في الترباندو إما في كرة القدم. تشير الصحافة الرياضية إلى أن النجوم الجديدة لجزائر كرة القدم هم مسيرو الجمعيات الرياضية الذين برزوا في ظل الاستيراد/ التصدير الساحر. يرمز زعماء الشباب هؤلاء إلى الحلم الذي تحول إلى حقيقة.تسهم هذه الطبقة السسيولوجية الجديدة في إعادة تعريف نمط إعادة توزيع الالقاب ذات الشحنة الرمزية القوية: الألقاب التي تفتح أبواب الوجاهة، و هذا بفضل فرض قواعد جديدة للحصول على المال و الجاه.



نقله إلى العربية :

الحركة الأمازيغية في المغرب : دفاع عن هوية ثقافية، مطالبة بحق الأقليات أم بديل سياسي ؟

شهدت السنوات العشر الأخيرة على الساحة السياسية، بزوغ حركة جديدة بالمغرب، الحركة البربرية بل الأمازيغية كما يحلو لها أن تسمِّي نفسها. سيق لها أن ظهرت في السنة 1967 بإنشاء الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي في الرباط. تعلق الأمر في تلك الفترة بالدفاع عن الثقافة و الفنون الشعبية. كانت المسألة البربرية حينئذ تابو.

يبدو اثر الواقع الدولي أساسيا في تفسير صعود المطالب الثقافية و الانتمائية ضمن الحركات الاجتماعية للسنوات الثلاثين الأخيرة موسومةً بخيبة الأمل أمام الأيديلوجيات التي حركت جيل غداة الاستقلال، و الذي ينتمي إليه أغلب منشطي الحركة البربرية الحالية. هكذا تشكل هزيمة العراق، كما التقلبات في أوروبا الشرقية، منعرجا حقيقيا في اكتساب الوعي بالانتماء الأمازيغي. لا يمكن الحديث عن حركة بربرية موحدة في المغرب. إنها تتميز بكثرة أهدافها، باستراتيجياتها، بـممثليها. اِنطلقت من الوسط الجامعي لتتأكد من خلال فنانيها و لتطور استراتيجيات جمعوية تتجاوز، بالنسبة إلى بعضها، الإطار الوطني و تنشط، في بعض الأحيان، أحزاباً سياسية.

لتعود المسألة الأمازيغية إلى الواجهة، يجب انتظار بداية الانفتاح النسبي للحقل السياسي مع إنشاء المنظمة المغربية لحقوق الإنسان في 1988، و مع الدفع الذي حازتـه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، و أكثر من ذلك، ما كان للصدمة التي أحدثتها حرب الخليج من آثار. يشكل ميثاق أكادير (1991) أول بيان "وطني" للحركة الثقافية لأكادير، بالمطالبة بسياسة لغوية ديمقراطية أساسها الاعتراف و احترام الحقـوق اللغوية و الثقافية المشروعة لمختلف مكونات الشعب المغربي لإمكانية بناء ثقافة وطنية ديمقراطية"*. كان مؤتمر فيينا الدولي لحقوق الإنسان (جوان 1993) مناسبة لتدويل المسألة الأمازيغية، بتقديم مذكرة حول الحقوق الثقافية و اللغوية الأمازيغية. يرجع الأمازيغيون في المغرب، على غرار لَقْباَيلْ في الجزائر، إلى المجتمع البربري الأصلي منوالا ديمقراطيا و ينتجون خطابا "أصيلا" غير مستورد من الغرب. يتم هكذا تفادي الرجوع إلى الظهير البربري و مواجهة الاتفاق حول " أمة عربية " بِـ " أمة " أخرى.

الهدف الأساسي هو ترقية اللغة و الثقافة الأمازيغيتين في المجال الاجتماعي المغربي، و لكن، من خلال هذا، يتعلق الأمر بتغيير مكانة البرابرة في مجال الدولة يما في ذلك الإدارة و التعليم و كذا تكسير الخطاب العربي الذي يؤقلل** البرابرية. يظهر، حينئذ، من خلال الخطاب حول التعددية و الديمقراطية، مطلب بمواطَنة جديدة. يكمن وراء حق الاعتراف بالشعب الأمازيغي الحق في الديمقراطية.

لم تتدخل الدولة المغربية ما بقيت المطالب محصورة في اللغة و الثقافة ومحدودة في الوسط الجامعي. في غشت 1994 ألقى الملك خطابا أضفى الشرعية على المطلب الأمازيغي و اقترح إدخال اللهجات الأمازيغية في التعليم الابتدائي على الأقل.كان هدفه أولا تهدئة اللعب، ثم تمكين بروز تيار ينافس الحركة الإسلامية. مع ذلك، فإن خطاب الملك الانفتاحي لم يمنع اعتقال المناضلين و لا الحظر الذي ضرب التجمعات الثقافية، و لم يكن لوعود الملك بإدخال اللغة البربرية في التعليم أي أثر.

على الرغم من ضآلة الحركة الأمازيغية المغربية مقارنة بها في الجزائر، إلا أنـها تشغل حيِّزا هاما في الحقل الثقافي و الجمعوي و السياسي. و لكنها تبقى موسومة بطابع الالتباس. أمام فضاء سياسي مغلق و اتفاقي، هل ننطلق من الثقافي لخلق فضاء احتجاجي يمكنه أن يتحول، لاحقا، إلى حركة سياسية من أجل المطالبة - بدعوى التنوع و التعددية - بتغيير شامل للمجتمع أو على العكس من ذلك، ننغلق في الجماعة و نفرض منوالا إقصائيا و وحدويا قد يؤول إلى فشل النقاش التعددي.



نقله إلى العربية :

الهوامش

* لا نجد أثرا للمزدوجتين ( " ) قبل هذا .

** أقلل، يؤقلل بمعنى صيرها أقلية.

جمعية، تنظيم ذاتي و تغير اجتماعي : حالة شباب من الهجرة المغاربية في فرنسا

تقدم الأطروحة التي نبسطها هنا، مبدأ نظرية قائمة على العمل الغريزي لسياقات التنظيم الذاتي، اشتراطا ابتدائيا ضروريا. يعني هذا عملَ العقلنة بالنسبة إلى تسيير مجتمعات خاضعة للبنية التنافسية لاقتصاد السوق. إعادة إدماج الدولة هو الواسطة إلى إضفاء الموضوعية على البنى العقلانية و إلى تحويلها تاريخيا، لتؤدّي هكذا إلى تحرّر وظيفي و منظَّم حسب منطق داخليٍّ اقتصادي تكنلوجي و إلى استكشاف هذا العمل الذي يقوم به المجتمع تجاه ذاته. التنظيم الذاتي يأتي الأوّلَ في السياق الذي يؤدي إلى نشأة الجمعية، و هي شكله المؤسساتي. يُجبر هذا التنظيم صفوة الدولة ، في لحظة محـددة و معينة، على تغيير العلاقات مع المجتمع و مع هياكل التنظيم الذاتي التي يخوِّل نفسَه إياها. تُشكِّل، هنا، الأشكال التي يُفعِّلها شباب الهجرة في فرنسا، أداة توضيع هذا الهيكل الغريزي. في الوقت الذي تمت فيه تنشئتهم الاجتماعية فوق الأرض الفرنسية، اِستبطنوا معايير المحيط الاجتماعي، كما تلقّوا معايير بلد الإقامة و لكن كذلك عناصر مرتبطة بالماضي الاستعماري. شباب الهجرة هؤلاء هم الذين سيشكلون بناء "المحلّي" بصفته فضاء تَسوس فيه الدولة المشاكل الاجتماعية الجديدة، و بصفته إطارا لإثبات المدن، وكذا المجالَ لبروز الأزمة الاجتماعية و أزمة العلاقات بين مختلف الأعراق.

هذه الإشكالية هي التي تدفعنا إلى التفكير في التغير الاجتماعي. مع قانون اللامركزية، بدا المحلّي الفضاء المناسب لإعادة النظر في دور الدولة وكذا صياغة سياسة عمومية أنتجت كثرة من الإجراءات المحيطة بالجهاز السياسي/ الإداري المحلي الذي كان يتصادم مع رفض الشباب مادامت التكيُّفات تُسار من دون مردود بالنسبة إليهم، بل تسار كذلك ضدهم. يكون إذن هذا الموضوع الفتيّ بناء اجتماعيا مصدره استراتيجيات الشباب في المهجر حيث يبقى المغرب العربي موجودا و ذا تأثير على الحياة "هنا"، لتكون هذه الفئة من الشباب كاشفة، في ذات المرة، عن المشاكل التي تواجه الشباب في مجمله، و هذا، لأن على شباب المهجر، مواجهة عوائق اجتماعية متراكمة. ضمن هذا الكمّ من الظروف، كان الشبان يجدون في الجمعيات مفاتيح ولوج النظام السياسي/ الإداري، مع إعادة النظر في الأشكال التقليدية لأنماط التجمع القديمة، الملتفتة أساسا، نحو البلد الأصلي، في منهج على بعد، كان الهدف منه تسيير الهجرة على أنها ظاهرة انتقالية. لن تكون هذه الجمعيات، رأسا، سُلَطا مضادة، بل ناقلة لإثبات شعور الانتماء إلى الجماعة، واضعة نفسها، حيال العمل العمومي، أدواتٍ للإدماج. ستكون كذلك فضاء لتشكيل صفوة اجتماعية ترقى إلى مصف "عامل تنمية". كوّن أطفال القصدير، سواء المولودون في عين المكان أم القادمون حديثا من الجزائر، في نهاية الستينات، كونوا أنفسهم على محك النضال السسيوثقافي، مُحَـيِّـنين المطالبةَ "بالحق في المعرفة" و مجددين العلاقةَ التاريخية مع حركات التربية الشعبية. هكذا، و قبل الترشيح لتمثيل الفئات الاجتماعية المنبثقة من الهجرة، تعلق الأمر بالتعـلم الاجتماعي و السياسي، مصدرِ حركاتLes Beurs (أبناء المهاجرين المولودون في المهجر بعد استقلال في البلاد المغاربية) في السنة 1983، مما قاد إلى "سياسة المدينة" التي وضعت القطاعات الجمعوية في مركز المقتضيات.

كان هذا يتمّ في الوقت ذاتـه الذي يعاد النظر فيه في الجمعيات التاريخية للتربية الشعبية و الجمعيات السسيوثقافية، نفسها، بصفتها أداة للتنظيم المستقل، و لأنها أصبحت بالية، غير ذات فاعلية. نتج انخفاض قيمتها من عمل البلديات التي كانت تنشئ لصالحها مقتضيات عمومية أو شبه بلدية، واضعة جمعيات، الشباب، هكذا، في موقف تنافس عسير، و في منطق السوق، محوِّلا موضوعات التنشئة الاجتماعية في الجمعيات إلى موضوعات ،التنمية المحلية"، موضوعات تجند لها الباحثون، من أجل إيجاد الحلول لِـ" المسألة الاجتماعية الجديدة" مستشرفين جسما اجتماعيا مدمجا.

وراء اجتماع "الفاعلين" الذين توسلوا حلم التسيير الذاتي القديم، تختبئ تكنولوجيا و استراتيجية احتواء المبادرات المحلية، من أجل إدماجها في أهداف الاقتصاد اللبرالي. تنصرف هذه الظاهرة من ذات هيكل التفاعل بين عمل الدولة و سير التنظيم الذاتي الذي نلاحظه على هذه الحركة التي نطلق عليها اسم"احتواء". تشكل ترتيبات تدخل الدولة أدوات إعادة صياغة الروح الإبداعية في النشاطات ذاتية التنظيم في شكل تقطيس الأعمال المؤدية إلى إضفاء الشرعية على النظام السياسي المحلي. ينتج فرض تقنيات إدارية مجالات و وسائل مراقبة تشكل في ذات الوقت، مجالات تبادل وضبط بين الشباب و مسؤولي السياسات المحلية. هكذا عرف البحث عن متحاورين انزياحا في المعنى نحو فكرة "قائد" التي تناسب تقنية الاحتواء التي يمارسها الجهاز السياسي/الإداري المحلي و تناسب حصر سياقات التنظيم الذاتي في المؤسسات التي ابتدعها الأخصائيون حول مفهوم "الدولة المنشطة".

يُسجَّل أن سير الاحتواء يرتكز على "الحدث العرقي". فعلا، فإن منوال الإدماج ببلد الشباب، و بالتفهم الاستراتيجي لدورهم، انطلاقا من الرصيد الثقافي الموروث عن هجرة العمل السابقة، و بالنسبة إلى الجزائريين على أساس الْتِحام جراح حرب الجزائر، لم يشِم فقط وعي الفرنسيين، بل كذلك وعي شباب الهجرة الفتيّ المرتبط بهجرة العمل القديمة. تندرج العودة إلى الإسلام في بحث عن انتماء، كما تشكل مرحلة في هذا المسار الذي تشكِّل فيه العودة إلى البلد، ذاك الهناك الرمزي، أثر مفارِق لسياق إدماج هذه الفئات في المجتمع الفرنسي، مدمجين في كنفهم أنماط من التصنيف الخاص بالبلد المضيف. لهذا السبب، فإن السياسات الثقافية هي ما يعيد، بسرعة، إعادة صياغة بُعْد الشباب الذي ولد في المهجر. يحيل الإطار الخلفي المشاهَد، إذن، مباشرة على الإرادية و النشاط الاعتباطي في تدخل الدولة المعبأ من أجل احتواء الإبداعية الاجتماعية في الهياكل ذاتية التنظيم، متسببة،خصوصا، في قطائع بين الأجيال و، أمام الفشل الصريح لهذه العمليات، و مرتقبين الحفاظ على "النظام" من خلال الهياكل الدينية. كانت شريحة ضئيلة من الشباب قد اعتنقت الأصولية، إلا أنّ عودة الإسلام الأرثودكسي بعد الثمانينات، و قد عاشه الشباب فشلاً، تشكل لفّة ضرورية نحو هذا الهناك الذي يحملونه في وجدانهم، حتى يسايروا الزمن في انتماء يعيشونه موضوعيا. التكرار هذا الذي تقطع التاريخ البشري يُدرج التنظيم الذاتي ظاهرةً مهيكلة التغير الاجتماعي. يتعلق هذا التكرار بالإنتاج الاجتماعي، جارَّةً الدولة و المجموعات المهيمنة كل حسب شكله التاريخي المحدد و المؤرخ، إلى التدخل بواسطة سياسات. في التشكيلات المعاصرة، تشكل الترابطية الواسطة/الأداة المثلى لمثل هذا النشاط بتقنيات الاحتواء للإبداعية الاجتماعية ضمن النشاطات ذاتية التنظيم. لا تسهم هذه الأخيرة، بالضرورة، في دفع التاريخ إلى الأمام، ربما تسبّبت في ارتدادات (ارجع إلى الجمعيات الإسلاموية)، إما أنها تساهم في إعادة إنتاج النظام، إما أنها مناهضة للنظام.

يقدم هذا التحليل التغير الاجتماعي على أنه تغير بعديّ (و لا يقدمه نظريةً لِلاختراع الاجتماعي و لا إنتاجا ذاتيا للمجتمع) بِـتوقعات إرادوية و تقنوية من طرف الدولة، منبثقا من مشاريع الأخصائيين في علاقة مع التجهيزات الاجتماعية الضرورية للتسويات الاقتصادية و السياسية الآنية، و حتى لا يتسنى الوقت لسياقات التنظيم الذاتي فتتحول تجربة اجتماعية. إنه يؤكد على العناصر النقدية حيال الإشكاليات التقليدية، ذات الفعالية الكافية، إشكاليات مطروحة على صيغة طبقية. علينا الانطلاق من فكرة خطوط الاستهراب التي تعبر عن الحركة (أو ميكانزم التغير الاجتماعي) التي تدفع الأفراد، باستمرار، نحو مجالات الاستقلالية في مقابل تدخُّل الدولة التي تبحث احتواء إبداعيتهم، حركة تدفعهم كذلك إلى الانفلات من العلاقات السلطوية ومن الأطر المؤسَّسة. إلا أنه ليس أكيدا أن الذين يجتمعون، يفعلونه بنية التضامن، يتموقع التضامن على الصعيد الوطني. ليس التضامن محرك هذه البنية بل إنها تتعلق بـتَجديد الرابطة.. يشكل الوسطاء اليوم، جواب الدولة العصرية من أجل تنهيج التحكم في آثاره.



نقله إلى العربية :

الحدث الجمعوي في الجزائر. دراسة حالة ولاية وهران

منذ الإستقلال إلى غاية 1989، كانت عملية إعادة هيكلة المجتمع الجزائري خاضعة لمنطق الهيمنة والمراقبة عن قرب من طرف السلطات المتتالية وذلك في مجالات الحياة الإجتماعية وبخاصة مؤسسات التنشئة الإجتماعية.

و لكي تحقق مبتغاها، عمدت الدولة على خلق أشكال من التجنيد والتنظيمات الإجتماعية كالمنظمات الجماهيرية و الإتحادات المهنية، قصد تطويق الفئات الإجتماعية المختلفة و إفشال أي محاولة بروز تنظيم إجتماعي خارج إطارها الرسمي و المؤسساتي.

فتدريجيا، تحولت "الحركة الجمعوية" بعد فترة من الإنتعاش خلال السبيعنيات إلى حالة فتور و ركود نتيجة الوضعية المزرية التي آلت إليها بسبب الصراعات الداخلية و طغيان النزعة النفعية وتخصصها في وظيفة ترقية مؤطريها إجتماعيا ومهنيا وسياسيا بشكل عام.

نتج عن هذا الوضع تفاقم و تزايد الفجوة بين مؤسسات الدولة و باقي أفراد المجتمع الذين فقدوا آمال و إمكانية تحسين ظروف حياته المتردية.

لكن بعد الثمانينات و الذي تزامن مع عهد الإنفتاح وكذا التحولات السريعة، التي عاشها العالم الإشتراكي على وجه الخصوص ثم أحداث أكتوبر1988 بالجزائر؛ كل هذه العوامل أجبرت الدولة على الإقتناع بضرورة التعددية الحزبية و الجمعوية.

و في هذا السياق، فإن صدور قانون 4 ديسمبر1990 و المتعلق بالجمعيات أدى إلى حدوث إنفجار فريد من نوعه للظاهرة الجمعوية من حيث عددها و تنوع مواضيعها و مجالات تدخلها و كذا الفئات الإجتماعية التي تنشطها.

لذا فإن هذا الدراسة الميدانية تحاول من خلال ثلاثة محاور متتالية (خصائص جمعيات مدينة وهران "95 جمعية" و مؤطريها وتمثلا تهم وتقويمهم لواقع الجمعيات حاليا) ؛ إلى إعطاء بعض الإتجاهات و واقع الحياة الجمعوية في ولاية وهران وآفاق تطورها.

و يمكن تلخيصها فيمايلي :

1.خصائص الجمعيات الوهرانية :

تتميّز الجمعيات المدروسة بحداثة نشأتها (62 % نشأت بعد 1990، يغلب عليها الطابع الثقافي و الإجتماعي و تعددية الأهداف. هذا النوع من الجمعيات أوكلت لها وظيفة تسييرية تخلت عنها الدولة عمدا منذ الثمانينات.

جل هذه الجمعيات لم تتلق صعوبات تذكر في بداية تكوينها ولكن يعاب على معظمها صعوبة التوصل إلى تنظيم محكم مسترسل ومستقر، و ضعف تقاليد العمل الجمعوي الذي يؤثر على معنويات المنشطين ويضعف مجال المساهمة و المشاركة الفعالة في الوسط الجمعوي.

تشير الدراسة من جهة أخرى إلى تطور و تزايد عدد المنخرطين و المتكونين من الفئة العمرية الشبانية (اذ تمثل الفئة الأقل من 20 سنة و ما بين 20 و 30 سنة، 70% تقريبا من العينة، يمتلكون مستوى تعليمي متوسط يعزوهم الدافع أو النزعة الإنتفاعية أثناء الممارسة الجمعوية و الإندماج الإجتماعي.

يبدو أن جل الجمعيات تسعى لتطبيق برامج أنشطها السنوية ولكن لمسنا من خلال الدراسة عدم الجدية و الحماس في تنفيذ و إحترام هذه البرامج نظرا لأسباب يعترف بها منشطو الجمعيات : تتصدرها قلة الوسائل والإمكانيات، ضعف التنظيم و التحفيز و قلة الإقتناع بالعمل الجمعوى و ضعف الثقافة الجمعوية.

الإعتماد الكلي للجمعيات على إعانة الدولة (95% من المساعدات متأتية من السلطات العمومية) و هذا يبرز درجة خضوع و تبعية الجمعيات للدولة ومكوث رواسب الإيديولوجيا الشعبوية. إذ كما نعلم أن من نتائج هذه الإيديولوجيا، تخدير المبادرات أضعاف أيديولوجية المجهود، خاصة عندما نلمس من جهة أخرى هشاشة شبكة التعاون و التبادل و محدودية المجال الجمعوي.

2. المكونات الإجتماعية لمؤطري الجمعيات:

يؤطر الجمعيات جزء هام من فئة الشباب وخاصة الفئة العمرية ما بين 20 و 30 سنة (35% تقريبا) و لكن 40% من مجمل العينة يملكون مستوى جامعي و من أصول إجتماعية متوسطة إذ نجد الفئات الإجتماعية الوسطى تتصدر تأطير الجمعيات بـ 23% ثم الطلبة و تليها الفئات الشعبية. و لكن النخبة لا تتعدى 10% من مجمل منشطى الجمعيات عكس ما نلاحظه مثلا في المغرب و مصر و بعض البلدان المتخلفة.

قلة وجود العنصر النسوي و الذي تسند له مهمة تسيير نوع معين من الجمعيات خاصة منها الصحية و الإجتماعية.

تعرف الجمعيات المدروسة إستقرارا نسبيا في مجال التأطير ولكن مازالت تلازمها نزاعات داخلية نتيجة لتعدد و إختلاف وجهات نظر العمل الجمعوى لدى المسيرين خاصة في مجال موقف الجمعيات و كيفية التعامل مع إستراتيجية الدولة و العالم السياسي بصفة عامة. هذا الإختلاف يعرض عددا هاما من الجمعيات إلى التشتت والركود

3. كيف يقيم المؤطرون الواقع الجمعوى الحالي :

ينظر جل مؤطري "الحركة الجمعوية" الوهرانية للعمل التطوعي (بإعتباره الركيزة الأساسية له) بنوع من الغموض والتردد وعدم الإقتناع لفعاليته.

فهم في حالة تأرجح بين النزعة النفعية الضيقة و الرغبة في إستعمال العمل الجمعوي كاداة للترقية الإجتماعية / المهنية السياسية التي تجعل أغلبيتهم يفضلون التصوّر الإندماجي في مؤسسات الدولة التي تفرض عليهم القيام بوظيفة الوسيط حينا و الدرع الواقي و المكمل لأهداف و لسياسة السلطات العمومية تارة أخرى، عوض اتخاذ موقف الشراكة و المساهمة الإيجابية والفعالة مع الدولة لفرض إقتراحاتهم و طلباتهم قصد تكوين وتطوير - تدريجيا - مجتمع مدني ناضج و مسؤول.

و أخيرا يمكن إعتبار الظاهرة الجمعوية في وهران ظاهرة غير مكتملة و غير ناضجة، مازالت في مرحلة جنينية. و كل المؤشرات تدل على أن القطيعة مع الممارسات و التصورات التسلطية للدولة إزاء الجمعيات مازلت قائمة و إن ضعفت شدتها و حدتها.

و لا يمكن تجاوز ذلك إلا عند إحداث ثورة لنظام القيم في الجزائر لعصرنته بدءا بالمنظومة التربوية خاصة، و إرادة حقيقية من طرف الدولة لتنمية و تطوير مجتمع مدني كطرف مستقل و كقوة إجتماعية إسهامية في جميع مجالات الحياة الإجتماعية و السياسية و الثقافية.



الجمعيات النسوية من أجل حقوق المرأة

تميز تطور الجمعيات في الجزائر غداة حوادث أكتوبر 1988 خاصة بخلق مجموعات نسوية للنضال من أجل حقوقهن. كان لهذه المجموعات طابع حضري لأنها كانت موجودة في المدن الكبرى (الجزائر، و هران، قسنطينة، عنابة، تيزيوزو،…) إن عظمة هذه الحركة و الرؤية السديدة التي كانت تتميز بها تدل على أنها ظاهرة جديدة نسبيا، من حيث المضمون (المراجع و الطلبات) أو من حيث الشكل (نوع التدخلات). و يكمن التجديد كذلك في أن هذه المجموعات كانت مستقلة في مستوى تركيبها و مبادراتها. كل هذه المجموعات انتظمت على شكل جمعوي حسب قانون 1987. كل هذه الجمعيات كانت تهدف إلى تحسين القانون الشخصي للمرأة الجزائرية عن طريق تدخلات سياسية، و كانت تعتقد أن قانون الأسرة تمييزي و مناقض للدستور، حتى و لو أنها تختلف حول الاقتراحات. في ذلك الوقت ظهر موقفان يبدوان أنهما متناقضان : الإلغاء و المراجعة.

تميزت سنة 1989 بمبادرات نسوية كثيفة، غنية و متعددة. في هذه المرحلة ظهرت الحركة النسوية على أنها الحركة الاجتماعية الأكثر قوة و الأكثر وحدة في تنوعها و تستطيع أن تكون قوة مضادة.

 بعد ذلك، و مع الوضعية الجديدة التي عرفتها البلاد و المتمثلة في الإرهاب، أصبحت هذه الحركة في مقدمة النضال ضد الإرهاب و ضد الأصولية، و مساندة لعائلات ضحايا الإرهاب. هذه الميزة تخص الجمعيات التي بقيت في الميدان، لأن الأخريات أوقفن عملهن و هذا على غرار الحركة الجمعوية في مجملها. و بالعكس، تميزت هذه المرحلة، في الأول بالعنف ضد النساء الذي توسع فيما بعد إلى كل المجتمع، بخلق جمعيات جديدة تحت نوعين مختلفين في الجزائر العاصمة، تلك التي مثل الأولى، أرادت أن تتدخل في "الميدان الحساس سياسيا"، و الثانية التي "تبحث أن تدمج المرأة في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية بصورة أفضل. ظهر وعي كبير بالخطر الأصولي في وسط الحركة النسوية في معظمها. و يجب الإشارة إلى أنه منذ البداية وضعت الحركة النسوية قضية المرأة في إطار أوسع و هو ضرورة دمقراطة النظام السياسي الجزائري كمطلب للدولة. بعض الجمعيات و هن الأغلبية، وضعت نضالهن من أجل مواطنة النساء كذلك، و أكثر فأكثر في موقف معارض للأصولية الدينية و التي تعتقد أنها "العدو الرئيسي" لحقوق النساء. البعض الآخر و هو أقل عدد يرفض أن يربط نضاله بأي علاقة للأصولية الدينية كانت، و يرغب أن لا يدلي برأيه.

منذ 1995، نشأت في بعض المدن (الجزائر، وهران، بجاية، تيبازة،…) جمعيات نسوية أخرى تتدخل في نفس الوقت في الميادين الحساسة سياسيا و في الميادين الأقل حساسية. قضايا هوية الحركة النسوية من أجل حقوقهن، و إعادة تركيز النشاط، بدأت تطرح على مستوى بعض الجمعيات.

كذلك قضية العلاقة بين نضال من أجل حقوق النساء في الجزائر و النضال ضد الأصولية الدينية وضعت للنقاش خاصة بعد الندوة العالمية الرابعة حول النساء (المنعقدة في بيكين في سبتمبر 1995). مسألة القانون الشخصي للمرأة الذي جمد بعض الوقت أعيد للنقاش.

في هذا الوقت المطالبة بمواطنة كاملة و تامة، إلغاء قانون الأسرة و استبداله بقوانين مدنية متساوية حققت الإجماع في وسط الحركة.

ميدانيا وجدت منهجيتان متكاملتان. من جهة مبادرة لإرسال عارضة تتضمن 22 تعديلا أخذت من طرف أربعة عشر جمعية، و كانت فرصة لبعث النقاش حول هذه المسألة. و من جهة أخرى، تكونت مقاربة جديدة تقول أنه حتى ولو أبقت على موقف نظري و مبدئي حول إلغاء القانون، ينبغي إيجاد حل ملموس لهذا المأزق باقتراح إمكانية للنساء أن تختار النظام القانوني الذي يساعدها يتطلب هذا وجود معاهدات متعددة. 

استطاعت هذه الحركة من خلال مختلف المبادرات التي أخذتها أن ترفع من الوعي و الذهنيات حول التمييز الذي كانت النساء ضحاياه كل يوم، كذلك لكسر كل الطابوهات حول عدد من المسائل.

و من جهة أخرى حصلت الحركة على مكانة في المجتمع و في الحركة النسوية العالمية. و لهذا يجب الإشارة إلى أن هذه الحركة لم تخلق من عدم و إنما هي نتيجة مبادرات مشتركة للنساء في الجزائر منذ الاستقلال و خاصة في السبعينات ثم في الثمانينات، و التي كانت تعتبر إمتدادا لنضالات النساء أثناء حرب التحرير الوطنية. تحققت هذه الإمتدادات في الاستمرارية و لكن كذلك في القطيعة بفضل الدروس و التجارب الماضية.

بعد عشر سنوات من الوجود و التجارب الجمعوية، الحركة النسوية من أجل حقوقهن هي في طور البناء "لحركة متعددة من النساء و إلى النساء" في إطار "إشكالية نسوية". تريد أن تكون قوة اقتراحات. أصبحت الحركة، اليوم، حقيقة لا تستطيع تفاديها. أشكال جديدة للتنظيم و العمل عرفت الوجود. فكرة العمل عن طريق مشروع أصبحت حقيقة عند عدد كبير من الجمعيات. المسائل المتعلقة بالدور الذي يجب أن تلعبه في المجتمع و اتجاه النساء، و العمل على الذهنيات… مازال متواصلا و موضحا شيئا فشيئا. مشكل البديل يطرح و يتكلف به عن طريق تكوين الشابات. ظهر وعي جديد عند المناضلات لحقوق النساء. لقد أخذن الدروس و التجربة المرة من أسلافهن اللواتي شاركن في حرب التحرير الوطنية، و خيبة آمالهن غداة الاستقلال، فإنهن تردن أن تجعلن حركتهن تتفادى نفس التجربة. و لهذا فإنهن قررن وضع طلباتهن في المساواة و المواطنة في قلب كفاحهن و محاولة البحث عن تحالفات في المجتمع، في المنظمات الاجتماعية و السياسية و في السلطة، و جر قوى ديمقراطية أخرى نحو مواقفهن. و من هنا فإنهن حققن علاقة جديدة للسياسي و الأحزاب السياسية. فأصبحن الآن واعيات بأن مسألة القانون الشخصي للمرأة هي مسألة حساسة، لأنها في قلب الأزمة السياسية الحالية في الجزائر، و إنهن يردن أن تزن بكل قواها كي لا يكون حل أو مساومة مع الإسلاميين على حساب النساء، و كذلك لأن هذه المسألة تتأسس عليها العلاقة الاجتماعية داخل الأسرة، و صراعات المصالح التي تحدث داخلها بين النساء و الرجال. بدون أن نكون واهمين على أن المطالبة بالمساواة تبقى في وقتنا الراهن تلك التي تدافع عنها أقلية نسوية راديكالية. هذه الحركة مجبرة على الدفاع عن حقها في الوجود، و أن يكون لها مشروع حيوي للدفاع عنه في إطار مجتمع ديمقراطي، عادل و متعدد.

هذه الحركة التي تتبنى النسوية، و التي حققت مكانة في الحركة العالمية لحقوق النساء، ألا تنجح إذا أدخلت في نضالها الأخذ بعين الاعتبار المشاكل المطروحة في الفضاء الخاص و العائلي ؟ بالفعل نلاحظ أنه لا المجال العائلي و لا المسائل الجنسية قد تم التطرق إليها ضمن مطالب الحركة النسوية.



نقله إلى العربية :

نظرية الحركات الاجتماعية. هياكل، أفعال و تنظيمات : تحليل الاحتجاج الإستشرافي

لا يعني اقتراح أخذ " الحركات الاجتماعية " صنفا تحليليا الإحاطة بالموضوع في كل بساطة. فإذا كانت غاية مَفْهمات الظواهرِ الاحتجاجيةِ المختلفة التي تُقتَرح علينا عرضَ حال للظاهرة الواحدة إلا أنها تستعمل مفاهيم مختلفة. سوف نحاول في هذا المقال أن نجلي تفسيرات للعمليات الاحتجاجية في ما تقدمه من خصائص.

تقارب آخر النظريات التي تم تقعيدها الحركات الجماعية انطلاقا من فكرة الجماهير. يشكل كتاب غوستاف لوبون سيكولوجيا الجماهير (نشر في 1895) أول دراسة سسيلوجية للظواهر الجماعية، و قد جاء بعد انتشار ما كتبه بعض رجال القانون في أوربا. إنه لا يتصور الجماهير بالضرورة جانية.بل بالأحرى، يصفها في هذا المؤلَّف بغير المتجانسة؛ يشكلها أفراد عاديون، ليس لمستوى تفاهمهم أية أهمية. يهدف هذا إلى تبيان أنْ لا دخلَ للذكاء و بالتالي لتفكير الأفراد المكونين للجماهير، بصفتهما خاصتين أساسيتين، في العمليات الجماعية، لتبقى الأهمية للعواطف اللاواعية. يشكل هكذا اقتناع خطيب و المغالاة في بعض العواطف الخصائص المميزة للطابع البدائي للاقتراحات التي تصل الأفراد الذين سيشكلون جمهورا. يقول لنا غوستاف لوبون في هذا المعنى : "يتوقف كل شيء على طبيعة الحافز، و لا يتوقف، كما هو الحال عند الفرد المنعزل، على العلاقات الموجودة بين الفعل الموحى و كمية التفكير التي يمكن بها مواجهة تحقيقه".

ستصبح دراسة الجماهير مدمجة في دراسة "السلوك الجمعي". و سينشر هربير بلومر تحليلا يرجع إلى اقتراحات في مجالات الدراسة المستقبلية أكثر مما يرجع إلى تفسير ظروف تكوين و بزوغ و تطور هذه الظواهر ذاتها. يبقى أن علينا النظر إلى الأهمية الأساسية لهذه الأشغال بصفتها علامة لأول تحليل للحركات الجماعية يدمج العامل التنظيمي في تفسيراته. يمكننا إذن الاستخلاص، في هذه المرحلة لتطور السسيلوجيا، أن الأشغال حول "السلوك الجمعي" تتوصل إلى تشخيص مسألة أكثر منه إلى اقتراح تفسير حقيقي لهذه الظواهر.

من هذا المنظور، ستشكل دراسات أخرى، نشرت في الستينات، مرحلة جديدة. إذا نظر بعض الكتاب إلى تفسير الحركات الجمعية بالخصائص التي يرونها للبنية الاجتماعية على أنها تمس العمل الجمعي، إلا أن كتابا آخرين يتطرقون مباشرة إلى مسألة تفسير الثورات أو الانتفاضات بتركيز تحليلاتهم حول فكرة "الكبت النسبي". تفسر تحليلات الحركات الظاهرة الجمعية بالكبت الذي يشعر به الفاعلون. نظرية الثورات التي يقترحها جيمس ديفس مثال على ذلك. يسطر تد غور أهمية الفارق بين ما يأمل الفاعلون في الحصول عليه وما يحصلون عليه فعلا. مهما كانت الأشكال الملاحظة بين تطور الرغبات و مستوى التلبية، فإن الكبت قد يؤدي إلى العنف. تسجل السبعينات انتشارا قويا لتحليل الحركات الجمعية. و سيبرز، خلالها، نوعان كبيران من البحوث، كما سيتقايسان نظرا للكمية و تنوع الأشغال التي انجرت عنهما: مقاربة الحركات الاجتماعية الجديدة و مستقبل تعبئة الموارد.

تقودنا دراسة مستقبل "الحركات الاجتماعية الجديدة" إلى النظر بإمعان إلى أشغال ألان توران، مصدرِ انتشار لفظة " حركات اجتماعية جديدة " كما تقودنا إلى إمعان النظر في أشغال ألبرتو ميلوكشي. يرتبط بروز " حركات اجتماعية جديدة " – حسب هذين الكاتبين بتغييرات عميقة يمكن ملاحظتها في المجتمع. بينما كانت " الحركات الاجتماعية" تراقب الموارد المنتجة في المجتمعات الصناعية، فإنها تراقب، في المجتمعات "المتقدمة" أو "البعصناعية"، دائرة الخدمات و الاستهلاك و الروابط الاجتماعية (1). تبعا لهذه التغيرات التي تمس البنية الاجتماعية، فإن "الحركات الاجتماعية الجديدة" التي تظهر، لم تعد تناضل من أجل استرجاع الهيكل المادي للإنتاج كما قد تفعله "الحركة القديمة" نعنـي "الحركة العمالية"، بل تناضل من أجل إعادة امتلاك الزمن و الفضاء و الروابط ضمن الوجود اليومي الفردي"(2). تتسبب الأفعال الضرورية من أجل مراقبة النزاعات الهيكلية التي لا بد منها من أجل توازن المجتمع، في تناقضات مع عناصر أخرى من النظام عندما تصبح التغـيرات الناجمة معاكسة لها (3). إذا اعتبرت "الحركات الاجتماعية" "تعبيرا على نزاع طبقي في مجتمع سياسي ملموس و/ أو في تنظيم اجتماعي"(4)، إلا أن الكاتبين لا يلجآن من أجل هذا إلى تصور حتمي. يعارض ألان توران، في كتابه la voix et le regard (5) حيث يبسط إطارا مفهوماتيا لتحليل "الحركات الاجتماعية"، يعارض بالضبط الماركسية التي تضم تصورا لـ"الحركات الاجتماعية بصفتها مظهرا للتناقضات الموضوعية لنظام هيمنة و يعرفها بالأحرى سلوكاتٍ تصادمية اجتماعيا موجَّهة ثقافيا.

تعتبر "تعبئة الموارد" – و هي تقوم على التعبئة الاحتجاجية - إحدى أكبر المقاربات التي انتشرت في السبعينات. تكمن الفائدة الكبرى للدراسات التي أنتجت تحت هذه الزاوية، في التشديد على مكانة و ثقل التنظيمات لدى التعبئة الاحتجاجية. و يمكننا عموما عرض مسائل التخصص و التمهين، انطلاقا من التفرقة التي تقيمها. تتيح هذه العمليات للأفواج المعبئة اللجوء إلى تقسيم أفضل للمهام، إلى تنظيم داخلي أنجع، إلى التمتع بتجهيز تقني أفضل. يساهم أخذ المفاهيم التي تعتبرها هذه المقاربة ضرورية لدراسة الاحتجاجات، بعين الاعتبار، في إبراز الخاصية التي تكون، بمقتضاها، عمليات التنشيط المنجزة من طرف التنظيمات ضمن دورها التعبوي للموارد، ملازمةً لكلّ احتجاج.

ستأخذ تفسيرات أخرى الاستراتيجيات التي يوظفها الفاعلون في الحسبان، و هذا استنادا إلى تحليل التهيكل الاجتماعي. تؤكد هنا مقاربة "بنية الفرص السياسية" political Opportunities Structure أن البنيات السياسية تستطيع إما المساهمة في تطوير التعبئة ، إما الحدّ من انطلاقها. بالنسبة إلى هربرت كتشلت، فإن الإحتجاجات المناوئة للنووي التي يدرسها مشحونة يمطالب لم تدمج بعدُ من طرف الفاعلين المؤسساتيين. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عناصر كثيرة مكونة لهذا "الهيكل"(1). توفر الموارد مثل المال و الأخبار متغير هام، مثلما هي هامة القوانين المؤسساتية التي من شأنها تسهيل أو منع تأسس الجماعات الجديدة. بالطريقة نفسها، يمكن لنمط تعبوي سبقت تجربته، أن يكون له أثر جاذب لبروز أنماط جديدة من التعبئة. علينا اعتبار هيكلة "الفرص السياسية"، تبعا لاستراتيجيات الفاعلين الاحتجاجيين.

إلا أنه يبدو لنا أن أية نظرية حول الحركات الاجتماعية عاجزة بمفردها عن أن تغطي مجموع المسائل الخاصة بكل دراسة أمبريقية. تشكل المقاربات الجديدة التي يشتد عودها في الوقت الحاضر، المحاولات الأكثر جدية من حيث المسالك البحثية التي تفتحها و ليس من أجل النتائج التي توصلت إليها حتى اليوم. في هذا المعنى، نؤكد، خلاصة، أنه على تفسير النشاط العملي التصادمي أن ينطلق من اعتبار تشكيلات التنافس بين الجماعات، عوض الاعتقاد بقوة الأفكار حول الإلتزام الاحتجاجي للأفراد أو للهيكلة السياسية المفكر فيها بطريقة جامدة، على أنها " مفتوحة" أو " مغلقة". تسمح دراسة هذه التبادلات – حسب رأينا – بتفادي انزلاق إوالي ( (Mécanisteالذي تتضمنه فكرة فرض إطارات رمزية موجودة مسبقا على الجماعات الاحتجاجية. كما تُظهِر أن حسابات الفاعلين القائمة على قياس ما يمكن أن يكونه عمل الآخرين، عنصر مركزي للتفسير. إنها لا تتصور أشكال المنافسة على أنها ثابتة، لكنها تضع العمل التكتيكي للفاعلين في مركز التفسير. يبدو لنا إذن أنه يمكن تسيير معنى من طرف هذه التنظيمات على أنه عملية أساسية تسهم في تنظيم منافساتهم عينها. يبدو لنا مهما هنا أن ندرك أن الجماعات الاحتجاجية تعبئ ، منشغلةً بالظهور عموميا في مظهر الاحترام. يجلو شكل الظهور العمومي هذا في استعمال ربرتوار أعمال جماعية ، كما ترتكز على التأويلات التي يقوم بها الفاعلون. فإذا ارتكز العمل التفسيري للتعبئة الاحتجاجية على إبراز تنظيمات في شكل وكالات تعبئة و كذا على لعبة المنافسة و التبادلات بين الأفواج الاحتجاجية، إلا أن عليه كذلك – حسب رأينا –اعتبار الخاصية التي يشكل، بمقتضاها، تسيير المعنى عملية أساسية لتفسير التعبئة الاحتجاجية.

إلا أنه يبقى علينا بناء تحليل عميق يجمع بين البعد التاريخي و ثقل الحتميات الاجتماعية، و بين العمل التكتيكي المتواجد في كل محاولة تعبئة احتجاجية و ربما وسم هذا لسنين طويلة، استمرار البحوث حول الأطر النظرية لتحليل الحركات الاجتماعية.



نقله إلى العربية :

الآسيان وتجربة التعاون الإقليمي. دراسة في مقومات التجربة و تحدياتها و إمكانات الاستفادة منها

مقدمة

تجمع الدراسات و التقارير على أن العالم يجتاز في الفترة الراهنة تحولات عميقة في بنية النظام العالمي وإعادة صياغة الكثير من الرؤى والمفاهيم والقوى الحاكمة للعلاقات الدولية. و مع التسليم بأنه لم تسفر هذه التحولات عن قيام نظام جديد واضح المعالم و المسارات، فإن ما يحدث على الساحة الدولية بتغيراته وتأثيراته يستأهل النظر والتعمق بغية إستشراف إتجاهات إعادة بناء النظام الدولي. وتشير مجمل تلك الإتجاهات إلى حقيقة أساسية مفادها، أن العالم يتحرك تحركا حثيثا نحو مزيد من التكتلات الإقتصادية الكبرى سواء من خلال قيام تجمعات إقتصادية جديدة أو تفعيل هياكل قائمة بالفعل، أو إعادة و تحويل الأهداف المنوطة بالمؤسسة الإقتصادية لتتوافق ومقتضيات التغيرات الجارية على الساحة الدولية منذ إنهيار الكتلة الشرقية، وتفكك الإتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من تطورات درامية لإعادة ترتيب هيكل القوة الإقتصادية في العالم.

و ليس يخفى أن من أبرز ملامح تلك التطورات الدولية التكتلات الإقتصادية الكبرى، و توقيع إنفاق التحرر الجزئي و التدريجي للتجارة الدولية بين الدول الأعضاء في الإتفاقية العامة للتجارة و التعريفات و المعروفة إختصارا باسم (الجات) GATT و ذلك في ختام جولة أورجواى التي بدأت عام 1986 واختتمت في نيسان (إبريل) 1994 الأمر الذي يعني أن إقتصاديات الدول المختلفة سوف تتحرك في إطار أسواق دولية مفتوحة نسبيا، و بالتالي فإن نمو أو تطور أي إقتصاد سيرتبط إلى حد كبير بقدرة قطاعاته المختلفة على إنتاج السلع و الخدمات بشكل تنافسي مع الإقتصاديات الأخرى، حتى يمكن لهذه القطاعات الإستمرار في المنافسة في الأسواق المحلية و الدولية[1].

و لما كانت قدرات الدول النامية على المنافسة من الضعف بمكان، سعت الكثير من هذه البلدان إلى الأخذ بصورة أو أخرى من صور التعاون الإقليمي بهدف تعزيز قدرتها الإقتصادية في مواجهة تلك التحديات. وفي هذا الإطار تمثل تجربة « رابطة جنوب شرق آسيا » والمعروفة إختصارا بالآسيان asean نموذجا متميزا في هذا الصدد على النحو الذي دفع إلى إعتبارها نموذجا قابلا للاحتذاء من جانب الدول النامية في سعيها لتعظيم مكاسبها في ظل الواقع الدولي المعاصر. ومن هنا تأتي أهمية هذه الورقة البحثية التي تسعى إلى التعرف على عوامل نجاح تجربة "الآسيان" و مكامن ضعفها و التحديات و الصعوبات التي تواجهها وكيف تتعامل معها، وصولا إلى التعرف على مدى إمكانات الإستفادة من هذه التجربة في إطار المنطقة العربية.

و في ضوء ما سبق، تم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة محاور يعرض أولها لتجربة « الآسيان » في ضوء مفاهيم و صور التعاون الإقليمي بشقيه السياسي و الإقتصادي، رغبة في تفهم طبيعة هذا التنظيم الإقليمي و موقعه بالنسبة لصور وأشكال التعاون. أما المحور الثاني فيعرض بالرصد و التحليل لأداء التنظيم موضع الدراسة وصولا إلى استشراف مستقبل « الآسيان » في ضوء المتغيرات العالمية و الإقليمية. و يعنى المحور الثالث بالتعرف على إمكانات الإستفادة من تجربة الآسيان في الواقع العربي من خلال رؤية مقارنة بين مسار و مآل كل من الخبرة العربية وخبرة الآسيان في مجال التعاون الإقليمي وذلك على النحو التالي.

1- تجربة الآسيان في ضوء مفاهيم و صور التعاون الإقليمي

أولا - مفاهيم و صور التعاون الإقليمي :

يثير الحديث عن الآسيان كمنظمة للتعاون الإقليمي بين دول جنوب شرقي آسيا ضرورة التعرف على مفهوم التعاون الإقليمي و صوره المختلفة. و إجمالا يمكن القول أن التعاون الإقليمي يعتبر أحد المفاهيم الرئيسية ضمن أدبيات العلوم السياسية و تحديدا علم العلاقات الدولية، كما أنه أحد المجالات الرئيسية في الدراسات الإقتصادية، وعلة ذلك تعدد صور و جوانب التعاون الممكنة بين الكيانات السياسية الدولية و في مقدمتها الدول. و مفهوم التعاون الإقليمي يبدو مفهوما مركبا يتكون من كلمتين تشير الأولى إلى مجموعة من المعاملات و الإتصالات الكثيفة بين طرفين أو عدة أطراف (أشخاص، دول، أجهزة، مؤسسات...) بهدف العمل المشترك على نحو يؤدي إلى تحقيق أفضليات مشتركة و يعظم درجة الأمن لدى عدة أطراف، لا يشترط بالضرورة أن يكونوا متقاربين مكانيا أو جغرافيا[2]. أما الكلمة الثانية فإنها بإضافتها للكلمة الأولى تقوم بتخصيص النطاق المكاني للتعاون بين أطرافه حيث يتعلق الأمر في هذه الحالة بتعاون إقليمي يتصل بتفاعلات تحدث بين عدة دول تنتمي إلى حيز جغرافي محدد، و يطلق البعض على هذا النوع من التفاعلات مصطلح الإقليمية Regionalism التي تعني في أحد تعريفاتها جهود دفع التعاون الإقتصادي و الأمني بين ثلاث دول أو أكثر في منطقة جغرافية معينة تبعا لأسس محددة، تتعدد وفقا لها الإقترابات الإقليمية للتعاون الإقتصادي و الأمني و يمكن التمييز بين نوعين من الإقليمية هما : الإقليمية المفتوحة « Open Regionalism » و يقصد بها تلك الجهود التي تستهدف التعاون في مجالات التجارة و الإستثمار، و الإقليمية الرخوة « Soft Regionalism » و التي تعني الإجراءات المشتركة في إطار التعاون الأمني بين الوحدات الداخلة في مثل هذا النوع من التعاون[3].

و يعتبر مفهوم الإنتشار و الإقليمية الجديدة من المفاهيم وثيقة الصلة بفكرة التعاون الإقليمي و ذلك إنطلاقا من حقيقة أن بعض أنماط التعاون تتجه إلى تجاوز شرط الجوار الجغرافي فيما يتصل بالتعاون فتمتد بنطاق الإقليم و المكان إلى محل و مناط التعاون (سياسي، اقتصادي، ثقافي) بالمصطلح القانوني و الفقهي، و بالتالي تتاح فرص التعاون الإقليمي بالمعنى سالف البيان إلى وحدات و كيانات أكثر إتساعًا من المعنى الجغرافي الضيق للإقليم[4].

و على الصعيد الإقتصادي يمكن القول بتعدد و تنوع الصور و الأشكال التي إتخذتها و تتخذها ظاهرة التعاون الإقتصادي بالمعنى الشامل Economic Integration بين الدول المختلفة، و الذي يعرف اصطلاحا بالتكامل الإقتصادي، و الصور الشائعة لهذا النمط من التعاون هي : منطقة التجارة الحرة، و الإتحاد الجمركي، و السوق المشتركة و الإتحاد الإقتصادي و الإندماج لإقتصادي الكامل. و مناط التمييز بين كل درجة و أخرى هو ما تحققه كل منها من قضاء على الحواجز و القيود التي تعترض إنتقال السلع و الخدمات و عناصر الإنتاج المختلفة بين أطراف التنظيم، و الدرجة التي يحققها كل منها في تخفيف التمييز أو القضاء عليه فيما بين الأقطار الأطراف،و أيضا فيما بينها و بين الأقطار الأخرى غير الداخلة في عملية التكامل[5]. و يرى الكثير من الإقتصاديين الغربيين أن هذه الصور (منطقة التجارة، الإتحاد الجمركي، السوق المشتركة و الإتحاد الإقتصادي و الإندماج الإقتصادي الكامل) إنما تمثل درجات أو مراحل متتالية من التكامل، بمعنى أن كل منها تعبر عن درجة أو مرحلة من التكامل أعلى من التي قبلها[6].

و على صعيد التنظيم الدولي نجد أن ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945 قد أقر مبدأ قيام المنظمات الإقليمية، و لم ير فيه تعارضًا مع نظام الأمن الجماعي الذي أتت به المنظمة الدولية. فنصت المادة 25/1 على أنه: " ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم و الأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحا فيها و مناسبًا، ما دامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية و نشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة، و مبادئها"، كما خصص الفصل الثامن من الميثاق لشرح دور هذه المنظمات في حفظ السلم و الأمن الدوليين، و علاقتها بالمنظمة العالمية [7].

يتبين مما تقدم مدى تنوع و تشعب موضوع التعاون الإقليمي و أبعاده المختلفة، فإذا ما تجاوزنا الإقترابات و المداخل المختلفة للنظر في التعاون الإقليمي و دراسته وحاولنا التعرف على العناصر اللازم توافرها لقيام مثل هذا التعاون، فإننا نجُابَهُ مرة ثانية بتباين في الآراء فيما يتصل بهذه العناصر و دورها، و لما كان ذلك ليس هو الهدف الأساسي للبحث فإننا سنعرض لصورتين من الصور الدالة على هذا التباين. و هما التحدي الخارجي، و العلاقة بين السياسي و الإقتصادي فيما يتصل بالتعاون الإقليمي.

فعلى صعيد التحديات الخارجية يرى البعض أن وجود التحديات و التهديدات الخارجية يعد عاملا كافيا لدفع الدول نحو التكتل و التضامن و الوحدة، إلا أن وجود التحدي الخارجي ليس شرطا أن يؤدي إلى الوحدة أو التكتل أو التضامن الإقليمي بل أن وجود التهديدات بصفة عامة قد يدفع إلى الإنقسام بين دول الإقليم الواحد[8].

و فيما يتصل بالعلاقة بين المدخل السياسي و المدخل الإقتصادي نجد جدلا مماثلا بين من يدعو إلى إتباع المدخل الإقتصادي - الوظيفي - لتحقيق الإندماج و التكامل و بين من يدعو إلى المدخل السياسي لتحقيق ذات الهدف. على أنه تجدر الإشارة إلى أن التيار الغالب يذهب الى ضرورة توافر قدر من المصلحة المشتركة بين الدول الساعية لإقامة تنظيم إقليمي سواء تمثلت هذه المصلحة في درء مخاطر أو جلب منافع للأطراف. كما ان النظريات المختلفة للاندماج و التكامل المعروفة بأنها لا سياسية مثل الوظيفية، و الوظيفية الجديدة، و الإتصالية، لم تستبعد مجال العامل السياسي من تحليلاتها[9]. كما أن النظريات السياسية مثل الفيدرالية لم تهُمِل الأبعاد الإقتصادية في تناولها. و الواقع أن عملية التعاون الإقليمي تثير العديد من القضايا التي تتصل بطبيعة النشأة، و أطراف التنظيم و العلاقة بينهم، و الهيكل التنظيمي[10]. و هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بشكل عملى تطبيقي في إطار ما تتمتع به كل تجربة إندماجية من خصوصية. الأمر الذي يبرر الإنتقال إلى التعرف على طبيعة نشأة و تطور رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان).

ثانيا - نشأة و تطور "الآسيان" :

يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة أن إنشاء منظمة "الآسيان" في آب / أغسطس عام 1967 قد جاء ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي في إقليم آسيا - الباسفيك خلال مرحلة الحرب الباردة، التي تميزت بسعي الولايات المتحدة إلى حصار المد الشيوعي و احتوائه خوفا من انتشاره على نحو يهدد مصالحها بالمنطقة لا سيما مع خروج فرنسا من الهند الصينية و انتصار فيتنام و توسعها في كمبوديا إضافة إلى تفاقم الصراعات الأخرى بالمنطقة. عندئذ برزت الحاجة إلى آلية أمنية في جنوب شرق آسيا تكون مهمتها حصار المد الشيوعي و الحيلولة دون انتشاره و هو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى خلق هذه الآلية في محاولة لتنظيم صفوف الحلفاء في جنوب شرقي القارة، و تقوية اقتصادهم من خلال ضخ رؤوس الأموال الهائلة و الزائدة عن دورة رأس المال الأمريكي، الذي نشأ و تكون بسبب فوائض أسعار النفط العربي و هو الأمر الذي يحقق عدة أهداف لخدمة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة[11] و التي من أبرزها :

  1. 1. الحد من نفوذ النشاط الإقتصادي الياباني الآخذ في النمو.
  2. 2. حصار البؤر الشيوعية في محاولة لتطويق فيتنام و الإتحاد السوفيتي فيما عرف حينئذ بسياسة الحصار (التطويق).
  3. 3. دعم التكامل الإقليمي بين الدول الموالية و الصديقة عبر الإستثمارات المشتركة و التعاون الإقتصادي[12].

الأمر الثاني الذي يبدو على قدر كبير من الأهمية هو طبيعة الأمنية التي سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقها عبر هذا التنظيم الإقتصادي و التي ألقت بظلالها على النشأة و التكوين و كذلك ما أخفقت المنظمة في تحقيقه، و هو الأمر الذي تطلب بالضرورة التعاون لإنشاء منتدى الآسيان الإقليمي (A.R.F) الذي عقد إجتماعه الأول في بانكوك (تموز / يوليو. 4199) و يتسم بدور أمني واضح التحديد، و يتحمل فيه الآسيان المسؤولية الأساسية عن تطوره المؤسسي، حيث يتولى تنظيم و رئاسة الإجتماعية السنوية للمنتدى، و هو الأمر الذي سنعود له تفصيلا عند تقييم أداء الآسيان لوظائفه في موضع لاحق[13].

و قد ظهرت الإعتبارات الأمنية جلية في مجموعة المبادئ العامة التي صاغتها في أعقاب تأسيسها و التي تمثلت في:

  1. 1. أن يكون حل المنازعات بالطرق السلمية.
  2. 2. عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
  3. 3. إحترام الإستقلال و السلامة الإقليمية.
  4. 4. عدم دعوة القوى الخارجية للتدخل في صراعات المنطقة و حلها في إطار الرابطة [14].

و من الناحية التاريخية و القانونية يمكن القول بأن توقيع كل من إندونيسيا و ماليزيا و الفلبين و تايلاند على المعاهدة الخاصة بإنشاء « رابطة أمم جنوب شرق آسيا (الآسيان)"Association of South - East Asian Nations في آب أغسطس 1967 أدت إلى تأسيس الرابطة بشكل رسمي، و في عام 1984 إنضمت بروناي إليها، إلا أن الرابطة إستمرت محدودة الفاعلية حتى عام 1976 عندما إجتمع رؤساء حكومات الدول الأعضاء في "بالي" بإندونيسيا لمناقشة الموقف في المنطقة ثم تلاه الإجتماع التالي في كوالالمبور عام 1977 حيث كان هذان الإجتماعان نقطة تحول في تاريخ "الآسيان" [15].

ثالثا - الهيكل التنظيمي :

أسفر إعلان "الآسيان" أو ما أسمى إعلان "بانكوك" الصادر في آب / أغسطس 1967 عن إنشاء العديد من الهيئات و المنظمات و اللجان شكلت في مجملها عناصر الهيكل التنظيمي للمنظمة : و هذه الهيئات هي : (أنظر شكل رقم 1)

أ. إجتماع القمة Summit meeting : و هذه هي السلطة الأعلى في الرابطة حيث تتكون من رؤساء الحكومات في الدول الأعضاء، و منذ تأسيس الرابطة لم تعقد سوى أربع إجتماعات قمة، (فكان الأول في مدينة "بالي" بإندونيسيا في شباط / فبراير1976، و الثاني.

في مدينة "كوالالمبور" بماليزيا في آب / أغسطس 1977، و الثالـث في مـديـنة " مانيلا" بالفلبين في كانون أول / ديسمبر 1987، و الرابع في مدينة "سنغافورة" في كنون ثاني / يناير2199).

و الملاحظة الجديرة بالذكر هنا أنه قد مرت تسع سنوات (عقد تقريبا) على إنشاء الرابطة قبل عقد إجتماع القمة الأول، و هو الأمر الذي يشير إلى عدم وجود المركزية، و إلى تقدم الإقتصادي على السياسي، إذا لم تجتمع القيادة السياسية خلال عقد كامل و لو لمرة واحدة، و مع ذلك فإن الرابطة كانت ماضية في سبيل تحقيق الأهداف المنوطة بها، كما أن من الملاحظ أيضا عدم تسلسل مواعيد إجتماعات القمة فالفرق بين الأول و الثاني سنة ونصف تقريبا (18 شهرا) كما أن الفرق بين الثاني و الثالث أكثر من عشر سنوات، و أخيرا فإن الفرق بين الثالث و الرابع حوالي أربع سنوات،و هو يشير إلى أن مواعيد إجتماعات القمة غير محددة، و كذلك يشير أيضا إلى عدم سيطرة القمة على مقاليد الأمور في الرابطة، و الواضح أنه لقاء لتحديد الخطوط العامة مع ترك التفاصيل للمستويات الأخرى.

ب. المؤتمرات الوزارية Ministerial Conferences : يجتمع وزراء خارجية الدول الأعضاء سنويا بشكل دوري، كما يجتمع وزراء الإقتصاد أيضا سنويا لإدارة شؤون التعاون الإقتصادي كما يجتمع وزراء آخرون كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

ج. اللجنة الدائمة Standing Committee : و تتكون من وزير خارجية البلد المضيف و سفراء الدول الأعضاء، تجتمع بشكل دوري مرة كل شهرين.

د. الأمانة العامة Secretariats : و قد أنشئت في "جاكرتا" بإندونيسيا عام 1976 و تشكل الجسد المركزي للرابطة و الأمين العام الأعلى يختار بشكل دوري من الدول الأعضاء حسب الترتيب الأبجدي كل ثلاث سنوات، و يجري التنسيق اليومي من خلال الأمين الوطني لكل عضو في لرابطة. (أنظر شكل رقم 2.)

هـ. اللجان Committees : يتم التعاون بين دول الرابطة من خلال وزراء الشؤون الإقتصادية عبر خمس لجان هي، لجنة الغذاء و الزراعة و الغابات و لجنة التمويل و البنوك و لجنة الصناعة و التعدين و الطاقة و النقل و المواصلات و أخيرا لجنة التجارة و السياحة[16].

كما تشكل بالإضافة إلى هذه الخمس لجان خاصة مثل لجنة الثقافة و المعلومات و لجنة العلوم و التكنولوجيا و لجنة التنمية. و فيما يلي سوف نعرض لإنجازات الآسيان في ثلاث مجالات رئيسية هي المجال الإقتصادي، و السياسي، و العلاقات الخارجية:

أ- التعاون الإقتصادي :

بالرغم من أن التعاون الإقتصادي بين دول الآسيان قد بدأ في إطار ضيق و محدود، لنشاطات متعلقة بالغذاء و الطاقة و النقل و أجهزة الاتصال و الزراعة و السياحة فحقق التعاون بينهم احتياطي غذائي آسيوي، إلا أن البداية الحقيقية لآليات التعاون الاقتصادي جاءت في الوقت الذي عقدت فيه قمة "بالي" بإندونيسيا عام 1976 و تم تشكيل ثلاث لجان رئيسية هي:

  1. 1. معاهدة التجارة التفضيلية (الدولة الأولى بالرعاية) T.AS.
  2. 2. المشروعات الصناعية (للآسيان) I.P.S.
  3. 3. المنطقة الصناعية المغلقة.

و قد عنيت الاتفاقية الأولى بجعل حرية التجارة مكفولة بين دول المنطقة (أي بجعل الدول الأعضاء منطقة تجارة حرة مغلقة)، و تكفلت الثانية و الثالثة بالتعاون الصناعي.

و في أعقاب القمة ذاتها و بناء على الاتفاقات المتبعة اتفق وزراء اقتصاد دول الآسيان على توزيع المشروعات الصناعية على الدول الأعضاء. و في عام 1977 وافق وزراء الاقتصاد على المشروعات المختارة فيما عدا الفلبين التي استبدلت المشروع الذي أجير عام 1979 بمشروع آخر لإنتاج الورق، كما غيرت الفلبين مشروعها ثانية و استبدلته بثالث لتصنيع النحاس و أجازه وزراء اقتصاد الآسيان عام 1982.

و وفقا لاتفاق الأفضلية التجارية، اتفق على إضافة (50) منتجا في كل جولة من المفاوضات، كما وافق وزراء الاقتصاد على إعفاء كل صفقة تقل قيمتها عن خمسة آلاف دولار من الرسوم الجمركية، و بعد ذلك بعامين وصلت هذه القيمة إلى عشرة ملايين و بعد ذلك استبدلت "الآسيان" المفاوضات متعددة الأطراف الـجمـاعية بـالـمـفـاوضـات الثـنائية، و فيما يتعلق بالتخفيضات الجمركية على المنتجات غير الزراعية التي يصل التخفيض فيها إلى 50%، فقد وصلت فائدة هذه المنتجات عام 1983 إلى (12) ألف منتج [17].

و قد لعب التعاون الصناعي دورا حقيقيا في المدى القصير لعملية التكامل الاقتصادي للمنطقة، و ذلك عن طريق اللجنة الخاصة التي تم تشكليها عام 1977 في مجالات الصناعية و التعدين و الطاقة، و قد حددت اللجنة المشروعات التي سوف يبدأ التكامل بشأنها في السيارات، و الآلات الزراعية، و معدات الاتصال.

و كانت الفكرة الرئيسية هي أن رجال الأعمال و الحكومات يمكنهم التعاون في إنشاء الصناعات في كل دولة عضو على نحو تكاملي سواء في الإنتاج أو التجميع بشرط أن يتمتع المنتج بالحماية الجمركية في دول الرابطة.

و الجدير بالذكر أن القطاع الخاص لم يبادر في البداية إلى الاستثمار في مجال التصنيع المشترك حيث مرت ثلاث سنوات حتى تشكيل الآسيان للغرف التجارية عام 1972، و هنا بدأ القطاع الخاص في المساهمة في صناعة السيارات و وافق وزراء الاقتصاد على ذلك عام 1980CRASC Insaniyat - دفاتر إنسانيات

ب. المجال السياسي :

أثرت ظروف النشأة و التطور على دور الآسيان السياسي حيث ركز قادة الدول الأعضاء في الآسيان جهودهم على دعم التعاون الاقتصادي و الصناعي و التجاري أساسا دون الانصراف إلى الشؤون السياسية. لكن نظرا لعدم إمكانية الفصل بين ما هو سياسي و ما هو اقتصادي عمليا فقد اضطر الآسيان إلى الخوض في المسائل السياسية التي بدأت بتأكيد وزراء الخارجية على حياد المنطقة و ظهر مفهوم منطقة السلام و الحرية و الحياد "Zone of Peace, Freedom and Neutrality" و سيطر هذا المفهوم (Zopfan) على الاجتماع الوزاري الرابع للآسيان في أذار / مارس 1971، و كذا اجتماع وزراء الخارجية في تشرين ثاني / نوفمبر 1971 و سعى وزراء الخارجية إلى إصدار إعلان عن عزمهم السعي إلى جعل هذا المفهوم جزءا من السياسة الرسمية للرابطة كما سعت في إطار نشاطها السياسي إلى إجراء حوارات مع الجماعة الأوروبية (1972) و استراليا (1974) و نيوزيلندة (1975) و كندا و اليابان و الولايات المتحدة (1977) في إطار من التقسيم حيث تكفل كل عضو من الرابطة بالإشراف على الحوار مع قوة من القوى الدولية، و قد غطت هذه الحوارات جوانب متعددة من التعاون التنموي و المساعدات الفنية و مشروعات الأبحاث و التجارة[18].

إلا أنه يجدر القول أن أعظم الأدوار السياسية التي لعبها الآسيان هو ذلك الدور المتعلق بقضية كمبوديا التي تفجرت على أثر الغزو الفيتنامي لكمبوديا في كانون أول / ديسمبر 1978، إذ تحركت الآسيان و أدانت الغزو كما وقفت إلى جوار الصين ضد الاتحاد السوفيتي الذي بدأ مؤيدا للغزو، و على أثر تحركات الآسيان و الدعم الأمريكي لها نجحت في استصدار قرارات من مجلس الأمن تطالب فيتنام بالانسحاب من كمبوديا، و كانت نتيجة ذلك عقد مؤتمر للأمم المتحدة حول كمبوديا في نيويورك عام 1981 كما تمسكت بضرورة حضور الفئات الأربعة الممثلة للشعب الكمبودي. و بالرغم من أن المؤتمر انتهى إلى صدور بيان ختامي ذو طابع توفيقي حرص على التوفيق بين مطالب الآسيان من جهة و مطالب الصين من جهة أخرى حيث أكد على ضرورة انسحاب القوات الأجنبية و إجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أن جهود الآسيان لم تفتر إذ استمرت خلال عقد الثمانينات في تبنى سياسة متماسكة إزاء القضية، و قد تمثل ذلك في عدد من الإجراءات كان منها مشروع السلام الذي قدمته الرابطة في الاجتماع السنوي (بانكوك) في تموز / يوليو 1988 الذي ارتكز على وقف إطلاق النار و انسحاب القوات الفيتنامية على ثلاثة مراحل و نزع سلاح الفصائل الكمبودية على مرحلتين و تشكيل حكومة انتقالية و إجراء انتخابات عامة تحت إشراف دولي. كما دعت الرابطة منظمة دول عدم الانحياز في 18/4/1986 إلى مساندة مواقف الرابطة في جهودها لتسوية القضية الكمبودية.

و انتهت بدخول الرابطة في مفاوضات مباشرة مع فيتنام و اقترحت تشكيل مجلس وطني أعلى من القوى المعارضة يشغل مقعد كمبوديا في الأمم المتحدة.

العلاقات الخارجية للآسيان :

  1. 1. مع المجموعة الأوروبية

تشكل الجماعة الأوروبية النموذج النظري المحتذى لدى دول رابطة الآسيان، و لذا كان من الطبيعي أن يسعى هؤلاء و منذ البداية إلى دعم علاقاتهم بالمجموعة الأوروبية، و أسفر هذا السعي على توقيع اتفاق للتعاون بين الآسيان و المجموعة الأوروبية في آذار / مارس 1980 و كذلك تم تشكيل لجنة مشتركة عقدت اجتماعها الأولى في العاصمة الفليبينية (مانيلا) في تشرين ثاني / نوفمبر 1980، و أصبح الاجتماع سنويا بعد ذلك، و وضعت اللجنة برنامجا للتعاون العلمي و التكنولوجي، و في كانون أول / ديسمبر 1983 تم تشكيل مجلس رجال الأعمال من الآسيان

و المجموعة الأوروبية و ذلك لتحديد المشروعات المشتركة التي يساهم فيها أو يقوم بها رجال أعمال أوروبيون.

و في تشرين أول / أكتوبر 1985 عقد الاجتماع الأول لوزراء الشؤون الاقتصادية للآسيان و المجموعة الأوروبية، و وافق على تشجيع الاستثمارات الأوروبية في دول رابطة الآسيان و قدرت الاستثمارات الأوروبية في ذلك الوقت بنحو 13% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في المنطقـة،و ذلـك مقــابل (28%) للــيـابـان و (17%) للولايات المتحدة. و في عام 1987 أنشئت لجان استثمارية مشتركة في جميع عواصم رابطة الآسيان و مع بداية تحرك المجموعة الأوروبية نحو تحقيق الوحدة، عقد وزراء خارجية رابطة الآسيان اجتماعا في شباط / فبراير 1990 لمناقشة الآثار المحتملة للوحدة الأوروبية على رابطة الآسيان، لاسيما في ظل المخاوف التي طرحتها الرابطة حول ما يمكن أن يوضع من قيود على صادراتهم إلى دول الاتحاد الأوروبي و كذلك لبحث الآثار المترتبة على اتجاه المجموعة الأوروبية إلى توجيه الشطر الأكبر من الاهتمام و المساعدات إلى دول شرق أوروبا تحولها نحو اقتصاد السوق.

  1. 2. الآسيان و اليابان :

يمكن القول بأن ثمة عوامل كثيرة سياسية و اقتصادية و جغرافية كانت بمثابة المحددات لعلاقة الآسيان باليابان فالوزن الاقتصادي الضخم لليابان، و الجوار الجغرافي و التشابه في الأنظمة الاقتصادية استدعى حدوث تعاون بين الآسيان و اليابان و هو الأمر الذي تفهمه كلا الطرفين فأسفر عن تشكيل الجمعية اليابانية الأسيانية لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل التجارة، و الاستثمارات و نقل التكنولوجيا. و في عام 1981 بدأت اليابان بتقديم دعمها لرابطة الآسيان،و هو الدعم الذي تزايد عام 1983 لكل من أندونيسيا و ماليزيا و تايلاند.

و في عام 1987 أنشأت اليابان صندوق تمويل التنمية في الآسيان برأسمال قدره مليارا دولار، و في أيار/مايو 1991 أسفرت المفاوضات بين الطرفين عن إعلان اليابان استمرارها في دعم و تشجيع النمو الإقتصادي لدول الآسيان و البحث عن إطار عام مشترك لمناقشة القضايا السياسية و الأمنية في المنطقة[19].

  1. 3. الآسيان - كوريا الجنوبية :

 وجد التعاون الاقتصادي بين الآسيان من جهة و كوريا الجنوبية من جهة أخرى عددا من الأسباب و المبررات أهمها يتعلق بمشاكل مشتركة مثل ارتفاع تكاليف الطاقة خاصة في كوريا و كساد الطلب على الصادرات و تهديد الحماية العالمية.

و كذلك هناك أسباب سياسية و أمنية منها سعى الآسيان إلى تقوية علاقتها بكوريا الجنوبية لتجد موطئ قدم لها في قضية شبه الجزيرة الكورية لضمان عدم تفجر الصراع في هذه القضية، و هذه الأسباب دفعت الآسيان إلى قبول كوريا كعضو مراقب في اجتماع وزراء الخارجية و يوليو 1991.

و قد أقامت كوريا علاقات جيدة مع الآسيان منذ إنشائه إلا أن هذه العلاقة ظلت إلى عام 1975 تتميز بأمرين :

التنافس مع كوريا الشمالية و ذلك في إطار المنافسة العالمية بين الكوريتين للحصول على الشرعية الدولية و الاعتراف العالمي. أولوية العلاقات الثنائية مع كل دولة من دول الآسيان على العلاقة مع الآسيان كوحدة متكاملة، إلا أن العلاقات أخذت منعطفا جديدا ابتداء من منتصف السبعينيات مع زيارات عدد من الكوريين الرسميين لدول الآسيان و كذا زيارات مسئولين من الآسيان لكوريا الجنوبية. و بإلقاء الضوء على تطور العلاقات التجارية بين كوريا و الآسيان في فترة الحرب الباردة يتضح -كما تشير البيانات و الإحصاءات- النمو السريع في تجارة كوريا مع الآسيان حيث وصلت عام 1980 إلى (2610) مليون دولار أمريكي و هو رقم أعلى بخمس مرات من الرقم المتحقق عام 1975 و الذي كان (508) مليون دولار أمريكي، كما أن نسبة تجارة كوريا إلى مجمل التجارة العالمية وصلت في العام نفسه إلى (%6,58) بزيادة أكثر من (% 1,5 ) عن عام 1975 و هو جانب من الأرقام التي توضح عمق العلاقات التجارية بين الطرفين.

و في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة نمت العلاقات بين الطرفين الأمر الذي أدى إلى إقامة ما سمي Sectoral Dialogue Patnership الذي قاد إلى حوار شراكة كامل بينهما في عام 1991. كما نمت تجارة كوريا مع الآسيان بصورة ملحوظة عام 1980 إلى 1993 فارتفع نصيب الآسيان من تجارة كوريا (% 6,6) عام 1980 إلى (% 10) عام 1993، و بالمثل زادت صادرات الآسيان لكوريا بمعدل سنوي بلغ حوالي (12,6%) على حين زادت الواردات إلى (%17,6 ) سنويا في الفترة من 1980 إلى 1993، و هو الأمر الذي توضحه الجداول الملحقة مع التركيب النوعي للصادرات و الواردات الكورية من و إلى الآسيان[20].

  1. 2. الآسيان : التحديات و الآفاق

- نحو تقويم موضوعي لرابطة الآسيان :

يجدر بنا و نحن بإزاء تقويم أداء الآسيان القول بأن تجربة الآسيان تطرح نموذجا ناجحا - و بإقتدار- في تقديم نموذج تعاوني في بيئة صراعية إذ إتسمت المنطقة قبل ظهور الرابطة و بعدها بكثرة الصراعات و الإنقسامات بين دول المنطقة و التي وصلت إلى حد الخلافات العرقية الحدودية، عمقتها خلافات في الرؤى تجاه قضية الأمن الإقليمي و الموقف من القوى الإقليمية الأخرى، و كذلك القوى الدولية، كما نجحت الرابطة في استثمار اللحظة التاريخية المواتية التي تمثلت في نمو التهديد الفيتنامي/السوفياتي و تصاعد النفوذ الصيني و من ثم استثمرت دول الرابطة فكرة الإحساس بالخطر المشترك في وضع أسس بناء إقليمي لتحقيق الأمن و الرفاه الاقتصادي.

ويمكننا فيما يلي إجراء تقويم موضوعي للآسيان انطلاقا مما سلف بيانه دون تهوين أو تهويل. و نظريا فإنه يمكن إجراء هذا التقويم عبر استخدام وسيلتين رئيسيتين هما : أولا : مجموعة الأهداف المرسومة للآسيان و المنوط به تحقيقها. ثانيا: عوامل نجاح الرابطة توصلا إلى التعرف على مستقبل الرابطة في ضوء التحديات الناجمة عن النظام الدولي الجديد و هو ما نعرض له تفصيلا في النقاط الثلاث التالية :

أولا : مجموعة الأهداف المرسومة :

أنشئت الآسيان و قامت أساسا لتحقيق وظيفتين في غاية الأهمية لمجموع الأعضاء و لأطراف خارجية دعمت الآسيان و ساندته في طريق قيامه و هما :

1- الوظيفة الأمنية

2- الوظيفة الاقتصادية

كما يمكن إضافة وظيفة ثالثة أو هدف ثالث أنيط بالرابطة تحقيقه و إن يكن لاحقا لها و هو الوظيفة السياسية. و سوف نتناول هذه الوظائف الثلاث لندرس مدى نجاح الآسيان في تحقيقها.

1- الوظيفة الأمنية : ذكرنا فيما سبق أن إنشاء الآسيان جاء ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي في إقليم آسيا- الباسفيك، التي خططت لها و وضعتها القوى الغربية و على رأسها الولايات المتحدة في دعمها للدول الصديقة، و جاء الآسيان ليوفر لأعضائه محفلا لمناقشة الدبلوماسية الوقائية و إجراءات بناء الثقة و لإعلان وجهة نظر واحدة إزاء قضية الأمن الإقليمي، و بالرغم من أن الرابطة قد خلقت جوا من الثقة و التفاهم بين الدول الأعضاء كما خلقت ما يمكن أن نسميه بالعقل الجمعي الأمر الذي وحد الرؤى إزاء قضية الأمن الإقليمي و العلاقات الخارجية إلا أنه -وفقا لرأي المحللين- قد افتقر لترتيبات أو لآليات تقليدية للأمن الجماعي، إذ جاء إعلان تأسيسه خلوا من الإشارة الصريحة لدوره الأمني، و عبر عمره الطويل لم يحاول الآسيان أن يصوغ نموذجا رسميا للأمن، إذ بالرغم من أنه طور منهجا سياسيا لمشاكل الأمن الإقليمي، اقتصر على أعضائه في عملية حوار متعدد الأطراف و تقوم ممارسته على عنصر الدبلوماسية وحدها، إفتقر للجوانب التنفيذية لمعرفة نماذج الأمن الجماعي، إذ لا يتضمن أية آليات رسمية لتسوية المنازعات، ربما خشية الإساءة للعلاقات السياسية، و يرى هؤلاء أن الدليل الواضح على فشل الآسيان في أداء وظيفته الأمنية هو الاتجاه إلى إنشاء بيان متعدد الأطراف أكثر اتساعا في آسيا - الباسفيك. عرف باسم : محفل الآسيان الاقليمي A.R.F. الذي عقد اجتماعه الأول في بانكوك تموز/يوليو 1994 و يتسم بدور أمني واضح التحديد، و يحمل الآسيان المسئولية الأساسية عن تطوره المؤسسي حيث يتولى تنظيم و رئاسة الاجتماعات السنوية للمحفل، و تتناوب رئاسة اجتماعاته المنعقدة بين دوراته السنوية، إلا أن هناك تحليلات ترى أن تبني المحفل لمنهج الآسيان إزاء مشاكل الأمن الإقليمي و افتقاره لنص ينظم استخدام القوة في الصراع وحده، و اعتماده على المكانة العليا للدبلوماسية يمثل امتدادا للإخفاق في تحقيق الأمن و أداء الوظيفة الأمنية[21].

2- الوظيفة الاقتصادية : برز الإنجاز الرئيس لمجموعة الآسيان على الصعيد الاقتصادي في تزايد معدلات التجارة البينية بين دول الرابطة (أنظر الجدول في الملحق). و من هنا نجد ان الآسيان قد نجحت في تدعيم التعاون الاقتصادي بين دولها، هذا بالرغم من أن المشروعات التي تم الاتفاق عليها لم ينجز منها الكثير إضافة إلى عدم التقيد بلوائح الرابطة في العديد من القطاعات و يفسر البعض زيادة معدلات التبادل التجاري فيما بينها، بالقول بأن هذا النمو مرده إلى نشاط الأسواق المحلية لدول الآسيان نفسها و ليس إلى زيادة الصادرات فحسب، في منطقة جنوب شرق آسيا في حين يفسرون زيادة التبادل التجاري بين دول الآسيان و الدول المحيطة بها باتباع دول جنوب شرقي آسيا بصفة عامة للمبادئ الأساسية للاقتصاد الرأسمالي فضلا عن تشجيع الاستثمارات الخارجية.

و هكذا يظل الإنجاز الرئيسي للرابطة و الذي لا يقل الجدل- أنها قطعت شوطا على طريق الاندماج الاقتصادي حيث بدأ الحديث عن منطقة للتجارة الحرة، و اتحاد للمستهلكين و سوق مشتركة للآسيان، و ذلك على الرغم من أن الهدف الرئيسي للآسيان كان التعاون الإقتصادي و ليس الاندماج الاقتصادي او السوق المشتركة، و قد بدا ذلك واضحا في منتصف التسعينات إذ تم الاتفاق في اجتماع وزراء اقتصاد الدول الأعضاء في الرابطة (28/4/1995) على الإسراع بتخفيض الرسوم الجمركية بهدف إنشاء منطقة تجارة حرة قبل عام 2003، بل إن الاجتماع السنوي الثامن و العشرين لوزراء خارجية دول الرابطة و الذي عقد في بروناي (29/7/1995) طالب بضرورة اتخاذ بعض الخطوات الجادة للإسراع بالوصول بالمنطقة إلى منطقة تجارة حرة قبل الموعد المقرر لها بثلاث سنوات، أي عام 2000م.

3- الوظيفة السياسية : لم تكن الوظيفة السياسية ضمن مجموعة الوظائف المنوط برابطة الآسيان تحقيقها، و من ثم فإن أي خطوة حققتها الرابطة في هذا الإتجاه تعد أمرا محمودا، و قد ظهر التعاون السياسي في لحظات محفلة و منها إصرار دول الرابطة على أن المشاكل الإقليمية-التي هي المسئولية الأولى لأعضائها- تستثني في ظل ممارستها بما يعرف بمفهوم الدولة ذات الخط المتقدم، فعندما تمس قضية معينة دولة أخرى فإن الدولة المعنية تكون صاحبة الحق في اتخاذ زمام المبادرة. نجحت في التحقيق الأهداف المرجوة. و يمكن تفسير عوامل نجاح الآسيان في المجالين الداخلي و الخارجي بما يلي[22]:

أ- في المجال الداخلي :

  1. 1. التركيز على التعاون الاقتصادي دون السياسي باعتبار الأول هو المجال الأسهل و الأقل حساسية، و أهم ما يجب أن تلجا إليه تجارب العمل المشترك.
  2. 2. غياب الهيمنة الايدولوجية على الانظمة السياسية مما أكسبها القدرة على التكيف، و الواقعية في صنع السياسات.
  3. 3. عدم هيمنة دولة معينة على القرارات أو القدرات للرابطة. و هذا عيب اكتنف كثيرا من التجارب الوحدوية العربية التي تميز أغلبها بسيطرة مصر عليها.
  4. 4. الدور الكبير الذي لعبته الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية و الاستقرار السياسي. و ذلك من خلال محافظة دول الرابطة على الاستقرار السياسي، و تركيز السلطة السياسية حيث سادت درجة معقولة من التضامن و الوحدة الوطنية في دول الآسيان بالرغم من تعدد القبائل و الأجناس.
  5. 5. التزام دول الآسيان بالتكتل الإقليمي بين دول الرابطة، و نجاحها في تحييد الخلافات السياسية البينية و أكبر مثال على ذلك تنازل الفلبين عن المطالبة بإقليم صباح من ماليزيا، إذ رأت هذه الدولة أنها لن تكون قوية خارج حدودها إلا إذا كانت قبل ذلك قوية داخل حدودها، و من هنا فقد أظهرت هذه همة عالية حتى أمكنها زيادة معدلات نموها الاقتصادي و تطوير تعاونها الأمني و السياسي.

3- التجارب التكاملية العربية في ضوء تجربة الآسيان :

تثير قضية الحديث عن الآسيان باعتباره رابطة اقتصادية قضية أزمة التكامل العربي، إذ في الوقت الذي تطرح فيه الآسيان نموذجا فريدا للتعاون و التكامل بين فرقاء متصارعين بينهم حروب و صراعات قديمة استمرت فترات طويلة، كما أن بينهم خلافات دينية و عرقية و إيديولوجية فيسفر هذا التكامل عن مثل هذه النتائج المبهرة التي حققها الآسيان نجد الوطن العربي-و على النقيض من ذلك- قد اجتمعت له خصائص الوحدة و متطلبات التكامل من تاريخ مشترك، و وحدة في الدين و الثقافة و اللغة و غيرها، فإنه مع ذلك ما يزال بينه و بين الوحدة أو التكامل زمن بعيد. و بالرغم من أن تجربة الوحدة العربية تبدو أكثر قدما و رسوخا من تجربة الآسيان، إذ في الوقت الذي نشأ و تأسس الآسيان في عام 1967 كان العرب يعيشون في ظل نظام إقليمي واحد تظله مؤسسة رسمية هي الجامعة العربية التي تأسست علم 1945 و بادرت و منذ تأسيسها إلى خلق الأجهزة الإقتصادية الفنية، فأنشأت لجنة دائمة للشؤون الإقتصادية و المالية، لإرسال قواعد التعاون الإقتصادي و مداه و صياغتها في شكل مشروعات إتفاقات و سياسيات و إجراءات تعرض على مجلس الجامعة للنظر فيها،و قد أكد مجلس الجامعة على أهمية الترابط بين الأمن القومي و الأمن الإقتصادي في معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الإقتصادي التي أبرمها عام 1950، و في إطار ذلك تم إنشاء مجلسين، المجلس الإقتصادي و مجلس الدفاع المشترك، حيث نصت المادة الثامنة من تلك المعاهدة على أن ينشأ مجلس إقتصادي من وزراء الدول العربية المتعاقدة المختصين بالشؤون الإقتصادية.

و رغم أن هذا المجلس قد عقد ما يزيد عن أربعين دورة تمخضت في عام 1957 إلى التوصل إلى إتفاقية الوحدة الإقتصادية و التي صادق عليها المجلس الإقتصادي و مجلس الجامعة في حينه و لكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في 30-4-1964. و بالرغم أيضا من أن الظروف الموضوعية لتحقيق التكامل الإقتصادي العربي كانت مواتية إلا أن حصيلة الجهود المبذولة لتحقيقه كانت متواضعة، حيث شكلت الظروف السياسية و الإقتصادية العربية و الدولية عوائق أمام تحقيق التكامل و الوحدة[23]. و قد أظهرت دراسات قامت بها لجان منبثقة عن المجلس الإقتصادي لدراسة أسباب تواضع التعاون الإقتصادي العربي و تقييم الأتفاقيات و المشروعات القائمة، أن التعاون الإقتصادي العربي يشكو في الجانب التنظيمي من أمرين : أولهما : عدم وجود جهة مركزية مسؤولة عن التخطيط و الإشراف على التنفيذ. و ثانيهما : تعدد المؤسسات و المنظمات العربية و تضارب إختصاصاتها و قراراتها و ازدواجية نشاطاتها، في ظل غياب تنسيق فعال يوفر المال و الجهد العربي[24].

و في ضوء ذلك قام مجلس الجامعة العربية في 24/3/1977 بتعديل المادة الثامنة من معاهدة الدفاع المشترك و التعاون الإقتصادي حيث أوكل للمجلس الإقتصادي مسؤولية قيادة العمل الإقتصادي العربي و القيام بمهام التخطيط و التنسيق و التقييم و الإنشاء و الأشراف على العلاقات الإقتصادية الخارجية. و قد حقق المجلس بعض الإنجازات مثل إقرار استراتيجية العمل الإقتصادي العربي المشترك و إعادة النظر في بعض الإتفاقيات و خصوصا فيما يتعلق بتشجيع و تنظيم تدفق رؤوس الأموال العربية إلى الدول العربية و تسيير التبادل التجاري.

و مع ذلك لا يزال واقع التكامل الإقتصادي العربي شديد السوء، فمعدلات التبادل التجاري بين الأقطار العربية و بعضها من أقل ما يمكن، و هو انكماش يشبه المقاطعة و كذلك فإن حركة استثمار رؤوس الأموال العربية في الأقطار العربية الأخرى دون المستوى.

و هكذا لا حدود الإمكانات العربية المصدرة في ظل غياب نظام إقتصادي إقليمي عربي موحد، و عموما فإنه يمكن إجمال أسباب أزمة التكامل العربي الإقتصادي إلى مجموعة من العوامل هي[25]:

1- التناقضات الهيكلية و التنموية : إذ أن أزمة التكامل مردها إلى البنية الجوهرية للإقتصاد العربي المتفاوت في توزيع القوى و العناصر الإنتاجية و التناقضات الهيكلية و التنموية التي ورثها عن عهود الهيمنة الأجنبية، متمثلة بالتخلف و التبعية و التجزئة.

2- المداخل التكاملية : التي اتسمت بالحرية و لم تقم على التخطيط و البدء بتحرير التجارة فيما بينها، و قد أثبتت التجارب خطورة اتباع مبدأ الحرية العشوائية كمدخل للتنمية لأن التخطيط الشامل هو وحده الضمان و الوسيلة المثلى لتحقيق تنمية حقيقية و تكامل فعال.

3- الأنماط التنموية : إذ مارست معظم الأقطار العربية منذ استقلالها السياسي نمطا تنمويا انعزاليا قطريا، يغيب عنه البعد القومي مما أسهم في تعميق التبعية و التجزئة القطرية، و قد ازدادت خطورة هذا الإتجاه و زخمه في فترة السبعينات في ظل الإزدهار و الإنفجار التنموي فقد أدى الطموح لتحقيق تنمية سريعة في الوطن العربي إلى عودة الوقوع في فخ التبعية و تعميق الإرتباط بالسوق العالمية، في ميادين التجارة و الإستثمار و الإنتاج و التكنولوجيا.

4- الإرادة السياسية : و قد لعب هذا العامل دورا بارزا في تعميق أزمة التكامل و كان وراء ضعف الإرادة السياسية عوامل عديدة أهمها عدم وضوح أو أدراك الفوائد الكبيرة المتبادلة للتكامل الإقتصادي بسبب قلة المعلومات أو عدم وضوحها مما أضعف القناعة لدى أصحاب القرار السياسي بجدواها و جديتها و قد أسهم في عدم الجدية غلبة النظرة الآنية على النظرة طويلة الأمد، و طغيان المصالح العاجلة على المنافع الآجلة.

5- المشكلة القيادية المؤسسية : فقد أسهم عدم التشدد في اختيار قيادات بعض مؤسسات العمل العربي المشترك و قبول تسيسها من ناحية، و ضعف الرقابة و المتابعة و المحاسبة من ناحية أخرى، و في الإخفاق في بلورة نماذج مؤسسية عربية ناجحة للعمل الإقتصادي العربي المشترك، و قد أدى هذا الاتجاه إلى إضعاف الثقة بهذه المؤسسات و استغلالها كذريعة لإحباط أية تجربة وحدوية جدية، بل و الزعم بفشل الفكرة نفسها.

العرب و تجربة الآسيان : النظام الاقتصادي الإقليمي بين العروبة و الشرق أوسطية :

بالرغم مما يمثله نموذج الآسيان من جاذبية لدى العرب الراغبين في الوحدة و التكامل الاقتصادي إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في الحديث عن رابطة الآسيان، إذ بعد تطورات عملية السلام بين العرب و إسرائيل في أعقاب مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو و توقيع الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي في سيبتمر 1993 ثم الاتفاق الأردني الإسرائيلي، دار الحديث عن نظام اقتصادي إقليمي جديد عرف باسم "السوق الشرق أوسطية" تتشكل من إسرائيل و تركيا و الدول العربية بهدف تأكيد وجود إسرائيل في المنطقة و منحها الفرصة للسيطرة على الاقتصاديات العربية و التحكم بها.

و قد دلل المريدون للشرق أوسطية و المؤيدون لها من أنصار التسوية بين العرب و إسرائيل بالآسيان كتنظيم إقتصادي إقليمي قام بين فرقاء بينهم صراعات و حروب قديمة، كما كان بينهم أطماع و مصالح متنازع عليها، و نجح في دحر هذه الخلافات و تقسيمها عبر آليات و وسائل اقتصادية، كما نجح في العبور بدول المنطقة من دول تنتمي إلى العالم الثالث و تعيش مشاكله الاقتصادية من فقر و مديونية و بطالة و تضخم و غيرها إلى دول متقدمة صناعيا، وصلت إلى حد الرفاه الاقتصادي و ارتفع بها مستوى المعيشة. لكن واقع الأمر أن هؤلاء الذين يدعون إلى الأخذ بتجربة الآسيان في ظل نظام شرق أوسطي يجمع العرب و إسرائيل يغفلون مجموعة من الحقائق الموضوعية التي تفرض نفسها و هي :

1- أن منظمة الآسيان قامت في ظل نظام دولي ثنائي القطبية حيث توزعت مصادر القوة الرئيسية بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفياتي و قد كانت منظمة شرق آسيا أهم بؤر الصراع الاستقطابي بين هاتين الدولتين. لذلك فقد كانت دوافع النمو الصناعي التصديري في شرق آسيا سياسة عسكرية للحيلولة دون امتداد النفوذ السوفياتي - الصيني و لتفكيك الولاء لها.

بيد أنه مع انهيار المعسكر الشرقي التي تزعمته روسيا في بدابة التسعينات و ظهور ما يسمى بالنظام الدولي الجديد أحادى القطبية فقد تلاشت الدوافع السياسية و الأمنية السالفة البيان، الأمر الذي جعل دول شرق آسيا تعاني من فراغ أمني و هزات اقتصادية.

2- أن عملية إنشاء الآسيان تمت في ظروف اقتصادية دولية مختلفة و في سياق دوافع الثورة العلمية التكنولوجية التي تلت الحرب العالمية الثانية. حيث سعت الدول الصناعية إلى تقسيم العمل الدولي الرأسمالي على أساس تكنولوجي بحيث يتم نقل صناعات أو مراحل صناعية تحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة عادية أو شبه ماهرة من الدول المتقدمة إلى العالم الثالث الذي تكثر فيه العمالة العادية و تنخفض تكلفتها نسبيا و يتوفر فيها مناخ سياسي ملائم و قد نجحت عملية النقل الصناعي في دول شرق آسيا بشكل كبير.

بيد أن الوضع يختلف في المنطقة العربية من حيث اختلاف النمط الحضاري و المناخ السياسي و الاقتصادي المناسب لتنمية اقتصادية متكاملة و تحول هيكلي. و لذلك لم تشجع الدول الغربية شركاتها على القيام بعملية النقل الصناعي إلى الدول العربية.

  1. 3. هذا إضافة إلى ما تمتع به كل تجربة من خصوصية في إطار ثقافتها و صورتها الحضارية و هذا ما يتجاهله المريدون للشرق أوسطية حين يستشهدون بمقولة بيريز :" ان ما يصلح لبقية العالم يصلح لإسرائيل و العالم العربي، فالقدر نقلنا من عالم تسوده الصراعات الإقليمية إلى عالم تحكمه التحديات الاقتصادية و الفرص الجديدة ". و هنا يتناسون أو لنقل يتجاوزون قيام إسرائيل على أرض عربية، إضافة إلى كل الحروب التي خاضتها ضد الدول العربية و نتائجها التي أثقلت كاهل الأمة العربية و أراقت الكثير من الدماء العربية. و بالتالي فإن الحديث عن تعميم أي تجربة تنموية كاملة و استنساخها حديث غير واقعي و غير قابل للتحليل العلمي الدقيق، و ذلك لأنه لا يوجد مجتمع يتطابق في جميع عناصره مع مجتمع آخر، لا توجد ثقافة متماثلة مع ثقافة أخرى، و إنما لتحقيق التنمية، و الإستفادة من الخبرات البشرية في تطوير المجتمعات و تحسين أداء النظم و الأفراد ينبغي أن نحدد المستويات المتعددة للمقارنة و إمكانية الاستفادة في كل منها :

1- مستوى الثقافة العامة السائدة الآن :

في القيم و المعايير و المحددات الثقافية الموجودة فعلا في الواقع الاجتماعي لكلا الإقليمين، لكن الاختلاف في هذا السياق لا يعني التناقض في كل شيء، و إنما قد يعني تشابها في المفردات الثقافية و اختلاف في النظام المعرفي و النسق الثقافي الذي يرتب هذه المفردات و القيم.

2- مستوى المخزون الثقافي المتوارث :

و عند هذا المستوى نلاحظ قدرا من الاختلاف و مثله من التشابه بين موروثات جنوب شرق آسيا و موروثات الثقافية العربية، فمن أوجه التشابه الحث على تحصيل العلم و احترام رموزه و التماسك الأسري و الانتماء العائلي... الخ، و من أوجه الاختلاف الطابع الدنيوي للكنفوشيه في مقابل الإسلام كعقيدة شاملة دنيوية و أخروية في العالم العربي، كذلك بساطة التكوين الثقافي الآسيوي مقابل تعقد البنية الثقافية العربية، كذلك محدودية الاحتكاك الخاص لا سيما في مقابل معقد التفاعلات الخارجية للوطن العربي[26].

كل هذه عوامل تقف حائلا دون استنساخ و نقل تجربة الآسيان إلى الواقع العربي حتى في إطار مشروع الشرق أوسطية، و كلها عوامل موضوعية تتمتع و على قدر عال من الوجاهة العلمية و القبول الأكاديمي.

خاتمة

أظهرت هذه الدراسة أهمية المدخل الوظيفي في تحقيق التعاون الإقليمي من خلال الاستفادة من خبرة الآسيان للمضي قدما في سبيل تحقيق تعاون عربي مشترك يتفادى الثغرات التي أعاقت المشاريع السابقة.

و عموما فإنه يمكن الاستفادة من تجربة الآسيان في إطار ما يسمى "باستراتيجية الحد الأدنى". و هي تطرح فكرة أن تبني العرب "استراتيجية الحد الأدنى" في مجال الاقتصاد، استراتيجية لا تنال منها الهزات السياسية أو تقلبات الوضع العربي، و هي قائمة على الحد الأدنى من المصالح المشتركة و الأكيدة، و التي لا يتعارض إنجازها مع اختلاف النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية أو مع اختلاف السياسات المتبعة. و تعتمد هذه الاستراتيجية على الخطوات التالية:

أولا : تفعيل مؤسسات العمل الاقتصادي العربي المشترك. و لا سيما مجلس الوحدة الاقتصادية العربية و التأكيد على أهمية تنفيذ الاتفاقات القائمة لأن العيب ليس في المؤسسات و لكن في آليات التنفيذ.

ثانيا : محاولة الفصل بين الجوانب السياسية و الجوانب الاقتصادية قدر الامكان. و التركيز على الفوائد الاقتصادية لكل طرف عربي دون الركون إلى مقولات المصلحة القومية لأنها وحدها غير قادرة على اقناع الدول العربية بجدوى التعاون الاقتصادي العربي و من ثم إبراز المصالح الاقتصادية المشتركة.

ثالثا: تدعيم أشكال التعاون العربي الثنائي و الثلاثي المشترك بإعتبارها خطوة إيجابية على طريق مزيد من التكامل العربي على المستوى الكلي. و الكف عن اتهام مثل هذه الأشكال بمعاداة التعاون العربي المشترك. و عند تحقيق ذلك واقعا، ضرورة التعامل بروح الجماعة في علاقاتها الخارجية الإقليمية و الدولية.

رابعا : حث مؤسسات القطاع الخاص العربي على توجيه استثماراته داخل الدولة العربية مع تقديم ضمانات كافية و عوامل جذب تجعل المستثمر العربي أكثر ميلا للاستثمار داخل الدول العربية من منطلقات اقتصادية بحتة.

خامسا: الاستفادة إلى أقصى قدر ممكن من الأوضاع الإقليمية و الدولية المواتية، و السعي إلى التقليل من أثر التطورات غير المواتية و استثمار تلاقي مصالحها مع مصالح الدول الكبرى.

سادسا: تجميد الخلافات السياسية بحيث لا تعرقل عملية التعاون الاقتصادي و تفعيل دور الجامعة العربية في تسوية تلك الخلافات.

سابعا: و لخصوصية أنماط الصراعات الإقليمية في المنطقة فأن ذلك يطرح ضرورة ايلاء مهمة الأمن القومي العربي أهمية كبيرة من خلال الاعتماد على الذات و التعامل كجماعة و إيجاد السبل لتحقيق أمن إقليمي عربي مشترك. و لا ريب في أن ذلك يتطلب إرادة سياسية عربية فاعلة تضع هذه الخطوة، و كل الخطوات السابقة موضع التنفيذ، و هو أمر أعوز خطوات التكامل الاقتصادي العربي خلال نصف القرن المنصرم، و أعوز ما تكون له دول الآسيان لحماية أمنها الإقليمي.



الهوامش

* قدمت النسخة الأولية من هذه الورقة في مؤتمر "السوق العربية المشتركة و مستقبل الاقتصاد العربي" الذي عقده مركز دراسات المستقبل / جامعة أسيوط في الفترة 23-25 تشرين ثاني 1997.

** أستاذ بمعهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت.

[1]- النجار، أحمد السيد.- التعاون العربي البيني مع الدول النامية في بيئة متغيرة.- بحث غير منشور مقدم إلى ندوة النظام الدولي الجديد و تحديات العالم.-القاهرة، مركز الدراسات الحضارية، 1994.- ص.1- 2.

[2]- حول مفهوم التعاون.- أنظر شامي ذبيان و آخرون.- قاموس المصطلحات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.- لندن، رياض الريس للكتب و النشر، 1990.- ص.136.

[3]- Byung, A. Joon.- Regionalism in the Asia- Pacific : Asian or Pacific Community?.- Koreain Foucs, vol.4, n°4, 1996.-p.p.5-6.

[4]- حول مفهوم الإنتشار و مضامينه أنظر : سعيد، عبد المنعم.- الإقليمية في الشرق الأوسط نحو مفهوم جديد.- السياسية الدولية، عدد 122، أكتوبر / تشرين أول 1995.- ص.61.

[5]- شقير، محمد لبيب.- م.س.ذ.- ص.50.

[6]- المرجع السابق.- ص.52.

[7]- شهاب، مفيد.- المنظمات الإقليمية الدولية.- القاهرة، دار النهضة العربية، 1978.- ص.ص.408-411.

[8]- أنظر في ذلك : شقير، محمد لبيب.- مرجع سابق.- ص.72.

[9]- عن أثر العوامل السياسية و الإقتصادية أنظر المرجع السابق.- ص.ص. 72-74 و أنظر اسماعيل صبري مقلد.- نظريات السياسية الدولية، دراسة تحليلية مقارنة.- الكويت، منشورات ذات السلاسل، 1987.- ص.ص. 380-381. و لمزيد من المعلومات أنظر النموذج النظري الذي قدمه فيليب شميتر للاندماج الإقليمي و خاصة إفتراضاته في :

Schmiter, Philippe.- A revised theory of regional integration international organization.- vol.24, n°4, 1970.- p.859.

[10]- حول هذه التساؤلات و طبيعتها أنظر : حاد، عماد.- اتجاهات التكامل الإقليمي في آسيا.- بحث مقدم إلى مؤتمر أثر التحولات العالمية على آسيا.- القاهرة، مركز الدراسات الآسيوية، كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة، 17-18 ديسمبر / كانون أول 1996.- ص.ص. 2-3.

[11]- /محمود، أحمد ابراهيم.- م.س.ذ.-ص.192.

[12]- لمزيد من المعلومات حول طبيعة الدور الأمريكي و حجم الاستثمارات الأمريكية و علاقته بنشأة الآسيان أنظر :

Stockes, Bruce and Aho, C. Michael.- Asian regionalism and U.S interests.- In Koreain Focus, Vo.4, n°4, 1996.- p.p.122-139.

و أنظر أيضا :

Scalopino, Robert A..- Asia and the United States the Challenges Ahead.- Foreign Affairs, vol.69, n°1, 1989.- p.p.89-114.

[13]- دور الوظيفة الأمنية للآسيان و الاخفاق في تحقيقها و انشاء المحفل الاقليمي، أنظر عبد المنعم طلعت، ترتيبات الأمن الاقليمية في النظام العالمي الجديد.- السياسة الدولية، عدد 129، يوليو / تموز 1997.- ص.9.- كذلك أحمد ابراهيم محمود.- م.س.ذ.

[14]- جاد، عماد.- اتجاهات التكامل.- م.س.ذ.- ص.ص. 6-7.

[15]- حول نشأة الآسيان و الصعوبات التي جابهتها أنظر :

Wong, John.- The Asean model of regional coopertion.- in Seiji Naya & Migvel Urrulia (eds), Lessons in development a comparative study of Asia and Lozin Ameria senfran cisco.- International center of economic Growth, 1989.- p.p.121-125.

[16]- جاد، عماد.- الاندماج الإقليمي.- م.س.ذ.- ص.ص. 194-1

تـقـديـم المحور الثاني : العنف : مساهمات في النقاش

تحمل زميلنا الراحل فوزى عادل عناء الأشراف على هذا العدد العاشر من مجلة إنسانيات. ورغم آلام المرض العضال الذي ألم به، أنكب على تنسيق الجزء المبحثي منه - إلا أن الموت حرمه من إتمامه. فاعتبرت لجنة التحرير – و كان عضوا فيها – نفسها ملزمة بمواصلة المشروع.

و هاهي الآن، تتقدم به إلى القراء إحياءا لذكرى فوزى العادل و ذكرى كل من سقط ضحية محنة السنوات الأخيرة خاصة ضحايا عمليات التقتيل و الاغتيال.

قد لا يكون هذا العدد في مستوى طموح المشروع الأولي كما يتبين من الحيثيات المقترحة و من الصفحات الأولى التي دونها فوزي عادل لمقالة حول "العنف الأموات و الأحياء" قضى القدر ألا يكملها. لقد رأينا نشر هذين النصين آملين ممن يرى نفسه معنيا بهما ألا ينـزعج لذلك.

إن الفاجعة التي ألمت بالجزائر، منذ توقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992 على تقدير البعض أو منذ انتفاضة أكتوبر 1988 و اعتماد الحركة الإسلامية في تقدير البعض الآخر، أثارت حساسية فائقة حول مسألة العنف يمكن أن تكون مشروعة بالنسبة للذين عايشوا الاظطرابات و أهوالها. إلا أنها لا تزول الابزوال آثارها و بتعميق البحث و الدراسة من "أجل إدراك ظاهرة العنف".

أراد الراحل فوزى عادل إثارة نقاش حول العنف كان خفيا في الجزائر و قد اعتبر أسلوب السجال طريقة ملائمة لإدارته. كان غرضه استدراك التأخر التي تعاني منه الجزائر في مجال الدراسات حول هذه المسألة بالقياس إلى العدد الهام من البحوث التي أنجزت حولها في فرنسا خلال العشرية الأخيرة. و دون اللجوء إلى اللبس و التعميم المفرط، كان يبدى قلقه إزاء البون القائم بين "اللغو المفرط" الذي تتسم به بعض الدراسات التي أنجزت بفرنسا و الصمت القلق بل "المخيف" الذي خيم على مجال الدراسات في الجزائر. ومارس فوزى عادل الاستفراز الفكري إذ أن عددا من الدراسات التي أنجزت في الجزائر قد تم نشرها في الصحافة المكتوبة، لامن قبل الجامعة و مؤسسات البحث رغم أن مؤلفيها كانوا جامعيين.

يوجد عدد هام من الآراء و التحقيقات و الشهادات قد تم نشرها في الجزائر و هي قابلة لئن تكون مادة لمقاربات اجتماعية – انتروبولوجية مثلما تشير إليه المحاولات التي نأمل أن تجد صدى لها في إصداراتنا القادمة. في كل الحالات، لا يعنى ذلك إعادة استعمال العمل المكثف الذي تقوم به وسائل الإعلام أو تفضيل مقاربات انتربولوجية وان كانت أصيلة أحيانا، لأن غموضها السافر يخاطر باتجاهنا إلى تشجيع تبادل الاراء حول مسألة العنف. إن المساهمات التي اخترنا إدراجها في هذا العدد قد تعطى انطباعا بأننا ابتعدنا – شيئا ما – عن الاشكالية المعتمدة التي تولي عناية للعنف السياسي. إلا أن طابع الموضوعات التي أقترحها المشاركون في هذا العدد (مقالات، قراءات) دفعنا إلى توسيع الجزء المبحثي إلى اهتمامات ترتبط بالعنف الاجتماعي و الرمزي و إلى عدم التركيز على النموذج الجزائري.

بهذا الصدد، يمكن للقارئ أن يرجع إلى الفهرس (و الملخصات الخاصة بالدراسات المبحثية) و إلى الدراسات الأخرى – بشكل خاص – ليلاحظ أن العنف السياسي قد حظى بالعناية الرئيسية و يمكن لـمحه في المقالات (باللغة العربية و باللغة الفرنسية) التي عالجت العنف الرمزي و العنف في الرواية الأدبية.

نرجو أن يساهم هذا العدد حول "العنف في الجزائر، مساهمات في الحوار" في تحفيز الحوار المثمر و المناظرة بين الباحثين من التخصصات المختلفة (جزائيين و أجانب) و في العمل على إفراز بحوث جديدة حول المسألة داخل الجزائر ذاتها. و كالعادة، يقترح العدد العاشر، دراسات و عروض حول موضوعات لا تتصل مباشرة بالملف المقترح: العنف في الجزائر.



نقله إلى العربية :

وضعية المرأة و العنف داخل الأسرة في المجتمع الجزائري التقليدي

مدخل عام

لا يمكن فهم وضعية المرأة في الحاضر، ولا توقّع وضعيتها في المستقبل دون استقراء الواقع الاجتماعي العام و دون استكشاف البنية الأسرية. ذلك أن المرأة عنصر بنيوي و وظيفي في الأسرة و في مؤسسات المجتمع، تتحدد وضعيتها بمواقع أفراد البنية الآخرين، و مواقع هؤلاء جميعا نتيجة لعوامل مختلفة كانت في أساس التشكيلة الاجتماعية وحركيتها، فحددت للفاعلين الاجتماعيين أدوارهم. لذلك فان وضعية المرأة الدونية التي جعلت منها منذ قرون و إلى اليوم محلا للعنف بشكليه المادي و الرمزي، وعلى اختلاف درجاته، ما هي إلاّ نتيجة لمجموع العلائق القائمة على التفاوت في الملكية و في ممارسة الأدوار الاجتماعية و في توزيع ثمرات العمل، و التي سادت المجتمع الإنساني، و مازالت تسود بنى المجالات الحيوية المختلفة منذ استئثار الرجل بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و إقامته نظام الأسرة و الدولة[1] و أخذه بزمام السلطة على حساب المرأة في كل منهما.

إن ملكية الوسيلة مصلحة، بتعبير رجال القانون، يتطلب الحفاظ عليها تحويلها إلى حق، أي إلى مصلحة معترف بها من طرف الآخرين، و يستوجب ذلك صياغة قواعد أخلاقية و عرفية و قانونية لحمايتها. وطبيعي أن الذي يملك الوسيلة يملك القدرة على "تفصيل القواعد التي تجعل مصلحته حقا"[2]. بعد ذلك تنشأ لديه الاستقلالية فيكون متبوعا و يكون المعدمون تابعين على مضض أو عن رضى، تتأكد تبعيتهم بالقدر الذي يكون به إشباع حاجاتهم مرتبطا بالوسائل التي لدى متبوعهم، وان طبعت علاقته بهم بالعنف والاستقلال.

ولما كانت المرأة في كل نظام استغلالي مهما كان أسلوب الإنتاج السائد فيه، هي آخر من يملك أو آخر من يتقاضى مقابلا على عمل، فإنها هي آخر من يقع عليه العنف : أي أن الرجال الذين يملكون وسائل الإنتاج و يحتلون قمة الهرم الاجتماعي يمارسون العنف المرافق للاستغلال على الرجال الذين لا يملكون، والذين يوجدون في مرتبة أدنى منهم، وهؤلاء يستغلون نساءهم و يمارسون عليهن العنف أخيرا. فإذا حدث أن كانت المرأة هي الممارسة للعنف، فان فعلها سوف يكون أفقيا يمس النساء اللواتي من نفس وضعيتها ولا يكون تصاعديا في اتجاه الرجال إلا استثناء نادرا، والقاعدة يؤكدها الاستثناء.

يبدو العنف الواقع على المرأة، إذن، ظاهرة ملازمة لكل حياة اجتماعية، "تحتل افقها وتغلفها من كل ناحية "[3]. فالوسط الاجتماعي ليس مجالا للتعاون فقط، بل هو مجال كذلك للصراع. وبتعبير ابن خلدون، ليس الإنسان مدنيا بالطبع، بل هو عدواني بالطبع أيضا. وقد تطغى عدوانيته على اجتماعيته فيتحول إلى خطر على الجميع، ما لم تكسر شوكته قوة وازعة وتبطل فيه نزعته إلى الإضرار.

كذلك ليست علاقة المرأة بالرجل في الأسرة و المجتمع دائما علاقة تعاونية، بل هي أيضا علاقة صراع، يكون العنف في بعضها هو المهيمن، فلا يترك مجالا لأي تبادل من أي نوع أخر كان.

وليس العنف صريحا أو ضمنيا، ماديا أو رمزيا، جماعيا أو فرديا ظاهرة اجتماعية دل عليها الاسكتشاف السوسيولوجي أو الانثروبولوجي أو السيكولوجي الحديث، بل إنها كانت دائما في عمق التفكير الاجتماعي لدى رجال الدين و الفلاسفة و المؤرخين وعلماء السياسة. غير أن العنف كواقع تعيشه المرأة في الأسرة و المجتمع لم يسم بطابعه أية نظرية. ذلك أن الأسرة نفسها كموضوع للدراسة الأمبريقية لم تبدأ إلا مع مدرسة شيكاغو التفاعلية بزعامة ارنيست بورجس، و مع المدرسة الفرنسية بزعامة ليفي ستروس الذي دشّن تطبيق البنيوية على الأنظمة القرابية في المجتمعات القديمة[4].

وعلى أساس الأعمال التي قام به انجلس ودورخايم عن الأسرة، قامت دراسات نقدية أكبّ بعضها على المجتمعات القديمة (أعمال ليفي – ستروس، جرمان تيليون…) وبعضها الآخر على المجتمعات الحديثة (أعمال تالكوت بارسونز، ر. هيل، د. سميث…) مؤسسة بذلك لنظرية حديثة عن الأسرة[5]. غير أن أية نظرية، وان تعرضت لواقع العنف، دلالة أو مفهوما صريحا، كجانب للحياة الأسرية، وربطت ممارسته بوضعية الأسرة الدونية، لم تنفرد بدراسته وتشكل عنه نظرية بذاتها متماسكة و متجانسة.

كذلك بقيت الكثير من الدراسات الكلاسيكية حبيسة النظرة الأبوية، التي ترى أن صاحب السلطة في الدولة والأسرة لابد أن يكون ذكرا"[6]. وأن السلطة لابد لها من ممارسة العنف أحيانا لتؤكد مصداقيتها و تنفذ استراتيجيتها و تخدم وجودها كقوة[7] تحافظ على النظام و تضمن استقرار المجتمع.

هذان سببان وراء تأخر البحث في مسألة العنف يزاد عليهما ما أشارت إليه نوال السعداوي في " قراءتها الجديدة لابن خلدون" من أن عدم اهتمام الدارسين التقليديين بالنساء مرده إلى أنه "لم يكن لهن قوة سياسية[8]. وهو أمر كما ينطبق على عصر ابن خلدون، ينطبق على العصور اللاحقة، اذ أن افتقاد المرأة لهذه القوة يعرض كل دارس ينشد الموضوعية العلمية و يكشف عن وضعيتها بصورة محايدة إلى غضب الذين مصلحتهم في الحفاظ على وضعيتها الدونية، خصوصا منهم الممسكون بزمام السلطة السياسية، لارتباطها بمنافع مادية ومعنوية. لذلك فان الدارسين الذين تعنيهم المحافظة على الوضع ارضاء لأولى أمرهم وحفاظا على مصالحهم، يحجمون عن تناول هذا الموضوع، إذا هم لم يعالجوه بالشكل الذي يبرر وجوده ويجعله مقبولا.

وحتى لا يحيد بنا الاستطراد عن التقديم إلى التحليل، نختزل القول في أن ظاهرة العنف الواقع على المرأة في الأسرة عندنا، وعند غيرنا، لم تعد الحيطة و التردد يكتنفانه ويقفان حاجزا دون تناوله، بل أن الخوض فيه أصبح أكثر إمكانية، لأن العوائق الحائلة دون البحث فيه فقدت قوتها السابقة الموروثة عن الثقافة الأبوية. كذلك ليس حضور مفهوم العنف بالحاح في الخطابات العلمية و السياسية، بشكل لافت للنظر، إلا مدعاة للإقبال على فهم حقيقته دون خيفة أو ارتياب. وهو أمر لا يتأتى إلا إذا شحذ الباحثون عزائمهم، فتجندت لذلك دراسات تكاملية في مختلف الاختصاصات العلمية الاجتماعية و الإنسانية.

في هذا الإطار يندرج مقالنا عن "الأسرة مكانة المرأة و العنف في المجتمع التقليدي بوصفه مجتمعا متميزا بخصائصه البنيوية ومتطلباته الوظيفية وبنظامه القيمي الذي يحدد للأفراد مراكزهم و أدوارهم و أنصبتهم من السلطة و المسؤولية.

1- النظام الأبوي التقليدي

يدل مفهوم النظام الأبوي على شكل متميز من التنظيم الاقتصادي و الاجتماعي و نمط التفكير و السلوك و العمل انفردت به التشكيلة الاجتماعية السابقة للرأسمالية. وكما وجد تاريخيا بأشكال مختلفة في أوربا وآسيا، وجد بشكل متميز في إفريقيا و في الشرق و الغرب العربيين."ذلك أن هذه الحضارات، مع تضمنها تاريخيا عوامل اجتماعية و اقتصادية متماثلة، قد مرت بمراحل و تجارب تكوينية حددتها شروط نوعية من جغرافية و مناخية و ديموغرافية"[9]. و لما كانت مقولة المجتمع الأبوي تشير إلى مجتمع تقليدي، في بناه الاقتصادية و الاجتماعية وسابق للمجتمع الحديث، فالأبوية و التقليدية صفتان متطابقتان. انهما تعبران عن كيان عام يتجاوز أسلوب الإنتاج، فيحيل على واقع تاريخي و اجتماعي له قيمه وثقافته وأنماطه السلوكية و بنيته السيكولوجية.

لقد ظل هذا المجتمع قائما حتى النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن بداية تصدعه انطلقت مع قانوني 1863 و 1873 اللذين يكرسان النظام الكولونيالي. فلقد عمل قانون 22 أفريل 1863 (Senatus Consulte) على هدم البنى الاجتماعية السابقة للاستعمار، وذلك بالقضاء على الملكية ومنح الأفراد حق الانفراد بأنصبتهم و التصرف فيها سواء أكانت الملكية أرضا فلاحية أو رعوية، كما ألحق الأراضي العامة التي لا مالك لها بأملاك الدولة. وفي كل حال، فان الأراضي التي ليس لمالكيها دليل مادي على توارثها اعتبرت كلها عامة ووقعت عليها المصادرة.

أما قانون 26 تموز 1873 (Loi Warnier) فقد كمل سابقه بإخضاعه جميع الأراضي إلى التشريع الفرنسي، وتشكيل الملكية الفردية[10].

لقد كان المجتمع التقليدي قبل دخول النظام الكولونيالي، يرتكز في عيشه على الزراعة، لذلك، فان سكانه كانوا فلاحين أكثر منهم حرفيين أو تجارا. وحسب كونهم مقيمين أو شبه مقيمين أو رحلا، فان النشاط الزراعي مع غرس الأشجار المثمرة أو النشاط الرعوي هو الذي كان طاغيا. أما الحرفة أو التجارة فقد ظلت في الأساس نشاطا حضريًا.

وليست هذه الجماعات متميزة بصورة تجعل أنماط معيشتهم حدودا تحول دون اتصالهم، بل انهم في اتصال مستمر وفي تبادل متواصل للأشياء و الخدمات. تنظم حركاتهم خارج مناطقهم أعراف تستوجب حاجتهم إلى السلم احترامها، وان كانت ندرة الموارد الاقتصادية في أعوام الرمادة غالبا ما تهدد استمرارهم و تجعلهم يخترقون قواعد السلم و يدخلون بعضهم ضد بعض في صراع. و الرحل أكثر عرضة للقحط، لذلك فانهم دائما الأبدأ بالصراع و الاعتداء على المقيمين، وشبه المقيمين حين لا يبقى لهم من رزق إلا الذي يأتيهم من حد سيوفهم.

و على خلاف المجتمع الحديث الذي أرسى قواعده في هذا البلد، النظام الكولونيالي، فان الذي يميز اقتصاد المجتمع التقليدي هو "الضعف الآلي الذي ينجم عنه عدة نتائج، مثل التبعية شبه المطلقة للوسط الطبيعي و الظروف المناخية […] أو التفاوت الكبير بين الإنتاج، من جهة و الجهد و الوقت المبذولان و عدد العمال المستخدمين، من جهة أخرى؛[…] و العلاقات الإنسانية المفرطة الكثرة و التي تتطور جزئيا عن طريق التعويض"[11].

إن العلاقة التي تربط الفلاح بالأرض، في هذا النظام ليست نفعية بقدر ما هي روحية، يعاملها كأم مرضعة لا كمادة خام و موضع للإنتاج، وعلى هذا الأساس يكون خضوعه لها، لأن الغنى أو الفقر ليس مردهما إلى الجهد الذي يبذله الإنسان بل إلى الرضى أو السخط الذي تقابل به الأرض الإنسان[12].

إن تحليل التنظيم الاقتصادي في المجتمع التقليدي، إذ يؤكد على التعاون، فانه يغطي بنية الصراع. و الواقع أن الظروف الضاغطة التي تفرزها سيطرة الطبيعة و المناخ لا يمكن فرضا[13] إلا أن تقابلها بنية سيكولوجية للأفراد و الجماعات سمتها القلق و الخوف و الانفعال و الحرمان الذي يدفع هؤلاء إلى المعارضة العنيفة لبعضهم البعض، خصوصا عندما تجد الجماعة غيرها محققا الاكتفاء الذي لم تصل هي إليه، و مشبعا لحاجات ضرورية ظلت هي محرومة من إشباعها، كما هو الشأن بالنسبة للبدو الرحل في سنوات الحقط و الجفاف.

و الواقع أن بنية النظام الأبوي / التقليدي اذ يغلب عليها الطابع القبلي تتميز أساسا بالتنافر و الصراع و الانقسام إلى أزواج ينفي بعضها بعضا، و يتعصب بعضها ضد البعض الآخر، و تطغى الروابط القرابية فيها على كل الروابط الاجتماعية الأخرى[14]. ولا يجد الفرد داخل هذا النظام من واجب يلتزم به إلا واجبه تجاه جماعته التي ينتمي إليها و يشعر أنه جزء لا يتجزأ منها، يفنى فيها فناء كليا، خصوصا إذا كان ثمة خطر خارجي يحاول النيل منها في كيانها المادي أو المعنوي[15].

وكما تتضامن الأنساب المشكلة للجماعة القبلية و تسلك مسلك العنف لضمان و حدتها و حياتها تجاه الجماعات الأخرى، فانه داخل الجماعة الواحدة تشهر الأسر و القرابات، و لو بدرجة أخف، عنفها ضد بعضها البعض، لنفس الأسباب الحيوية، عملا بمنطق " أنا و أخي ضد ابن عمي، و أنا و ابن عمي ضد الغريب". و ما مدد الري أو رسم الحدود بين الملكيات العائلية أو جمع المحاصيل الزراعية أو جني الثمار أو إفساد القطيع حقول الغير إلا مناسبات لصراعات كثيفة بين الأسر قد تنتهي بموت بعض الأشخاص أو ترك عاهات مستديمة عند أشخاص آخرين. أما جرائم الشرف، فإن جزاءها يدفع العنف إلى أقصاه، فلا يقبل المعتدى عليه عقوبة لمن دنس عرضه غير القتل رفعا للعار و تطهيرا للشرف.

و مع ذلك، فان هذه الصراعات لا تنال من وحدة الجماعة في شيء، لأن كبارها دائما على أهبة لاصلاح ذات البين و إلحاق العقوبة بمستحقيها و فق قواعد يعرف معها كل فرد أن وحدة الجماعة فوق كل شيء، وأن القواعد التي تستمد منها هذه الوحدة قوتها، مثل الشرف، تحمل في ذاتها جزاءها. فمن لم ينصهر في الجماعة، فان مآله الاقصاء كموت معنوي، يستتبع لا محالة الموت الحقيقي، في عالم لا وجود للفرد فيه إلا منتسبا إلى جماعة.

وإذا حصل داخل هذا النظام الأبوي صراع العائلات ضد بعضهم البعض، فانه يكاد لا يحصل داخل العائلة الواحدة. بل انه كلما كان النسب قريبا كلما كانت النعرة ظاهرة و القيام بها سريعا. وبتعبير ابن خلدون"فان القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب و المهالك"[16].

يحدث الأمر كما لو إن المجتمع لا يتصور نوعا أخر من العلاقات غير تلك التي توجد بين الأقارب، ولا مبدأ موحدا لجماعة سياسية غير ذلك الذي يصنع تماسك المجتمع الأكثر أولية، أي العائلة"[17].

في كل هذا، فان الذي يخطف الملاحظة هو أن العلاقات الاجتماعية تعاونية كانت أو صراعية لا تبدو قائمة إلا بين الرجال، وأن أي نشاط لا يبدو ممارسا إلا من طرفهم و أن تنظيم المجتمع في الحروب و السلام يتم إلا بهم، كأن المرأة، وهي مقصاة و مفتقدة إلى المكانة في بنية المجتمع لا تمارس أي دور داخله. عنف فاضح هو هذا المخيال الأبوي الذي يميز الرابطة الاجتماعية بصورة قوية، منتجا للمعايير أو صائغا للقواعد أو موجها للسلوكات الفردية و الجماعية. إنه يضع الفرد في خط نسب أبوي صاعد إلى أزمنة غابرة، و موجه إلى إعادة إنتاج نفسه حتى نهاية الأعمار. انه يتبنين حول المسلمة التي مفادها أن المجتمع عبارة عن جماعة من الرجال يتبادلون النساء لإعادة إنتاج أنفسهم و نقل أسمائهم و جيهانهم إلى الخلف الذين بهم يضمنون استمرار ذاكرتهم[18]. و لتعزيز ثقافته الأبوية، فان المجتمع التقليدي يسخر المعايير الدينية و يصبغ الطابع المقدس على الرابطة الاجتماعية حتى تبقى متمركزة حول القرابة الأبوية و حتى لا تتشكل لدى الفرد حياة خاصة تحرره من الجماعة بوصفه شخصية قانونية مستقلة[19].

2 – الأسرة في المجتمع الأبوي التقليدي:

تمثل العائلة كأسرة ممتدة أبوية غير منقسمة و عصبوية الوحدة القاعدية في المجتمع الجزائري الأبوي التقليدي و النموذج الذي على صورته، تنتظم كافة البنيات الاجتماعية الأخرى. ذلك هو الشأن مثلا بالنسبة لجماعة القرية التي تشكل هرما قمته شيخ الجماعة ووسطه قدامى الجماعة و قاعدته الأفراد الذكور القادرون على حمل السلاح، و التي هي صورة مكبرة عن الهرم الأسري الذي قمته الأب ووسطه الأبناء المتزوجون و قاعدته الأطفال و النساء.

بالتحليل تبدو العائلة جماعة منزلية، حيث لا يكون أفراد الجيل الواحد إلا أخوة أو أولاد أعمام، يقيمون في سكن واحد و يعيشون من رزق واحد و ينشطون تحت سلطة أبوية واحدة:

1 – إنها مكونة من خليتين أسريتين أو أكثر، تكوينا يجعلها تأخذ أحد الشكلين التاليين : الأول، الذي يمثل أسرة الأب وابنه / أو أبنائه المتزوجين وأطفالهم قبل الزواج:

CRASC Insaniyat - دفاتر إنسانيات

و الثاني و يمثل مجموع أسر الاخوة المتزوجين:

 CRASC Insaniyat - دفاتر إنسانيات

في بعض العائلات التي حافظت على تماسكها، حيث يتم الزواج في سن مبكرة، و حيث يكون متوسط الأعمار مرتفعا، فان شكل العائلة يكون أكثر تعقيدا، ذلك أن العائلة هنا تكون مركبة من أسرة الأب و أسر أبنائه المتزوجين وأحيانا بعض أبنائهم المتزوجين أيضا. إنها تضم أربعة إلى خمسة أجيال، و قد يصل حجمها الخمسين فردا أو يربو على ذلك.

2- يمثل الأب في هذه العائلة السلطة المادية و الروحية المطلقة التي لا تطالها سلطة أخرى. و نظرا للمكانة التي يحتلها داخل الجماعة المنزلية، فانه هو الذي ينظم الاقتصاد المنزلي و يحرص على تماسك العائلة. لأجل ذلك فانه يمارس سلطته بصرامة، فلا يترك لليونة إلا حيزا ضئيلا. فإذا حصل له يوما أن فشل في فرض الانضباط، فاخترق أحد الأفراد أوامِرَهُ، ولم يلتزم تجاهه بالطاعة و الخضوع، عد ذلك إهانة و سارع إلى الرد عليها بالعقاب الصارم حتى يعود الخارج على الطاعة إلى الامتثال. فإذا خانت السلطة الأبوية الوسائل المادية للعقاب، كان اللجوء إلى دعاء الشر، وهو سلاح مهاب، لأنه، في نظر المجتمع يجلب على العاق أو المتمرد البلاء الخفي و سخط السماء : ألا إن غضب الله من غضب الوالدين، كما يقال.

وهكذا يمارس رب العائلة إذن كل الحقوق على زوجته و أولاده، وكل من يعيش تحت مسؤوليته :هو صاحب القرار بخصوص الزواج و الطلاق و التبني و الحرمان من النسب أو الميراث و البيع و الشراء المتعلقين بالعقار و المنقول أرضا أو أنعاما أو غيرها. من حقه على زوجته كل شيء ضربا أو طردا أو طلاقا، و على أولاده أيضا ضربا أو طردا أو حرمانا، ولا معترض في ذلك على إرادته، لأن نظام العائلة هو الذي يصوغه، ليكون فوقه و خارجه.

غير أن التطرف في العقاب لا يكون إلا أخيرا، حين تستنفذ الوسائل الأخرى من نصيحة و توجيه و تهديد، و التي من شأنها الإجبار على الطاعة و الخضوع و الامتثال للسلطة الأبوية. هذه الصرامة، درجة التسلط، في ممارسة السلطة ليس لها من غاية سوى الحفاظ على تماسك العائلة وانسجامها كوحدة إنتاج واستهلاك و حماية وتكاثر.

3- إنها وحدة غير منقسمة للإنتاج والاستهلاك، يبدو فيها الأب صاحب الملكية العائلية و الكافل لأبنائه متزوجين و غير متزوجين. وإذا كانت المرأة تغادر بيت الأبوة عند الزواج، فإنها إليه تعود و تجد كفالتها من أبيها أو اخوتها في حالة الطلاق أو الترمل. أما إذا كانت أما لأطفال وأعادت الزواج بشرط يقدمه الزواج الجديد ألا يرافقها إلى بيت الزوجية أطفالها، فان هؤلاء يلتحقون بأسرة توجه أمهم و تئول كفالتهم إلى جدهم لأمهم أو أخوالهم.

هذا الانقسام كخاصية بنيوية تميز العائلة التقليدية يعززه عاملان و يضمنان استمراره، ناهيك عن السلطة الأبوية، وهما وحدة الملكية أرضا أو موردا أخر للحياة، عقارا أو منقولا، استعماليا أو استهلاكيا ووحدة السكن.

إن الدار أو الأرض أو القطيع ملكية للعائلة بالمعنى الذي يجعلنا نفهم أن لكل فرد نصيبا فيها من غير أن يخول لنفسه حق الاستئثار به أو المطالبة بعزله عن الأنصبة الأخرى.

إن النزعات الانفرادية داخل الأسرة منظور إليها على أنها مدعاة لإضعافها و طريق نحو تفككها، لذلك فهي محاربة بقوة و موضوعة موضع الجريمة في المخيال الأبوي.

نعم تعتبر مبدئيا الدار و مواضيع الإنتاج ووسائله و ثمرات النشاط الزراعي أو الرعوي أو الحرفي ملكًا لكل أفراد العائلة، ولكن الأب يعتبر نفسه في الواقع وحده، كشخص معنوي، صاحب الحق في الملكية، يحافظ عليها ما استطاع. وتجد وحدة الملكية لها في العرف حماية من خلال قاعدته التي تنص على حق الشفاعة المتمثل في إبعاد كل الغرباء عن أن يصبحوا شركاء في الملكية[20]. فإذا باع فرد من العائلة نصيبه، في حالة حصول الانقسام في ظروف استثنائية معينة، جاز لأحد الأقارب بتخويل من هذه القاعدة العرفية، أن يسترده منه، بمجرد دفعه إياه ثمنه و من غير داع لابرام عقد بيع جديد. لذلك، فان البيوع المتعلقة بالعقار غالبا ما تحصل بين الأقارب أنفسهم، اختصارا للطريق الذي قد يردهم على أعقابهم فيه حق الشفاعة.

4- إنها جماعة عصبة توجد بالذكور، يملكون ويرثون و ينسب إليهم، يمثلون السلطة و الجاه و الشرف، بهم تنشأ الأسرة واليهم ينتهي كل ما يتعلق بها من تنظيم أو تسيير أو قرار. فإذا لم تكن المرأة ابنة عم لزوجها، فإنها تظل في بيته غريبة، على أهله و كذلك عليه، لايبدي في علاقته بها ما يجعلها متميزة بالحميمية أو الحب والارتباط، لأنه لا يملك من نفسه، عقلا و عاطفة، إلا ما تسمح له به الجماعة، بوصفها كلا هو أحد أجزائها.

في العائلة التقليدية، ينقل الإرث كالنسب في خط أبوي، لذلك يخلف الابن الأكبر أباه بعد موته في تنظيم الاقتصاد المنزلي و توزيع الأدوار على أفراد العائلة القادرين على العمل. وفي كل الأحوال فانه يرث السلطة الأبوية فيصبح شخصا معنويا يمثل العائلة في ملكية السكن و موارد الحياة، وبالتالي، يرث الحق في الطاعة و الاحترام. ولكن هذه السلطة المستخلفة لا تكتسب شرعيتها إلا بالحرص على حماية الملكية وإثرائها و على وحدة العائلة و تماسكها و الائتمان على مصالحها، وإلا غدت سلطة منكرة لا ثقة فيها. يسرع، بوجودها، التفكك إلى العائلة، فتمر من الوحدة إلى الانقسام.

إن وحدة الملكية إذن، و الخضوع إلى السلطة الأبوية، والارتباط بالنسب الأبوي والالتزام بالتضامن الذي يخلقه هذا الارتباط، كلها خصائص لرسم ملامح الأسرة الأبوية التقليدية[21]. و إذا كان بعض الدارسين يرون في منح الشريعة الإسلامية، في هذه العائلة، للأفراد الشخصية القانونية دليلا على أنها ليست أبوية، معتبرين إياها شخصية معنوية صفاتها القانونية: (الاسم و المحل و الذمة المالية)[22] متوافرة، فان الواقع يختلف عن مبدإ النص، و يجعل الممارسة ترجع إلى العرف أكثر منها إلى الشريعة الإسلامية. من هنا عدم انقسام الملكية العائلية رغم أن الشريعة تمنح الأفراد حق المطالبة بنصيبهم في الميراث بعد موت مورثهم، و من هنا حرمان المرأة من الأرث رغم حقها في نصيب هو نصف حظ الذكر، و من هنا حق الجبر الذي يمارس كإكراه متطرف على البنت فيرغمها على الزواج، رغم أن الرضا ركن من أركان هذا الأخير، وأن حق الجبر، حسب مبدإ النص، لا يمارس إلا كحالة استثنائية، بعد أن يتم التأكد من طرف الولي بأن للبنت مصلحة فيه، تأكدًا لا يكذبه، عاجلا أو أجلا، الزواج و المعاشرة.

مع كل هذا لا ينبغي النظر إلى الحرص على الوحدة في صورته المطلقة. فالأقارب الذين يشكلون العائلة بخصائصها المذكورة أقارب من الدرجة الأولى أو الثانية غالبا، و من الدرجة الثالثة استثناء. ذلك أنه مع ظهور الجيل الرابع أو الخامس تكتسب العائلة حجما يصبح معه الانقسام مرغوبا فيه، فتتأسس عائلات جديدة لها، هي الأخرى، خصائص العائلة الأصلية. هنا تجد العائلة في الشريعة الإسلامية ما يبرر سلوكها الانقسامي هذا، و الذي حاربته طويلا، نزعه فطر الله الإنسان عليها و سنها انطلاقا من كونها طبيعية، فليس ما يمنع، شرعا، الأخوة و قد صاروا أجدادا، أن يوزعوا الميراث بينهم و ينفصل كل واحد بنصيبه[23]، كما وجدت في العرف للشريعة قرينا و هي ترفض الانقسام، لأن الشريعة هنا أيضا لا تمنع الأخوة أن يضموا انصبتهم و يكونوا منها و حدة إنتاج واستهلاك و سكن، مادام في ذلك سكينة لنفوسهم و تحقيق لوجودهم وضمان على مستقبلهم.

3- مكانة المرأة في الأسرة التقليدية :

المجتمع التقليدي قائم بالرجال و قرار كل شيء إليهم يعود. أما المرأة فإنها عنصر ثانوي داخل الأسرة، التي تجد تمثيلها الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي في الأب وحده، بوصفه شخصيتها المعنوية. إن مكانة المرأة، و إن وجدت، فهي دونية، تتحسن أو تسوء تماشيا مع مراحل الأسرة الحياتية. لذلك، فإن مكانة المرأة الحديثة العهد بالزواج تختلف عن مكانتها أما أو حماة. و بين النساء أنفسهن، فإن الاعتبار الأكبر يذهب إلى المرأة التي تجتمع فيها أكثر الصفات الإيجابية من نسب أصيل و شرف و حسب و دين، بالإضافة إلى إبدائها كفاءاتها و قيمها و خصوصيتها الأنثوية.

إن أنماط المعيشة المختلفة في المجتمع التقليدي تعتمد توزيعا للأدوار و تقيم فصلا صارما بين الجنسين، وفق نظام محدد للقيم يشكل عناصر المخيال الأبوي، بصورة لا يمكن معها للمرأة أن تكون لها إلاّ المكانة التي منحها إيّاها مجتمع الرجال. فالتمييز الجنسي، كما تلاحظ ذلك مونيك غادان مثلا، " ليس فصلا بين الذكور و الإناث فحسب، بل هو معارضة و تراتبية بين عالمين مختلفين. إنه تمييز يتجلى في الأدوار و في المجالات المقسمة بينهما […] بحيث لا يكون ثمة شيء يجب أن يدعو إلى الإلتباس، و إلاّ فإن المرأة لا تكون امرأة و الرجل لا يكون رجلا[24].

واقع الحال، فإن التمييز بين دور المرأة التعبيري و دور الرجل الأداتي يطابقه تمييز بين عالمين يمارس فيه الجنسان أدوارهما. و لا يتجاوز أحدهما عالمه إلى عالم الآخر إلاّ بناء على قواعد محددة. فليس من الرجولة في شيء مثلا، أن يلازم الرجل البيت وسط النساء منهمكات في أشغالهن المنزلية. و باستثناء تناول الغذاء فإن للرجال عالمهم المفتوح يؤمونه في أوقات الشغل و الفراغ أو يجتمعون في غرفة بعيدا عن عالم النساء. من جهتها فإن المرأة إذا تحتم عليها اختراق عالم الرجال، و ليس ذلك بحادث إلاّ قليلا، وجب عليها أن تلتزم في تحركها الحشمة و التستر و الحياء وغض البصر و فتور الطرف و أن تحجب حسنها بما لا يدع فرصة لإثارة الرغبة الجنسية عند الرجال. و لهؤلاء بالمقابل أن يسلكوا، تجاه المرأة التي تضطرها الحاجة إلى الخروج و المرور قربهم، سلوكا متحفظا، فيعطوا الطريق حقه و يظهروا اللامبالاة في حركاتهم و أن يغضوا من أبصارهم، لأن " النظرة الثانية" محسوبة عليهم، و أن المرأة مصدر للفتنة، ما ازداد الرجل منها قربا إلاّ ازداد ابتعادا عن الجماعة. نعم، للنساء عالمهن الذي فيه يحيين و يمارسن أدوارهن، و التي ليس الطبخ و تربية الأطفال إلاّ بعضها. فهن بالإضافة إلى ذلك يقمن ببعض الأشغال المتصلة بفرز المحاصيل الزراعية أو تنقيتها من الشوائب أو تنظيفها أو تهيئتها للتخزين أو التصبير، كما أنهن ينجزن بعض الصناعات الحرفية الموجّهة نحو الاستهلاك الخاص. إن الدار كعالم أنثوي تظهر في هذه الحالة كوحدة للإنتاج بامتياز، لأن النساء في مجالها ينتجن جزءا كبيرا من وسائل وجود العائلة، وفق تخصص حسب الجنس ضمن الصناعات الحرفية نفسها. فللنساء تعود صناعة الأدوات و الوسائل ذات العلاقة مع الأشغال المنزلية، و للرجال تعود صناعة الأدوات و الوسائل المرتبطة بفلاحة الأرض أو تربية الأنعام، مهما كانت مادة الحرفة الأولية حلفاء أو دوما أو صوفا أو خشبا أو حديدا.

و لقد بلغت درجة الفصل بين عالم الرجال و عالم النساء في بعض الأوساط التقليدية ما إنه وضعت قواعد عرفية " ترسم الحدود التي ينبغي على النساء عدم تجاوزها وحدهن، و الأماكن التي ينبغي عليهن عدم اعتيادها في بعض أوقات النهار مثل منابع المياه المشتركة التي يجب عليهن عدم اعتيادها قبل طلوع الفجر، بعض الممرات المعزولة بوجه خاص"[25].

و يجد هذا الفصل تعبيره أيضا في التزام غير الأقارب عند اتصالهم بغيرهم في بيوتهم مناداتهم غير قريب من الباب الرئيسي. فإذا وجدوا في منازلهم خرجوا إليهم، و إن لم يوجدوا خاطبتهم النساء من وراء الأبواب و استمعن إلى طلباتهم أو بعثن إليهم أحد الأطفال يتلقى منهم سبب زيارتهم لابلاغها للرجال بمجرد عودتهم[26].

و لكن هذا الفصل بين الأجناس و الأعمال و "العوالم " لا ينبغي النظر إليه في صورته المطلقة، طالما أن للمرأة فرصا للخروج و لو بضوابط معينة. لذلك، ينبغي و بدرجة معينة من النسبية، فهم "الحجب و التضييق و الارهاق"[27] و ألاّ نمنح للخطاب العلمي الحق الذي تمنحه لنفسها الأشكال الأخرى من الخطاب[28]. فتقاسم المرأة مع الرجل دوره الأداتي جزئيا يتطلب منها الدخول في المجال المخصص للرجال، مثل : جمع الحطب و الغلال و جلب المياه و غرس الخضر في مختلف المواسم. و مهما اعتبر الحقل امتدادا للسكن و يشكل معه ملكية العائلة التي لها استقلاليتها و قدسيتها، فإنه مجال مفتوح و يعارض الوسط المغلق للسكن و تعارض النشاطات الممارسة فيه الحركات المطردة للأشغال المنزلية.

إن مقاسمة المرأة الرجل دوره الأداتي لم يشفع لها من الأقصاء الاجتماعي و لم يزد الثقافة الأبوية إلاّ تعزيزا. فإذا كان دورها التعبيري على أهميته و عسر أدائه غير معترف به إجتماعيا و غير معبر عنه بقيمة، فإن ما تقوم به من أشغال خارج البيت يعتبر امتدادا لدورها الأساسي و يستتبع هو الآخر عدم الاعتراف، مما لا يدع مجالا للشك في أن المرأة لا "تستمد مكانتها الخاصة […] من مسؤولياتها و مشاركتها في العمل الإنتاجي بل من كونها أما أو إبنة أو أختا (فهي) مثل الأرض رمز للخصب […] تعطي أكثر بكثير مما تأخذ[29]. هذا الإقصاء الاجتماعي لا تقابله الحماية الجسدية لها إلاّ لتؤكده، لأن الحماية لا تأخذ دلالات العدالة و المساواة، بل قد تعني خلافهما. ذلك أن الرجل لم يكن حاميا إلاّ لإنه امتلك وسيلة الحماية المرتبطة بدوره الاقتصادي و باستقلاليته. و المرأة لم تكن واقعة تحت الحماية و تابعة للرجل في هذا المجال و في مجالات أخرى و ذات وضعية دونية، إلاّ لعوزها الاقتصادي و حرمانها من مسؤوليات عمل الرجل فائق جهده للاستئثار بها، فهي "مجردة من حقها في تحمّل مسؤوليات الجهاد و السعي و تأمين الرزق و النهوض بأعباء المجتمع[30] رغم التشديد على المساواة خصوصا بين الأفراد الذين تجمعهم قرابة الدم. نعم هي "ليست مهددة بالقتل و ليست محرومة كما يقول إيمانويل تود (على مستوى النص) من الميراث، (بل هي) مبدئيًا محمية من طرف القرآن الذي يظهر كمذهب يعمل على تحسين وضعيتها، و عمليا فإنها محمية من طرف النظام العاطفي الذي يناسب الأسرة الممتدة الداخلية الزواج، (لأنها) ليست أجنبية، خطيرة، و يمكن أن تكون ممقوتة، بل هي ابنة عم يجب لها أن تكون محبوبة و محمية (خصوصا) و أنها لا تهدد الملكية (العائلية) بالانقسام. (و لكن) "الحماية، كما يتابع إيمانويل تود، لا تعني العدالة، بل إنها أحيانا تعني عكسها. إن المرأة المسلمة محمية جسديا لتكون أكثر عرضة للتحطيم اجتماعيا"[31].

حين تغادر المرأة أسرة التوجه ملتحقة بأسرة الإنجاب، فإن مكانتها تكون مجهولة المعالم، خصوصا إذا لم تستفد من الزواج المفضل في النظام الأبوي أي أنها لم تقترن مع ابن عمها. و مادام الهدف الأول من الزواج هو إنجاب أكبر عدد ممكن من الذكور لتقوية صفوف العائلة، فإن وضعية المرأة لا تنشأ إلاّ بميلاد الطفل الأول خصوصا إذا كان ذكرا. من هنا فإن وضعيتها مرتبطة به تزداد اعتبارا بنشأته و صيرورته رجلا و زواجه. و لما كان اندماج المرأة و اكتسابها مكانة لا يتم إلاّ بالزفاف، و كان تعزيز مكانتها لا يتم إلاّ بزواج أحد الأبناء، فإنها تبذل كل جهدها و تستخدم كل الوسائل من أجل صيرورتها أمًا ثم تجعل من علاقتها بأبنائها علاقة استراتيجية لتحقق، و هي حماة، ما لم تحققه و هي زوجة. إن النساء بتعبير عدي الهواري، "لا ينتظرن شيئا من أزواجهن، فهم رجال لامهاتهن لا لهن، إنهن يستثمرن أكثر في أولادهن الذكور، منتظرات بفارغ الصبر أن يكبروا، حتى يتسنى لهن أن يحيين شبابهن الاجتماعي بجسم نساء عجائز"[32].

على هذا الأساس كانت المرأة داخل الأسرة الأبوية التقليدية كلما تقدم بها السن أمًا و حماة كلما ازدادت مكانة و سلطة و كلما استفادت من امتيازات النظام الأبوي ماديا و معنويا، لذلك فإنها تصبح الحارسة لقيمه المدافعة عن احترامها. "فهي التي تحثّ بناتها للتحيّز إلى إخوتهم في حالة الصراع مع زوجاتهم، و هي التي تدعو بناتها إلى التخلي عن أنصبتهم في الميراث إذا وجد، و هي التي تربي أحفادها بتلقينهم الحذر من أماتهم، و أخيرا هي التي تعترض على أن يستقل ابنها بأسرته النووية (عن العائلة)"[33].

يحدث الأمر كما لو أن المرأة لا تكتسب مكانة أو سلطة داخل الأسرة إلاّ إذا استبطنت الثقافة الأبوية فأصبحت هذه الأخيرة الموجه الأساسي لسلوكها لا فرق في ذلك بينها، في عالم النساء، و بين زوجها أو ابنها في عالم الرجال.

4- المرأة كمحل للعنف في الأسرة التقليدية

تتسم العلاقات القرابية داخل الأسرة التقليدية بكونها لا مساواتية، حيث يمسك الأب بزمام السلطة المطلقة بوصفه صاحب الملكية العائلية التي تضمن له الاستقلالية. و هي سلطة تجد مصدرها في مركزه الاجتماعي الذي تمنحه إيّاه الثقافة الأبوية بوصفه وليا و كافلاً و حامياً إجتماعيا لأفراد العائلة. كما تجد مصدرها في الدين الذي يوصي بخفض جناح الذّل للوالدين، خفضا دفعت به الثقافة الأبوية إلى أبعد الحدود، فلم تكتف بالرحمة غاية له، بل جعلته خضوعا مطلقا سواء أكانت غايته رحمة أو خوفا أو غير ذلك. و قد عززت هذه الثقافة طاعة الوالدين و الخضوع لهما بتأكيدها على الصلة بين غضب الوالدين و غضب اللـه، إذ جعلت دعاء الشر صريحا أو ضمنيا عقابا نافذا، لا يفيد تراجع الوالدين عنه في شيء، لأن نفاذه خارج عن إرادتهم. بمعنى أنه يكفي العقوق بهم و تأثرهم له حتى يجلب ذلك على العاق سخط السماء. لهذا السبب، فإن مجرد إحساس الأبناء أنهم أغضبوا والديهم يجعلهم يخشون العقاب الغيبي المجهول الذي ينتظر أن يمسهم في ذواتهم أو في أموالهم، الأمر الذي يجعلهم دائما يجتهدون في إرضائهم و يتبعون "الأف" أو "النهر" عند حصولهما بالقول الكريم طلبا للعفو و الغفران.

و لا شك أن السلطة الأبوية، في ظروف موضوعية و نفسية كهذه، غالبا ما تمارس بارتياح و بدون قيود غير تلك التي تلزم بها الأعراف و التقاليد التي يجسمها سلوك الأب فلا ينبغي أن يكون بمحتوي يفوق حجمها. و من هنا التأديب بالضرب و التوبيخ بالشتم و السبّ، و من هنا الأوامر الواجبة التنفيذ بلا تأجيل و النواهي التي لا يجوز معها الجدل و التي تحمل معارضتها في طياتها العقاب.

نعم تلهم السلطة الأبوية الرهبة و الخوف و تدفع إلى الطاعة و الخضوع سواء أمارس الأب على أطفاله حقه في الضرب أو التخجيل أو الاستهزاء أم لا. و بهذا المعنى تتطابق السلطة و العنف في شعور الأفراد الذين تربطهم بها علاقة تبعية. فإذا هي نفذت عقابا، فإنها تجسم العنف في صورته المادية، و إلاّ فإنها تظل حاملة تهديدها الموقوت الذي تكرسه كعنف رمزي القواعد الأخلاقية و العرفية و أشكال الخطاب و التمييز بين الأفراد في المجال و أثناء توزيع الأدوار.

و إذا كانت السلطة الأبوية تمثل علاقة خاصة كونها فوق إرادات أفراد العائلة ذكورا و إناثا على السواء، و كان العنف كوسيلة لتكريسها يأخذ كافة الأشكال الممكنة و يمارس في مختلف الميادين الحيوية المرتبطة بتنظيم الأسرة و بقائها، فإن تركز السلطة في يد الأب لا يعني إحتكارها من طرفه احتكارا لا يبقي معه لأفراد الأسرة الآخرين شيئا. ذلك أن الحفاظ على السلطة الأبوية في حد ذاته، يتطلب تخويل جانب منها للأبناء المتزوجين و للأم و قد أصبحت حماة. و من جهتهم يجد هؤلاء مصلحتهم في أن يكونوا للسلطة الأبوية لسانها الناطق و يدها الضاربة. على هذا الأساس ليست ممارسة العنف حكرا على الأب وحده، بل هي سلوك يطبع علاقة الأب بالبنت أو الزوج بالزوجة أو الأم بالبنت أو الحماة بزوجة الابن أو الأخ بالأخت، بدرجة أو بأخرى إذا نحن لم نتطرق إلاّ إلى المرأة كمحل للعنف ضمن الحياة الأسرية.

تحتل المرأة في الأسرة الأبوية التقليدية، و ضمن العلاقات القرابية – كما أسلفنا – وضعية دونية، حتى أنها لا تستطيع أن تزعم أن عائلتها أو البيئة التي ولدت فيها قد أرادتها و قبلتها و أحبتها و اعترفت بذاتها و اعتبرت وجودها مفيدا[34]، ذلك أن المرأة منذ ولادتها تواجه مجتمعا رافضا لوجودها، يلقاها متجهما حزينا، يمارس من خلال رفضه لها عنفه على كل أنثى مدركة، إذ لا يترك لديها مجالا للشك في أنها، هي الأخرى، قوبلت بالرفض حين ولدت و أنها لا تزال كانئا منبوذا. و بعبارة أخرى، إذ كانت الصبية الحديثة الولادة لا تعي ما يواجهها من رفض، و لا ما يقع عليها من عنف رمزي، فإن الذي يتحمل تبعة ذلك هو كل أنثى بلغت سن الإدراك.

و إذ تعبّر النساء عن عدم قبولهن لازدياد الأنثى، فإنهن يحققن غايتين على الأقل :

1- التعبير عن إرادة الرجال في الاستزادة من المواليد الذكور لتقوية الجماعة الأغناتية، مادام في تكاثرهم زيادة في اليد العاملة شرط الزيادة في الموارد المعاشية، و تأكيد لمكانة الأسرة بين غيرها من الأسر المشكلة للمجتمع فرقة أو خروبة أو عرشا.

2- الاحتجاج على وضعيتهن المزرية الدونية، فلا يردن للمولودة أن تكون في مثلها، و يَوْدَدْنَ لو لم تجيء إلى عالم ينكر عليها إنسانيتها و مكانتها الفعلية في الأسرة و المجتمع.

إن البنت التي ترفض عند ولادتها رفضا يريده الرجال و تعبر عنه النساء، لا تنجو من وطأة الثقافة التي رفضت من أجلها رحمة بها. فهي سوف تخضع، بالتلقين أحيانا و بالعنف أخرى، لتنشئة إجتماعية تهيؤها لقبول وضعيتها الدونية و وجودها المزدري، و يصدمها واقع التمييز بينها و بين أخيها الذكر في المجال و الخطاب و لحظات اللهو و الأكل و النوم و في الهندام و في استعمال الجسم ساكنا أو متحركا و في علاقتها بأنواع من الأشياء و أصناف من الرجال و النساء. فإذا كان أخوها ينسب، بعد الختان، إلى عالمه الرجولي الذي يهيؤه لدوره الإقتصادي و يلقن فيه الخشونة و التأثير العنيف على موضع الإنتاج و وسائله و أشيائه المختلفة (التأثير في الأرض بالحرث، و الأشجار بالقطع و النبات بالحصاد، و الحيوان بالذبح…) و الاعتزال المحتقر لعالم النساء[35]، فإنها تنسب إلى عالمها الأنثوي حيث تهيؤها النساء إلى دورها التعبيري، و يحددن وجودها ضمن علاقة مع الأشياء و الناس تتطلب منها التصرف بعناية و لطف و ليونة. و مثال ذلك أنها في ممارستها نشاطها المنزلي تتعامل مع الأواني الفخارية السهلة الإنكسار و مع الفرش و الألبسة السهلة التمزق أو الاحتراق و مع مشتقات الحيوان السهلة التغير الطعم أو الكسر أو الفساد (الزبدة، الحليب، البيض...) و مع الأطفال الأطرياء العود السريـعي التأثر بالبرد و الحرارة و المرض. و تجري ممارسة المرأة دورها هذا داخل مجال يلهم العنف هو الآخر، طالما أنه يحصر الحركة أثناء العمل المنزلي في نطاق العناية و الليونة و اللطف و تقيد الحرية في نطاق الأقسام المغلقة للمجال و الوظائف المرتبطة بها : المطبخ و الحوش و غرفة النوم.

إنه مجال يحقق بانغلاقه و بتبعية وظائفه الاعتزال الخاضع للخوف من الرجال، المجل لسلطتهم، أيا كانت طبيعة العلاقة التي تربط المرأة بهم. و بهذا فإن المرأة منذ نعومة أظافرها تخضع لضوابط تجعل منها موضعا للعنف أكثر منها طرفا فاعلا فيه، تمارسه بدرجة ما، و بدرجة ما أخرى يقع عليها. و مما يعزز وقع العنف عليها أنها تُلقن قيما تؤكد على كونها كائنا ضعيفا هش البنية، سريع العطب، يحقق العنف عليها آثاره بشكل أكيد. كما تلقن قيما تربط فوزها الاجتماعي، الذي يبدأ تحقيقه بالزواج، بجمالها و عفتها و هما الميزتان الأكثر تعرضا للضرر حين يقع فعل العنف عليها. فجمال الوجه و الشعر و القوام، حسب المعايير التقليدية، إذا تأثرت نتيجة ضرب أو سقوط قل احتمال المرأة في الزواج كعلاقة ضرورية لاكتساب مكانة اجتماعية و تحسينها بالإنجاب، و استثمار العواطف في الأبناء كوسيلة للسلطة و تحقيق الذات استدراكا للطفولة و الشباب المهملين. كذلك إذا فقدت المرأة بكارتها، لسبب من الأسباب، فإن مكانتها تزداد دونية، و يتحول وضعها المزدري ازدراء مؤقتا إلى وضع مؤبد الازدراء، أو تمتد إليها يد الشرف الأبوي بالانتقام فتضع حدا لوجودها ككائن لا يتصور بقاؤه إلا عفيفا، لأن في عفته شرف الرجال.

و رغم أن جمال المرأة و عفتها تخدمان نفس الغاية، إلا أن التأكيد على العفة يفوق التأكيد على الجمال. فالمرأة التي لا عفة لها ينظر إليها بعين الاحتقار و أنها مبتذلة تشبع الرغبة المرتبطة بالفساد، لا بعين الرضا و الاستمتاع المفضيان إلى الزواج الدائم و الفوز الاجتماعي. لذلك، فإن بعض الأوساط الاجتماعية تعاقب المرأة التي تسعى إلى تدنيس عرضها بقص شعرها -و شعر المرأة تاجها- انتقاصا لقيمتـها الجمالية و إلحاقا لتدنيس العرض بتدنيس الجمال[36].

تنشأ المرأة إذن وسط بيئة يجعل منها التـقلين و العنف كائنا سلبيا ينال اعتبار المجتمع حين يقبل باستبطان قيمه و معاييره و يرضخ لقواعده الثقافية المتجاوزة للطبيعة بالتحليل و التحريم و الإجازة و المنع و ما يرتبط بهما من جزاء. لذلك فإن قيمة المرأة تحددها الثقافة الأبوية لا الطبيعة. فتهمل فيها الرغبات و الميول و المواهب و الأفكار، لتختزلها في كائن يتأكد وجوده حين يراد و حين يراد له لا حين يريد. ذلك أن في اختياره مساسا بحق استأثر به الرجال، مما يستلزم إقصاء المرأة المعبرة عن ارادتها و تهميشها، و في الإقصاء موت معنوي يستتبع لا محالة الموت الحقيقي الأكيد.

في هذا الإطار يدخل حق الجبر الذي يمارسه الأب على ابنته عند طلبها للزواج، غاضا الطرف عن رأيها، مقرنا رضاها بسكوتها، مستبعدا منها كل معارضة أو احتجاج. صحيح أن الزواج في المجتمع التقليدي علاقة تخص عائلتي الزوجين لا هذين وحدهما، و أن الفتى مثل الفتاة يتولى أبوه أمر زواجه و يختار له، بدلا منه، العائلة التي توفر أفضل الأنساب، غير أن للفتى هامشا من الاختيار يخفف من وطأة الجبر، و يحوله إلى اقتراح يقبله الفتى أو يرفضه من غير أن يعتبر ذلك معارضة صريحة أو ضمنية للإرادة الأبوية، خصوصا إذا كان راشدا و مؤديا دوره باجتهاد و قادرا على تدبير أمور الحياة. فإذا لم يعجبه اقتراح أبيه الأول قدم له أبوه اقتراحات أخرى حتى يرضى أو يكون هو الذي يقدم بديلا يقبله أبوه أو يرفضه حسب ما يقتضيه النسب الأفضل و المصلحة العائلية. فإذا اقترنت الرغبتان بدأ التحضير للزواج.

و ليس معنى ذلك أن الفتى يعبر لأبيه مباشرة عن رغبته قابلا أو رافضا، بل إنه يفعل ذلك بواسطة رسول. و لكن الأمر يتم بصورة يلاحظ معها التواصل بين رجلين يمثل أحدهما السلطة العائلية و يخشى فقدانها فلا يتعسف في استخدامها بل يشعر الطرف التابع لها بقيمته الاجتماعية كرجل يتأكد بالزواج، و يمثل الآخر الطرف التابع تبعية تنطوي على الاحترام لا على الامحاء، و الذي يفسح لإرادته المجال كي تعبر عن بعض الاستقلالية و توحي أحيانا بالتمرد المحتمل على التعسف في استخدام الحق لا على الحق ذاته، حق الأب في أن يختار لأبنائه النسب المشرف و لأبنائهم الأخوال المشرفين.

على هذا الأساس، فإن حق الاختيار لا تنتزعه السلطة الأبوية من الفتى بقدر ما تنتزعه من الفتاة، و أن هذا الانتزاع و هذا الحرمان من ممارسة حق الاختيار لا يمارس كعنف على الفتى بقدر ما يمارس على الفتاة، باستخدام كل الوسائل التي توفرها التقاليد و الأحكام الشرعية لتعزيز السلطة الأبوية و جعلها ذات مصداقية و نفاذ. و لا يبقى للفتاة من شيء بعد أن يستملك بشأنها القرار سوى عزائها أنها أريدت و وقع عليها الاختيار، و بسببها استحقت عائلتها توفير النسب الأفضل و الحموة المشرفة. فما كان لهذه القيم في نهاية المطاف أن تثار لو لم تكن العائلة تنطوي على فتاة صالحة للزواج.

و مثلما يباشر الأب حقه على ابنته في الجبر يمارس عليها هذا الحق أعمامها بعد موته. ذلك أن الإكراه حق رجولي كالولاية لا تنوب فيه الزوجة عن زوجها. فإذا حاولت المرأة مثلا التعبير عن إرادتها في تزويج ابنتها لمن تريد، نجم عن ذلك صراع مع أعمام البنت قد يصل إلى فصل هذه الأخيرة عن أمها ابعادا لها عما قد تلقنها إياه من أفكار تجعلها تتمرد على السلطة الأبوية بالنيابة أو تجعلها، أكثر من ذلك، تحيد عن التربية الحسنة و تعرض للدناسة الشرف الأسري. و ليس حق الإكراه مشروط الممارسة بواجب التزم به الأعمام نحو زوجة أخيهم و أبنائها في النفقة و الحماية، بل هو حق غير مشروط خوّلته لهم الثقافة الأبوية سواء أكان يجمعهم بزوجة أخيهم المتوفى سكن واحد أم كانوا مستقلين عنها إقامة و معاشا. الأمر الذي يفهم منه أن الكفالة كأساس للسلطة لا يستتبع غيابها دائما زوال هذه الأخيرة.

و كما تحرم المرأة من حقها في الاختيار أو أخذ القرار، فإنها تحرم من حقها في ملكية الأرض و توارثها[37] حرمانا يصور مدى العنف الذي تكون المرأة محلا له في العائلة تحت سلطة أبيها أو أخيها أو زوجها أو اخوة هذا الأخير. فالأب حين ينقل السلطة لأحد أبنائه عند موته مثلا، إنما يحرم من الإرث بناته أساسا لا أبناءه الآخرين، لأنه إذا انفجر الصراع حول ملكية الأرض، فإنه قد ينتهي بأخذ بعض الإخوة أو كلهم نصيبه، أما المرأة، فلا ينظر في غالب الأحيان إليها لا كطرف في الصراع و لا كصاحبة حق في الإرث.

أما في علاقة الزوج بزوجته، فإن العنف الواقع على المرأة يأخذ شكل اللامبالاة في أبسط صوره و يعاش علنيا كل يوم، كقاعدة توجّه سلوك الزوجين و تحدد مسارهما ضمن العلاقات السائدة بين الأقارب الآخرين. "إن اللامبالاة التي يتعامل بها الزوج مع زوجته، مؤكدا عدي الهواري، و الخوف الذي يجعلها تشعر به و تقديس الأم الذي يدخل في دوره كرب أسرة، هي العناصر الأساسية التي توجه سلوك الأفراد داخل العائلة، و التي تبنين علاقاتهم و التي تنظم التراتبية لدى الجماعة (المنزلية). إن الزوجة ذات الشخصية القوية مدعوة إلى جعل ميزاتها في خدمة زوجها، لتبيّن أن رجولة هذا الأخير فوق كل اعتبار[38].

نعم توجب الثقافة الأبوية على المرأة خشية زوجها و الامـتـثال لإرادته تماما مثلما أوجبت من قبل خشيتها لأبيها و الخضوع لسلطته، رابطة هذه الخشية قبل الزواج و بعد بالعفة التي لا يكون إلاّ بها النسب الشريف و الخلف الطاهر. فكما أن المرأة التي لا تخشى أباها قادرة على إقامة علاقات جنسية قبل الزواج، مما يعرض شرف العائلة للدنس، و يزهد العائلات الأخرى في الارتباط بها بالنسب، فإن المرأة التي لا تخشى زوجها قادرة هي الأخرى على ألاّ تضمن نقاوة الخلف. إنه الأمر الذي ينزع عن الزوج كل اطمئنان و يجعله يسارع بالطلاق تفاديا لأي أثر قد ينجم عن علاقات جنسية محتملة الوقوع مع رجال آخرين. و ليس هؤلاء بالضرورة رجالا غرباء عن العائلة، بل قد يكونون إخوة الزوج أو أقاربه الآخرين، لأن كل رجل عرضة لفتنة المرأة و إغرائها، ما دامت السهم الذي يضرب الشيطان به الرجل.

من هنا محدودية العلاقة بين نساء الأسرة و رجالها، و قلة الحديث بينهم و جعل تبادله محصورا في الضرورة المطلقة. فإذا أبدى سلوك المرأة أو حديثها بعض المودة و الحميمية تجاه الرجال، فإن ذلك يجعلها محكوما عليها بالإباحية و الافتقاد إلى الميزات الضرورية لتأسيس أسرة و الحفاظ على شرف الزوج و تربية الأولاد على المبادئ الأخلاقية. و بناء على اعتبار المرأة موضوع فتنة، فإنه يحتمل فيها أن تضر بوحدة الأسرة و تماسكها، من خلال إضرارها بشرف زوجها. لذلك فهي موضع حذر و مراقبة و ضبط و تأديب و تهديد.. و اهمال و إغفال توخيا للفتنة المفضية للتفكك.

و على العموم، فإن علاقة الرجل باخوته، و أخواته و آبائه أي أقاربه من الدرجة الأولى، أهم و أسبق من علاقته بزوجته. لهذا فإنه في حالة النزاع، لا يأخذ الزوج أبدا موقفا مع زوجته بل غالبا ما يأخذ موقفا ضدها مع أمه أو اخوته و ذلك بتوبيخها أو زجرها أو ضربها ما دام الضرب حقا له عليها إن توازن العائلة مضمون مادام الرجل في مأمن من تأثير زوجته عليه، و مادام لا يعير اهتماما لكلامها و نصائحها، و مادام لا يفضلها على حساب زوجات إخوته، أي مادام الزوج قويا و عنيفا.

و ليس معنى هذا أن العنف داخل الأسرة التقليدية لا يمارسه إلاّ الرجال على النساء و لا أن كل النساء محل للعنف، بل غالبا ما يجد العنف نفسه مرمزا في سلوك النساء، فيكون أن ينتج و يعاد، خصوصا إذا وجد في إحداهن من لها مصلحة تحققها من خلال الحرص على احترام القيم المنتجة للعنف و الترويج للثقافة الأبوية التي تسنه وسيلة للحفاظ على النظام القائم، كما هو الشأن بالنسبة للحماة. نعم تتنكر المرأة لبنات جنسها منذ أن تصبح أما لأبناء متزوجين: إنها الأمومة التي تجعل من المرأة عدوا للنساء.

لا تعاني النساء، إذن، كلهن من وطأة "القيم الأبوية، طالما أن هناك (امرأة) واحدة تستفيد: أم الأطفال الذكور البالغين. إن زوجات الأبناء هن عن اللواتي يتحملن كل الثقل و اللواتي يعانين من اختناق شخصيتهن و احتقار أجسامهن، و انتقاء حميميتهن، و افتقاد الحنان تجاههن، باستثناء ما يأتيهن من الأطفال الذين مازالوا صغارا، و الذين من خلالهم سوف ينتقمن بامتلاكهم و تدليلهم إلى الأبد[39]. لذلك فأن " إعادة الإنتاج الاجتماعي (للعنف) مضمونة، في نفس الوقت مع هيمنة الرجل بما أن النساء يقبلن العبودية ضمن الأمومة، حيث يجدن مصلحتهن بالاستفادة كأمهات من (منافع) النظام[40].

خلاصة ختامية

تقدم الأسرة في المجتمع الجزائري التقليدي نماذج عن العنف الواقع على المرأة، لا يمكن دراسة واحدة، و إنما تميزت، الوقوف عليها و الاحاطة بها. لذلك اكتفينا من الأمثلة، بما يعطي صورة ما عن الظاهرة في علاقتها بالإطار الإجتماعي العام، أي رابطين إياها بوضعية المرأة الدونية كنتيجة لنوعين من المتغيرات : متغيرات مستقلة أساسية متمثلة في النظام العام و توزيع العمل و المشاركة في الإنتاج و الموقع في البني الاجتماعية ؛ و متغيرات مستقلة ثانوية، لأنها وسيطة بين وضعية المرأة و العوامل المسؤولة أساسا عنها، متمثلة في التراث الديني و التقاليد و الأعراف القبلية و النزعات النفسية[41]. و من هنا محاولة التحليل الضرورية للنظام الأبوي التقليدي و العائلة التي على صورتها يقوم تنظيمه الاقتصادي و السياسي.

بالتحليل يظهر العنف في المجتمع الجزائري التقليدي وسيلة تنظيمية معبرة عن الترابط أكثر منه ظاهرة مرضية تعكس التنافر. و مثال ذلك الحالة التي يقال فيها للإبن الذي يعاقبه أبوه بالضرب : "ضربك أبوك حماية لمصالحك"، أو " ضربك ليجعل منك رجلا"، أو الحالة التي يقال فيها للمرأة " ضربك زوجك لأنه يحبك و يغار عليك و يريد أن تكوني أفضل النساء". على هذا الأساس لا يجد الإنسان في هذا المجتمع تناقضا بين العنف و الحب و الدفاع عن المصلحة، بل يجدها مرتبطة ارتباطا منطقيا. لذلك فإننا إذا تجردنا من نظرتنا إلى العنف على أنه ظاهرة مرضية، في كل مجتمع و في كل حين، و وضعناه في إطاره الخاص، و قمنا بتحليله في حد ذاته، فإن المعرفة النظرية و الأدوات المنهجية المتوافرة لدننا لا تزيدنا عند دراسته إلا فهما للواقع.

عرفنا أن المجتمع التقليدي يؤكد على الأقارب الذكور و على انصهار الفرد في الجماعة و الاخلاص لها، لأنه لا وجود له إلا داخلها. و كل ما هو خارج عن نطاقها يعتبر غريبا و محذورا، يجد كل فرد في الجماعة نفسه مستعدا لمقاومته و الشدة عليه و شهر العنف تجاهه. و ليست علة ذلك رفض الغريب بدافع عنصري او ثقافي أو غيرهما، بل علته الحفاظ على تماسك الجماعة و وحدتها، لإمكانها إنتاج وجودها.

إنه مجتمع خاضع في انتاج وجوده و اعادة انتاجه لرحمة الطبيعة و المناخ، و في غياب وسائل و أدوات متطورة، لا مفر له من وضع تنظيم صارم للانتاج و الاستهلاك. و لما كانت القوى البشرية تعوض النقص الذي تبوء به وسائل الانتاج، و كان الرجل في تصور المجتمع هو أقدر من المرأة على التأثير في الطبيعة و القيام بالدور الاقتصادي، فلا مفر أن يؤكد هذا المجتمع على الذكور. و لما كان العمل جماعيا على مستوى الملكية العائلية أو خارجها، و كان وجود المرأة بين الرجال مدعاة للفتنة و الاضعاف، فإن القيام بالانتاج، على أتم وجه، يتطلب اقصاءها من الوسط الاقتصادي، في نظر المجتمع. كذلك لما كان الرجل بهذا الوسط ألصق فهو به أعرف، و لأن ذلك ضروري لتنظيمه، فقد أعطى نفسه هذا الحق. كما أعطى نفسه حق التمثيل السياسي، نظرا لأخذه على عاتقة دور الدفاع عن الوسط الانتاجي ملكية زراعية و مراعي و موارد مياه. أضف إلى ذلك أنه على مستوى الثقافة هناك عناصر يمكن استغلالها لتكريس هذا الواقع، لأنها تخدم الجماعة تماسكا و وحدة.

إن اقصاء المرأة اجتماعيا و خضوعها للرجل كعنف، لا يمكن للمجتمع حسب الثقافة الأبوية أن يرى وجوده إلا به، نظرا للأسباب المذكورة، و التي جعلت المجتمع يعقلن العلاقة بينه و بين الطبيعة فيجعل التنظيم و توزيع الأدوار و ممارسة السلطة تتم بهذه الصورة. و لا شك أنه لو وجدت شروط مادية و ثقافية أخرى لكان الانسان أقر تنظيما على مستوى الأسرة و على مستوى المجتمع بصورة مختلفة تماما و كما تتم عقلنة دمج الفرد ضمن الأسرة بتنشئته على قواعد ضابطة لعلاقته بأقاربه، كما سبق الذكر، تتم عقلنة دمج الأسرة داخل المجتمع.

إن الأسرة الأكثر اندماجا هي الأكثر توفيرا للنسب. و حتى تكون قادرة على ذلك، ينبغي عليها تجسيم القيم الاجتماعية بقوة، و على رأسها قيمة الشرف. و لما كان الشرف لصيقا بالمرأة، فإن التشديد على عفتها علته الحفاظ على اندماج الأسرة في المجتمع. و ليس معنى ذلك أن ما يقع على المرأة من قسوة و عنف لا تتلقى عليه مقابلا. زواج المرأة مثلا ليس قضيتها وحدها، بل تخص أسرتها كلها، و لا يشفع لها أن تكون شريفة حتى تطلب للزواج، إذا كانت إحدى أخواتها سيئة السمعة. فالمجتمع يحكم من خلال هذه على العائلة كلها، فلا يرتبط بها بالنسب، إلا إذا تحيزت للمجتمع على حساب ابنتها، فسارعت إلى عقابها بما يرضي القواعد الاجتماعية.

لذلك، فإن الأب لا يقسو على ابنته أو يعنفها إلا امتثالا لقواعد ترى التساهل مع المرأة تواطؤا قد يفضي إلى انحرافها و اضرارها بوحدة الجماعة. و هو أمر ينطبق على الزوج في تعامله مع زوجته حين يزجرها أو يضربها تحيزا للعائلة و حفاظا على تماسكها أو حين يطلقها دفعا للشبهة عن العائلة أو حين يحرمها باسم الاعراف من حق الحضانة، حتى لا يتربى أطفاله بعيدا عن العائلة فيكونوا عرضة لتربية قد تجعل منهم أعداء لاقاربهم الأولين. أما حين تتجاوز المرأة سن الفتنة، فإن المجتمع يرفع عنها كل رقابة بل يخولها، هي، حق الرقابة هذه و يسلحها بالعنف الرمزي لحماية القواعد التي على أساسها ينتظم المجتمع. و لكل امرأة نصبيها من السلطة و العنف حين تصبح حماة.

المراجع

1- مراجع باللغة العربية

- فريدريك إنجلس، أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة، موسكو، دار التقدم (بدون تاريخ).

- ر. بدودون؛ ف.بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة د. سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986.

- نوال السعدواي، قراءة جديدة لاين خلدون، أعمال الملتقى الدولي الأول لابن خلدون، فرندة 1-4 ديسمبر 1983، المركز الوطني للدراسات التاريخية، الجزائر، 1984.

- هشام شرابي، البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطلبعة، بيروت، 1987.

- هشام شرابي، مقدمات لدارسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1974.

- عدي الهواري، الاستعمار الفرنسي، سياسة التفكيك الاقتصادي و الاجتماعي (1830-1960) ترجمة جوزف عبد الله، دار الحداثة، بيروت، 1983

- محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، بلا تاريخ.

- حليم بركات، النظام الاجتماعي و علاقته بمشكلة المرأة العربية، في المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 34، ديسمبر 1981.

2- مراجع باللغة الفرنسية

- Andrée Michel, sociologie de la famille et du mariage, Paris, PUF, 3ème édition, 1986.

- Bourdieu, sociologie de l’Algérie, Paris, PUF, 7ème édition, 1985.

- L. ADDI, les mutations de la société algérienne, famille et lien social dans l’Algérie contemporaine. Paris, Ed. La Découverte, 1999.

- R. DESCLOITRES; L. DEBZI? Système de parenté et structures familiales en Algérie, in A.A.N., Paris, Ed. Du C.N.R.S., 1963.

- M. GADANT, “Les jeunes femmes, la femme et la nationalité algérienne”, In Peuples méditerranéens, N° 15, Avril-Mai, 1981.

- M. KHELLIL, La Kabylie ou l’ancêtre sacrifié, Paris, Ed. L’Harmattan, 1984.

- M. PELLETIER, L’éducation féministe des filles, et autres textes. Paris, Ed. Syros, 1978.

- Emmanuel TODD, La troisième planète, structures familiales et systèmes idéologiques, Paris, Ed. Du Seuil, 1983.

- Camille LACOSTE-DUJARDIN, Des mères contre les femmes, Paris, Ed. La Découvert, 1985.



الهوامش

[1]– في هذه العبارة إشارة إلى كتاب فريدريك انجلس، أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة، موسكو، دار التقدم (بدون تاريخ).

[2]– لم أجد أفضل تعبيرا عن العلاقة بين العدل و الملك من هذا النص الذي تحتفظ به الذاكرة: …"العدل أسس الملك"

صه صه لا تحكي

الملك أساس العدل

أن تملك سكينا، تملك حقك في قتلي".

[3]- بودون، ر.؛ بوريكو، ف..- المعجم النقدي لعلم الاجتماع.- ترجمة د. سليم حداد، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1986.- ص 395.

[4]- أنظر:

Michel, Andrée.- Sociologie de la famille et du mariage.- Paris, P.U.F, 3éme édition, 1986.- p.7.

[5]- أنظر نفس المرجع.- ص.8.

[6]- السعدواي، نوال.- قراءة جديدة لابن خلدون.- أعمال الملتقى الدولي الأول لأبن خلدون، فرندة 1-4 ديسمبر 1983، الجزائر، المركز الوطني للدراسات التاريخية، 1984.- ص.54.

[7]- أنظر : بودون، ر.؛ بوريكور، ف..- مرجع سابق.- ص.396.

[8]- السعداوي، نوال.- مرجع سابق.- ص .55

[9]- شرابي، هشام.- البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر.- بيروت، دار الطليعة، 1987.-ص 28.

[10]- أنظر عدي، الهواري. : الاستعمار الفرنسي، سياسة التفكيك الاقتصادي و الاجتماعي (1830- 1960) ترجمة جوزف عبد الله، بيروت، دار الحداثة، 1983.- ص.ص. 55-66.

[11]- Bourdieu.- Sociologie de l’Algérie.- Paris, PUF, 7éme édition, 1985.- p.90.

[12]- أنظر بورديو.- نفس المرجع.- ص 91.

[13]- أقول فرضا، لأن هذه المسألة في حاجة لإثبات صحتها إلى دراسات سيكولوجية تناولت الشخصية القبلية بالتحليل.

[14]- أنظر : البنية البطركية.- مرجع سابق.- ص.40.

[15]- أنظر : الجابري، محمد عابد.- فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، الدار البيضاء.- دار النشر المغربية، بلا تاريخ.- ص.253.

[16]- ابن خلدون.- الجزء 2.- ص.424.

[17]- بورديو، بيير.- مرجع سابق.- ص.21

[18]- عدي، الهواري.- مرجع سابق.- ص.14.

[19]- نفس المرجع.- ص.15.

[20]- أنظر :

Bourdieu, P.- Sociologie de l’Algérie.- Op. Cité.- p.p. 13-14.

[21]- أنظر :

Addi, L..- Les mutations de la société algérienne, famille et lien social dans l’Algérie contemporaine.- Paris, Ed. La Découverte, 1999.- p.43.

[22]- أنظر :

Descloitres, R. ; Debzi, L..- Système de parenté et structures familiales en Algérie.- in Annuaire de l’Afrique du Nord.- Paris, Ed. Du C.N.R.S., 1963.- p. 33.

[23]- انظر :

Addi, L..-Op.Cité.- p.44.

[24]- أنظر :

Gadant, M..- Les jeunes femmes, la famille et la nationalité algérienne.- In Peuples méditerranéens, N° 15, Avril-Mai, 1981.-p.43.

[25]- Khellil, M..- La Kabylie ou l’ancêtre sacrifié.- Paris, Ed. L’Harmattan, 1984.- p.14.

[26]- Khellil, M..- Ibid.- P.37.

[27]- من قصيدة لحافظ ابراهيم يقول فيها :

أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا بين الرجال يجلن في الأسواق

كلا و لا أدعوكم أن تسرفوا في الحجب و التضييق و الإرهاق

[28]- تقول مادلين بيليتيه في إطار مدافعتها القوية عن المرأة ما يلي :

" الأسرة هي المكان الذي تنشأ فيه و تنمو السيطرة المادية و الايديولوجية، سيطرة الأعراف و الأحكام المسبقة التي لدى الرجال على النساء.

" تعيش النساء انغلاقهن في مجال محدود ماديا وضعيتهن الدونية، حيث أن اضطهادهن لا شك فيه : متروكات للاعتناء بالبيت و إنجاب الأطفال، فإنهن على غير اتصال بالعالم الخارجي، و على غير علم بالمستقبل و لا صلة لها بالعالم إلاّ بواسطة الرجل. الأسرة و الزواج هما السمة الرسمية للحياة السعيدة: الدور المنوط بالرجل هو النشاط : إنه ينتج، يحارب، يبدع، العالم كله ملكه، أما عالم المرأة فلا يتجاوز جدران بيتها". أنظر :

Pelletier, M..- L’éducation féministe des filles, et autres textes.- Paris, Ed. Syros, 1978.- p.16.

[29]- بركات، حليم.- النظام الاجتماعي و علاقته بمشكلة المرأة العربية، في المستقبل العربي.- مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 34، ديسمبر 1981.- ص.ص. 56-57.

[30]- نفس المرجع.- ص.55.

[31]- Todd, Emmanuel.- La troisième planète, structures familiales et systèmes idéologiques.- Paris, Ed. Du Seuil, 1983.- p.161.

[32]- Addi, L..- Op. cité.- p.69.

[33]- Ibid.- p.70.

[34]- أنظر شرابي، هشام.- مقدمات لدراسة المجتمع العربي.- بيروت، الدار المتحدة للنشر، الطبعة الثانية، 1975.- ص.36.

[35]- تقول فاطمة مرنيسي بهذا الخصوص "تستولي (المرأة) على إبنها الذكر الذي يسمح لها به المجتمع حتى سن الختان، حيث يضمه إليه العالم الأبوي، (ثم) يفصل عنها ليسجل القطيعة مع الحريم و يروض على أن يسيطر على كل ما هو أنثوي داخل ذاته و خارجه".- (Mernissi, pp.27-30).

[36]- معيار جمال الشعر في الثقافة التقليدية هو طوله و نعومته و نقاؤه. فهو لا يقص إذن إلا لعاهة تمسه مباشرة أو تمس جلد الرأس أو للتشهير بالمرأة العاهرة.

[37]- يقول حليم بركات : "لا توال المرأة محرومة في الواقع من حق توارث الأرض و تملكها، و تزال عرضة لجرائم الشرف و الزواج دون موافقتها، و العقاب حين لا تتقيد بالتقاليد المتبعة. و هي لا تزال مضطرة للتظاهر بعدم امتلاك السلطة حتى حين تملكها".- بركات، حليم .- مرجع سابق.- ص.ص. 56-57.

[38]- أنظر عدي، هواري.- مرجع سابق.- ص.69.

[39]- أنظر : عدي، الهواري.- مرجع سابق.- ص.ص.68-69.

[40]- Lacoste Dujardin, Camille.- Des mères contre les femmes.- Paris, Ed. La Découvert, 1985.- p.184.

[41]- أنظر : بركات، حليم.- مرجع سابق.- ص.54.

الأدباء الشباب و العنف في الوقت الراهن

عالجت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، منذ بداياتها الأولى إلى الآن، موضوعات عديدة، ارتبطت بمختلف السياقات السياسية و التاريخية التي عرفتها الجزائر المستقلة.

و نستطيع أن نقول، و بصفة مجملة أن الموضوعات الأساسية التي تطرق إليها و تفاعل معها هذا الإنتاج الروائي هي المصائر الفردية و الجماعية و تحولاتها ضمن مسار الثورة التحريرية و الثورة الإجتماعية التي أعقبت الإستقلال.

و الملاحظ أن هذا الخطاب الروائي الذي تضمنته هذه النصوص، قد تماهى إلى حد بعيد مع الخطاب الأيديولوجي الذي ساد خلال السبعينات و يرجع ذلك إلى الطبيعة الشعبوية للسلطة الحاكمة آنذاك، إلى احتضان نفس هذه السلطة لهذا النوع من الكتابة بواسطة مؤسساتها الثقافية و الأيديولوجية (وزارة الثقافة و مجالاتها الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، اتحاد الكتاب الجزائريين، الجرائد الوطنية…)

كان الارتباط بالواقع المرجعي هو دائما المحور الأساسي لهذه الكتابات، التي كانت تنطلق منه و تعود إليه، باعتباره أساسيا في كل النماذج المكتوبة، لكن ضمن تصور إيديولوجي يشيد بالثورتين لارتباطهما معا، كما كان يعتقد آنذاك.

و قد اختلفت أساليب الكتابة الروائية و رؤاها من رومانسية إلى واقعية ذاتية أو تاريخية و اجتماعية، و واقعية أسطورية أحيانا، حيث أمتزج الذاتي بالإجتماعي، و طغت على أجوائها مسحة من التفاؤل بحتمية البناء التاريخي و الاجتماعي لوطن يبحث عن ذاته و يتفاءل بمستقبل جديد و زاهر. لكن هذا لا يعني خلو هذه النصوص من الصراعات الاجتماعية و السياسية، بل بالعكس، لقد عرف الإنتاج الروائي الجزائري نصوصا يمكن تصنيفها ضمن "الأدب السياسي الملتزم" لكل من الطاهر و طار و عبد الحميد بن هدوقة و لعرج واسيني و رشيد بوجدرة و غيرهم…

و قد وظف هؤلاء الروائيون و غيرهم أبطالا لعبوا أدوارا "إيجابية"، تعبر عن تعلق المجتمع بأمل نجاح الثورة الإجتماعية التي شملت مختلف الميادين (الزراعية منها و الصناعية و الثقافية)، و بالتالي بناء "مجتمع مثالي"، لكن مع حلول الثمانينات و التسعينات، بلغت الصراعات السياسية أقصاها مع ظهور قوى سياسية جديدة تدعو إلى قيام نظام سياسي جديد. فاختلت موازين القوى السياسية لصالح التراجع عن الخط السياسي التي اعتمد في مرحلة السبعينات و هكذا بدأت الرواية الجزائرية، من جراء هذه الظروف الجديدة، تعرف ما يمكن تسميته بـ "مرحلة الشك" إذ عبرت نصوصها و بطرق مختلفة عن هذا الوضع المتأزم الذي بلغ ذروته مع بداية التسعينات التي اتسمت باستعمال العنف الرمزي و المادي، أي الإغتيال السياسي الفردي و الجماعي. إنها مرحلة تداخل المفاهيم و زعزعة اليقينات و غياب الأمن و الإستقرار السياسي و الإجتماعي.

العنف و النص الروائي :

عرف المجتمع الجزائري على مر الأزمنة التاريخية المتعاقبة، عنفا متعدد الجوانب. و إذا كان العنف، من طبيعة تواجد المجتمعات البشرية المختلفة و ملازما لها، فإنه يقوم على زعزعة الإستقرار الذي قد يميز العلاقات الإجتماعية أو يعيد صياغتها من جديد.

و لعل الخصوصية التي يتميز بها العنف الذي يطبع المجتمع الجزائري المعاصر، تجعل التساؤل شرعيا من الناحية المعرفية و التاريخية.

يجب التذكير، في هذا الإتجاه، أن الجزائر مرت بمرحلة طويلة من الإستعمار (1830-1954)، استعمل فيها هذا الأخير، كل أساليب القمع و القتل الوحشي و التحقير الثقافي ضد السكان الأصليين لهذا البلـد. ثـم مرحـلة الحرب التحـريرية (1954-1962)، حيث ذهب ضحيتها الآلاف من الجزائريين، لكن مقاومة هؤلاء للإدارة الفرنسية و استعمالهم للعنف المادي و الرمزي ضدها، كان شرعيا و إيجابيا، باعتباره الوسيلة الوحيدة للقضاء على الظلم و الممارسات التعسفية التي تميزت بها هذه الإدارة.

و مع حصول الجزائر على الإستقلال و شروعها في تأسيس الأجهزة السياسية للدولة الوطنية، اتخذ العنف الرمزي و المادي بين أفراد المجتمع الجزائري أساليب أخرى. و لكن هذا لا يعني، خلال المرحلتين السابقتين، إن السكان الأصليين لهذا البلد، لم يمارسوا عنفا ضد بعضهم.

لقد كان هذا النوع من العنف الداخلي الموجه من طرف جزائريين ضد جزائريين آخرين موجودا، منذ بداية انطلاق العمل المسلح (الإقتتال بين المصاليين و الجبهويين، مجزرة ملوزة، اغتيال عبان رمضان و غيرهم كالطلبة الذين التحقوا بالثورة…)؛ لكن هذه الممارسات، و إن كانت هامشية، فإنها ظلت في عداد المسكوت عنه.

لقد سجلت الرواية الجزائرية هذه الأحداث و عبرت عنها و بخاصة رواية "اللاّز" للطاهر وطار، التي أشارت إلى الخلافات الداخلية التي عرفتها الثورة، و كيف تم التصفية الجسدية لممثلي اليسار الجزائري الذين التحقوا بالعمل المسلح.

إن بروز الصراعات السياسية و الأيديولوجية بين مختلف التيارات التي شاركت في الثورة المسلحة منذ صيف 1962، جعل "الإجماع الوطني" يتصدع و يفقد معناه. و تلاحقت الأحداث منذ انقلاب 19 جوان 1965 و ما لحقه من قمع و تعذيب و اغتيالا ت للمعارضين …؛ إلى أن أحكم النظام على فئات مختلفة من الشعب الجزائري بقبضة من حديد، حيث سيطر الحزب الواحد على كافة النشاطات السياسية.

لم يكن، في البداية، العنف السياسي يمس آنذاك سوى فئات المجتمع السياسي، باعتبارها تعيد النظر في التوجه الشعبوي للنظام أو تحاول أن تتمرد على "الإجماع الوطني" أو المطالبة بالتعددية الحزبية و الديمقراطية.

و ظل الأمر على حاله، إلى بداية الثمانينات، فقد عرف الشارع الجزائري عدة انتفاضات شعبية (الربيع البربري 1980، و أحداث وهران 1982 و غيرها… و ما كانت أحداث أكتوبر 1988 التي شملت كل التراب الوطني، إلا لتعلن عن نهاية "الإجماع الوطني" و تحدث شرخا عميقا داخل النسيج الإجتماعي. و كان للحركة الإسلامية دورا كبيرا في تعميق هذا الشرخ، من خلال الطروحات الأيديولوجية التي طرحتها بقوة في الساحة السياسية منذ نهاية الثمانينات و بداية التسعينات. و هكذا شمل العنف السياسي و الأيديولوجي كل فئات المجتمع المختلفة.

و يتضح مما سبق أن المجتمع الجزائري، قد تعرض لكل أشكال العنف الداخلي منذ انطلاق العمل المسلح ضد المحتل الفرنسي، إلى الآن. و لكن المستوى الذي بلغه هذا العنف الداخلي الذي يميز هذه المرحلة التاريخية الحالية، يمثل ظاهرة خطيرة بل إشكالية اجتماعية من الصعب التكهن بنتائجه الآنية و المستقبلية. مما دفع بمختلف الباحثين في حقول العلوم الإجتماعية و الإنسانية إلى الإهتمام بها و محاولة الإجابة عن ماهيتها و خلفياتها و أسبابها و نتائجها.

إن العنف يقتضي "فكرة الإنزياج أو مخالفة المعايير أو القواعد التي تعين الوضعيات المقدرة بأنها طبيعية، عادية أو شرعية. توجد في فكرة العنف، فكرة الاختلال أو الاضطراب، أكثر أو أقل ظرفية أو مستديمة لنظام الأشياء"[1].

و على هذا الأساس، تحمل فكرة العنف في طياتها قيما قد تكون إيجابية أو سلبية إنطلاقا من الموقع الذي يحتله الأفراد أو المجموعات الذين يمارسونه ضد الآخرين.

و نظرا لكون كلمة "عنف" متعددة الدلالات و تخضع في معالجتها للعديد من النظريات العلمية و تقاربها مختلف علوم الإنسانية (من علم إجتماع، و علم النفس و أنتروبولوجيا، و علم السياسة)، فإن الإهتمام بها كظاهرة إجتماعية حديث جدا، إذا استثنينا بعض الأعمال الفكرية التي خصصت لهذا الموضوع (فريديريك أنجلز، سيقموند فرويد، و جوروج صوريل، و رنيي جيرار وجون بول سارتر و التربن يامين و أنا أريند…).

و في هذا الصدد، تشير فرانسواز إيرتي إلى أن الكلمة نفسها غير موجودة كمدخل في الموسوعة العالمية، و ذلك في طبعتها لسنة 1966. لكن بروز هذه الظاهرة في هذا العصرو اتخاذها أوجها متبانية و متنوعة، جعل الحديث عنها يأخذ حصة الأسد من البرامج الإعلامية، و يشغل وسائل الإتصال الجماهيرية بشكل واسع.

و في هذا الصدد، نجد أن الأدب الروائي قد عالج موضوعات العنف و الحرب في مختلف المراحل التاريخية التي عرفتها البشرية، و نجد الرواية البوليسية التي تعرضت لموضوع الجريمة و القتل، و قد ظهر هذا النوع من الأدب "مع تطور المراكز الحضرية الكبرى: التي هي عبارة عن متاهات ملائمة لقيام الجريمة"[2] و إلى جانب الرواية التاريخية أي التي تعتني بالحرب و القتال بين الدول المتنافسة و المتصارعة حول المصالح الحيوية، و الرواية البوليسية نجد، أدب الرعب الذي يتمثل في التعامل مع الأساطير المخيفة و الأموات و الأشباح[3].

إن هذا الصنف من الأدب، لما يتضمنه من عنف و رعب، لم يعرفه الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية إن قليلا، فما عدا بعض الروايات التي تشير إلى الثورة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي، فإن العنف التي تشتمل عليه هو موجه ضد الآخر، أي المحتل الفرنسي و رموزه.

انبثاق حقل روائي جديد :

شهدت المرحلة الحالية، أي نهاية التسعينات، مجموعة من النصوص الروائية المكتوبة باللغة العربية، و التي تتحدث عن المصائر الفردية و الجماعية في ظل الأوضاع المفجعة التي تعيشها الجزائر منذ بداية تدفق العنف المسلح ضد الفئات الإجتماعية المختلفة و ضد رموز الدولة الجزائرية.

و تمتاز هذه الكتابات بأنها تحمل بصمات جيِل من الأدباء، يكتب لأول مرة الأدب الروائي أولا.

ثانيا : نشرت هذه الأعمال كلها ضمن دور نشر خاصة، أي لم تحتضنها مؤسسات الدولة بصفة مباشرة، مما يمنحها استقلالية كبيرة في النشر و التوزيع.

ثالثا : تحمل هذه النصوص في مضمونها، أطروحات جديدة، تعيد النظر في العديد من القضايا الفكرية و الأيديولوجية التي سادت و تكرست في الساحة الثقافية.

رابعا : تجرب هذه النصوص كتابة جديدة، يمكن تسميتها "بعنف النص" لأنها تعيد النظر في الكتابة التقليدية المعروفة بتلاحق أزمتها و أحداثها. فهذه النصوص الجديدة متشظية، تشظي الذاكرة و الذات.

خامسا : تعني هذه الكتابات بفئة معينة من المجتمع، و هي فئة المثقفين التي شكلت كبش فداء للصراع الدائر حاليا بين الدولة الجزائرية و الجماعات الإسلامية المسلحة.

و تنطبق هذه الملاحظات الأولية على كل من روايتي "الإنزلاق" لحميد عبد القادر، "و المراسيم و الجنائز" لبشير مفتي المعنيتين بالدراسة.

الكتابة و الموت :

تطرح هاتان الرويتان، إشكالية الكتابة في زمن الموت المجاني، تريد لنفسها أن تكون كتابة إستعجالية* شهادة ضد الكارثة. إن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الكاتب لتجاوز محنته و تلطيف الأجواء التراجيدية التي تعيشها فئات المجتمع المختلفة. تعلن هذه الكتابة ثورتها و تمردها على المكرس و السائد لتكسر الطابو. إنها كتابة تفجر الذاكرة و النص في بحث عنيف عن المعنى، المعنى الجديد المخلص من التراجيديا.

عندما يواجه الكاتب أو المثقف بصفة عامة، الإغتيال المجاني، و يدفع ثمن أخطاء السياسيين الذين لم يعرفوا تسيير الأزمة، لا يملك من وسيلة سوى مواجهته هذا الوضع بالقلم و الكتابة.

في ظل هذه الأجواء الخانقة و المرعبة، تتحول الكتابة إلى نوع من الصراخ الموجه ضد الصمت القاتل، إلى تنديد بالجريمة و مقتر فيها، ترمي الكتابة إلى تعرية هؤلاء المتسببين في المجزرة الوحشية التي يتعرض لها أولئك الذين لا يملكون من سلاح سوى الكلمة.

الملاحظ أن روايتي "الانزلاق" و "المراسيم و الجنائز" تعالجان موضوع انبثاق الكتابة في ظل أجواء الاغتيال و القتل. إن شخصيات هاتين الروايتين مهددة بالقتل لا مفر لها من هذا القدر سوى ممارسة الكتابة.

و تتضمن هاتان الروايتان موضوع الكتابة، كممارسة اجتماعية و سياسية، خاصة بفئة اجتماعية احترفت القلم و سخرته لفضح الواقع المرير، و تطرح وظيفة الأدب و علاقته بالملتقى. تظهر هذه الكتابة و تبين عن عجزها و ضحالتها أمام عنف و هول الحرب الموجهة ضد ممارسيها، إنها قتل رمزي لأؤلئك الذين يمارسون العنف المسلح.

إنها كتابة جنائزية، تعلن عن حدادها و عن سوداويتها القاتلة، لتحدث شرخا في النظام الرمزي المؤسس على الزيف و الخديعة.

"الانزلاق"[4] و عنف الذاكرة :

تنقل رواية "الانزلاق" القارئ إلى أجواء الرعب الذي تعيشه فئة الصحافيين الذين اعتبروا في بداية انفجار الأزمة السياسية و بداية الإرهاب المسلح، عائقا يحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة. و نظرا لكون هذه الفئة لا تملك الحماية الكافية و تشكل أهدافا سهلة لدى الجماعات الإسلامية المسلحة، فإن المس بها و تصفيتها جسديا أصبح أمرا هاما على المستوى الإعلامي و الدعائي لهذه الجماعات.

تحاول الرواية إعادة كتابة التاريخ في رحلة شاقة و ثاقبة للذاكرة، تنتقم للتاريخ من الزيف الذي بني عليه، أي تصفية الحساب مع أولئك الذين تسيبوا في الوضع الحالي متسترين وراء الشعارات الثورية أو الدينية.

إن الانزلاق و هو عنوان الرواية – يعني الخروج عن المعيار، عن ما هو يقيني و جلي، و هو في حد ذاته عنف، إنه تاريخ تكون العنف و تراكمه عبر المراحل السياسية، و ما يعيشه المجتمع من تفجر و إنحلال ارتبط بتكوين الدولة الوطنية بأجهزتها الأيديولوجية و القمعية. إنه الانزلاق الذي لا مس و تماهى مع تاريخ الجزائر، تاريخ العنف الشامل المؤسس على شرعية ثورية قابلة للنقاش.

وهي عبارة عن حكاية لصحافي – شاعر- عبد الله الهامل- تنقل القارئ إلى فضاءات مختلفة، فضاءات السلطة و فضاءات الممارسة الدينية ( المسجد و هامشه). و فضاءات الصحافة و كذا الفندق الذي لجأ إليه الصحافيون المهددون بالقتل. فضل هذه الرواية، أنها لا تتوقف عند عنف المرحلة الحالية، بل تشير إلى عنف الدولة، عنف السلطة، أي عنف يستشري في خبايا النظام الذي حكم البلاد و العباد و فرض هيمنته دون إجماع و رضا الجميع.

فعبد الله الهامل الذي يعيش محنته الشخصية أو الفردية يسافر بنا عبر ذاكرته و ذكريات جده إلى متاهة التراجيديا الجماعية التي تقاسيها بلدة بني مزغنة، تلك البلدة التي تعاقبت عليها مجموعة من القيادات العسكرية التي مارست كل أنواع القهر و البطش ضد المدنيين و السياسيين، سواء بالإبعاد أو الإغتيال و التصفية الجسدية.

التيه في زمن الوحشية و الموت

يحاول النص الروائي عبر لعبة السرد المتقنة إشراك القارئ باستعمال ضمير المتكلم، إذ تفتتح على جو قاتم يحيلنا نوعا ما على أدب الرعب لما يتضمنه من كوابيس و هواجس مخيفة و أحلام مزعجة. "إنه الحضور الكلي و المهووس للموت"[5]، إن لفظة الموت تتكرر باستمرار – حوالي ثمانية و ستين مرة –عبر كامل فصول الرواية : يضرب الموت حيثما يشاء، في أي وقت و في أي مكان، إنه كالكابوس يجثم على صدر هذه الأمة الجريحة. و في ظل هذه الأجواء، يعيش عبد الله الهامل وحيدا، معزولا، لا يملك سوى أن يتعمق في ثنايا طفولته و في دهاليز التاريخ السادي للبلاد، يواجه مصيره المحتوم، كبطل تراجيدي، يبحث عن شعاع ضوء في ظلام دامس و يحلم بأن رأسه قد انتزع من جسده بضربة خنجر صدئ"[6].

إن الحالة النفسية لهذا الصحفي الذي يشتغل في صحيفة "الرأي الجديد" و البالغ من العمر ثلاثين سنة، محطمة و متدهورة إلى حد جعلته يشعر بالغثيان و الدوران، و التقيوء "سائلا أزرق مختلطا بالدم"[7]. غادر منزله ليستقر بغرفة "بنزل حقير رواده من بائعات اللذة التعيسات رغم كل شيء"[8] أستقر بصفة مؤقتة بهذه الغرفة التعيسة التي تعبق برائحة الرطوبة و الإنغلاق، تاركا وراءه حي سان كلو الهادئ بالضحية الغربية للعاصمة. إنه حي الطفولة الجميلة و به تعلم مع جده "عشق البحر و الشعر و الحياة"[9] قبل مجيء كريمو بولحية و جماعته و كتائب الموت التابعة لتنظيم الأئمة الجدد الذي هددوه بالقتل و نشروا الرعب في أرجاء البلدة.

إن ظهور الجد، ممثل لنشأة الحركة الثورية الذي تربى في أحضان العمل النقابي بفرنسا و في صفوف الحركة الوطنية، كنموذج للطرح السياسي البديل، شهادة حية على مختلف مراحل التاريخية التي عرفتها البلدة منذ بداية القرن العشرين.

إن الروائي يؤرخ من خلال مذكرات الجد المتضمنة داخل النص- لمسار الحركة الوطنية بمختلف مراحلها و لانحرافاتها و صراعاتها الداخلية، و كذا التصفية الجسدية و السياسية التي تعرض لها "المتمردون" عن الخط السياسي الذي وضعه الزعماء.

إن علاقة الجد بحميدة الشاعر مبنية على التماثل بين عزلتين و تعاستين، فالأول ضحية رفاق السلاح الذي أختلف معهم حول الخط السياسي، فهمشوه و حاصروه إلى أن مات غما، لكنه زرع روح التمرد و حب الحياة في وعي حفيدة. هذا الذي يعيش مأساته بسبب تبنيه لمقولة الفارابي : "ليس الروح هو وحده الذي يؤدي إلى الله، بل الفعل كذلك"، و أضاف "إن إجلال مقدس ديني محل مقدس ثوري يؤدي إلى الهلاك المحتوم"[10] و هكذا تتبلور شخصية الشاعر النفسية و الاجتماعية و الإيديولوجية، شخصية متمردة لكنها عاجزة، إنها لا تصنع الحدث، بل ترضخ له، تشهد على تحولات الواقع و ترحل في الذاكرة. هذا هو منطق التاريخ الذي يسلب سعادة الأفراد و يسلط عليهم عنفا، الذي يسجل "لا معنى الحياة"[11].

يحاول الشاعر من خلال "حواره" مع جده إيجاد معنى لما يحدث له، لا شك أن حركة الأئمة الجدد ليس إلا امتداد لممارسات سياسية دشنت في عهد حكم الكولونيل الذي استحوذ على السلطة بالقوة و الذي "أراد أن يكون مثل نابليون بونابرت" فقلب كل شيء، حوّل الزعماء الحقيقيون إلى خونة، و أوجد زعماء جدد". لم يقم الكولونيل و حاشيته سوى بتزييف التاريخ و استعمال السلطة لقهر الناس، و أحتقر السياسيين، كما وظف رجال أمن غلاط "كانوا فيما مضى يشكلون أفراد عصابات التهريب و السرقة المنتشرة في الأحياء الشعبية". ففي ظل هذه الأجواء، تشكل وعي الشاعر، لما كان طفلا، إن العنف موجود في كل مكان، الإحتفال بالثورة عنف، المدرسة تلقن دروس مليئة بحكايات العنف، فالحرب و الدم و القتل و الأجساد المحروقة و الوجوه المشوهة هي ما يتعلمه الأطفال بالمدرسة.

أين المفر ؟ فالتوجه إلى المكتبات و إلى المركز الثقافي الفرنسي للبحث عن السعادة بين الكتب و القراءة في كنوز الأدب العالمي، لم يعد يجدي. كل شيء دمر و أغلق المركز الثقافي أبوابه و انتقل الصراع السياسي إلى قاعة التحرير، و أصبح الصحافيون أعداءا لبعضهم البعض، بسبب الانتماءات الأيديولوجية المتنافرة. لم تبق سوى المقاومة بالكتابة، و حمل مشعل الرسالة الثقافية التي عاد من أجلها من مدينة باريس، بعد أن قضى هناك تسعة أشهر.

الكتابة أو الموت، ذلك هو مصير المثقف الذي يعيش بين تهميش السلطة و تهديد الأئمة الجدد. إن الموت أصبح أكثر شراسة فهو كعجوز ضارية، متّسحة برداء أسود، و مرتدية جلبابا مرقعا و غطت وجهها بنقاب طويل، مثقوب عند العينين"[12] تنتصب كالمسكينة على حصيرة من الديس كل يوم جمعية لتحرض المصلين على قتل الشعراء أولا، و كل المعارضين ثانيا.

  1. 2. العنف و عودة المكبوت

إن العنف الذي يسجله النص الروائي "الإنزلاق" انبثق من رحم المجتمع ذات خريف، لم يكن عفويا، بل جاء نتيجة لتراكم الأحقاد و الخيبات و الإحباطات التي "تراكمت في نفوس الناس منذ أن رمي بالرومي ما وراء البحر. خرج المهمشون، و ذو و الأحلام الضائعة، و كل الذين نسيتهم الثورة (بعد أن و عدتهم كثيرا) و ألحقت بهم الأذى، و قد انحرفت عن مسارها"[13].

فكان خريف الغضب (أحداث أكتوبر 1988) عاصفة هوجاء انفجرت كالبركـان و دمرت و أحرقت كل الرموز التي تدل على السلطة من مباني و سيارات…، و تبع ذلك قمع وحشي (حملة الإعتقالات، و استيقظ الناس على وقع أحذية خشنة، ترفس كل شيء في طريقها، في اليوم السادس من هذا التمرد على السلطة. فممارسة التعذيب كان شبيهة بممارسة الرومي و كأن الزمن الكولونيالي قد عاد[14].

و استغل النظام هذا الشرخ الإجتماعي، لإصلاح السلطة بلفظ المحافظين من صفوفهم، و إعطاء المبادرة للأوجه الليبرالية، لكن المفاجأة أتت من مساجد الأحيان الشعبية الفقيرة. كانت السلطة تبغي من وراء ذلك ربح الوقت و إحلال السلم المدني، لكن ما لم يكن في حسابها هو التحالف الجديد الذي تشكل من الأئمة الجدد، الذين عادوا من أفغانستان و من المحافظين الذين لفظتهم السلطة، و من الأطفال الذين عذبوا في سجون النظام خلال خريف الغضب.

هذا التحالف الثلاثي سيقلب موازين القوى السياسية لصالحه، مما يدفع بالحاكم إلى محاولة الإعتماد عليه للبقاء في الحكم.

إن البحث عن متعة الحكم و المتعة ببساطة هو سبب إنهيار بلدة مزغنة، و دخولها في فوضى عارمة، كان ذلك منذ أن دخلها سي أحمد السرجان، النموذج لأولئك الذين انتسبوا للثورة و عاتوا فسادا في البلاد و العباد بعد حصول الجزائر على الإستقلال. و هم كثيرون و تكونوا في جمعيات أو طائفة الثوريين الذين استحوذوا على خيرات البلاد و ريوعها الوفيرة.

إن التوزيع اللامتكافئ للثروات الوطنية و الإستعمال الأقصى للقوة العمومية لقمع كل تمرد شعبي أو معارضة سياسية أو فكرية هو التربة التي ستبث العنف الدموي الذي يواجهه كل أفراد المجتمع و منهم الشعراء، بعد أن انقلبت السلطة على التحالف الجديد من خلال انتخابات اختلط فيها الحابل بالنايل وأجهضت في نهاية الأمر.

و لم يبق أمام الأئمة الجدد سوى الإنتقام من رموز النظام و من المجتمع فتدرجوا من الإغتيالات السياسية و المجازر الجماعية، و نكلوا بالنساء و الشيوخ و الأطفال.

ضمن هذه الأحداث المؤلمة، حيث العنف مستشري بصفة همجية، يحاول الشاعر و من خلال ذاتيته فهم و إدراك هذه التحولات المؤلمة، يحاول أن يهرب من الحب المزيف و الظرفي، بحثا عن حب حقيقي و عن حنان ترتوي به نفسه الظمآنة، فيلقي الموت كقدر محتوم، مثله مثل الأبطال الهوميريين.

إن القتل أصبح هو اللغة الجديدة، في عصر الهمجية و البربرية، يمارسه قتلة من نوع جديد، "أياديهم ملطخة بالدم" و بين أسنانهم بقايا لحم بشري"[15] يرددون آيات قرآنية غريبة، مقلوبة. إن الراوي يورد لهم صفات البدائية و الوحشية ليعمق جو الرعب الذي تعيشه بلدة بني مزغنة. و يربط ذلك ببعض الرموز التاريخية (الحجاج بن يوسف، الخوارج و هو معسكرون خارج أبواب البصرة، و الأزارقة، و كأن القرن السابع يعيد نفسه في ثوب و مكان جديدين، هما بلدة بني مزغنة.

المراسيم و الجنائز : العشق في زمن الهمجية

هي الأجواء نفسها : إرهاب و رعب و خوف و قتل همجي، تعيشها مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى الفضاء الثقافي (الجامعة و الصحافة)، و تحترف الكتابة و هي شهادة هذه الفئة المثقفة التي تحمل هم المرحلة الصعبة التي تعيشها الجزائر، تطالعنا بها رواية بشير المفتى.

إن هذا النص على عكس، النص الأول لا يحاول تصفية الحساب مع التاريخ، مع أسباب الانحراف السياسي التي تولد عنها العنف، و إنما هي عبارة عن رحلة عبر مخيال مجموعة من الأفراد و يبحثون عن ذواتهم و عن ذاتياتهم الضائعة بين الواقع و الممكن بين الخيبة و الأمل، بين الإرادة و الإحباط.

و لعل تداخل العلاقات بين أفراد هذه المجموعة التي تشكل عالم مصغر لجيل أصبح ضحية لتلاعبات سياسية تجاوزته معيقة كل رغبة في الحب و السعادة و الحلم.

إن النص الروائي يضع أمام القارئ مصائر كل من الصحفي و الأستاذ الجامعي (ب) و أصدقائه (فيروز و وردة قاسي و حميد عبد القادر و حميدي ناصري)، هؤلاء الذين يعيشون في خضم أحداث العنف، يبحثون عن الصفاء و الطمأنينة، و لكن أجواء الإضراب الذي شنه اتباع سعيد الهاشمي و احتلالهم للساحات الكبرى للمدينة، توحي لأن الأمور ستسير إلى ما لا تحمد عقباه. "كان حي بيلكور مملوءا بالحركة و التمرد"[16] و لا شيء يدل على الطمأنينة فالخوف، و القلق و البؤس، بالإضافة إلى الاغتيالات التي تمس المقربين، مثلما فعلوا" بعمر حلزون "الذين قطعوا رأسه. هؤلاء، احتلوا النفوس قبل الكراسي، نالوا في البداية تعاطف جميع الناس لأنهم حملوا شعار الحرية و الإنقاذ لكنهم انقلبوا على المجتمع و عاتوا فسادا في الأرض.

الرواية هي عبارة عن حكاية لعذاب هذا السفر، هذه الرحلة المؤلمة، يحكيها الراوي لفيروز، تلك الفتاة التي أحبها حبا كبيرا، لكنه متردد و لم يحسم موقفه منها.

و السبب يعود إلى أنه، أي الراوي (الصحافي ب)، كان متناقضا في علاقته بالنساء، يحب فيروز و يعشق وردة قاسي و يمارس حياته الجنسية مع أخريات... و هذا سبب ابتعاد فيروز عنه. و الرواية كلها عبارة عن بحث على هذه الفتاة الجميلة و المتمردة، و كأنها خلاصه من هذه الأزمة النفسية، الاجتماعية التي يعيشها في ظل أجواء الاضطرابات السياسية و الاغتيالات و المجازر الجماعية. و تبرز الرغبة في الكتابة، كحل وسط بين الهرب أو الموت، فالكتابة هي "السلاح الوحيد في هذه المعركة لتعرية الواجهة. نزع الأقنعة، فضح المسكوت عنه… لهذا بدأت أكتب روايتي الثانية… إنها تصف كل ما رأيت و شاهدت… كل ما عانيته… كل ما أقسمت بأن لا أقوله"[17].

لكن إلى أين المفر ؟ فما عسى أن تفعل هذه الشخصيات العاجزة عن تحقيق ذاتيتها. فالصحافي (ب) الذي حاول أن يستنبطن الهامش من المجتمع، ألتقي برحمة، الكاتبة المنسية، التي تفسر له أسباب إنقطاعها عن الكتابة بسبب الجو اللاثقافي للبلاد و قمع الحريات، كما يلتقي بجعفر المنسي، الذي يعلمه التاريخ و النضال من أجل الديمقراطية، فيؤسسان مع آخرين لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان. لكن الصحافي (ب) غارق في ذاتيته و متردد في حبه بين فيروز و وردة قاسي، و علاقته بصديقه حميدي ناصر و أحمد عبد القادر لم تكن إلا عبارة عن مأساة جماعية لجيل ضائع و عاجز. و لم يكتب لهذه العلاقات إلا النهاية التي رسمت لها، و هي نهاية مفجعة.

فيروز سافرت إلى مدينة الأنوار، هربا من هذه الأجواء الخانقة، ووردة قاسي انتحرت و قد كان فعلها هذا شجاعة كبيرة في نظر أصدقائها. أما حميدي ناصر فقد أصيب بانهيار عصبي أدى به إلى التوجه لمستشفى الأمراض العصبية، بعد أن أتم روايته "و قصة الثعالب و ممتلكات الذئاب"، أما أحمد عبد القادر فقد تحول إلى درويش، لم يعد يبرح المسجد، بعد أن أحرق أشعاره و هاجر عائلته و أبناءه.

و أمام تحلل هذا المجتمع الصغير، الذي لم يصمد أمام هول الكارثة، و أصيب في أعماقه من جراء هذا العنف الكبير، لم يبق أمام الصحافي (ب) سوى الفرار من الوطن و الإستسلام لإغراءات الذي يعرضها عليه أحد رجال الأعمال الخليجيين و هي تولي منصب رئيس تحرير لمجلة سياحية، أو انتظار فيروز الذي ستعود من باريس.

خلاصة

إن أحداث العنف التي تشهده الجزائر التي رافقت عمليات إصلاح النظام السياسي دون تغييره جذريا، أفرزت العديد من الأشكال التعبيرية، بعضها أنتج و نشر و وزع خارج الوطن، كما أفرزت مجموعة من النصوص الروائية التي تطرقت لهذه التحولات الاجتماعية و السياسية. و هذه النصوص هي عبارة عن شهادات كتبت تحت ضغط الأحداث، بصفة إستعجالية، لتسجل الراهن و الآني، و تندد بالمسكوت عنه، و هو قتل ذاتية الإنسان الجزائري، و بخاصة المثقف، قبل قتله ماديا و اغتياله جسديا.

و إذا كان للعنف دور في إعادة. ترتيب ميزان القوى السياسية و إعطاء رؤية جديدة للتاريخ، فإن الكتابة الأدبية، عندما تتخذه موضوعا لها، تضفي عليه أبعادا جديدة، تمارس عليه حساسيتها و جماليتها لتجعله أكثر بشاعة و وحشية، و القارئ في هذه الحالة لا يمكن له إلا أن يقف منه موقفا عدائيا.



الهوامش

[1]- Michad, Yves.– Violence (Encyclopedia Universalis). - Paris – France, P. Editeur, 1996

[2]- Raimond, Michel.- Le roman.- Paris, Armand Colin, 1989.- p.31.

[3]- Todorov, Tzvetan.- Introduction à la littérature fantastique.- Paris, Editions du Seuil, 1970.- p. 81.

* ظهرت العديد من الروايات التي تمتاز بهذه الصفة، و التي أرادت أن تكون شاهدة على الوضع الحالي، و قد نشرت في معظمها باللغة الفرنسية ضمن مجلة "الجيري ليتيراتور- آكسيون" Algérie. Littérature / Action.

[4]- عبد القادر، حميد.- الإنزلاق. – الجزائر، منشورات مارينو، 1998.

[5]- الانزلاق… - ص.7.

[6]- م.س.- ص.7.

[7]- م.س.- ص.15.

[8]- م.س.- ص.16.

[9]- م.س.- ص.17.

[10]- م.س.- ص.13.

[11]- Raimond, Michel.- Le roman.- Paris, Armand Colin 3 ed., 1989.- p.69.

[12]- م.س.- ص.48.

[13]- م.س.- ص.56.

[14]- م.س.- ص.59.

[15]- م.س.- ص.10.

[16]- المراسيم و الجنائز.- ص.10.

[17]- م.س.- ص.28.a

إشكالية الهوية الإسلامية : نقد قانوني

إن ظاهرة العنف التي عاشتها الجزائر خلال العشرية الأخيرة من هذا القرن دفعت بنا إلى البحث عن المحددات النابعة من البينة الإسلامية و المنبثقة من داخل الوسط الإسلامي و نقصد بها مجموعة العوامل و الظروف و التناقضات داخل هذا الوسط و التي تشكل محددات للعلاقات بين الجزائر و بعض الدول الإسلامية و عاملا أساسيا يتحدد من خلال سلوك هذه الدول الإسلامية تجاه بعضها و يؤثر مباشرة على ظاهرة العنف.

فالساحة الإسلامية تعرف تفاعل مجموعة من التناقضات المعقدة تنعكس مباشرة على مسار العلاقات الدولية الإسلامية و كان لها تأثير سلبي في الجزائر لأنها تلعب دورا تخريبيا في أي آلية إسلامية للعمل التضامني و تسبب في عجزها و عدم فعاليتها.

إن المحور الأساسي الذي يدور حوله هذا البحث هو التناقضات الناتجة عن الهوية الإسلامية المسبـبة للعنف و تتجلى في مظهرين أساسين :

أولا : اختلاف الأنظمة السياسية الإسلامية حول التفسير الإيديولوجي للإسلام.

ثانيا : عدم دقة مفهومي "العالم الإسلامي" و "الأمة الإسلامية".

أولا : المظهر الأول : اختلاف الأنظمة الإسلامية حول التفسير الايديولوجي للإسلام

تداخلت الأيديولوجيات و العقائد المتباينة لتعطي تفسيرات مختلفة تراخي التماسك و التضامن الداخلي و تزداد قدرة الدخيل على اختراق النظام و يزداد التنافر و الشقاق السياسي حول القضايا التي تتطلب الإجماع فتتغير الأولويات و إستراتيجيات المواجهة، و القضايا نفسها تتغير و يترتب على ذلك درجة عالية من التشتت و الخلط بين الأشياء.

عرف المسلمون الاختلاف حول التفسير الأيديولوجي للإسلام مباشرة بعد وفاة الرسول و كان الصراع الذي نشأ في سقيفة بني ساعدة حول من يخلفه منطلقا لعدة تفسيرات سياسية للإسلام طبعت التاريخ الإسلامي بصراع دموي مرير بقي منه بارزا في العصر الحاضر ما نشاهده من خلاف شديد بين السنة و الشيعة. إن هذا الخلاف يشكل خطرا أساسيا على الأسرة الإسلامية و يعتبر من أهم التحديات التي تواجه المسلمين.

ذلك أن الخلافات المذهبية تتبلور اجتماعيا في نشوء الطوائف و الطائفة جماعة تتجمع حول مذهب تعتنقه و تدعو إليه و يعد كل من لا يعتنقه خارجا عنها و ليس منها[1].

و يعاني العالم الإسلامي من التمزق الطائفي يجعل كل طائفة تتحول عصبية قوية ترفض أن تتعاون أو تدخل في أي شكل من أشكال التضامن مع الطوائف الأخرى و هذا طبعا ما يشكل أحد العراقيل للتضامن الإسلامي و عوائقه.

و الخلاف بين السنة و الشيعة على الساحة الإسلامية لا يقتصر على النواحي الفكرية أو الاجتهادات الفقهية، و ليس مجرد خلاف بين المفكرين أو رجال الدين أو علماء الشريعة بل هو خلاف يتناول الأنظمة السياسية، و أصبح قادة هذه الأنظمة يشعرون به كثيرا، و أصبح البعض منهم يركز على الانتماء المذهبي الديني لنظامه السياسي و لا سيما بعد انتشار فكرة "الصحوة الإسلامية" بكل ما لها من انعكاسات سياسية للمجتمعات و النظم الإسلامية.

ففي الوقت الذي يركز النظام الإيراني على المذهب الشيعي الجعفري كمذهب أساسي للدولة في إيران، نجد في المقابل أنظمة سياسية أخرى تركز على المذهب السني فالاختلاف المذهبي على الصعيد الديني يتبلور سياسيا في نشوء أنظمة سياسية إسلامية تختلف من حيث المذهب الذي تعتنقه بما يعني ذلك من اختلاف في فلسفة الحكم و في المؤسسات التي يسعى كل نظام إلى إقامتها فالاختلاف في فلسفة الحكم يقود إلى تبادل الاتهامات بين الأنظمة بعدم امتلاك المؤهلات و الصلاحيات في تمثيل المسلمين و لا في التسمي بـ "النظام الإسلامي". فالشيعة مثلا ينظرون إلى كل الحكومات الإسلامية من عهد أبي بكر إلى اليوم على أنها حكومات غير مؤهلة لتمثيل المسلمين ما عدا الحكومات التي كانت شيعية[2]. و هذا ما يؤدي بالتالي إلى فقدان ثقة الأنظمة ببعضها و التجائها إلى استعمال وسائل التخريب و الهدم و إثارة الفتنة "تصدير الثورة".

أما اختلاف المؤسسات بسعي كل نظام إلى إقامة مؤسساته الخاصة وفق المذهب الذي يعتنقه (ولاية الفقيه الإيراني لا يمكن الأخذ بها في أي نظام إسلامي يتشرب من مذهب أهل السنة[3] وسعيه إلى إقامة أنظمة قانونية خاصة به سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الإجتماعي، فيعني عدم تجانس الجماعة الإسلامية في هياكلها السلطوية و بذلك يتم تعميق عدم التجانس البنيوي لديها و بالتالي تعميق أسباب الخلاف و التناقض التي تقف عقبة في وجه كل تضامن أو وحدة. و إذا كان الاختلاف بين السنة و الشيعة يشكل المظهر التقليدي القديم في الاختلاف حول التفسير الأيديولوجي للإسلام الذي امتد و استمر في العصر الحاضر، فإن هناك مظاهر جديدة لهذا الاختلاف غير مظهر السنة و الشيعة، هذه المظاهر الجديدة فرضتها طبيعة الحياة المعاصرة و فرضتها مختلف التطورات التي مست الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية في البلدان الإسلامية.

كما فرضتها أيضا التطورات التي مست المجتمع الدولي.

فكان على كل حكومة بالغا ما بلغ تعلقها بالإسلام أن تفسره و تكيف أحكامه وفق متطلبات الحياة و مقتضياتها، و تختلف عملية التكييف أو التكيف هذه باختلاف الأنظمة و باختلاف الطبقة السياسية القائدة و الموجهة في كل دولة فالطبقة المذكورة تميل إلى تكيف العواطف و الأفكار الدينية وفق العلاقات التي تستنبطها طبقتها أو الطبقات و الفئات الأقرب إليها[4].

و عندما يتظافر هذا التكييف مع بعض العوامل الأخرى كاختلاف الظروف الاجتماعية و التاريخية و السياسية التي مر منها كل بلد إسلامي نجد أنفسنا أمام تنوع كبير في مفهوم الإسلام السياسي يختلف باختلاف الإيديولوجيات السياسية التي تعتنقها كل دولة فهناك "الدول الإسلامية الثورية الاشتراكية" التي تفسر الإسلام بالمفاهيم الاشتراكية، و هناك الدول الإسلامية الليبرالية التي تعطي للمفاهيم الإسلامية تفسيرات و تطبيقات ليبرالية.

و هناك الدولة الإسلامية الثورية التي تسعى إلى إعطاء الإسلام مفاهيم ثورية مستمدة من ذات الإسلام دون أن تقترن بأي إيديولوجية غربية، و هناك الدولة الإسلامية التقليدية التي تسير على نهج الإسلامي السلفي.

هذا التنوع أفرز عدة أنماط من الإسلامي السياسي[5].

فهناك النمط السعودي و هناك النمط الإيراني و هناك النمط المغربي و التونسي و المصري و هناك النمط الليبي و النمط الجزائري و النمط السوري و العراقي و هناك النمط التركي و الأندونيسي و النمط الباكستاني… فلكل دولة إسلامية علاقة خاصة بالدين تظهر خاصة في كيفية تطبيقها للشريعة الإسلامية في سياستها الداخلية و الخارجية.

و تجدر الإشارة في الأخير إلى أن التفسير الايديولوجي للإسلام لم ينحصر فقط في الجوانب المتعلقة بتطبيقات الإسلام في الميادين الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية الخارجية بلا تعداد إلى تفسير العقيدة نفسها من طرف الحكام.

فدخلت بعض الأنظمة السياسية الإسلامية في خلافات دينية متعلقة بتفسير بعض أحـوال العقيدة الإسلامية و بسبب ذلك عادت ظاهرة تكفير المسلمين لبعضهم البعض كما كانت في العصور الأولى للإسلام.

ترى أي شكل من العلاقات الدولية و أي قدر من التضامن يمكن أن يقوم بين دول بينها كل هذه التناقضات حول التفسير الإيديولوجي و التطبيق السياسي لعقيدتها الدينية التي تمثل هويتها الإقليمية؟

المظهر الثاني لهلامية الهوية الإسلامية يكمن في :

ثانيا : عدم دقة مفهومي "الأمة الإسلامية" و "العالم الإسلامي"

تطلق الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة سواء كانت خطابا رسميا صادرا عن دول أو منظمات دولية أو كانت فكرا سياسيا إسلاميا على الجماعة الإسلامية عبارة "الأمة الإسلامية" أحيانا و عبارة "العالم الإسلامي" في أحيان أخرى، و العبارتان معا غير واضـحتين و غير دقيقتين في تحديد الهوية السياسية للجماعة الإسلامية.

 فعبارة "الأمة الإسلامية" لا تعطي معنى سياسيا و لا إجتماعيا دقيقا، إنها لا تطابق مفهوم الأمة "nation" في الفكر السياسي الغربي.

الأمة في الفكر السياسي الإسلامي لها عدة معاني و دلالات، و هذا التعدد في المعاني و الدلالات يصعب أن يقيم هوية لأن هذه الأخيرة تقوم على وحدة المعنى لقد إستعمل القرآن الكريم كلمة أمة في عدة معاني و استعملها مفكرو الإسلام أمثال الفاربي و الماوردي و البغدادي و إبن خلدون في معاني مختلفة[6]. فعبارة "الأمة الإسلامية" لا تعني أكثر من اشتراك مجموعة من الناس في دين واحد و قد يكونوا مختلفين في كل شيء إبتداء من الدين نفسه الذي ينقسمون فيه إلى مذاهب وشيع إلى اختلاف انتماءاتهم القومية و الوطنية و اختلاف دولهم و اختلاف هذه الأخيرة في السياسات الداخلية و الخارجية و في الارتباطات الدولية.

و ليس عبارة "العالم الإسلامي" أكثر وضوحا من عبارة "الأمة الإسلامية" فهي بدورها تفتقر إلى المعنى السياسي و الاجتماعي المحدد.

فقد تعني مجموعة الدول الإسلامية (مع بقاء الغموض في تحديد هذه الأخيرة) و قد تتجاوز معنى الدول لتعني كل الناس الذين يعتنقون الإسلام سواء شكلوا دولا إسلامية أو كانوا أقليات أو جاليات في دول أخرى و مرتبطون بها سياسيا و إجتماعيا و ثقافيا و إقتصاديا[7] .

لقد حاول بعض الباحثين إن يعطي من عبارتي الأمة الإسلامية و العالم الإسلامي معنى محددا فيقول… إنه إذا كان وجود العالم الإسلامي و مجتمع الدول الذي يتألف منه في الوقت الحاضر قد تحقق بالفعل من خلال التماسك و الترابط و التعاطف الذي يجمع شمل المسلمين فإن مساحات الأرض التي يضمها العالم الإسلامي و مجتمع الدول الإسلامية لا تمثل بالفعل كل المساحات التي يعيش فيها المسلمون، و ما من شك في أن المسلمين الذين يعيشون في شكل أقليات ضمن دول كثيرة في الشرق و الغرب لا يمكن أن نسقطهم من الحساب أو ان نستبعدهم بأي حال من الأحوال و هم جزء لا يتجزأ من البناء للأمة الإسلامية و كون الأرض التي يعيشون فيها ليست داخلة في حساب الأرض التي تمثل العالم الإسلامي لا يعني إسقاط حقهم في الانتماء للأمة الإسلامية و إعتزازهم بهذا الإنتماء و من ثم يجب أن نقبل بمفهوم و تعريف للعالم الإسلامي و أن نقبل بمفهوم و تعريف مستقل للأمة، و ليس غريب إن يكون العالم الإسلامي أضيق من أن يستوعب " الأمة الإسلامية".

نفهم من هذا النص أن العالم الإسلامي هو مجموعة الدول الإسلامية (ما هي الدولة الإسلامية ؟) و أن الأمة الإسلامية هي مجموع المسلمين فوق الأرض إلا أن هذا التعريف لا يحمل أي دقة علمية و لا يقوم على أي معيار دقيق و نلمس هذا الغموض بوضوح في الخطابات السياسية فهي تستعمل عبارات "الأمة الإسلامية" و "العالم الإسلامي" و "الدول الإسلامية" جميعها دون تحديد دقيق، أحيانا بكيفية منفصلة و أحيانا مترادفة و لاسيما عندما يكون الخطاب ذا مضمون إيديولوجي كما هو الشأن في الإعلانات و البلاغات الصادرة من المؤتمرات الإسلامية.

و هذا الأمر يجعل الباحث يتساءل عن المضمون الدقيق لهوية العلاقات الدولية الإسلامية هل هي هوية أقليمية أو عالمية ؟ من هم الفاعلون في هذه العلاقات ؟

ما هي الفكرة القائدة في الوقت الحاضر لهذه العلاقات ؟

و هل يصلح الدين وحده ليشكل هذه الفكرة ؟

و هل يصلح الدين في العلاقات الدولية لأواخر القرن العشرين لإيجاد هوية لمجموعة من الدول بعضها يعلن عن طابع الإسلامي و بعضها الآخر يرفض هذا الطابع و يعلن عن إتجاهـه العلماني ؟

و كل هذه الأسئلة تتضارب حولها الأجوبة و بذلك تبقى الهوية هلامية غير دقيقة و غير واضحة و تبقى الفكرة الأساسية التي توجه العلاقات الدولية الإسلامية ذات مضامين مختلفة و مصدر خلافات و تناقضات كثيرة بين الدول الإسلامية.



الهوامش

* عندما نتكلم عن الهوية الإسلامية فإننا لا نقصد الجانب العقائدي المتعلق بالدين و إنما نقصد بها الجانب السياسي و التاريخي و الثقافي و الحضاري.

[1]- أبو زهرة، محمد.- الوحدة الإسلامية.- دار الفكر العربي.- الطبعة الثانية، 1977.-ص.287.

[2]- Voir CHENAL, Alain.- Les événements d’Iran : Pouvoirs.- n° 12, 1980.- p.p. 117-127.

و أيضا عبد العظيم، حسن.- الحزب الجمهوري الإسلامي في إيران الإيديولوجية و المستقبل.- مجلة "المنار"، السنة الأولى، العدد الخامس.-ص.58.

[3]- عبد العظيم، حسن.-نفس المرجع السابق.

[4]- سركيس، حسن.- الإيديولوجية الدينية و الفكر السياسي.- مجلة دراسات عربية، العدد 8، السنة السادس عشر يونيو 1980.-ص.ص.8-9.

[5]- للإطلاع عن مختلف هذه الأنماط يراجع العدد 12 سنة 1980 من مجلة "Pouvoirs" السابق الإشارة إليها و هو عدد خاص عن الأنظمة الإسلامية.

[6]- د. نصار، ناصف.- مفهوم الأمة بين الدين و التاريخ.- بيروت، الطبعة الثانية، دار الطليعة، يناير 1980.

[7]- تستعمل كلمة عالم في هذه الحالة كما تستعمل في ميادين أخرى غير سياسية فنقول"عالم الحيوان" "عالم النبات" "العالم القروي".

حركة العيارين و الشطار : العنف المدني في المجتمع العباسي خلال القرن الرابع الهجري

1- عن أصولهم الاجتماعية و الأثنية و المذهبية

أ- معنى العيار

يعرف العيار في اللغة بالرجل كثير الحركة، حيث جاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي "العيار الكثير المجئ و الذهاب و الذكي الكثير التطواف"[1]. و قال ابن الأعرابي : و العرب تمدح بالعيار و تذم به. يقال غلام عيار نشيط في المعاصي، و غلام عيار نشيط في طاعة الله عز و جل[2].

أما كتب التاريخ فقد اختلفت فيما أطلقته على العيارين و الشطار من تسميات و نعوت فسموهم " الرعاع و الأوباش و الطرارين" حيث جاء في حديث الطبري عن حوادث سنة 197هـ / 811م قوله : " ذلت الأجناد و تواكلت عن القتال إلا باعة الطرق و العراة و أهل السجون و الأوباش و الرعاة و الطرارين و أهل السوق[3]. و أسموهم بالفتيان حتى أصبحت كلمة مرادفة للعيارين و الشطار[4]. كما أشار إلى ذلك إبن الجوزي بقوله : " و من هذا الفن تلبيسه على العيارين في أخذ أموال الناس، فإنهم يسمون بالفتيان…[5]". و يرى ابن بابويهْ القُمّي أن صفة الفتوة لا تنطبق على صفات العيارين و أعمالهم حيث نعتها بكونها "شطارة فسق"[6]. كما نعتوهم باللصوص فقد جاء في حديث أحمد بن حنبل عن أبي الهيثم الحداد الذي ألتقى معه في حبسه أيام المحنة قائلا : "رحمه اللـه أبا الهيثم الحداد لما مددت يدي إلى العقاب. و أخرجت للسيطاط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي و يقول لي : تعرفني ! قلت لا. قال : أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار. مكتوب في أمير المؤمنين. إني ضربت ثماني عشر سوطا بالتفاريق و صبرت على طاعة الشيطان لأجل الدنيا. فأصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين"[7]. و عندما قبض على اللص (العراقي) و حمل إلى الوزير أبي عبد الله المهلبي قدمه بدوره إلى ابي الحسين أحمد بن محمد القزويني رئيس شرطة بغداد قائلا له :" هذا اللص العيار العراقي الذي عجزتم عن أخذه فخذه و أكتب خطك بتسليمه…"[8].

ب- بداية ظهورهم

أقترن ظهور العيارين و الشطار لأول مرة في التاريخ بفتنة الأمين و المأمون، و ذلك حين هبوا بتنظيم شبه عسكري: وزعوا على أساس أن لكل عشرة منهم عريف و لكل عشرة عرفاء نقيب و لكل عشرة نقباء قائد و لكل عشرة قواد أمير. للدفاع عن مدينة بغداد ضد الجيش الخراساني بقيادة طاهرين الحسين[9]. لكنهم سرعان ما تحولوا إلى عصابات تسلطت على بغداد طيلة أيام الفتنة التي دامت أربعة عشر شهرا قاموا خلالها ببعض التعديات و جابوا الأسواق، و أباح لهم رؤساؤهم النهب و السلب علانية[10]. حتى قال فيهم الشاعر أبو يعقوب الخريمي.

يحرقها و ذاك يهدمها و يشتفي بالنهاب شاطرها

و الكرخ أسواقها معطلة يستن عيارها و عائرها

أخرجت الحرب في سواقطها أساد غيل غلبا تساورها

من البوادي تراسها و من الـ صدف إذا ما عدت أساورها

كتائب الهرشي تحت رايته ساعد طرارها و مقامرها

لا الرزق تبغي و لا العطاء و لا يحشرها للقاء حاشرها[11].

تم نراهم ثانية في حوالي خمسين ألف عيار و قد لعبوا دورا بارزا في حصار بغداد سنة 251هـ / 864م حين أعتمد عليهم المستعين ليصد بهم عن بغداد هجمات الأتراك المبايعين للمعتز في سامراء. و قد أثنى ابن الأثير على شجاعتهم بقوله :" و كان لهم عريف يقال له بنتويه بأيديهم البوادي المقيرة و قد ثبتوا في حين أن أهل بغداد و لوا الأدبار و تركوا قتلاهم و جرحاهم". كما استعان بهم الخليفة المهتدي في حربه ضد الأتراك سنة 256هـ / 869م. و قد ازدادت أعدادهم بمرور الأيام و ضعف الحكومات، حتى أصبحت ظاهرة فرضت نفسها على المجتمع العراقي. و عرفت لأصحابها صفات مميزة بأقوالهم[12] و أفعالهم. و استمرت هذه الفئة تؤكد وجودها في فترات الاضطراب السياسي و التدهور الاقتصادي و القلق الاجتماعي. فعندما انتصر ابن رائق علي بحكم سنة 327 هـ / 938م (فوض قوما من العيارين فأعطاهم دينارا دينارا… و ملك العيارين البلد). و كذلك استعان بهم ابن شيرزاد سنة 334 هـ / 945 م لمساعدة العامة من أهل بغداد على حرب معز الدولة البويهي و الديلم. كما حمى عمران بن شاهين سنة 338 هـ / 947 م جانبه في السلطان بالعيارين و اللصوص الذين اجتمعوا عليه عند ظهوره بالبطيحة فقوي بهم[13]. و في سنة 271 هـ / 971م استنفر سبكتكين الحاجب العامة و العيارين لحرب الروم المهاجمين للثغور الإسلامية[14]. و لما عصى سبكتكين بختيار بن معز الدولة و حاربه سنة 263هـ / 973م استعان بالعامة و العيارين " فَقَوَّدَ من رؤسائهم القواد و عرف العرفاء و نقب النقباء و خلع عليهم و حملهم على الدواب و استصحبهم و بسطهم و صار له منهم جند"[15]. و لقد بلغوا من الكثرة في المجتمع العراقي حتى قال عنهم المقدسي (ت 375 هـ): "إذا تحركوا ببغداد أهلكوا" [16].

ج - عناصرهم

كان العيارون يضمون في صفوفهم أجناسا و طوائف مختلفة[17]. لذلك أشار ابن الأثير إلى المشتركين في حوادث سنة (371-375هـ / 971-975م) بقوله : "و هم أصناف البنوية و الفتيان و السنية و الشيعية و العيارين[18]".

و يرى بعض الكتاب المحدثين في هذا الاتساع و الشمول الذي أصاب حركة العيارين في الفترة البويهية وضمها لجماعات من غير العامة في صفوفها دليلا على ما كان يعانيه المجتمع من اضطراب في الحياة السياسية و الاقتصادية[19]. كما أن وجود العباسيين و العلويين في صفوف العيارين يعطينا دليلا آخر على الوضع الاجتماعي القلق و المركز المتدهور لهؤلاء الاشراف و خاصة في النصف الثاني من تاريخ السيطرة البويهية على العراق[20].

و لكنه على الرغم من التنوع و الاختلاف في جنسيات العيارين و الشطار، فقد وصفوا بشدة طاعتهم لرؤسائهم و سرعة حركتهم لتنفيذ ما يؤمرون به، حيث صار لكل حرب أمير و في كل محلة متقدم[21]. و بذلك اطلق عليهم المقدسي (دول العيارين)[22] تعبيرا عما ساد البلاد في عصره من فوضى سياسية طعن فيها تسلط العيارين و عبثهم بالأمور. و يذكر المؤرخون مجموعة من رؤسائهم في هذه الفترة : كابي كبروية، و ابي الدود، و ابي الذباب، و أسود الزبد، و ابي الارضة، و ابي النوابح. و طبع[23] منهم سنة 384هـ / 964م (عزيز البابصري)[24]. و في سنة 392 هـ / 1001 م (ابي مافر العيار)[25]. و في سنة 417 هـ / 1026م (ابو يعلي الموصلي)[26] الذي كان معاصرا للبرجمي[27] أشهر عياري بغداد سنة 421هـ / 1030م، و برز في العيارين سنة 426 هـ / 1034 م (ابنا الاصبهاني)[28] و من رؤسائهم في سنة 444 هـ / 1054 م (الطقطقي و الزيبق)[29].

و كان العيارون و الشطار يتميزون في مظهرهم عن باقي العامة بكونهم حليقي الرؤوس[30]، يغطونها بخوذ مصنوعة من خوص و هم عراة لا يتوارون إلا بخرقه تدعى بالمئزر حيث يشدونها في أوساطهم. و يتشحون بالأزار[31] و يضعون في أعناقهم الجلاجل و الصدف الأحمر و الأصفر و مقاود و لجما من مكانس و مذاب[32]. و لم تفارق أحدهم الشادوفة[33] و الكلاب[34]. و كانت لهم مراسيم خاصة في استقبال من يدخل في عضويتهم كتلبيسه السراويل التي اختصوا بلبسها و تسمى بـ (سراويل الفتوة)[35]. كما كانوا يحتفون بالعضو الجديد في مجلس أنس، يعقدونه في أمكانهم المعزولة و يشربون فيه النبيذ على نخبه[36].

2. حركاتهم بين الثورة و العصيان

بعد هذا السرد الموجز لتشكيلاتهم و تنظيماتهم لا بد من الاشارة إلى فعالياتهم و حركاتهم ضد الحكومة و الناس و التي عرفت بطابعها الثوري[37]. مع بيان ما خلفوه من أثر سيء في المجتمع، كي نخرج من كل ذلك بنتائج ندلّل بها على طبيعة الحركة و اهدافها في هذه الفترة بالذات.

فقد ثار العيارون و الشطار سنة 35هـ / 960م مظهرين مناصرتهم لعلوي قتله رجل عباسي و هما في سكر[38]. كما أشعلوا فتنة بالجانب الغربي من بغداد 361هـ / 971م تخللها كثير من القتل و النهب[39]، حيث استولوا على بغداد و كبسوا الدور و تعرضوا للحريم[40]. و أوجدوا نوعا جديدا في الاقتتال بين المحلات في بغداد لم يكن شائعا من قبل و بذلك يقول مسكويه :" و حصل في كل محلة عدة رؤساء من العيارين يحامون على محلتهم و يجبونهم الأموال، و يحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضا نهارا و ليلا و يحرق بعضهم دور بعض و يثير كل قوم على أخوانهم و جيرانهم[41]. و قد عجز السلطان عن اصلاحهم و اطفاء ثائرتهم[42]. حتى "أخذ جماعة من رؤساء العيارين و قتلوا، فسكن الناس بعض السكون"[43] " وزاد العيارون سنة 364هـ / 974م ضراوة حتى ركبوا الدواب و تلقبوا بالقواد و غلبوا على الأمور و أخذوا الخفائر على الأسواق و الدروب، و خاف التجار على انفسهم و أموالهم و اثاروا النعرات الطائفية بين السنة و الشيعة[44]. و في سنة 380هـ/ 990م تفاقم خطر العيارين في جانبي مدينة السلام و أوقعوا كثيرا من الحرائق في المحال و كبست الدور و نهبت الأموال[45]. و في سنة 381هـ / 991م (ازداد نشاط العيارين و الشطار و كثرت الفتن بين العامة ببغداد و زالت هيبة السلطان و تكرر الحريق في المحال…)[46] لكن السلطة وجهت لهم ضربة رادعة و قتلت جماعة منهم، بينهم أحد رؤسائهم المعروف بأبي جواهراد[47]. و تجدد أمر العيارين سنة 384هـ / 994م عندما أثاروا الفتنة بين أهل الكرخ و اهل باب البصرة احترقت فيها كثير من المحال[48]. و اخذوا من الأسواق الجبايات و سلبوا الناس أموالهم و قتلوا الرجال و ارعبوا النساء و الأطفال[49]. كما نشط العيارون في بغداد سنة 389هـ / 999م في خضم التنافس السياسي حيث تعاون معهم بعض رجالات الدولة الذين استخدموهم في الاغتيالات السياسية لإجتتاث أعدائهم و منافسيهم في الحكم[50]. كما حصل سنة 391هـ / 1000م حين قتل على أيديهم أبو الحسن على بن الطاهر الكاتب الذي كان قد هرب إلى مصر خوفا من أبي الحسن محمد بن عمر بن يحي العلوي و أقام بها مدة ثم عاد في هذه السنة إلى بغداد مع الحاج و شاع بقدومه أنه جاء للدعوة إلى صاحب مصر و الشروع له في الفساد على الدولة العباسية، فكبسه العيارون في داره بدرب المقبر من سويقة غالب و قتلوه مع جاريته و نهبوا داره[51]. وزاد أمر العيارين سنة 392هـ / 1001م مما دفع بعميد الجيوش إلى ملاحقتهم و فرض الهيبة عليهم[52] و ممن قتل على يده منهم ابن صافر العيار[53]. لكن هذه الاجراءات لم تثن العيارين طويلا عن عزمهم على الشغب، فقد كبسوا دار أبي عبد الله المالكي الذي كان ينظر في المواريث و بعض معاملات أبواب المال و كان فيه جزف في المعاملة، و قتلوا في الدار صهره أبا طالب بن عبد الملك[54]. و قتل العيارون في هذا اليوم أيضا حماد بن السكر الشهروني و كان وجها من وجوه الرستاقية و أهل الرفق و العصبية[55]. و استمرت حركات العيارين تشتد ضراوة عبر الأيام حتى إذا ما جاء القرن الخامس الهجري و الحكومة البويهية على أسوإ حال من الضعف و الوهن طغي أمر العيارين و اٍستفحل شرهم و كثرت اعتداءاتهم على الناس[56]، و خاصة الأغنياء منهم. ففي سنة 416هـ / 1025م أزهقوا النفوس و نهبوا الأموال و فعلوا ما أرادوا و احرقوا الكرخ، و بضمنها دار الشريف المرتضى على نهر الصراة[57]. حتى كانوا يكبسون الدور نهارا و في الليل بالمشاعل و الموكيبات، و هم يدخلون على الرجل فيسلبونه بذخائره و يستخرجونها منه بالضرب كما يفعل المصادرون و لا يجد المستغيث مغيثا[58]. و قد امتد شرهم إلى رجال الحكومة و اَنبسطوا على الأتراك و خرج أصحاب الشرطة من البلد خوفا منهم و قتلوا كثيرا من المتّصلين بـهم[59]. و استمرت أعمالهم تلك في سنة 417 هـ / 1026م أيضا حتى اضطر الناس إلى إقامة الأبواب على الدروب صدا لهجماتهم فلم تغنهم شيئا[60]. و خاصة بعد أن انـهزم الجند أمام هجماتـهم[61]. كما هجموا على أهل الكرخ و احرقوا المحال من الدقاقين إلى النخاسين، و كبسوا الكرخ فأخذوا شيئا كثيرا من محلة القطيعة و درب خلف[62]. و نهبوا الثياب من جامع الرصافة ليلا[63]. و في ذي الحجة سنة 420هـ / 1029م ورد ابو يعلي الموصلي و جماعة من العيارين المختفين بأوانا و عكبرا و اصطدموا برجال الحكومة و قتلوا (خمسة من الرجال و اصحاب المصالح) اضطرب بهم البلد وسيطروا على الكرخ و بيدهم السيوف و نهبوا عدة محال و ضعف رجال المعونة (الشرطة) عن مقاومتهم. فثار بهم أهل الكرخ و ظفروا بـهم و صلبوا[64] جماعة منهم. و في سنة 421هـ / 1030م هجم العيارون على بغداد و مقدمهم البرجمي فنهبوا مخازن التجار و الدكاكين الصغار و دور الأغنياء[65]. و تمكن البرجمي من أن يسيطر على بغداد مدة خمس سنوات 421-425هـ / 1030-1034م) دوخ خلالها العيارون أهل بغداد و مدن العراق الأخرى برقاته و كبلساتـهم و اعتداءاتـهم، فقد قتل خمسون عيارا أحد رجال المالح (الحراس الليليون) في نهر الدجاج كما قتلوا قوما كانوا معه و أحرقوا داره و لم يتجاسر أحد من الجيران أن ينذرهم خوفا منهم[66]. و في سنة 422هـ / 1031م سرقوا أصحاب الأكسية ببغداد[67]. و تفاقم شرهم حتى امتد إلى واسط حيث ألهوا الناس فيها بالسرقات و الكبسات و نزلوا على قاضيها أبي الطيب بن كمراويهْ و قتلوه و أخذوا ما وجدوا عنده[68]. و أصبح الناس يحرسون بأنفسهم أموالهم و ممتلكاتهم ليلا لضعف السلطة و فقدان الأمن و ذلك بعد أن عجز رئيس الشرطة أبو محمد بن النوّي من القضاء عليهم أو ردعهم و نتيجة لفشله هرب خوفا منهم و كبسوا داره أيضا[69] و قتلوا بعض من قاومهم من الأغنياء[70]. و أثاروا في بغداد ما سمي بحرب المحلات بين محلة القلائين و محلة الدقاقين[71]. و هجم قسم منهم على المسجد الجامع ببراثا و نهبوا ما فيه من حصر و سجادات و قلعوا شِبَاكَهُ الحديدية. و في سنة 423هـ / 1032م تعصب أهل سوق الكرخ لتاجر بزاز نهب العيارون دكانه و سرقوا أمواله. فآضطر العيارون إلى رد بعض ما أخذوه منه[72]. ثم كبسوا دار ابن الغلو الواعظ و أخذوا ماله و استمروا في الكبسات و نالوا تشجيعا في أعمالهم من مولّدي الأتراك و الغلمان[73]. لكن بهاء الدولة أعاد إبن النوي إلى رئاسة شرطة بغداد و استطاع في هذه المرة أن يردع العيارين[74]، دون أن يقضي عليهم لأنهم سرعان ما تجدد نشاطهم في سنة 424 هـ / 1033م حيث كبس البرجمي دورا و أخذ أموالا كثيرة تحت سمع و بصر الحكومة حتى أن ابن الأثير ذكر عنه أنه كبس دار الشريف المرتضى و ابن عديسه المجاور لدار الوزير[75]. و بلغت قيمة ما أخذه العيارون من دار أحد التجار عشرة ألاف دينار[76]. و قد بلغ الخوف من البرجمي درجة بقي الناس لا يتجاسرون على سميته باسمه بل يكنونه (بالقائد أبي علي)[77] لم يكترث البرجمي و جماعته العيارون بالسلطة على الرغم من شدة أبي الغنائم الذي أقيم على المعونة في هذه السنة، بل إن جماعة من الجند قد خرجوا إليه و آكلوه[78] و شاربوه مما زاد في خوف الناس منه. فأخذوا يدفعون شره عن أنفسهم بما يوصلونه إليه من هبات وصلات و ذلك بعد أن لمسوا عجز السلطة عن حمايتهم منه حتى (أن أحد وجوه الأتراك بسوق يحي أراد أن يختن ولدا له فأهدى إلى البرجمي جملا و فاكهة و شرابا و قال : هذا نصيبك من طهر فلان ولدي. و أسلم منه على داره). و عندما أسر أحد قواد أبو الغنائم أربعة من أصحاب البرجمي و اَعتقلوهم، جاء البرجمي طارقا الباب عليه و مهددا إياه بأطلاق العيارين من أعوانه و إلا سيقتل أربعة من أصحابه و يحرق داره، مما اضطر القائد إلى الرضوخ و الاستجابة لطلبه[79]. و قد دفع موقف الحكومة الضعيف هذا فئات من الناس و الحكومة إلى التعامل مع البرجمي و التعاون معه حتى أن بعضهم كانوا يراسلونه و يعلمونه بإجراءات الحكومة ضده. و كانت هذه المراسلات سببا في قوته و فشل الحكومة في القضاء عليه. لذلك خاطب جماعة من القواد الإصفهلارية التي طوقت مخبأهُ بقصد القبض عليه قائلا : " من العجب خروجكم إلى و أنا كل ليلة عندكم فإن شئتم أن ترجعوا و أدخل إليكم فعلت. و إن شئتم أن تدخلوا إلي فآفعلوا) مما أدى إلى انفضاضهم و فشل مهتهم[80]. و هكذا زادت كبسات العيارين و مقدمهم البرجمي و وقع القتال في القلايين و في القنطرتين و أحرقت أماكن و أسواق و دور و مساجد و نهب درب عون، و قلعت أبواب القرطين و غير ذلك في أعمال التخريب، حتى أن الناس عبرّوا عن سخطهم على الحكومة و عجزها أو تهاونها في أمر البرجمي و تركه مع إخوانه يتصرفون كما يشاءون عند ما ثارت العوام بجامع الرصافة و رجموا الخطيب و قالوا (إن خطبت للبرجمي و إلا فلا تخطب لخليفة و لا لسلطان و لا غيره)[81] و بلغ البرجمي سنة 425هـ / 1034 م من السطوة على بغداد حتى أصبح يتعامل و يتعاقد مع عمال بعض المصالح و الولايات. فقد اتفق مع العامل على (الماصر الأعلى بقطيعة الدقيق)[82] على أن يعطيه العامل في كل شهر عشرة دنانير من الارتفاع عوضا عن السماح له بتسيير سميريتين كبيرتين بغير اعتراض. و أخذ عهده على مراعاة الموضع[83]. كما واصل البرجمي كبساته لمحال الجانب الشرقي من بغداد، و خرب كثيرا منه و نهب من خان القوادير بباب الطاق شيئا عظيما من الأموال و عبث بالجانب الغربي من بغداد أيضا حتى أخذ الناس يجتمعون طول الليل في الدروب و على السطوح يتحارسون منه. و بلغ من ضعف الحكومة تجاه العيارين في هذه السنة إن فسحت (لهم في جباية ما كان أصحاب المالح يحبونه من الأسواق و أعطوا ما كان لصاحب المعونة من ارتفاع المواخير و القيان، و كانوا يخاطبون بالقواد[84]. كما عرف عن ابن القلعي عامل عكبرا أنه كان يتعاون مع البرجمي ويفوت على الحكومة القبض عليه، حتى أن البرجمي حضر لدى قرواش العقيلي في هذه السنة ليعرض شفاعته في اطلاق سراح ابن القلعي، مما سهل السبيل لقرواش في القبض عليه و اغراقه في دجلة[85]. ثم تتبعت الحكومة أعوانه بالقبض و القتل و فيهم أخوه[86].

و لا يعني قتل البرجمي بداية النهاية لحركة العيارين و انمّا استمروا في إلحاق الأذى بالمواطنين بمهاجمتهم و كبساتهم في الليل و النهار على السواء. لأن نشاطهم كان يتماشى تماما مع ضعف الحكومة و اضطراب جهازها الإداري و إلى ذلك أشار أبو الفداء بقوله :" و في سنة 426 هـ / 1035م أنحل أمر الخلافة و السلطنة ببغداد و عظم أمر العيارين و صاروا يأخذون أموال الناس ليلا و نهارا و لا مانع لهم، و السلطان جلال الدولة عاجز عنهم لعدم اٍمتثال أمره و الخليفة أعجز منه[87]. أما ابن الجوزي فيشير في حوادث سنة 426 هـ / 1035م إلى عدة مناوشات غير مجدية قام بها أبو الغنائم ضد العيارين حيث فتكوا و قتلوا من رجاله كثيرا فقتل منهم أبو الغنائم رجلا واحدًا. ثم عاودوا القتال ثانية و ثاروا لصاحبهم فقتلوا من رجال أبي الغنائم نفسين و تتابعت الحملات و الإستقفاء، و نهبوا جمال السقائين و بغالهم و هم أفقر فئات المجتمع[88]. كما استغلوا إحتراق سوق العطارين فسرقوا منه عشرة ألاف دينار[89]، علما بأن أصحاب هذا السوق ليسوا من الأغنياء بل من متوسطي الحال.

و يذكر الذهبي عن شرورهم قائلا : " و اشتد البلاء بالعيارين هذا العام حتى تجاهروا بالإفطار في رمضان و شربوا الخمر و الزنا و عاد القتال بين أهل المحال و كثرت الحملات و اتسع الحرق على الراقع و قال الملك أنا أركب بنفسي في هذا الأمر فما التفتوا له وتحير الناس و عظم الخطب…"[90].

و في شهر محرم سنة 427هـ / 1036م كبس العيارون دارا فأخذوا ما فيها[91] و في ربيع الأخر من السنة ذاتها دخل العيارون بغداد في مائة رجل من الأعراب و السواد فأخرقوا ابن النسوي رئيس الشرطة و أحرقوا داره[92]. و فتحوا خانا و أخذوا ما فيه، و خرجوا بالكارات[93] على رؤسهم.و الناس ينظرون و لا قدرة لهم على منعهم.

و في سنة 428 هـ / 1037م كبس العيارون الحبس ببغداد و قتلوا جماعة من رجال الشرطة[94] و إنبسطوا انبساطا زائدا[95]، حتى تطاولوا على فقراء المجتمع بالذات، إضافة للأضرار التي كانت تصيبهم خلال الحوادث السابقة، فقد سرق العيارون هذه المرة أيضا بغال السقائين و ثياب القصارين[96].

و استمرت حركات العيارين طيلة السنوات الباقية من الحكم البويهي للعراق. ففي سنة 443هـ / 1051م مثلا كبسوا دار أبي محمد بن النسوي و جرحوه عدة جراحات[97]. و في سنة 444هـ – 1052م جابوا الأسواق و أخذوا ما كان يأخذه جباة الضرائب الحكوميون[98]، علما بأن العيارين قد اعتادوا أن يكمنوا في دور الأتراك نهارا و يخرجون للفساد ليلا[99].

3. الخصائص الاجتماعية و السياسية لحركاتهم

و الحقيقة أن حركات العيارين هذه كانت وليدة الفساد السياسي و التدهور الاقتصادي الذي تعرضت له البلاد في معظم سنوات الحكم البويهي في العراق و ما قبلها. و التاريخ يحفظ لنا حركات العيارين و الشطار بشكلها الفوضوي غير المنظم التي قامت من خلالها بعض الجموع الجائعة من الشعب بما يشبع أودها عن طريق السلب و النهب. لذلك جاءت تلك الحركات أو الحوادث بنتائج غير مجدية لا تهدف في جوهرها إلى إجراء تغيير سياسي بناء يمحق الظلم و يرسي قواعد العدالة الشاملة لكافة السكان. كما أظهرت عن كونـها ليست دعوة منسقة تستهدف إصلاحات اقتصادية و اجتماعية تؤدي إلى ازالة التباين الطبقي و رفع المستوى المعاشي للغالبية الفقيرة من الشعب، و إنهاء ما كان يلحق بالناس من جوع و حرمان نتيجة للتخلخل السياسي و التسلط الأجنبي بل أكدت الحوادث التاريخية أن العبارين قد عبروا بحركاتهم عن حقدهم الشديد على التجار و الأغنياء بنهب ما يمتلكون[100]، و صبوا جام غضبهم على رجالات الحكومة بكبس دورهم و قتلهم في معظم الأحيان لا سيما الشرطة منهم. و هم في ذلك إنما زادوا في الأمر سوءا، إذ كانت أضرار حركاتهم عامة شملت الفقراء و الأغنياء على السواء، حيث تضررت الأسواق و اختفت الأموال بسبب تخوف أصحابـها من العيارين و نـهبهم لها مما أدى إلى قلة الاستثمارات و غلاء الأسعار و هلاك رأس المال في السوق. و ربما أصابت تلك الأضرار في بعض الأحيان الفقراء و متوسطي الحال دون الأغنياء[101]. و هذا بالطبع يخالف – إلى حد ما – ما ذهب إليه بعض الكتاب المحدثين في وضعهم الخطوط العريضة و تسطير الأهداف الواسعة لحركاتهم و ذلك باعتبار (العيارين جماعات من عامة بغداد لهم أهداف ثورية و لم تكن غايتهم مجرد اللصوصية و القتل)[102].

هذا و إن عدم مجاراتنا لما يراه البعض في كون هذه الحركة ذات أهداف ثورية إصلاحية يستند على الحقائق التالية :

1- لقد اعتمد أصحاب الرأي السابق في تزكية العيارين عن أفعالهم و إضفاء صفة الإصلاحية على حركتهم على حوادث فردية رواها لنا التاريخ. اتسمت في بعضها بجوانب انسانية متناثرة كتظاهر بعض قادتـهم بالفتوة و العفة و التورع عن سلب النساء و إبرزهم في هذا المجال البرجمي العيار[103] وردّنا على ذلك أنه من العصب اتخاذ تلك النتف من الأخبار قاعدة نبني عليها سلامة أهداف حركات العيارين و نزكي بموجبها أفعالهم المؤلمة و ما قاسي الشعب من جرائها، علما بأن كتب التاريخ تكاد لا تنعت بهذه الخصال سوى واحد من قادتهم و هو البرجمي و مع ذلك لم تجرده من بعض الأثر السلبي. أما الدافع من عدم اعتدائهم على النساء، ربما كان يرجع إلى أنهم لم يكن يشبعهم القليل مما كانت تحمله النساء عادة من الحلي كما يفعل اللصوص العاديون بل انما كانوا يخططون لسرقات أدسم و اكمل و اشمل[104]. و ربما تغطيتهم لبواعث حركتهم و أهدافهم[105]. هذا بالرغم من أن التوحيدي يؤكد لنا بأنهم كثيرا ما "جردوا السكاكين على الجارية في الدار يطالبونها بالمال…[106]".

2- كما أن القول بأنهم حققوا في بعض الأحيان جزءًا من أهدافهم باضطرار السلطة على التنازل لهم بحق جباية الضرائب من السوق[107]، قول لا يتفق مع الواقع بل كانت له دواعي أخرى تعود إلى أن الحكومة قد غضت النظر عن ملاحقتهم و فسحت لهم مجال أخذ الاتاوات أو الرسوم لضعفها و عدم قدرتها على صدهم و تواطوء بعض رجالاتها معهم[108].

3- نضيف إلى ما تقدم أن الحركات الثورية عموما تتطلع بشغف و شوق إلى تحقيق أهدافها بنفوس راضية مطمئنة. و هي إذا ما تحققت و كانت على جانب عظيم من الايجابية لا نجد بين أعضائها من يندم على ما ساهم به أو اقترف من عمل في سبيل تحقيق تلك الأهداف. إلا إننا رأينا العكس قد حصل لحركة العيارين اذ عبر عديد من اعضائها عن شعورهم بالندم عما أقترفوه من أفعال خلال مساهمتهم في العيارة مما أدى إلى إعلانهم التوبة و الندم[109]. كما حصل دينار العيار الذي يروي لنا الأبشهي قصته بقوله :"ان رجلا كان يعرق بدينار العيار و كان له والدة صالحة تعظه و هو لا يتعظ. فمر في بعض الأيام بمقبرة فأخذ منها عظما فتفتت في يده، ففكر في نفسه و قال : ويحك يا دينار كأني بك و قد صار عظمك هكذا رفاتا و الجسم ترابا، فندم على تفريطه و عزم على التوبة… ثم اقبل نحو أمه متغير اللون منكسر القلب فقال يا أماه ما يصنع بالعبد الآبق اذا أخذه سيده. قالت : يخشن ملبسه و مطعمه و يغل يديه و قدميه. فقال: أريد جبة من صوف و أقراصا من شعير و غليني و افعلي بي كما يفعل بالعبد الآبق لعلَّ مولاي يرى ذلي فيرحمني. ففعلت به ما أرد فكان إذا جن عليه الليل أخذ في البكاء و العويل و يقول : لنفسه ويحك يا دينار أ لك قوة على الناس كيف تعرضت لغضب الرب و لا يزال إلى الصباح…[110].

و كذلك أبنا الأصبهاني اللذان تابا سنة 425هـ / 1034م و اشتغلا في دار المملكة في جملة فراشيها[111]. و آخرين غيرهم[112]. مما يدل بوضوح على عدم اقتناعهم التام بسلامة أهداف حركتهم و ما ترتب عليها من أضرار بالغير و نشر الخوف و الفزع في نفوس الآمنين من الناس حتى أخليت المدن من أهلها و خاصة بغداد التي كانت تعد مسرحا لحركات العيارين و أعمالهم. و قد لخص هلال الصابي تلك الأضرار الناجمة عن العيارين و غيرهم بقوله: " لا جرم أن البلد خرب و انتقل اكثر أهله عنه فمنهم من مضى إلى البطيحة و منهم من اعتصب بباب الأزج و منهم من بعد إلى عكبرا و الأنبار. و لقد حدثني جماعة من الناس انهم شاهدوا صينية الكرخ فيما بين طرف الحذائين و البزازين الفواخت و العصافير تمشي في أرضها انتصاف النهار و في الوقت الذي جرت العادة بازدحام الناس فيه بهذا المكان"[113].

4- و لكي نكون أكثر تحديدا في معرفة حقيقة حركة العيارين و الشطار لا بد من إلقاء الضوء على نقطتين هما على جانب كبير من الأهمية قد تزيلان اللبس الذي وقع فيه البعض حول حركة العيارين إذ يجدر بنا أن نلاحظ الأوجه التي كانت تصرف بها الأموال المنهوبة. و معرفة طبيعة ضحايا هذه الحركة.

فمن جهة الأموال المنهوبة : فأن إنفاقها كان يتم من قبل ناهبيها على إشباع شهواتهم الحياتية و رغباتهم الخاصة[114]. فكانوا يعقدون بها اجتماعاتهم و ينفقونها على حفلات شربهم في مخابئهم[115]، متنكرين لأهدافهم و متجاهلين آلاف الجياع ممن لا يملكون ما يسد أودهم و تشبع قرصهم. و لم تكن تصرف على أوجه البر و الإحسان كمساعدة منكوب عظه الدهر، و إغاثة ملهوف و إشباع جائع أو إيواء مقطوع طريق و غيرها من الأعمال الخيرية أما من جهة هؤلاء العيارين : فأننا يجب أن ننظر في صفات من كانت تسلب أموالهم. لنرى هل كان هؤلاء من الاغنياء الجشعين الذين لا يعرفون للرحمة موطنا و للكرم موئلا و يعكفون يد الخير و يحجدون بنعم الله عليهم، أو يكدسون الأموال على حساب الغير و لا يقرون حقوق الله على أموالهم. كي تكون بذلك عملية العيارين تأديبية لأمثالهم على حد تعبير البعض حيث يذكر الدوري قائلا :"و لم يعدموا حجة فقهية لنهب أموال الأغنياء فهذا أحد قطاع الطرق يبرر عمله قائلا: أن هؤلاء التجار لم تسقط عنهم زكاة الناس لأنهم منعوها و تجردوا فتركت عليهم فصارت أموالهم بذلك مستهلكة و اللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم، و إن كره التجار أخذها، كان ذلك لهم مباحا لان عين المال مستهلكة بالزكاة و هم يستحقون أخذ الزكاة شاء أرباب الأموال أم كرهوا"[116].

الواقع إن العكس قد بان و أتضح من خلال استعرضنا لحوادث العيارين حيث كان أغلب من سلبت أموالهم و نهبت ممتلكاتهم و أحرقت محالهم و تعرضوا إلى اعتداءات العيارين هم من الأبرياء الذين ذهبوا ضحية لتصرفات العيارين العشوائية و أعمالهم الفوضوية. و ليسوا ممن تسمح الشريعة و يجيز القانون أو العرف إلحاق الأذى بهم. و بذلك خاطب التنوخي اللص ابن حمدون الذي برر سلبه لأموالهم – في منطقة واسط – بإسقاط السلطة عنهم أرزاقهم قائلا:"أعزك الله ظلم الظلمة لا يكون حجة، و القبيح لا يكون سنة. فإذا وقفت أنا و أنت بين يدي الله عز و جل أترضى أن يكون هذا جوابك له"[117].

و على كل حال فأن حركات العيارين لم تنته بانتهاء السيطرة البويهية على العراق و إنما استمرت في العهد السلجوقي… كما تطورت كثيرا في عهدا استقلال الخلافة التي بدأت بإخراج السلاجقة عن بغداد سنة 575هـ / 1184م. حيث نظمها الخليفة الناصر لدين الله العباسي تنظيم الفتوة و وضع لها القوانين و الضوابط مما جعلها حركة ذات أهداف إيجابية تدعم مركز الخلافة و تعمل على تقويتها و رفع قدرتها في مجابهة أعدائها…



هوامش

[1]- المجلد 2.-ص.98.

[2]- الزبيدي.- تاريخ العروس.- 3 / 424.

[3]- تاريخ الرسل و الملوك.- القاهرة، الطبعة الحينية.- 10 / 181.

[4]- ابن الجوزي.- تلبيس إبليس.- ص.378.

[5]- نفس المصدر و الصفحة.

[6]- معاني الأخبار- مخطوط مكتبة الثترية – النجف خزانة 129تلد 60 ص.106.

[7]- ابن الجوزي.- تلبيس ابليس.-ص.379.

[8]- ابن الجوزي.- اخبار الحمقى و المغفلين.- دمشق، مطبعة التوفيق، 1345هـ.-ص.73.

[9]- مؤلف مجهول : العيون و الحدائق في أخبار الحقائق. 3/333.

[10]- ابن الأٍثير.- الكامل في التاريخ.- 6/276.

[11]- الطبري.- تاريخ الرسل و الملوك. -2/877.

[12]- ابن الجوزي.- أخبار الظراف و المتمازحين.-ص.46.

[13]- المصدر نفسه 8/631؛ ابن الحوزي.- المنتظم 7/104؛ أبو حيان التوحيدي.- الامتاع و المؤانسة 3/151-152.

[14]- مكوية.- تجارب الأمم.- 2/307.

[15]- المقدس.- امن التقاسيم في معرفة الاقاليم.-ص.130.

[16]- ابن الجوزي.- المنتظم 3/88؛ 7/220؛ 8/87؛ الذهبي.- العبر في تاريخ من غبر 3/100؛161.

[17]- الكامل في التاريخ 8/222؛ البانواتيه: يعني الشطار (أنظر يتيمة الدهر للثعالبي 3/333.

[18]- الدوري، عبد العزيز.- تاريخ العراق الاقتصادي.-ص.68؛ بدري محمد فهد.- العامة ببغداد.- ص.389.

[19]- ابن الجوزي.- المنتظم 7/220.

[20]- المصدر نفسه.- 7/153.

[21]- أحسن التقاسيم.-ص.45.

[22]- ابو حيان التوحيدي.- الامتاع و المؤانه 3/160.

[23]- ابن الجوزي.- المنتظم 7/147. نسبة لما محلة باب البصرة ببغداد (أنظر نفس المصدر و الصفحة)

[24]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/439.

[25]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/44.

[26]- المصدر نفسه.- 8/44، 45، 50، 66، 72، 75.

[27]- المصدر نفسه 8 /78

[28]- المصدر نفسه 8/154؛ ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/122.

[29]- بدري محمد فهد. - العامة ببغداد في القرنم الخامس الهجري. - ص.299.

[30]- التنوفي.- الفرج بعد الشدة 2/112-114؛ ابو حيان.- الامتاع و المؤانسة 3/160.

[31]- المسعودي.- خروج الذهب 3/315.

[32]- ابن الجوزي.- اخبار الظرف و المتمازحين.-ص.60؛ فقوف الصنوه 2/270

و الشاروفة.- حبل كان العيار يحمله معه دائما (أنظر المنتظم لابن الجوزي 10/70) و ربما كان ذلك لاستعماله في التلق على الدور و السطوح و هي بلا شك في صفات اللصوصية. و استعملوا في معاركهم المجازة و المقاليع و الأجر و البادية المتغيرة و المخلاة و التراس من البوادي و الرماح من القصب و البوقات من القصب و قرون البقر (انظر الطبري.- تاريخ الرسل و الملوك لمعرفة المزيد عن تلك الآلات 9/288.)

[33]- التعابي.- بثيمة الدهر 2/404.

[34]- ابن الجوزي.- تلبيس ابليس 379.

[35]- التنوخي.- الفرج بعد الشدة 2/338، 340، أنخذ العيار ابو علي الموصلي مقرا سريا له في مكان ما في قريتي (اوانا و عكبرا) خارج بغداد و مكانا ظاهرا بدرب الرباح ببغداد (ابن الجوزي.- المنتظم 8/44) و اتخذ البرجمي مقره في (حجة بالأحمرية) حيث كان يلتجأ إليها مع جماعته (نفس المصدر و الصفحة).

[36]- المسعودي.- خروج الذهب 3/315.

[37]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/223؛ و عن فتن العيارين العظمة.

[38]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 8 / 232؛ ابن خلدون.- العبر 4/527.

[39]- العيني. - عقد الحمان 2/16 ورقة 64-65.

[40]- تجارب الأمم.-2/305.

[41]- المصدر نفسه.- 2/306.

[42]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 8/632. و في تاريخ يحي بن سعيد الانطاكي جاء " اخذ السلطان 18 رجلا من العيارين و اهل الفتنة و قنل اربعة نفر منهم و أعطى من بقي الأمان و وعدهم بالرزق و كف البلاء قليلا و سكنت الفتنة" 1/141.

[43]- من قوادهم في هذه الفترة (أسود الزبد) المنتظم لابن الجوزي 7/75 و في الذهبي. - تاريخ الإسلام ص.121 أسود الزد و ذكر ايضا انه خرج إلى بلاد الشام و هلك بها.

[44]- مسكوبة. - تجارب الأمم 2/355؛ ابن الجوزي.- المنتظم 7/75. الذهبي.- تاريخ الإسلام ص.141.

[45]- ابن الجوزي.- المنتظم 7/153؛ الكتبي- عيون التواريخ 12 / 36.

[46]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9 / 104.

[47]- أنقذ بن جوا مرد من القتل لانه قد تعاون م السلطة أيام صمهام الدولة و حرس الأسواق لذلك قبل بهاء الدولة الشفاعة فيه و لم يقتل مع جماعته (أنظر أبو شياع.- تجارب الأمم.-ص.199.

[48]- أبن الجوزي.- المنتظم.-ص.172؛ أبن الأثير.- الكامل في التاريخ.- 9/105.

[49]- الكتبي.- عيون التواريخ 12/70.

[50]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/338.

[51]- المصدر نفسه 8/298.

[52]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/438؛ الكتبي.- عيون التواريخ 12/127؛ ابن الأثير الكامل في التاريخ 9 / 178.

[53]- هلال الصابي.- تاريخ ملاك 8/439.

[54]- نفس المصدر 8/447.

[55]- المصدر و الصفحة

[56]- هرب العياريون عن بغداد خوفا من ابي ارسلان الذي عين على ولاية بغداد سنة 5409 لما عرق به من عف و خزق (ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/306.)

[57]- ابن الأثير.- الكامل 9/349.

[58]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/22.

[59]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/21؛ الغاني. - المسجد المسبوك في ورقة 20.

[60]- المصدر نفسه 8/22.

[61]- ابن الأثير.- العهد المبوك ف ورقه 20

[62]- الذهبي.- تاريخ الإسلام.-ص.218؛ أبو الفدا.- المختصر في أخبار البشر ¼/54

[63]- المصدر نفسه.- ص.226؛ ابن الجوزي.- المنتظم 8/44.

[64]- المصدر نفسه و الصفحة؛ المصدر نفسه 8/40.

[65]- المصدر نفسه.- ص.227؛ المصدر نفسه 8/48.

[66]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/47.

[67]- المصدر نفسه.- 8/54.

[68]- المصدر نفسه 8/60؛ الذهبي.- تاريخ الإسلام.- ص.231.

[69]- المصدر نفسه 8/67؛ و فيه أن ابن النوي رئيس شرطة بغداد كان قد تعاون مع جماعة من العيارين لهذا الغرض فأقاعهم على المالح و اتخذهم أعوانا و أصحابا (أنظر ص49).

[70]- المصدر نفسه 8/50.

[71]- المصدر نفسه و الصفحة

[72]- المصدر نفسه 8/55.

[73]- المصدر نفسه 8/66؛ الذهبي.- تاريخ الاسلام.- ص.231.

[74]- الذهبي.- تاريخ الاسلام.- ص.231.

[75]- ابن عديه.- هو احمد بن عمر بن القاسم ابو الحسين. مات في رجب من عام 412هـ و دفن في مقبرة باب حرب (أنظر الخطيب البغدادي.- تاريخ بغداد 4/94.)

[76]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/439؛ ابن الحوزي.- المنتظم 8/75.

[77]- الذهبي.- تاريخ الإسلام.- ص. 237؛ و قد شاع أن البرجمي لا يتعرض لامرأة و لا يمكن أحدا من أخذ شيء منها (أنظر نفس المصدر و الصفحة).

[78]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/72.

[79]- المصدر نفسه 8/75 ؛ المصدر نفسه و الصفحة.

[80]- المصدر نفسه و الصفحة ؛ ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9 /432.

[81]- المصدر نفسه 8/73؛ ابن كثير.- البداية و النهاية 11/35؛ كان البرجمي يكن أجمة ذات قصب يمتد خمسة فراسخ و في وسطها تلء اتخذه فغفلا. خرج مكلما الجند المحاصر له في أجمته و على رأسه عمامة. و تعرف أججته بالأحمرية (أنظر أيضا الغاني. - العهد المبوك ف ورقه 22).

[82]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/75؛ ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/439.

[83]- المصدر نفسه 8/77. و الصحيح قطيعة الرقيق ببغداد (أنظر يا قوت : معجم البلدان 4/141).

[84]- المصدر نفسه و الصفحة.

[85]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/438.

[86]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/78.

[87]- المختصر في أخبار البشر م1. ج 3.- ص.58.

[88]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/83

[89]- المصدر نفسه 8/83.

[90]- الذهبي.- تاريخ الإسلام.- ص.241.

[91]- المصدر نفسه و الصفحة؛ و هـي دار بـلور بك التركي بباب خراسان (أنظر ابن الجوزي.- المنتظم 8/ 88).

[92]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/88.

[93]- المصدر نفسه و الصفحة؛ القارات : ما يحمل على الرأس أو الظهر من النبات و هذا التعبير مستعمل لحد الآن عند عامة أهل العراق (أنظر العامة لبدري محمد فهد.- ص.303).

[94]- يبدو أن عداوة العيارين كانت منصبة بالدرجة الأولى على الشرطة من رجال الحكومة، فكانوا يحقدون عليهم كثيرا لأن الشرطة كانت تطاردهم على الدوام و تمنعهم على السلب و النهب و تلقي القبض عليهم.

[95]- الذهبي.- تاريخ الإسلام.- ص.243.

[96]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/91.

[97]- المصدر نفسه 8 / 151؛ الذهبي.- تاريخ الاسلام.- ص.258.

[98]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/221.

[99]- أنظر التنوخي.- الفرج بعد الشدة 2/330.

[100]- انظر ابن الجوزي.- المنتظم 8/82-91 و ما أسلفنا من ذكر لحوادثهم و في الفرج بعد الشدة للتنوخي 2/108 ما يدل على سلبهم الفقراء و متوسطي الحال حيث يذكر إلى حمدون و هو أحد رؤسائهم أنه كان (إذا أخذ ممن حاله ضعيفة أقسامه عليه فترك شطرا من حاله في يده).

[101]- بدري.- العامة في بغداد.- ص.296؛ و بهذا المعنى جاعت تحليلات الدكتور عبد العزيز الدوري تحركات العيارين (أنظر دراسات في العصور العباسية المتأخرة. -ص.ص.283-284)؛ مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص.77.

[102]- الدوري.- دراسات في العصور العباسية المتأخرة.-ص.283؛ بدري.- العامة.-ص.308.

[103]- أنظر عن عياري بغداد و خططهم (ثوار المحاضرة للتنوخي 2/351).

[104]- كان خطرهم على الناس اعظم من اللصوص العاريون حتى أن بدري أثار إلى ذلك من خلال تعرضه للصوص قائلا :"أن المؤرخين لا يذكروا لنا أسماء هؤلاء اللصوص كما فعلوا بالنسبة للعيارين و الشطار. و الأرجح إن ذلك حدث بسبب طغيان أخبار العيارين و الشطار في هذا القرن على أخبار اللصوص" انظر العامة ببغداد و في القرن الخامس الهجري.-ص.86.

[105]- أبن الجوزي.- المنتظم 8/66؛ الذهبي.- تاريخ الإسلام. -ص.237.

[106]- الإمتاع و المؤانسة 3/162.

[107]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/75-77.

[108]- ابن الأثير.- الكامل في التاريخ 9/438، 439؛ الذهبي.- تاريخ الاسلام.- ص.241.

[109]- الذهبي.- تاريخ الإسلام.- ص.227.

[110]- المستظرف في كل فن مستظرف 1/138.

[111]- ابن الجوزي.- المنتظم 8/78.

[112]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/412.

[113]- هلال الصابي.- تاريخ هلال 8/413.

[114]- ابو حيان التوحيدي.- الإمتاع و المؤانسة 3/151؛ الهمذاني.- تكملة الطبري.- ص.217.

[115]- التنوخي.- الفرج بعد الشدة 2/227، 228، 334؛ ابي الجوزي.- الأذكياء.- ص.44.

[116]- دراسات في العصور العباسية المتأخرة.- ص.384؛ تاريخ العراق الاقتصادي.-ص.69؛ و ما أورده الدوري في كلام هو لاحد قطاع الطرق المدعو ابن سيار الكردي (انظر التنوخي.- الفرج بعد الشدة 2/330).

[117]- الفرج بعد الشدة 2/333؛ 334.

تقديم المحور الثالث : المقدس و السياسي

من السهل، في أيامنا هذه، ملاحظة أن العلاقات التي تربط المقدس و السياسي يظهر في أساسها موقف المتكلم : من أي موقع سياسي ينطلق المتكلم لتأسيس خطاب عن إنشاء "الكينونة-معا" في مجتمع ذي ثقافة و تقاليد إسلامية؟

فانطلاقا من الموقع الذي يكون منه الكلام، يتعين المنهج و الإجراء و المـعرفـة (gnôsis) التي انطلاقا منها تقام الخطابات حول المقدس و السياسي و علاقتهما من داخل المقدس و من داخل السياسي أو، استثناء، من موضع آخر خارجهما من هذا الموضع الثالث تبين عن نفسها العلوم الإنسانية و العلوم الاجتماعية التي من بين مواضيعها، يوجد بالطبع موضوع الخطاب حول المقدس و حول السياسي، من داخل كل واحد من هذين الحقلين نفسهما.

منذ عصر النهضة و منذ عصر الأنوار (أو التنوير كما يحلو لنصر أبي زيد أن يسميه )، بدأت أوروبا بإزالة كنائسها عن السلطة السياسية و الدولة، مكسبة المجتمعات الإنسانية السيادة على نفسها، معتبرة أياها مصدرا لكل شرعية سياسية. إن هذه الوضعية هي التي مكنت من ظهور العلوم الاجتماعية و تطورها.

منذ نهاية القرن XIX، و العالم الإسلامي يحاول تأسيس حداثة مستلهمة و مفروضة بتطور الرأسمالية في أوروبا، متجنبًا إقحام سلطة رجال الدين و مؤسساتهم الدنيوية في مصادر الشرعية القانونية، والسلطة السياسة و الدولة. فباستثناء تركيا، و إلى حد ما العراق، يدرج أي مجتمع إسلامي بصورة كاملة مصدر سيادته و مؤسساته ضمن إطاره الخاص. و هذا ما يفسر ضعف التفكير الموضوعي في مصادر القانون و في أصل الدولة في المجتمع الإسلامي. و من المفارقات أنه منذ نصف قرن، و العلوم الإنسانية تدرس بشكل واسع، على الرغم من كثير من رجال الدين – في غالبية الجامعات في العالم الإسلامي، و هذا ما يفسر أيضا القضاء على أولئك الذين يحاولون بصورة نقدية، النظر إلى الخطاب الديني كما هو : (أي بوصفه) خطاب رجال دين و/ أو خطاب رجال سياسة.

تقوم "إنسانيات" بنشر 14 نصا تشترك في كونها اتخذت موضوعا لها الممارسات الاجتماعية للمتدينين، و التشكلات الخطابية المؤسسة لتوجهات و مواقف هؤلاء الآخرين، أو النصوص التأملية التي تعمل على توضيح استراتيجيتهم. إنه حدث، بالنسبة لتاريخ الجزائر الثقافي، بحكم أنه، منذ بداية القرن XX، تبني الجامعيون بصورة ضمنية سلوكا يكرس المراقبة الذاتية، متمثلة في السكوت عن التواطؤ بين رجال الدين و رجال السياسة في عملية إقرار الشرعية التي يتبادلونها حينما يرغبون في اعتلاء كرسي الحكم. إن هذا التبادل و هذا التواطؤ للسعي وراء السـلطة والحفاظ عليها، له تاريخ، ينبغي كتابته بسرعة، لأنه جزء لا يتجـزأ مـن المأسـاة الـمتجددة باسـتـمـرار، مأسـاة الطـلاق (Divortium) الذي لم يتحقق أبدا بين هذين العنصرين، و الذي يوجد في فعل الرابطة نفسه و في تاريخ المجتمعات الإسلامية، منذ وفاة النبي محمد (ص) و حادثة سقيفة بني ساعدة الطقوسية الوطن – عربية التي انتهت بتعيين أبي بكر الصديق كأول خليفة للمسلمين. و الحال أن المراقبة الذاتية بهذا الخصوص، قد تجلت في وظيفة الباحثين في الـعلوم الاجتماعية نفسها، بحكم أن الحركات الوطنية كانت تدمج الدين في المؤسسات المنتجة للخطاب حول الاختلاف و الهوية الوطنية، عازلة نفسها، من خلال جوهر مسعاها نفسه، عن المجتمعات الاستعمارية.

لقد أصبح الدين و المتدينون موضوعا طابوي التفكير فيه تماما – و من هنا فقد تحول ما لم يفكر فيه إلى ما ليس قابلا للتفكير فيه.

لقد بدأت القطيعة من رجال الدين أنفسهم، وذلك لأنهم لم يعودوا في حاجة إلى السياسيين، (…)، و استغلالاً لورطة الفراغ و الخسارات الكبرى التي تعني شيئا كثيرا بالنسبة للمجتمع، فإنهم سارعوا لملء الفراغ الذي ينخر جوانب النظم السياسية الديكتاتورية. إن الانتقال إلى العنف المتطرف، بعد التقنعات التعدد- حزبية و الانتخابية، قد بين للمجتمع بأن الديكـتاتورية المستبدة يمكن أن تحل محلها ديكتاتورية (أكالة للمجتمع) حيث تكون أفعالها الأولى بالطبع هي القضاء على أولئك الذين احترفوا البحث العلمي، أي أنهم جعلوا الشك مهنتهم. و الحال أنه لاشيء أخطر على و جود رجل الدين من التشكيك أي الربط بين خطابه و ممارسا ته الفعلية.

إن عملية التفكير فعل حر تماما من كل استعباد أو تبعية فعلية كانت أو محتملة. كما إن ممارسة هذه الحرية، ووضعها قيد التنفيذ اليوم، وإذن معرفة الخطر و مواجهته، هي التي جعلتنا نتجاوز المراقبة الذاتية. نعم، إن الخطاب و الممارسات، كل ممارسات رجل الدين و كل متدين هي ممارسات غيرية و ضعية، أي أنها مادة للشك المنهجي إذن مادة للتفكير.

أن تفكر في خلق الكون و الإنسان هو، في النصوص المقدسة، فعل كلام، كما نقرأ ذلك في كثير من آيات الكتب السماوية.

إن الخلق إذن قول، و لسنا نفعل شيئا آخر هنا غير أن نقول عن القول، أن نفصل، و نميز و نصنّفَ، و نفكر. و من هنا فإن العالم موضوعنا و نحن الذين نبتكره بجعله قولا و بجعله فعلا.

ما الذي يميزنا عن رجل الذين الذي يعيد القول؟ يميزنا عنه أننا نتبع المعنى بالمفهوم لا أن نتبع بالأمر المعنى. إن عملية إنتاج الأفكار محرمة على من يمتهنون تجميد الفعل، كونهم يقومون بتحجير اللغة و الكلام، و كونهم يتكلمون بطريقة هي دائما إرتكاسية، انطلاقا من قمة المقدس المحتكر الذي منحوه لأنفسهم. هكذا فإنهم يسيرون الـ "هو" ما نحين لأنفسهم "رسالة" جعل كلام الله واضحا. و على هذا الأساس فإن كلامه يصبح كلامهم، و حيد المعنى، لا ريب فيه، جازما مثل الوحي الذي ألقاه Pythie إلى Delphes . إنهم إذن الإله. فهم يفتون، و يحرمون من الانتساب إلى الأمة عن طريق التكفير. و هم يقتلون بفعل الكلام منطوقا في صورة حكم مقدس هو الفتوى، الواجبة التنفيذ بصورة مطلقة مثل فعل الكلام الذي بواسطته أمر لله إبراهيم أن يذبح إسماعيل / إسحاق قربانا لله وزلفى.

هناك كاريكاتور لـ " ديلام" يصور يوم عيد الأضحى كبشاً هاربا بأسرع ما يكون، و في أعقابه رجل يشهر خنجرا. يقول الكبش متطاير الزبد : لماذا يريدون ذبحي؟ رغم أنني لست امرأة و لست مثقفا ؟"

في النصوص المقدسة، فإن الله و هو يأمر بالتضحية، لا يقدم لذلك أي سبب. إنه السلطة المطلقة، الكينونة الأكيدة، الأحد، القوي، الأعلى الأكبر، ذو الاسم المعظم تسعا و تسعين مرة.

كذلك هو من يتكلم باسمه. كذلك هو من يقرر عن طريق الإعلان الذاتي أنه الناطق الرسمي باسم النص.

ولكن الله أو قف يد إبراهيم من فعل الذبح، و نجا إسحاق / إسماعيل و كانت أمتان عظيمتان. ولم ينطق أبدا بأية فتوى. يبين نصر أبو زيد منتقدا الخطاب الديني، كيف أن رجل الدين، و هو يؤول كلام الله، و يحوله إلى حق ديني، يستحوذ عليه و يجعل منه ملكه الخاص. بوصفهم محنطين للخطاب و سحرة، فإن رجال الذين يستوون على عرش السلطة، و يغلقون ما جعله النص القرآني مفتوحا قبل أن يرد عليه الغلق هو ذاته. إن السلطة الدينية إنما هي سلطة رجال الدين. إنها سلطة حياة و موت، سلطة تمكين من الحياة و تسليطا للموت. لقد قال معاوية، كأول حاكم وطني عربي للمسلمين، أثناء تنصيبه عام 651، (ما معناه) : الأرض ملك لله و أنا خليفة الله. و كل ما آخذه يعود إليّ، و كل ما أتركه للناس فإنه من فضلي".

إن المكر و الغصب هما اللذان يؤسسان قاعدة السلطة السياسية لرجل الدين الذي يعزف على وتر السلطة الرمزية و السلطة السياسية، غير أنه يريد أن يحكم و حده، منكرًا على رجال الدين كل إمكانية لجعله حاكمًا شرعيًا.

التفكير هو هنا، ربط ضمن علاقة، علاقة الخطاب الديني كفعل للكلام، الإنساني حصرًا. هو فصل الدين عن التفكير الديني، نص التفكير عن النص، النص عن النص المؤول. إن رجل الدين لا يملك أن يفكر، إنه يشرع، و يكرس التشريع، و يصدق على التشريع من مركزه كـإرادة مطلقة، من أعلى العرش المغتصب. في هذه الحالة، فإن كل تفكير، كل نقد، كل شـك منهجي يصبح "كفرا". و كل كفر، ردة. و كل ردّة عقابها الموت. وما القتل إن لم يكن اختزالا إلى صمت، و فسخاً للكلام، و إحالة على العدم، والفوضى، ودهشة الفتق الأول… هذه أربعة عشرة نصًا. إنها معاشة، و مصرح بها، و ممارسة للفصل لا ينبغي أن نضاعف ملخصاتها في تقديم أكاديمي، لأن أفضل ما يقال بشأنها، هو أنها تندرج كلها في إطار المأساة التي يتملص منها كل واحد استحياء. كما تند رج في نفس الوقت، في إطار الحقل الواسع البور، بجعل ما هو سياسي في أرض الإسلام مسألة دنيوية.

تتكرس هذه النصوص إلى مواجهة خطر التفكير في الوجود، على الأقل فيما بقي منه قابلا للتفكير فيه. فليتجنب التساؤل حول قيمتها، و لتجنب مساءلتها حول ملاءمتها. و لكن لنعرف أن عدم ملاءمتها الجذرية تكمن في كونها فتحت، للمرة الأولى في الجزائر، الأبواب المغلقة للتفكير في "الديني و السياسي". و لننبه إلى هذا التصريح الخارج عن زمنه تماما في مجتمع مسحوق بوطأة الاستعباد، متبوعا بانتفاضات دموية، منذ قرون : " (…)…" إصرارانا على إعمال منهجيات هذه العلوم و في مقدمتها التأويل " Herméneutique "أعظم بكثير من أن نخضع للعبة الإقصاء، و لا يمكن لأي جهة نزع حقنا في ممارستنا للتأويل فمهما حاول المظللون فعل ذلك سيجدون أنفسهم أمام منعرجات التطرف و التعصب المؤدي إلى الإرهاب بالضرورة."[2]

إن أهمية هذه النصوص ليست، إذن تلك التي يقدمها لنا الموضوع أو التحليل، و ليست في قولها بشكل جيد أو سَيّء ما لديها من قول عن المقدس و السياسي. غير أنه مطلوب قراءتها من حيث أنها، مهدت اليوم لحرية التفكير، في مواجهة الجريمة المطلقة المتمثلة في إزاحة الكلمة الحرة والضمير الحر، في مجتمع، أصبح فيه العنف، باسم الدين، وإعدام المعنى، عبادة تقام لوجه القوى الأكالة للإنسان. إن هذه العبادة تضرب بجذورها في الغموض و الفوضى السابقة لكل دين : أي الطاغوت. و ما الطاغوت إلا اسم لوثن معروف في الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، ثم إنه في الإسلام اسم لأحد الشياطين.

إلى أرواح : فراق فضه، و جيلالي اليابس، وامحمد بوخوبرة و عبد القادر علولة، و طاهر جاعوت، و محفوظ بوسبسي، ممارسو الفصل المفصولون، إلى الأئمة المغتالين في مساجدهم لأنهم رفضوا اللبس، إلى السيد كلافري أسقف وهران، إلى الرقود السبع (سبع رقود) بتبحرين، إلى الصحفيين، و إلى عشرات الآلاف من ضحايا الطاغوت، داخل الجزائر، و خارجها، إلى أرواحهم نقدم هذا العدد من مجلة "إنسانيات".



ترجمة :

الهوامش

[1]- "لقد وضع قسم علم الاجتماع بجامعة بير بينيان تحت تصرفي و سائله الاتصالية لتنسيق هذا العدد من مجلة إنسانيات". فليجد مسؤله هنا تشكراتي الخالصة. 

[2]- انظر بودومة، عبد القادر.- ملخص مشاركته أسفله.

المقدس و السياسي حيثيات

يتمفصل التاريخ القديم و الحديث للمؤسسات و الممارسات السياسية الأساسية في المجتمعات ذات التقليد الإبراهيمي، و حتى في المجتمع الهندي كذلك، حول نواة خلافية تضع الدين و السياسية وجها لوجه.

و على أية حال، يدل وجود هنا أو هناك بعض القوى الاجتماعية المطالبة بالعودة إلى الأصول أو إلى الصفاء الأولي، و أخرى في المقابل تنزع على الأقل لتحديد مكانة الدين داخل المجتمع، دلالة واضحة على أن مسألة التمييز بين النظامين مسجلة بشكل ضمني أو صريح ضمن الإنشغالات و في صلب ثقافة المجتمع.

و قد أثبت التاريخ السياسي للعالم الإسلامي ذاته بما فيه الكفاية، أي منذ وفاة الرسول (ص) أن هذه العلاقة تؤسس الذات-الكلية، كما توجه أشكال الحكم و الإدارة.

و يمكن الإستدلال على صحة ما نذهب إليه، بالإشارة إلى تجربة الخلفاء الراشدين الأربعة من خلال استلامهم للسلطة الدينية و السلطة السياسية معا، و كذا الخلط بين السلطتين في ممارسة الحكم و التي انتهت إلى اغتيال ثلاثة منهم (عمر، عثمان و على و هكذا طرحت مسألة صلاحية السياسي في الدين و كذلك الديني في السياسة، عبر كامل تاريخ المسلمين.

و قد برهن، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، على ذلك بقوة العلامة ابن خلدون على الأخص، حيث ذكر أن السلطة السياسية لا تكتسب من طرف سلالة معينة في المغرب العربي أو في الأندلس و لا تقام إلا على عصبية قوية و لا يعترف بها شرعا إلا على أساس عقائدي أو بموجب دعوة دينية تنادي بإصلاح أخلاق السلطة و المجتمع.

و هكذا ترافق الأزمات السياسية دائما أزمات ذات طابع ديني تطهيري : و سبب ذلك أن الأيديولوجية المطالبة بالعدالة الاجتماعية التي تتأسس جوهريا على القيم الدينية، بإمكانها حشد أقوى الحركات السياسية التي تتوصل إلى قلب العائلات الحاكمة و إلى إقامة الأنظمة الجديدة. إن هذا المنطق في حركيته الأكثر بساطة و المعبر عنه هنا، لم يتغير ؛ غير أنه لم يعد ممكنا، في أيامنا الحالية، التوصل إلى الانقلابات الكبرى كالتي عرفت في الأزمنة الماضية. و يعود ذلك إلى أن الحملات الاستعمارية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية من أندونيسيا إلى المغرب الأقصى مرورا بأفريقيا الساحلية في القرن التاسع عشر و في القرن العشرين قد طبعت بصفة عميقة، في ذات الوقت و مع مرور الزمن، هذه المجتمعات.

فتسيير الحكم، لم يعد ممكنا، سواء في ظل الأنظمة الملكية أو في ظل الجمهوريات اللائكية، دون بناء دولة أو مؤسسات تشتغل قليلا أو كثيرا بعيدا عن العلاقات لشخصية و تبعا لقوانين مصادق عليها من طرف هيئات تمثيلية وطنية.

و منذ تراجع الظاهرة الإستعمارية ، أصبح الولوج إلى الحداثة يمر عبر إعتماد الدستور كقانون مؤسس، و عبر مجالس مستقلة و بعيدة عن أي نوع من الوفاء للأفراد و الجماعات. على أية حال، فهو توجه قد برز منذ 1924 بتركيا و استمر العمل به إلى الآن في بلدان أخرى.

عندئذ تطرح مسألة صلاحية الديني في السياسي ضمن مصطلحي التمييز أو الفصل بين النظامين، و بعبارة أخرى، فإن صلاحية السياسي و إستقلاليته عن الديني أصبحا اليوم مذكورين بوضوح داخل السياسي بالذات و إنطلاقا منه، بشكل مرخص به قليلا أو كثيرا في كامل العالم الإسلامي. فالحركات التي تقلق البلدان الإسلامية، و التي تعتمد في عملها على المقدس، تلجأ إلى الديني مثلما يحدث في كل أزمة يتعرض لها السياسي. و لا يمكن إعتبار هذه الحركات أنها حاليا غير قابلة للإرتدار أو للإنتشار القوي، لأن مظهرها الذي أعطته وسائل الإعلام الحديثة مشهدية و تأثرا لدى الجماهير، يخفي طبيعتها الإرتكاسية.

فالحركات الدينية التي تكتسح السياسي حاليا، هي استجابات دفاعية لما يحدث من تطور عام للشمولية الاقتصادية و الثقافية، التي نتجت عن زوال الإتحاد السوفياتي و الإشتراكية المسماة بالإشتراكية الحقة، هذا من جهة، و هي من جهة أخرى، فعل جماهيرية لمجموعة كبيرة من الناس ضد التفقير العام، و ضد العنف السياسي و الظلم الذي يتعرضون له و لا يمكن في ظل هذه الظروف، إعداد مشروع سياسي مبنى على نظرية للدولة و للمجتمع، ذات آفاق مستقبلية. و حينئذ ندرك و بصفة جيدة لماذا تستند هذه الحركات على الجانب الكاريزماتي للشخصيات، ذات الوظائف المقدسة و يعكس غياب البرنامج السياسي لهذه الحركات طابعها التمردي المحض و رفضها للسياسي بصفته هذه، ذلك بالنسبة لأولئك الأكثر جذرية منهم على الأقل.

ويدرج تداخل النظامين أشكالا من التراتبية و كذا أشكالا من الخطاب الديني في حقل صياغة و تنفيذ القرار السياسي، حيث تطمس التوصية و الفتوة الدينية إستقلالية اللعبة السياسية كفن للممكن و للنسبي، و كذلك كإمكانية للتفاوض و للتسوية. و يعوض تسيير و تنظيم العنف المدني، بإستحالة النزاع الاجتماعي نفسه، لأنه لا يمكن أن تكون هناك معارضة في ظل الدولة الربانية) مادام قد تقرر تكفير الديمقراطية. و تعتبر الدولة الربانية إسقاط إرتدادي للحاضر في الماضي، بمعنى ما هو موجود فيما لم يعد موجودا، مادام الحاضر قد أعتبر ناقصا من ناحية العمق الأونطولوجي و الحضور الإلهي. و تعبر إيديولوجية العودة إلى الأصول عن رفض جذري لكل تغيير و نفي للتاريخ و لسيرورته، و تتجلى كذلك بتحريم كل إمكانية للتخمين، و للشك بالتالي لكل ما من شأنه أن يذكر بالتفكير، فإن تأكيد الذات الأزلية، تزدوج بفقدان دلالة الإختلاف كمقولة فكرية و كشكل للكائن الاجتماعي، و لكل كائن ممكن. و هكذا تنتهي هذه الأيديولوجية في الذوبان في عملية إصدار الفتاوي للإنهائية حول الحلال و الحرام، الطاهر و الناجس، إلخ…

و في نفس الوقت، يزيل الإستعمال المبالغ فيه للنشاط الإنساني الأنظمة الرمزية الحية. إذ تتحول الطقوس إلى قيمة في حد ذاته، هي غاية ذاتها. فالإحساسات الحركية تدجن الأجساد بتقديس أوضاعها في جميع المجالات. هذا بالإضافة إلى أن خارج الزمن يوطد السياسي في خارج المعنى، و النتيجة القصوى لهذا، هي تقييد الذات خارج المجتمع، أي مجتمع بالتضحية، ضمن حركة منقذة حيث تكون الحياة ذريعة لإعطاء الموت أو تلقيها.

و لعل ما هو مطروح كرهان في التقديس المفرط للجسد -و بخاصة جسد النساء- هو مراقبة "الأرواح" و في نهاية المطاف السيطرة على كامل المجتمع. و ضمن هذا الأفق، لا يمكن لأي نظام رمزي متقدم أن يستمر في البقاء. و كم من مذابح تمت انطلاقا من هذا المنطق الذي لا يقهر. كيف السبيل إلى إدراك الأسباب العميقة لكل الاضطرابات الرمزية المؤدية إلى الأزمات، إلى المجازر، إلى الإنتحارات الجماعية، التي تمت فيه التوصية و التنفيذ باسم الله ؟

و المعروف أنه في النصوص الدينية المؤسسة للأشكال الثلاثة لديانة إبراهيم الخليل، أن خلق الكون هو في ذات الوقت، إحداث الذات -الكل البشري : فقد خلق الله الكون بالفصل بين السماء و الأرض، الليل و النهار، الفضاء و الزمن. و هكذا تتجه المؤسسة النبوية و بنفس الطريقة، إلى التمييز بين الوظيفة السياسية حيث تؤكد استقلاليتها المطلقة عن هذه الأخيرة.

و يمكن إعتبار العلاقة بين إبراهيم الخليل و النمرور ملك بابل هي النموذج للعلاقات الآتية : موسى/فرعون، عيسى/بيلاطس، محمد (ص)/ أبو سفيان و لكن هناك استثنائين برزا إلى الوجود هما : العهدة الملكية للنبي داود و العهدة الملكية للنبي سليمان اللتين كانتا في ذات الوقت وظائف نبوية. و في هذا الصدد يقول الطبري المؤرخ المسلم لحياة الأنبياء؛ "أنه لا يوجد أحد قد جمع بين الملك و النبوة" و يقول أيضا: "لقد طالب سليمان بالملك، و لكن النبي داود توصل إليه دون المطالبة به، لأن من يرتبط بالدنيا، تبتلعه الدنيا بإذن الله"[1].

و يؤكد القرآن الكريم بشدة هذا الإسثتناء على لسان سيدنا سليمان عندما يترجى الله : "قال رب إغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهاب" حينئذ تطرح أسئلة القراءة، و البت و التلقي و بكله واحدة، تفسير النصوص الأساسية للديانات الإبراهيمية. و من المألوف جدا أن نسجل أن التغيرية ذاتها التي تمس أشكال العلاقة بين الديني و السياسي في المجتمعات اليهودية، المسيحية، و المسلمة تشير إلى التنوع في العلاقة التي تقيمها النصوص حسب الثقافات و الفترات التاريخية للمجتمعات. تطرح أيضا مسألة الحق و سلطة إصدار القوانين، و كذا شرعية السلطة و مصدر التشريع، عندما نعلم أنه من بين أمثلة لا متناهية فإن رجم النساء الزانيات غير موجود في القرآن الكريم، كما أن قضايا الملكية و الخلافة و أي شكل من أشكال الحكم القادمة لم تطرح أبدا.

إن طرح مثل هذه الأسئلة، يؤدي بالضرورة إلى الشروط التاريخية و السياسية لإمكانية التفكير و كذا حريته، و من الخارج، في الديني، و في السياسي و في العلاقة بينهما.

أما المجال الذي ننطلق منه للحديث عن هذه العلاقة هو مجال علوم الإنسان و المجتمع. و مما لا شك أن هذه الشروط هي موجودة الآن بالمجتمعات الإسلامية و بخاصة في الجزائر و يتعلق الأمر بتدعيمها.



ترجمة :

الهوامش

[1]- تاريخ الطبري.

ظاهرة المهدي المنتظر في المقاومة الجزائرية خلال القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين

تنتمي فكرة المهدى المنتظر إلى الأمثولة - أي إلى الأساطير التي تهيكل الفكر البشري - فالأسطورة - قصة مروية أو مكتوبة - تحتوى على وظيفة تفسيرية أساسا، تتعلق بالإنسان و الطبيعة و الكون. فالميثولوجيا اليونانية تفسّر وضع الإنسان في الكون و سماها البعض عن حق "علوم العصور الأولى"[1].

تختلف الأسطورة عن الخرافة أو القصة العادية التي لا تخرج عن نطاق التسلية و الاسمار، إنها تهدف إلى تحقيق وظيفتين رئيسيتين هـُمَا:

تحقيق التماسك الاجتماعي بين الجماعات البشرية سواء كانت قبلية، عرقية، محلية أو وطنية، بما يوحدها و يدعم أواصرها تجاه التحديات البشرية و الطبيعية.

- تكريس تراتب اجتماعي داخل الجماعة البشرية المعنية، يحقق سلطة معنوية أو مادية لفئة اجتماعية لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بإنتاج الأسطورة و تعميمها.

 1.خصائص الإيديولوجيا المهدية

يتمثل جوهر الحركات المهدية في انتظار تحول شامل و جذري للعالم من وضع قائم يتسم بالظلم و الفساد إلى وضع مرتقب تسوده العدالة و السكينة. و يختلف المجتمع " المهدي" عن المدينة الفاضلة التي تَصَوَّرها الفلاسفة (جمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي) لأن الفلاسفة يؤمنون بسيادة العقل إذ تتكون مدينتهم من أشخاص مثاليين تغلب العقل على أهوائهم.

تتسم الإيديولوجيا المهدية بسمات عامة نجدها في الحركات المهدية التي شهدها حوض البحر المتوسط عبر التاريخ. تتصل هذه الحركات بفضاء الديانات السماوية (أهل الكتاب) إذ نجد فكرة "المهدى المنتظر" لدى الشعوب التي تؤمن بالديانة اليهودية أو الديانة المسيحية أو الإسلام. في المسيحية، كان يعتقد أن المسيح عيسى سيعود إلى الأرض بعد ألف سنة من ميلاده مييلينومMillenium ليملأها عدلا.

ساد هذا الاعتقاد في أروبا المسيحية عند نهاية الألفية الأولى و هو ينتشر من جديد لدى طوائف مسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية الألفية الثانية و حلول الألفية الثالثة.

و في التاريخ الإسلامي، انتشرت فكرة "المهدي المنتظر" لدى الفرق الشيعية و السنية على السواء، إلا أنها اتخذت صيغة عقائدية إلزامية عند الشيعة. فالإمام المهدي – في المصطلح الشيعي – اختفى لكنه سيعود إلى الأرض ليقيم فيها الحق و ينشر الدين الحنيف (العقيدة الشيعية). ينحدر "المهدى المنتظر" في رأي الشيعة من أهل البيت (ذرية علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء) في حين يعتقد فيه أهل السنة، بإمكانية انحداره من قريش عامة[2].

في الإسلام، اتخذت الحركات المهدية طابعا سياسيا واضحا: إذ كانت تسعى إلى تغيير النظام القائم مثل الثورات الشيعية أو إلى تكريسه مثل الخلافة العباسية (تسمية الخليفة العباسي الثالث بالمهدى مثلا).

1.1 تشترك الحركات المهدية في المبادئ التالية :

الاعتقاد بأن نهاية "العالم " أمر حتمي، على أنقاضه يقوم عالم "السعادة الكاملة" و تكمن رسالة المهدى المنتظر في تحقيق هذا الحلم.

تستند فكرة المهدى المنتظر إلى إيديولوجيا جاهزة لا تقوم على تغير الأسس الاقتصادية و الـسياسية و الاجتماعية، فالتغير المنشود يتم بانتظار "معجزة ربانية" و ترقب الشخص الذي يملك الكرامات الكافية و الخوارق اللازمة لتجسيد هذه المعجزة. مثل هذا الاعتقاد يصدر بشكل خاص عن فكرة الولاية الصوفية الخفية التى قال بها أهل التصوف. فالولى الصالح يقول بالكرامات لجلب النفوس سعيا وراء تحقيق أغراض روحية تهذيبية "فلا مانع أن تنقلب الولاية إلى مهدية حالما كانت الأغراض و الأهداف سياسية ملوكية دينوية"[3].

فالحركات المهدية التي قاومت الاستعمار الفرنسي خلال القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كان يتزعمها شيوخ ينتمون إلى الطرق الصوفية. و في السودان، اعتبر المهدي[4] نفسه "من الأولياء العارفين الذين أدركهم الله بسابق سعادة ولم يحجبوا عن رؤية نبيهم صلى الله عليه و سلم".

يحقق المجتمع المهدي "السعادة للبشر لا بفضل تطوير لوسائل الإنتاج و المبادلة، بل عن طـريق توزيع عادل للخيرات المتوفرة، و بتقاسم الأعباء بين الأفراد. فالحركات المهدية تتمسك بالأساليب و التقاليد القديمة و لا تسعى إلى تجديد نظم الإنتاج ووسائله، بل تترك الجوانب الاقتصادية بدون تغيير أو تعديل...

1.2 الأيديولوجيا المهدية و البني الاجتماعية.

من الناحية الاجتماعية، ينتشر الفكر المهدى في أوساط تتميز ببنية زراعية أو حرفية تقليدية في مواجهة عنيفة مع الرأسمالية الاستعمارية و تجند عادة شرائح اجتماعية متباينة طالها الفقر و الخـراب بفعل السياسية الاستعمارية و الفواجع الطبيعية كالأوبئة و المجاعات. و تتكون هذه الشرائح من الفلاحين الفقراء و الجماعات البدوية أومن أرستقراطيات عقارية عانت من سياسة المصادرة و الاستغلال أو من حرفيين و تجار أصابهم الإفلاس بفعل المنافسة الرأسمالية.

- إن هـذه الشرائح الاجتماعية المتباينة لا تؤمن بجدوى العمل السياسي المنظم4 لتحقيق أمانيها و تطلعاتها السياسية و الاجتماعية بل تؤمن بالعمل المباشر و العنف، و تهاجم رموز الظلم الاستعماري: المعمرين، أعوان الإدارة الاستعمارية، مراكز الدرك و الشرطة و الإدارة، ثم تلجأ إلى مواقع تختفى بها في انتظار تحقيق المعجزة على يد المهدى المنتظر.

- تندلع الثورات المهدية دون جهد كبير و يكون انتشارها في الأقاليم سريعا مثل انتشار النار في الهشيم لكن سرعان ما ينطفئ لهيبها نظرا لضعف تنظيماتها و قلة استعداداتها المادية و العسكرية. عادة، لا تصمد أمام المواجهات الأولى مع الجيش الاستعماري، لكنها تترك آثارا عميقة في نفوس الرعية، بعد إخمادها.

2. المقاومة و المهدية خلال القرن التاسع عشر

لا الأمير عبد القادر ولا الشيخ الحداد في منطقة القبائل ولا الشيخ بوعمامة بإقليم الجنوب الغربـي، و كلهم قادوا مقاومات مسلحة عظيمة ضد الاستعمار الفرنسي، قالوا بظهور المهدي رغم انتمائهم إلى الطرق الصوفية الكبرى مثل القادرية و الرحمانية و الشيخية.

فالأمير عبد القادر اضطر إلى مقاومة الحركات المناوئة له التي تزعمتها شخصيات آدعت "المهدية" مثل الشيخ موسى بن الحاج الدرقاوي بإقليم المدية سنة 1834 و الشيخ محمد الصغير التيجاني بإقليم الجنوب سنة 1838.

1.2. الحركات المهدية في الجزائر في القرن 19 :

في البداية، نسوق أمثلة عن الحركات المهدية التي شهدتها الجزائر خلال القرن التاسع عشر.

خلال سنة 1834، ثار الشيخ أبو موسى بن الحاج الأغواطي في نواحي المدية على الأمير عبد القادر و شق عصا الطاعة لأنه كان يعتبر التفاوض مع الكافر الفرنسي انحرافا عن الجهاد. "لقد عـارض الشيخ أبو موسى المعاهدة التي أبرمها الأمير عبد القادر مع الجنرال "دي ميشال" و أعـلن الجهاد فالتفت حوله قبيلة صبيح و كثر أشياعه و أدعى الكرامات فاعتـقد الناس "أن هذا السيد لا يتكلم فيه البارود ولا يضره الرصاص المزيد ولا يجرحه لا هو ولا جيشه الحديد"[5].

- ينتمي الشيخ أبو موسى إلى الطريقة الدرقاوية التي اشتهرت بمواقفها الثورية" و بنفوذها الواسع في الأوساط الفقيرة، فكثر اتباعه وكان "جيشه كالجراد المنتشر" اقتحمته قوات الأمير عبد القادر في معارك عديدة بصبيح ثم جندل ثم وادى وأمري "فلم يكن غير ساعة إلا و أبوحمار قد أنهزم بجيشه وولى الإدبار"[6].

وخلال سنة 1845، قامت انتفاضة الشيخ "بومعزة " بإقليم الظهرة فاتسع نطاقها إلى جبال الونسريش وإقليمي التيطري و الحضنة. كان "بومعزة" شيخا من شيوخ الطريقة الطيبية" لا يظهر أمام الناس إلا مستصحبا عنزة يجرها معه فَتَكَنَّيِ بها[7]" تظاهر بمظهر الصالحين الناسكين، وصارت الخوارق تظهر على يده، و تلقب بالمهدي محمد بن عبد الله، فتبعه الناس وآنطوت تحت لوائه قبائل و عروش و كثر أشياعه فاشتهر ذكره عند العام و الخاص[8].

ظهرت حركة المهدي بومعزة في ظرف تاريخي عم فيه اليأس بسبب الضربات التي تلقتها مقاومة الأمير عبد القادر، دامت حركة الانتفاض إلى غاية ماي 1847 حيث استسلم الشيخ بومعزة. استمرت الحركة سنتين كاملتين لأن هذا الأخير كان ينتقل من إقليم إلى آخر، يقوم ثم يختفي رغم الضربات التي كان يتلقاها من الجيش الفرنسي.

عقب ثورة 1871 الشهيرة و في ظل وضع اقتصادي مُتَرَدِ اتسم بالجفاف و العوز العام، قامت حركة الشيخ محمد أمزيان بإقليم الأوراس سنة 1879، كان الشيخ إماما فقيها، ينتمي إلى زاوية تبرماسين الرحمانية، اعتقد الناس بخوارقه و كراماته "لحظة فرح عام بتحرر الوطن و ساعة ابتهاج عم الجميع[9]، اعتبر نفسه مهديا لإثبات قوته و تمكين نفوذه، فكان يوقع الرسائل التي يوجهها إلى العروش " محمد بن عبد الرحمن الإمام المهدى، المبعوث إلى الحق و يهزم من كفر".

- بدأ العصيان يوم 30 ماي بمقتل شخص من فرقة الدواير التي حاولت اعتقال الشيخ محمد أمزيان وسط عرش اللحالحة الذي نزل به في مهمة تدريس القرآن و إمامة الناس. ثم استمر إلى غاية 17 جوان حيث وقعت معركة الأرباع وانتهت إلى هزيمة الثوار و انسحاب الشيخ محمد أمزيان و بعض إتباعه إلى نفطة بالجريد التونسي[10]. تمكنت الحركة من القضاء على بعض القياد و أعوانهم لكنها لم تصمد أمام قوة الجيش الفرنسي إذ كان سلاحها لا يتجاوز " العصى و السيوف و بعض البنادق الفاسدة" و كان نطاقها ضيقا لم يشمل سوى عرش أولاد داود و غاليبة بنى بوسليمان و فرقة من بنى أوجانة وزاوية العبدى.

- في 26 أفريل من سنة 1901، احتشد أكثر من مائة شخص من دوار عدلية بقرية عين التركي (عريوة حاليا) التي تبعد عن مدينة خميس مليانة بتسعة كليمترات، يقودهم مرابط (الشيـخ يعقوب) اعتبر نفسه مهديا جاء لينقذ المسلمين من بطش الكفار"[11]. استولى الثوار على القرية عند منتصف النهار واشتبكوا مع القايد وأعوانه ثم اعترضوا عددا من المعمرين فخيروهم بين الدخول إلى الإسلام أو القتل، فرفض خمسة منهم ذلك فقتلوهم. أما المتصرف و نوابه فقد تظاهروا باعتناق الإسلام فنجوا من القتل. وفي المساء، وصلت كتيبة من الجيش واشتبكت مع الثائرين فقتلت ستة عشر منهم وسيطرت على الوضع و عادت الأمور إلى حالتها دون أن تتحقق "معجزة" الشيخ يعقوب.

- شمل العصيان قبيلة ريغة التي كانت تقطن جبال زكار و تعيش على أراض زراعية فقيرة و على رعي الحيوانات في الأحراش و الغابات. بلغ التذمر ذروته لما عانته هذه القبيلة من سياسة المصادرة و التعسف الإداري. في سنة 1868، انتزعت الإدارة الاستعمارية من القبيلة مساحة تقدر بـ 1463 هكتارا بموجب قانون مجلس الشيوخ لسنة 1863 الذي يعمل على تفتيت الأملاك الجماعية و عندما ألحق دوار عدلية ببلدية "عين التركي" المختلطة، انتزعت الإدارة مساحة أخرى تقدر بـ 1799 هكتارا فيما بين 1877و 1881 ثم [12] باعت القبيلة إلى المعمرين بسبب الفقر و الحرمان مساحة أخرى تقدر 3329هـ فيما بين 1881 – 1900. هكذا تقلص عدد الفلاحين بالمنطقة إلى 3206 فلاحا و تقلصت ملكياتهم من 9323هـ إلى 4066 هـ : 960 هـ منها صالحة للزراعة. إلى جانب ذلك، تعرضت حيواناتهم إلى المصادرة بسبب سياسة الزجر و المحاكمات الجائرة.

2.2. فكرة "المهدي المنتظر" في الأدب الشعبي

فيما بين 1881 – 1918 انتقلت فكرة "المهدي المنتظر" إلى الأدب الشعبي على يد شعراء شعبيين (مداحون وقوالون) كانوا ينتقلون في المدن و القرى بمناسبة الأعياد وانعقاد الأسواق الأسبوعية يقرأون أشعارهم و يَرْووُنَ قصصهم في حلقات يحضرها الكبار و الصغار.

تناول "الشعر الملحون" في الجزائر قصائد ملحمية تحيي ذكرى أبطال مسلمين و شخصيات جزائرية و تعرض لمواقف هجائية تصب اللوم على الإدارة الفرنسية وأعوانها مـن الأهالي. إن الأدب الشعبي" نضالي المنحى يعبر عن ذاتية جزائرية صادقة ترتكز على ثوابت تاريخية مثل الارتباط بالأرض و التطلع إلى الحرية و مقاومة الاستعمار. يعتبره الباحث الاثـنوغرافي ج. ديبارمى "الصورة الصادقة للشعور الجماهيري المتطلع إلى جلاء الفرنسيين من الـبلاد"[13] إذ كانت موضوعاته تعمل على مقاومة اليأس و ترسيخ الأمل الخاص بالتحرير من النير الاستعماري.

اعتقد شعراء الملحون أنهم "مسكونون" بأرواح الأولياء الصالحين العارفين"، فذاع صيتهم في الأوساط الشعبية وانتقلت شهرتهم في المدن و الآرياف. خلال سنة 1908، حلل الباحث ديبارمي[14] مدونة " ديوان الصالحين " التي عثر عليها بناحية البليدة، فلاحظ أنها تحكي "مـداولات الأولياء الصالحين بإشراف القطب سيدي عبد القادر الجيلالي" و تدعوهم إلى تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. لقد دارت الجلسة الرابعة والثمانون حول كيفيات تحقيق الدعوة التالية "يا أيها الأولياء الصالحون قوموا و تكفلوا بقضيتنا..ابعثوا إلى هذه الأمة صاحـب الوقت ومول الساعة". اقترنت سنة 1908 الميلادية بحلول القرن الرابع عشر و اعتـبره الرأي العام الجزائري زمن ظهور "الإمام" الذي اصطفاه الله لقيادة المؤمنين و إنقاذهم من جور الكافرين".

وخلال سنة 1893، اقترنت صورة "المهدى المنتظر" بالسطان العثماني، فانتشرت في المدن و الأرياف أخبارا تتحدث عن قدوم الجيش العثماني إلى الجزائر لتخليصها من الوجود الـمسيحي، و على إثر الانتصار الذي حققته الجيوش العثمانية ضد اليونان سنة 1879، تجددت الشائعات حول قدوم السلطان العثماني على رأس جيوش جرارة فكان ذلك "حديث الناس في المقاهي و الأسواق" و"هو قطب عصره المهدى المنتظر "

تقول قصيدة عثرت عليها الإدارة الاستعمارية بناحية معسكر

الترك بالأمحال يبرهن v هنا ولهيك غاذي

تسعدله الأيام يا أحرار v ومعه تسعد الأيام

على العدو، ياربي دور v الفلك وأعطينا أيام

الحق يعود فيها باين v يزول عنا القهر و الظلام[15]

و فيما بين 1905- 1918، انتقلت صورة "المهدي المنتظر" إلى شخص الأمبراطور الالماني "قـيوم الثاني" الذي نعتته الأدبيات الشعبية بالحاج قيوم". لقد كان الرأي العام الشعبي يفسر الأحداث الدولية المرتبطة بالمسألة المغربية "على طريقته، فذاع صيت الملك الألماني الذي اعتبر نفسه "صديق 300 مليون عربي يعلنون ولاءهم إلى الخليفة العثماني"[16] وقال قائلون "إنـه أسلم و حسن إسلامه" على إثر الزيارة التي قام بها إلى فاس كما كثر الحديث في مقاهي الجزائر العاصمة عن قيام حرب ألمانية فرنسية سيستقل الشمال الإفريقي على إثرها.

و خلال الحرب العالمية الأولى، تغنت الجماهير الشعبية بالحاج قيوم "قاهر سبعة أجناس منها الفرنسيين" و بجيشه العرمرم الذي يضرب بمناطده -Zeppelins - في السماء و بغواصاته في الـبحر و بمدافعه ذات عيار 420 في الأرض"[17] فما على فرنسا إلا أن تغادر الجزائر أمام زحـف القوات الألمانية و تكهن وعاظ كانوا يتحدثون على لسان أولياء صالحين أمثال سيدى عبد الرحمن الثعالبي، بحلول يوم الاستقلال سنة 1915 "ما بين العيد الأصغر و العيد الأكـبر على الساعة الحادية عشر صباحا "أو" أثناء موسم الحصاد حيث يشتد القتال بالمدافع خلال سبعة أيام ثم تنحسب الجيوش الفرنسية في اليوم الثامن"[18] لتترك المكان لولى العهد العثماني الأمير محمد بن عبد الحميد الثاني.

لقد خلد الشعراء الشعبيون التحالف العثماني الألماني واعتبروه ضرورة عسكرية سياسية تمـهد لقدوم الجيوش العثمانية في حالة قيام الثورة في شمال إفريقيا وارتبط التحرير المرتقب على يد الجيوش العثمانية الألمانية "باستعادة الأهالي لأراضيهم المغتصبة وبإعفائهم من دفع الضرائب الثقيلة"[19] و عشية انتفاضة بنى شقران بمعسكر لسنة 1915 " تناقل الناس في المقاهي و الحمامات أخبارا عن قدوم الأمير خالد – حفيد الأمير عبد القادر – إلى المنطقة، إذ وضعه الألمان على رأس جيش كبير جاء لتحرير المستعمرة"[20].

تفطنت الإدارة الاستعمارية إلى خطر هذه التنبؤات، فلاحقت المدّاحين و القوّالين و مـنعتهم من تنظيم "الحلقات" في الأسواق و الساحات. إلا أن نفوذ دعوتهم المهدوية" المناوئة للاستعمار كان راسخا في ذهنيات الجماهير و لم تنجح محاولتها الرامية إلى تعيين "مداحين طيعين" يعملون على الدعاية للأعمال الفرنسية في الجزائر.

3.الوظيفة التاريخية للإيديولوجيا المهدية.

1.3. نظرة الأسطوغرافيا الجزائرية إلى الحركات المهدية :

تنظر الاسطوغرافيا الجزائرية التقليدية و المعاصرة إلى الحركات المهدية نظرة ازدراء و احتقار و يتخذ مؤلفوها موقفا معاديا من القائميين بها.

ينعت المازرى الشيخ أبا موسى الدرقاوي بـ "رجل خامل الذكر، ساقط القدر".. فوكل به الشيطان ففاه بالمخاريق "ويصف حركته" بأنها أخلاط من العرب"[21] و نلمح النظرة نـفسها عند الشيخ عبد الرحمن الجيلاني حين يتهم أبا معزة با"لمتمهدي" الذي يتظاهر بالورع و الصلاح ويقول بالكرامات[22].

يعود عداء المؤرخين التقليدين للحركات المهدية إلى عاملين هما:

- إنهم عادة مثقفون سلفيون لا يؤمنون بصحة نسبة الكرامات و الخوارق للأولياء و الصالحين إذ لا يرون لها دليلا قاطعا في النصوص الدينية.

- إنهم شريحة اجتماعية تنتمي إلى طبقة الخاصة التي تنظر بعين القلق إلى الثورات الاجتماعية التي ترمي إلى زعزعة النظام القائم و إلى ذهاب امتيازاتهم الاجتماعية و الاقتصادية (الفتنة أشد من القتل).

و حتى ابن خلدون الذي تميز بنظرة عميقة للحركات الاجتماعية التي شهدها المغرب في العهد المريني الزياني، فانه أعتبر دعاة المهدية "من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق و لا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية و لا يشعرون بـمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم"[23] ويؤكد في حقهم "ومن هذا الباب، أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من الفقهاء، فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة و سلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمـراء داعين إلى تغيير المنكر و النهي عنه و الأمر بالمعروف فيكثر أتباعهم و المستبشرون بهم من الغوغاء و الدهماء لكن أحوال الملوك و الدول راسخة قوية لا يزحزها و يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل و العشائر".

وحذا المؤرخون الجزائريون المعاصرون حذو أسلافهم، فلم يهتموا بظاهرة "المهدي المنتظر" و تأثـيراتها على المقاومة الجزائرية[24]. فمنهم من لم يتناولها تماما وأعرض عن دراستها[25] ومنهم من أدمجها ضمن العامل الديني[26]. يعود ذلك إلى المنظور القومي الوضعاني الذي تتسم به الاسطوغرافيا الجزائرية المعاصرة.

نجد اهتماما بالتصورات المهدية في البحوث الأنثوغرافية و الدراسات الأنثروبولوجية التي تتناول التراث الشعبي في المجتمعات المغاربية و ظاهرة المقدس على الخصوص. كيف تتجلى الوظيفة التاريخية للحركات المهدية من خلال هذه الدراسات و البحوث ؟

2.3. الوظيفة التاريخية للحركات المهدية :

لإدراك حقيقة هذه الظاهرة، يجب فهم المسيرة التاريخية للانتفاضات المسلحة في الجزائر. عرف القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين حركات مسلحة ضد الاستعمار الفـرنسي، تـفاوتت قوتها بين الفترة و الأخرى. انتهت مقاومة الأمير عبد القادر سنة 1845 ؛ عقبتها فترة "هدوء" دامت إلـى سـنة 1851، ثم قامت ثورة الزعاطشة و ثورة القبائل و ثورة الأوراس (بين 1849 و 1857) عقبتهما فترة "هدوء" أخرى دامت إلى سنة 1863 ثم قامت ثورة أولاد سيدي الشيخ بالجنوب الغربي سنة 1864 ثم كانت فترة "هدوء" إلى أن قامت ثورة 1871 بالقبائل الكبرى و الصغرى ثم عقبتها فترة "هدوء إلى أن ظهرت ثورة أولاد سيدي الشيخ الثانية سنة 1881 و هكذا دواليك إلى أن كانت ثورة بلزمة في الأوراس سنة 1916.

هكذا يتخذ زمن الحركات المسلحة المناهضة للاستعمار الفرنسي شكل ملتوية جيبية sinusoide)) تحتل الانتفاضة المسلحة قمتها وفترة الهدوء قاعها.

CRASC Insaniyat -  دفاتر إنسانيات

يساعدنا هذا الترتيب الزمني للانتفاضات على تحديد الوظيفة التاريخية للحركات المهدية التي تتميز بقلة التنظيم و ضعف الاستعدادات المادية و ضيق الرقعة و الانتشار فإنها تنتشر عموما عقب الثورات المسلحة الكبرى و خلال ما أ سميناه بفترات هدوء بهدف مقاومة اليأس الناتج عن إخفاق هذه الثورات وإحياء الأمل بالتحرير المرتقب. "ما هو ثابت و مؤكد أن الشعب الجزائري قادر على الصمود أمام النكبات و المحن. لقد كتب الله على المسلمين أن تنالهم المصائب و عليهم أن يتجلدوا بالصبر و يتحلوا بالعزيمة القوية إلى أن تحل ساعة الفرج"[27] .

تعيد الحركات المهدية تفعيل الذهنيات الحية حين تخفق الانتفاضات المسلحة، إنها لا تترك مجالا لليأس و الخنوع، بل تعمل على إثارة "الغيرة الوطنية" وإبقاء أمل الاستقلال ثابتا لا يتزعزع في نفسية الشعب و الجماهير.

كلما أحيى الشعراء الشعبيون (المداحون) ذكرى الأمام " على بن أبي طالب" و هو يصارع الغول (الاستعمار الفرنسي) أو ذكرى أولياء صالحين قامت دعوتهم على الأمر بالمعروف و الـنهي عن المنكر، أنتج المجتمع الجزائري ذاكرة خصبة تعيد الاعتبار إلى الذات الجماعية التي ترتكز على اليقظة الوطنية و إرادة التحرير[28].

- مست الأيديولوجيا المهدية المخيال الجماعي لشرائح اجتماعية واسعة كانت تعاني من آثار الاستعمار الفرنسي و عواقب الرأسمالية الحديثة و رغم التفتيت الذي تعرضت له البنى الاجتماعية و الاقتصادية التقليدية بفعل سياسة الرأسمالية الاستعمارية (القبيلة و الزاوية على الخصوص)، حافظت فكرة "المهدى المنتظر" على القدرات القتالية و طاقات المقاومة لدى هذه الشرائح الاجتماعية المتذمرة.

إلا أن المجتمع الجزائري كان مطالبا – مع نهاية الحرب العالمية الأولى – بتغيير بناه الاجتماعية و الاقتصادية أي بناء مؤسسات حديثة و باعتماد أساليب نضالية معاصرة (الحزب السياسي المطالبة بالحقوق السياسية و المدينة) لمواجهة الاستعمار الفرنسي و تحديات العصر.

المراجع

المراجع العربية

  1. 1. ابن خلدون (ع ر) (دون تاريخ) : المقدمة بيروت لبنان
  2. 2. الجيلاني (ع ر) 1984 تاريخ الجزائر، العام 4 أجزاء الجزائر.
  3. 3. زوز ( ع ح) 1986- ثورة الأوراس لسنة 1897 الجزائر
  4. 4. لشرف (م) 1983 الجزائر : الأمة و المجتمع ترجمة حنفى بن عيسي الجزائر-
  5. 5. المازرى (ا ع) 1990 طلوع صعد السعود في أخبار و هران بيروت لبنان (تحقيق يحي بوعزين)
  6. 6. سيمينوف (س) 1994 دولة المهدية في السودان ترجمة هـ رياض بيروت لبنان

المراجع الفرنسية

  1. Ageron, Ch.R.- Les Algériens musulmans et la France.- Paris. Puf, 1968, 2 t.
  2. Article Mahdi.- In Encyclopédie de l’Islam.- Deuxième édition, Paris, 1990.
  3. Hobsbawn (E.J.).- Les primitifs de la révolte dans l’Europe moderne Fayard Paris.
  4. Desparmet Jean.- Bulletin Société de géographie d’Alger : BSGA, ALGER.
    • Les cent et une séances. – 1910.
    • La propagande allemande à Alger.- 1915
    • La Turcophilie en Algérie.- 1916 – 17
    • Les réactions nationalitaires. – 1932.
    • Les élégies et les satires politiques. –1933.
  1. Revue Africaine – Alger – 1939.
  2. Desparmet Jean.- Les chansons de geste : 1870- 1914.


الهوامش

[1]- La science des premiers âges.

[2]- لمـزيد من المطالعة، أنظر مقال:

Mahdi : Encyclopédie de l’Islam –Paris, Nouvelle édition MAHDI, 1990. – p.p 1221 – 1228.

[3]- العروي، عبد الله.- مجمل تاريخ المغرب.- ج 2، الدار البيضاء، 1994.- ص.148.

[4]- سيمونوف، س.- دولة المهدية في السودان .- ط1، دار الجيل، بيروت، 1994.- ص.114.

قاد المهدي حركة عارمة ضد الوجود الانكليزي-المصري في السودان سنتي 1881-1882.

4 مكرر- E.J. Hobsbawn .- Les primitifs de la révolte dans L'Europe moderne.- Paris

(voir chapitre : millenarisme) 

[5]- إبن ع المازري.- طلوع سعد السعود.- 1990.- ص.125.

[6]- نفس المصدر.- ص.128.

[7]- الجيلانى، ع. الرحمن .- تاريخ الجزائر العام.-ج.3، 1984 .- ص.204.

[8]- ابن ع المازرى.- المرجع السابق.- ص. 222.

[9]- زوزو، ع ج.- ثورة الأوراس. – الجزائر، 1986.- ص.63.

[10]- Ageron, C.H.R.- Les Algériens….- Tome 1, 1968.– p.59.

[11]- نفس المصدر.– الجزء الثاني.- ص.965. تؤكد الأسطوغرافيا الوطنية أن تجربة "بومعزة" (الطريقة الطيبية) كانت تهدف إلى ضرب أركان الدولة التي أقامها الأمير عبد القادر على أسس سنية إصلاحية أكثر مما تهدف إلى مقاومة الاستعمار. فاللجوء إلى الفكر المهدوي كان يرمي إلى التشكيك في شرعية إمامة " الأمير عبد القادر الوضعية أكثر مما كان يرمي إلى تجنيد القوى الاجتماعية ضد العدو الفرنسي. يحتاج هذا الافتراض إلى أدلة تاريخية واضحة خاصة حين تحول إلى "مؤامرة" حاكتها قيادة الطريقة الطيبية بالمغرب الأقصى لضرب مشروع "الدولة الوطنية" الذي كان يدعو له الأمير عبد القادر أنظر :

Nadir.- Les ordres religieux et la conquête française 1830 - 1851.- in Revue algérienne des sciences juridiques, n°4, Alger, 1972.

[12]- المرجع السابق .– الجزء الثاني.- ص.966.

[13]- Desparmet, J..- Les élégies et les satires politiques.- in BSGA, Alger, 1933.

[14]- Desparmet, J..- Les cent et une séance. – in BSGA, Alger, 1910.

[15]- Archives de la wilaya d’Oran – Dossier Beni-chougrène.

[16]- Ageron, C.R.- Op.cité, T.II.- p.1182..

[17]- Desparment, J..- La chanson d’Alger pendant la guerre.

[18]- Ageron, CR..- Op.cité.- I. II.- p.1183.

[19]- Ageron, CR..- Op.cité.- I. II.- p.1187.

[20]- Archives de la wilaya d’Oran – Dossier Beni Chrougrane : lettre du sous-préfet.- P. Bert : 19-10-1915.

[21]- ابن عودة المازرى.– المرجع السابق (الجزء الثاني).- ص.126.

[22]- جيلاني، ع.الرحمن.- المرجع السابق (الجزء الرابع).- ص.207

[23]- بن خلدون ، ع. الرحمن.- المقدمة يخص ابن خلدون فكرة المهدى المنتظر" بفصل من كتاب المقدمة لكنه يدرسها في سياق نظريته العامة حول الملك و الدولة إنه لا يؤمن بالدعوة التي تقوم بغير عصبية إذ لا يحصل الملك إلا بشوكة العصبية و القبيل.- ص.ص. 113 - 114.

[24]- اهتم مؤرخون مغاربة بالحركات المهدية في بلادهم و درسوها بطريقة جيدة مثل عبد الله العروى في كتابة "الأصول الاجتماعية للوطنية المغربية" و محمد قدورى في أطروحته حول "أبي محلي"…

[25]- أمثال يحي بوعزيز في كتابه "ثورات الجزائر" و مصطفى الأشرف في كتابة" الجزائر: الأمة و المجتمع..

[26]- أمثال: ع ح زوزو في كتابه "ثورة الأوراس" سنة 1897 شض…

[27]- Desparmet, J..- Les réactions nationalitaires….- in BSGA, Alger, 1910. 

[28]- Desparmet, J..- Les chansons de geste 1830 – 1914.- in Revue africaine, Alger, 1932.

النص وآليات القراءة عند محمد أركون و نصر حامد أبوزيد

مفهوم النص[1]

لا ينكر أحدنا عودة الدين من جديد ليشكل وبصورة مكثفة محورا للسجالات الفكرية داخل مجتمعاتنا المعاصرة، فالإسلام كدين وكتراث فكري يسترد اليوم حيويته المطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية إنه يلعب دورا من الطراز الأول في عملية إنجاز الإيديولوجيات الرسمية والحفاظ على هذه العودة من قراء ممتازين داخل منظومة العقل الإسلامي أمثال محمد أركون ونصر حامد ابوزيد وحسن حنفي وطه عبد الرحمن وعلي حرب... حيث استطاعوا أن يحركوا من جديد إشكاليات النص الديني الكلاسيكية برؤية أكـثـر حداثية بتوظيفهم آليات فعالة في إنتاج المعرفة حول النص وكشف وتعرية ذلك الذي لا يعبر عنه ولا يقوله أو يمتنع عن قوله ولم يجدوا أي حرج في إشتغالهم بالمناهج الغربية وتطبيقها لأجل فهم طبقات النص الديني على الرغم من وجود حملة شرسة ضدهم مثلها ولا يزال يمثلها جماعات التكفير في زمن التفكير.

إن القرآن نص لغوي يمكن أن نصفه بأنه يمثل في تاريخ الثقافة الإسلامية نصا محوريا وليس من قبيل التبسيط كما يشير نصر حامد أبو زيد أن نَصِفَ الحضارة العربية الإسلامية بأنها "حضارة النص" [2] لكن هذا لا يضعنا أمام تسليم مطلق بأنه يمثل مركز الحضارة. بصورة شمولية. بل نرى فيه موضوع مساعد وهام على فتح المجال أمام الجدل بين الإنسان والواقع من جهة، و حواره مع النص من جهة أخرى وإذا كان الأمر كذلك أي إذا كانت الحضارة تتركز حول "النص" فلا شك أن التأويل يمثل آلية من أهم آليات القراءة في إنتاج المعرفة. ويدعونا اليوم التأويل المطبقHerméneutique Appliquée ، ليس فقط إلى تطبيقsubtilitas applicandi أورغانون منهجي وإبستيمولوجي في قراءة التراث الإنساني، وإنما أيضا إلى تشكيل وعي تأويليconscience herméneutique. قوامه الحس التاريخي والنقدي في تناول موضوعات التراث. وعقلانية متميزةsubtilitas intelligendi في فحص أصوله و اكتناه تركيبته[3]. و من هذا المنطلق، حاولنا أن نحيل قراءة النص إلى آليات أكثر حداثية، هدفها ملاءمة البعد الموضوعي لفهمه. وإخراجه من تلك القراءات الإسقاطية، السطحية، مع مراعاتنا بطبيعة الحال مسألة رفض بعض الأطراف من داخل السياج الدوغمائي للخطاب الديني الكلاسيكي وحقنا في ممارسة القراءة للنص بآليات غربية أروبية. ولإيماننا بضرورة مواكبة التسارع التاريخي للمجتمعات البشرية، وحقنا في المساهمة، والمشاركة لأجل بناء عالمية فكرية، اضطررنا إلى شحد مثل هذه المناهج لفهم واقعنا في علاقته بالنص القرآني على وجه الخصوص، والبحث عن مفهوم "النص" ليس في حقيقته إلا بحثا عن ماهية "القرآن" وطبيعته بوصفه نصا لغويا، وهو بحث يتناول القرآن من حيث هو "كتاب العربـية الأكبر، وأثره الأدبي الخالد" فالـقرآن كتاب الفن العربي الأقدس ويضعنا هذا البحـث أمام إشكاليات جوهرية يبرزها فعل القراءة. كيف نتعامل مع النص ؟ وهل في توظيفنا لآليات الفكر الغربي في فهم النص خرقا لحقيقة التراث ؟ ألا يوجد تناقض في مثل هذه الحالات بين المنهج والحقيقة. بين ما يحمله النص التراثي من حقيقة، و ما تكتنيه المنهجيات الأروبية من تأويل وحفر وتنقيب ؟

إن الممارسة التأويلية للنص تجعلنا ننفلت من دوغمائية القراءات التحريفية والسطحية للنص القرآني، كما تجنبنا إضافة إلى ذلك مأزق الثنائيات التي سيجت الفكر الآسلامي بمغالق أصبح صعبا فتحها. كـ "ثنائية العقل والنقل" إذ يمكن أن نصحح من هذا المنظور التأويلي الكثير من الأفكار المستفزة كما يشير نصر حامد أبو زيد عن تراثنا الفكري و الديني و الفلسفي. إذ بفضل القراءة وآلياتها نصبح أمام نص منفتح على الدوام إلى اللا-نهاية non-fini، و يحتضن العديد من الإحتمالات. فهي تزيل ذلك التصدع القائم بين جوانب التراث في أذهاننا، و في مناهجنا، فلا نقيس الفكر الإسلامي على الفكر اليوناني، أو غيره، ويعتبر التأويل و التفكيك بمثابة آليات للقراءة، لا يمكن تناولها عند حدوث التراث، بل نجدهما امتدادا إن اقترنا بالواقع الراهن الذي نعيش فيه جميعا". "فالنص بكل ما يحمله من تراث تفسيري واقع متعين في حياتنا اليومية، وفي ثقافتنا المعاصرة يشكل حركة هذا الواقع[4]". و ما نلزم به أنفسنا أننا مجتمعات "النص"، النص القرآني ولا نرى أي حركة لمجتمعنا بدونه. و لا يمكن أن نقيم أي حضارة أو ثقافة متماسكة بمعزل عن العلاقة الذي وضحها النص و المتمثلة في كلمة الإسلام. حيث الله في علاقة وطيدة بالإنسان. ونكون قد جازفنا بمسقبلنا لو حاولنا أن نحدث تمفصل بينهما وهذا ما حاولت تكريسه القراءة الإيديولوجية النفعية المغرضة، حيث حاولت تجزيء هذه العلاقة. أين نظروا إلى التقدم والحضارة بمعزل عن الله. أعتقد أن هذا يمثل بالنسبة لنا سر قيام أية حضارة تستمد وجودها من النص.

فالذي أسس الحضارة هو ذلك الحوار بين الإنسان والنص. "فالأمر محصور بين رب وعبد يقول محي الدين بن عربي، فللرب طريق و للعبد طريق، فالعبد طريق الرب فإليه غايته، و الـربّ طريق العبد فإليه غايته.[5]" الأصل مرتبط بـ "فعل" القراءة. –اقرأ قال الله لنبيه محمد - الـقراءة واجب- والأخذ بها أكثر من ضرورة. وإننا هنا نتجاوز معناها السطحي ذلك المرتبط بالقول أنها مجرد سياق إضافي خارجي يضاف إلى النص. إن الأمر غير ذلك. فـالقراءة فعل سحري بسيط يلغي المادة المكتوبة ليتمكن من روح النص، و تسمع صوته، إنها بمثابة عملية تقوم بفك الشفرات Les codes، وكشف الأسرار، وتعرية الرموز. ولا يمكن لأي نص أن يكون نصا إلا بفعل القراءة، ولا أبتغي في مقامي هذا التركيز على القراءة ومستوياتها لأن الموضوع لا يتطلب ذلك وحديثي عن القراءة كما يتجلى في عنوان المقال مرتبط بالآلية والنص فالأولى تمارس القراءة على النص. و الآلية كما يعرفها الأستاذ طه عبد الرحمن في مشروعه "فقه الفـلسفة" تحمل معنيين أولهما عام و الثاني أخص، فأما العام، فهي بالنسبة عٍـلٍـيـّه فهي آلية خاصية إضافية تلحق كل علم يشترك في تحصيل غيره، فيكون كل علم داخل علم آخر بـمنزلة آلة من آلاته. فإذا كان دخول الحساب في الفقه يجعل منه آلة لـه وإذا دخل النص في القراءة جعل منها آلته. فالآلة صفة عرض للعلوم من جهة استخدامها في غيرها بحيث لو صرف عـنها هذا الاستخدام صارت علوما مقصودة لذاتها فيكون لذلك كل علم مقصودا من جهة لذاته ومن جهة أخرى آلة لغيره وأما المعنى الأخص للآلية : فهو أن يكون صفة ذاتية لبعض العلوم أي صفة تحقق دون غيرها[6]. وآلية القراءة ستعرف تطبيقاتها الصارمة مباشرة على النص. ما الـذي نعنيه بالنص ؟ إنه وإذا كان كلمة "النص" في اللغات الأروبية تعني نسيجا = Tissu من العلاقات اللغوية المركبة التي تتجاوز حدود الجملة بالمعنى النحـوي للإفادة. الأمر الذي يؤكد أصل اشتقاقها من اللغة اللاتينية فلم يكن الأمر كذلك في اللغة العربية، و من استقراء الدلالات المتعددة الواردة في لسان العرب لابن منظور، يمكن أن نشير إلى دلالتين: الدلالة الحسية لمعنى النص ولو أن "دال نص" بالمعنى الإجمالي هي الظهور و الانكشاف، أما الدلالة الحسية كقولنا : نصـت الظبية جيدها، أي رفعته أو نص الدابة رفع جيدها بالمقود لكي يحثها على السرعة في السير النص والتنصيص السير الشديد. أما الانتقال الثاني من الحسي إلى المعنوي فالدلالة المعنية للنص هي: نص الرجل سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده وبلغ النساء نص الحقائق أي سن البلوغ[7].

أركون وقراءة النص الإسلامي :

يغدو النص الديني عند أركون ممارسة خطابية Pratique Discursive، خاضعة لآليات التأويل القائمة على التفكيك Déconstruction، ممارسة إستلهمها أركون من فلاسفة الحداثة و ما بعد الحداثة الأروبية ولم يجد أي حرج في التعامل مع هذه الآلية[8]. بل يصر على إعمالها ويدعونا لأجل فهم النص الديني من خلالها لأنها الضامن الوحيد للفهم الموضوعي المنفلت من قبضة الإسلاميات الكلاسيكية الإستشراقية Orientalisme التي تحاول حرمان العقل الإسلامي من قراءة النص القرآني وهو يشحد مناهجه من العلوم الإنسانية الغربية المنبع ويمثل محمد أركون أحد أهم أقطاب العقل الإسلامي والقارئ الممتاز للنص برؤية حداثية / و تحمل تجربته خصوصياتها ونمط وجودها وقانونها الداخلي وإحالاتها الممكنة، يؤكد أركون على ضرورة النظر إلى النص على أنه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقبات الزمنية، إن هذه القرون المتراتبة بعضها فوق بعضها الآخر طبقات الأرض الجيولوجية[9]. ولا يمكن أن نتوصل إلى فهم حقيقة عمق هذه الطبقات إلى القرون التأسيسية الأولى مثلا إلا باختراق الطبقات السطحية والوسطى رجوعا في الزمن إلى الوراء. والتفكيك يمثل آلية مهمة لاختراق وتعرية Dévoiler طبقات النص التي حاولت أن تختفي من وراء النظريات المختلفة، والتشكيلات الإيديولوجية المتنوعة، لأجل نزع البداهة ورداء القداسة عن النص... إني في قراءتي للفكر الإسلامي يشير أركون أحرص على الإلتزام بمبادئ المعرفة العلمية و احترام حقوقها مهما يكن الثمن الإيديولوجي و السيكولوجي و الاجتماعي غير أنه ثمة صعوبات تواجه أركون في قراءاته التطبيقية على النص. والتي مثلت بالنسبة إليه سياجا دوغمائيــا Dogmatique يعيق فهم أعماق النص وأسراره وفي قمة هذه الصعوبات، نجد تركيز الفكر الإسلامي على ثيولوجيا تفوقية المؤمن – غير المؤمن، المسلم – غير المسلم... كما حاول البعض إضفاء طابع القداسة والتبجيلية على المعنى الواسع المرسل من قبل الله ووحدانيته بالإضافة إلى تكريس دوغمائية القيم الأخلاقية والدينية[10].

نجد اليوم وعينا أمام القراءات أكثر حيوية، مبدعة ومنتجة تبتعد عن التقليد و الإتباع و الابتداع، الذي ارتبط ولمدة طويلة بالقراءات الكلاسيكية وبعض القراءات الإستشراقية إننا أمام محاولات لا تنغلق على ذاتها بادعاء امتلاك حقيقة النص تتبنى آليات أكثر عملية آليات الهدم و الاختراق والحفر والتفكيك، آليات أقل ما يقال عنها أنها تمتلك القدرة على فهم إخفاءات بواطن تراثنا المعرفي، تضعنا أمام التعبئة اللامنقطعة للاكتشاف والبحث عن أسرار الفكر الإسلامي. وتمتلك قراءات أركون جرأة المواجهة، تواجه وبشدة الخطابات المضخمة Les Discours Hyperboliques الـتي تؤسطر التراث Mythologisation و تصنمه Idôlatrie على الرغم من المحاولات المناهضة للحد من زحق مثل هذه القراءات واكتساحها الساحة الفكرية من قبل سلكة العقلية الدوغمائية، أو الروح المنغلقة، إن علاقتنا بماضينا علاقة جدلية يقف عندها المفكر محمد أركون في قراءته العلمية الموضوعية للنص القرآني، إنه لا مفر من إعمال الممارسة التفكيكية لأصول العقل الإسلامي بهدف إعادة تجديد شروطه النظرية المستحكمة بكل قراءة للقرآن، ونقصد بالقراءة هنا بالمعنى الألسني الحديث وليس بالمعنى القراءات الشارحة والروايات المختلفة قراءة يحركها البحث والكشف، إهتمامها الوحيد الإبداع من داخل النص من أجل خلق خطوط محايثة اللامثولية واللا-متماثلة، نسج شبكة النص بصورة عنكبوتية من حيث ما تحمله من اختلاف وتعدد ومحاولة نفض الغبار على خراب المعنى الملتصق ولعدة قرون طويلة بالعقلية الأرثوذكسية – الدينية وبالنص التراتي بصورة عامة لقد تجاوز أركون التفاسير والشروحات إلى نقد الوحي نفسه، وذلك بالتعامل معه كمعطى يخضع للمعرفة النقدية. لأجل تحريك اللا-مفكر فيه L’impensable وتعريته من خطاب حاول أن يؤسطره Mythologiser وفي تفكيكه هذا استعمل آليات مـثل الاختراقTransgression يخترق المحظورات الممنوع والممتنع الخضوع فيه وخاصة الطابوهات وكذا جدار الصمت ثم يوظف الإزاحة Déplacer فالتفكيك عند أركون ينطلق من التشكيك بما يزعمه الخطاب الديني من قول للحقيقة ويحتكر بهذا الأداء المعنى ويمتلك أخلاقياته مسيجا كل محاولات العقل نحو تجاوز دوغمائيته المرتبطة بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية وترفض بنفس الصرامة والشدة مجموعة أخرى تعبرها لاغية لا معنى لها كما يوظف أيضا التجاوز Dépassement مجاوزة كل ما بإمكانه أن يعيق فهم النص هذا ما يقصده أركون بالروح الدوغمائية وبفضل الإكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان والمجتمع تم إعادة النظر بصورة حتمية فيما يحمله المعاش الضمني للمؤمنين من مقدس Sacré أو غرائبي مدهش Merveilleux أو ساحر وأسطورة وعامل شفهي أو كتابي أو مخيال أو عقلاني أو لا-عقلاني هي في طور الانتقال إلى حالة المعروف الصريح[11] إن هذه التناقضات تمثل سمة حيوية لتراثنا.

لقد أثار محمد أركون وبجدية قضايا مجتمعات الإسلام والديانات التوحيدية الأخرى، ضمن قراءاته التفكيكية[12] وتعتبر مسألة حقوق الإنسان في الإسلام أكثرها تناولا وأهمية بالنسبة إليه حيث عمل على تخليصها من بعدها الصدامي الذي نلمسه بمجرد قراءتنا أو تناولنا لها أين نجد البعض يربطها بصورة مباشرة بالخطاب الإسلامي المؤدلج والشائع. إن أركون في هذا المقام لا ينكر أن قضية حقوق الإنسان طرح غربي أروبي حيث توافق والإعلان عنها بالثورة الفرنسية 1789 ونجد في مقابل هذا الإعلان وبشكل أكثر متقدم إعلان يحاول أن يدعي لنفسه العصمة ذلك الذي حرره مجموعة من علماء الإنسان وأساتذة القانون وأعلن عنه بتاريخ 01 سبتمبر 1981 في إحدى جلسات اليونيسكو: باسم الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان. ويؤكد أركون وبعد قراءته المتأملة العقلانية لهذا الإعلان أن جل مواده الثلاث وعشرين ترتكز على الآيات القرآنية والحديث النبوي. ومن أهم المبادئ التمهيدية لهذا الإعلان، جاء فيه "نظرا للأصل الإلهي لهذا القانون، فلا يمكن لأي زعيم سياسي أو أي حاكم أو أي مجلس نيابي أن يلغي أو أن ينتهك حقوق الإنسان التي وهبها الله له[13]". ينطلق أركون في قراءته للمسألة من السؤال عن البعد التاريخي للمجتمع، إنه يخص العلاقة بين الدين الإسلامي و المفهوم الحديث لحقوق الإنسان كما صاغته الثورة الفرنسية، لكن هذا يجرنا إلـى الحديث عن سوابق المشكلة إذ ثمة بذور تناولها في النصوص الكبرى للأديان التوحيدية و منطلق أركون في بداية تأصيل المشكلة هو النص القرآني فهل ثمة حديث خاص بمسألة حقوق الإنسان في القرآن ؟ يشير أركون إلى أن القرآن يتموضع داخل خط الديانات التوحيدية مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل إنه لا يتموضع داخل منظور الوحي وبديهي أن نجد في النص القرآني مثل ما هو الشأن بالنسبة للخطاب المسيحي مستويات متعددة للخطاب فثمة خطاب تشريعي، وخطاب ديني وخطاب معرفي، رمزي ومجازي. توجد كل هذه المستويات وكلها مـتضمنة في النص نفسه تشتغل بصفتها محور تشكيل علاقتها بمستويات متفرقة. لماذا ؟ ذلك أن النص القرآني هو كلام يرافق فعل وليس كلام من أجل الفعل أو متعلق بالفعل أي هو الكلمة التي تقول ما تفعل وفي نفس الوقت تنجز فيه فعلا ما. وهنا تكمن حسب أركون قوة اللغة الدينية[14]، لذا يجب فهم آياته باعتباره (النص القرآني) يسير وفق أحداث تاريخية تتزامن و مستجدات دولة المدينة التي أسسها محمد النبي. وبعيدا عن القراءات السطحية الهامشية للنص يدعونا أركون إلى قراءته بصورة زمنية Diachronique لفظة "مسلم" التي تعني عنده الخضوع و الإستسلام بقدر ما تعبر عن علاقة وطيدة بين الإنسان والله فثمة تحالف أو ميثاق يجمعهما، فالإنسان حسب هذا الميثاق موعود بالحياة الخالدة إذا ما نفذ الشروط بدقة أثناء الحياة الدنيا[15]. إن حقوق الإنسان وفق هذا الميثاق المنصوص عليه في القرآن أكثر تقدما بالقياس إلى جو محيط و تاريخ سابق (منطقة شبه الجزيرة العربية) وحقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة الفرنسية بعد عصر الأنوار سوف تكون شيئا مختلفا تماما لأن التاريخ إختلف، والمجتمع إختلف ولأن الفكر البشري قد حقق إنجازات لم تكن ممكنة في القرن السابع الميلادي[16].

معضلة تأويل النص، نصر حامد أبوزيد :

و ستعرف معضلة النص فهما آخر مع قراءات نصر حامد أبوزيد، والشيء الذي أدهشنا في قراءاته، جرأته أولا، وكثافة معارفه لما تحمله من منابع متعددة ومختلفة، فحمولته المعرفية الكثيفة جعلت من تأويله تأويلا حيويا و غنيا، يفتح المجال أمام حوار مفتوح على الدوام ويرى أبوزيد أن قدرنا اليوم هو الإنفتاح على جميع مصادر المعرفة حتى مع تلك الوافدة من الغرب و التي باستمرار تضعنا أمام موقف الصدمة، ومن الضروري استثمار هذه الصدمة، خلافا لما حدث مع مفكري عصر النهضة، الذين غفلوا عن كيفية التعامل مع الراهن، فراحوا يضعون ثـنائيات تصادمية، جعلت من الفكر أكثر رجعية على الرغم من شعارات التقدم و الطليعة… بحيث أنتج هذا الفكر صراعا كنا في غنى عنه، صراع ما هو قديم مع الحديث، و الأصيل مع المعاصر، والسلف مع الخلف… لم نتعامل جيدا ولم نفهم واقعنا الذي كان نتاج الصدمة، لم نحاول فهمها فهما موضوعيا علميا "أو حتى فنيا": مثل هذا الصراع ثبط عزائم العقل الإسلامي و مبادراته من أن يباشر في وضع مساهماته ومشاركته في بناء العالمية، وأجد تشخيص أبوزيد لمحاولات قراءته للتراث جد هامة فموقعنا في العالم، بالنسبة إليه هو موقع في حالة حوار جدلي مع الغرب، فسواء اخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم أصلا على الحوار الذي يدعم موقعنا وإدراكنا مثل هذه الجدلية تخلصنا من حالة الفوضى التي يعاني منها النص التنويري في قراءاته الفكرية المعرفية، فالمتمحص في حالتنا الثقافية لا ينكر مـثل هـذه الـفـوضى[17].

يقف نصر حامد أبوزيد وهو ليس بعيدا عن محاولات أركون في ممارساته التأويلية، يقف موقفا أكثر إجرائية، يبادر بمساعدته التراث ليس في شروحاته وتفاسيره، إنه لا يقف عند مرحلة التدوين بما حملته من بداية للإبداع والخلق، ولا يحاول نَعْيَ مرحلة الإتباع والتقليد لواقع العقل الإسلامي، بل يسعى إلى تشخيص كليهما إنطلاقا من التجربة المعاشة، إنه يقرأ النص القرآني مباشرة يطرح معضلة النص بالشكل التالي : كيف يمكن الوصول إلى المعنى الموضوعي للنص القرآني ؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى القصد الإلهي في كماله وإطلاقه ؟ إن مثل هذه الأطروحات لا يمكن لأي معرفة معالجتها سوى القراءة النقدية و بآليات تأويلية وحدها بإمكاننا معالجة المعضلة، باعتبارها تقف بصورة جدية عند عناصر البنية المشكل منها فعل القراءة التي تطرح صعوبات حول (المؤلف / النص / الناقد) أو (القصد/ النقد/ التفسير)[18]، ونلمح عبر هذه المعضلة الهاجس المؤرق لمفكرنا، كيفية الإسهام في بلورة و تأسيس معرفة عقلية بالنص القرآني (المقدس) إذ الملاحظ كما يقول أبوزيد : "أن ما يجمعنا نحن المسلمون موجود في النص، وينبغي التسليم بذلك، لكن الوصول إليه وبلوغه لن يكون إلا من خلال القراءة التأويلية، باعتبار التأويل العملية الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر.[19]

بالإضافة إلى معاداته للقراءات المؤدلجة المكرسة لخطابات العنف الفكري تلك القراءات الـتي حولت النص إلى بوق لا يسمع منه سوى أصوات الموجهين، وليس صوت النص، فلحقه غياب كلي لكينونته، لأنه تم تناوله من منظور مؤدلج، همه الوحيد التكلم باسم النص، و ليس الـتكلم لأجل النص. و تبرز على خلاف ذلك وظيفة التأويل التي تسعى إلى فهم الواقع فلا فكر خـارج الواقع المتضمن لجميع أشكال التعارض والتباين، إذ لا ينبغي حصر دراسة الـتراث على الماضي، واجترار أفكار أمجاده، فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تواصل وجدل تستوجب قراءة الماضي لفهمه وتجاوزه لا لتقديسه[20] فلا شك إذن كما يرى –حامد أبو بزيد- أن التأويل وهو الوجه الآخر للنص يمثل آلية هامة من آليات الثقافة و الحضارة في إنتاج المعرفة وتقودنا قضية التأويل إلى دراسة مفاهيم و مقولات القدامى عن اللغة بجوانبها المختلفة خاصة من الزاوية الفلسفية، والكشف عن الأسس الأنطولوجية بالمعنى الوجودي، والمعرفية التي شكلت هذا المفهوم كما يمكنه بلورة و إنتاج الكثير من المفاهيم النقدية والبلاغية في التراث، وخاصة فيما يرتبط بالتصوف[21]، إننا مطالبون أكثر من وقت مضى باستثمار هذا الفضاء الكثيف، والذي يريد أن يعبر عن نفسه أنه نص، عالم يريد أن ينفجر، ولا يمكن تفجيره ونَسْفِهِ إلا بحضور المثقف اللا-متردد أي المبادر و اللامنهزم، صاحب الموقف، ونشوة المخاطرة تغمره باعتبارها أصل وجوده، وهنا وفي هذه اللحظة بالذات تكمن قيمة و إجرائـية التأويل. إن التحدي حسب أبوزيد ليس العمل على حماية التراث من التشتت و الضياع، فالأولوية في المـرحلة التي نعيشها في الزمن الحاضر هو حماية وجودنا نفسه. بعد أن أصبح التحالف بين العدو والقوى الرجعية المسيطرة في الداخل حقيقة بارزة [22]: مثل هذا الوضع خلق نوعا من التحدي المضاعف من قبل مشاريع التنوير، لكن هل نجح العقل الإسلامي في زعزعة أنساق الروح الدوغمائية ؟ وهل استطاع إزاحة منطق الإنغلاق و الهوية القائم على استعلائية الخطاب الرجعي، والثقافة السائدة بتعبير –أدونيس- هل استطعنا مـحاكمة العقل والتشكيك في إمكاناته المعرفية ؟ أن المسلّم به هو نجاح العقل الإسلامي حاليا في إنتاج قراء و نقاد ممتازين، يتأرجحون بين محنة السؤال، ومهنة المساءلة، من أمثال، حسن حنفي، أركون وأبوزيد (حامد) وعلي حرب… حاولوا على الدوام إيجاد آليات قراءة تجد الحلول قبل انفجار الوضع علينا بقيادة الأنظمة الكـليانيةLes régimes totalitaires التي تحسن توزيع أساليب الردع والإقناعdissuasion ، وإلقاء الخطابات المفخمة Discours emphatiques حول ما يقال على التقدم و الحرية، و الوعي، و الحداثة. وطبيعة ا لنظم و الإيديولوجيات معها تحول النـص إلى عالـم واحــد موحـد Monde unique يوحد كل الذهنيات ويتخذ لنفسه طابع الأقنوم Hypotase و إلى نموذج أصلي archétype و يتم اعتباره حقيقة مطلقة، مسيجة بالنظرة/الروح الدوغمائية تضفي عليها هالة القداسة، و التبجيلية، وعليه فإنه لا يخفى علينا بأنه ثمة مقدسات جديدة وأديان حديثة هي الإيديولوجيات، إذ الفكر الإيديولوجي تغلب بصورة جلية على الفكر العلمي[23]، وخاصة علوم الإنـسان، و مع الإيديولوجيا تم تكريس غطرسة العقل ممثلا في النزعة العقلانية وجبروته Rationalisme منذ بداية عصر الأنوار بالغرب Lumières، وعصر النهضة عندنا و أبوزيد يؤكد على القراءة الموضوعية للنص القرآني، فإنه ينفلت من كل قراءة نمطية نسقية مغلقة وهذا ما لم يدركه بعض من تعاملوا مع نقد النقد من أمثال جابر عصفور وعلي حرب.

فالأول يتخوف مما سيؤول إليه مشروع أبوزيد، إذ يرى أنه لا يمكن لأي مفهوم موضوعي للإسلام أن يتجاوز الأطروحات الإيديولوجية[24]، لكننا نرى بأنه وعلى الرغم من كوننا كائنات تعيش واقعنا في مختلف تجلياته السوسيولوجية و التاريخية و الإقتصادية، إلا أن تأويلنا يحاول أن يخترق ويتجاوز ويزحزح عبر آليات القراءة تعتيم الخطاب المضلل، بدون أن نقع في فخ اللعبة، علينا أن نمارسها من داخلها على أرضها مع أخذ الحذر عدم الوقوع في مفارقة و استعلائية مفرطة، فلا أجد، على هذا الأساس، أي مانع من قراءة النص وأنا متجرد من أسماء العَلَمْ. لكن أسئلة وتخوف جابر عصفور على الرغم من ذلك تبقى مشروعة، إذ نبقي على السؤال حول إمكانية تحديد مفهوم موضوعي للإسلام بعيدا عن علاقات التناص المعقدة و شبكة لا يفارق فيها النص تأويلاته؟ إن إنجاز أبوزيد في دراسته للنص القرآني، وأن تناسي البعد الإيديولوجي فبإمكاننا أن نجعله يتجلى، لحظة تحليله لآليات اشتغال النص، وفي بحثه عن شروط إمكان الوحي، ألم نقل أن كل قراءة للنص إنما هي قراءة بروكستية، حيث يـقطع عبرها القارئ أجزاء النص ويجذب إليه أجزاء أخرى حنى تنسجم مع التأويل الذي يـقترحه و يفرضه على النص[25].



الهوامش

[1]- إن معضلة قراءة النص القرآني أصبحت تثير حساسية مفرطة أكثر من أي وقت مضى لدى قراء الإيديولوجيات المنفعية التي أعتقد أن ما يهمها من وراء ذلك فهم جوانبه السطحية فقط أما القراءات المعاصرة للنص فصنعت الحدث التنويري حسب اعتقادنا، فجرأة ممارستها لآليات القراءة تعدت حدود النص لتغوص في أغواره وحاولت كشف طبقاته المتوارية لمدة طويلة من الزمن.

[2]- أبوزيد، نصر حامد.- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن.- الطبعة الرابعة، المركز الثقافي العربي، 1998.- ص.9.

[3]- شوقي، زين محمد.- مفتاح التأويل في قراءة التراث الإنساني.- مجلة فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد 28، أفريل 2000.- ص.60.

[4]- أبوزيد، نصر حامد.- فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي.- الطبعة الرابعة، المركز الثقافي العربي، 1998.- ص.ص.16-17.

[5]- ابن عربي، محي الدين.- الفتوحات المكية.- المجلد الثالث.- ص.193.

[6]- طه، عبد الرحمن.- تجديد المنهج في تقويم التراث.- الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، 1993.- ص.ص.150-151.

[7]- أبو زيد، نصر حامد.- النص، السلطة، الحقيقة.- الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي،1997.- ص.ص.150-151.

[8]- التفكيك Déconstruction: إستراتيجية Stratégie، براعة ودهاء.Stratagème فحص النصوص والموضوعات يسعى التفكيك إلى كسر منطق الخطاب الوثوقي القائم على الثنائيات. صواب – خطأ، وهم – حقيقة، شر – خير. ولقد إستفاد دريدا، مؤسس التفكيكية، من سابقيه في عملية تقويض دعائم الميتافيزيقا دون العمل على تجاوزها، نيتشه، هايدغر، فوكو. إن التفكيكية لا تراقب النص من الخارج باعتبارها نص خارجاني Le Dehors، كما رأت فيه الماركسية والوضعية المنطقية وإنما يخترقها لتغوص في أعماقه وينخرط في نظامها من الداخل باعتباره نص يحمل جوانيته Le Dedans، النص عند جاك دريدا ليس تـلك البنية المتناسقة والمتكاملة التي تضمن استمرارية دلالة جوهرية وخصوبة رمزية، النص هو طبقة رسوبية من نصوص تضرب جذورها في أعماق العقل البشري (أنظر تعريف النص و التفكيكية عند محمد أركون).

[9]- مثل هذه الممارسة التأويلية القائمة على الحفر والتنقيب والتفكيك تندرج ضمن دراسات تاريخ الأفكار الذي أرسى دعائمه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (أنظر حفريات المعرفة L’Archéologie du savoir، ترجمة سالم يفوت).

[10]- مسطح لا-مثولي : إستعمال دولوزي المفكر يخلق المفاهيم عبر حركة المفهوم ذلك أن أي عملية إنتاج منظومة معرفية لا تتم خارج المفهوم أو بعيدا عن العبارات والجمل. ونحن أمام النص نتحول إلى مفاهيم فلسفية تتحرك ذهابا وإيابا عبر أمكنة وأزمنة ومشاهد فهي بمثابة فضاءات (نحن نكتب دائما من أجل إعطاء الحياة ومن أجل تحرير الحياة مما يعتقلها ومن أجل رسم الخطوط للهروب.

Voir DELEUZE, Gilles.- Entretien avec Raymond Bellour et François Ewold.- in Magazine Littéraire, N°257, Septembre 1988.

[11]- أركون، محمد.- الفكر الإسلامي، قراءة علمية.- ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1996.- ص.55

[12]- تندرج أعمال محمد أركون ضمن قراءات فلاسفة ما بعد الحداثة لحظة تبنيه الممارسة التفكيكية و الحفرية بحثا عن أغوار وكنوز النص، لا يعترف بمعنى شامل كليا في النص بل ينص على خصوصيات العبارة ونمط وجود النص وتاريخية تأسيسه وتكوينه، فالنص مع أركون يغدو طبقة جيولوجية من نصوص تضرب جذورها في أعماق تاريخ العقل البشري، راجع محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 1998.

[13]- أركون، محمد.- الفكر الإسلامي، نقد و إجتهاد.- ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الثالثة، 1998.- ص.ص.314-315.

[14]- ARKOUN, Mohamed ; BARRMANS, Maurice ; AROSIO, Mario.- L’Islam, Religion et Société.- Interview dirigé par Mario AROSIO ; traduit de l’Italien par Maurice BORRMANS.- Paris, Editions Cerf, 1982.- p.p.50-51.

[15]- Ibid.- p.21.

[16]- أركون، محمد.- الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد.- ص.317.

[17]- أبوزيد، نصر حامد.- إشكـاليات القراءة وآليات التأويل.- المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 1996.- ص 14.

[18]- المرجع نفسه.- ص 19، القصد/النص/الفهم. مغامرة أبوزيد الكتابية وجرأتها تكمن في محاورته لنصوص تراثية هامة ك "ابن عربي" وسيبويه والمعتزلة… إن الفهم لا يكون والنص اللغوي ثابت مادام المدلول في حالة تغير دائم وخلق جديد. يستوي في ذلك النص اللغوي العادي، والنص القرآني الدال على حركية الوجود الدائمة "إن اللغة قوة دلالية في ذاتها تجعلها قابلة لتعدد التفسيرات على مستوى الدلالة الوضعية الظاهرة للغة ابن عربي." فتوحات مكة، راجع أبوزيد (حامد) إشكاليات القراءة وآليات التأويل، 12، المرجع نفسه.- ص.192.

[19]- المرجع نفسه.- ص.192.

[20]- يشير نصر حامد أبوزيد بهذا الصدد على أن إصراره في استخدام مفهوم التأويل إنما هو بمثابة العودة إلى الأصل. إن كلمة تأويل هي التي استخدمها قدامى المفسرين أمثال محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) الذي اطلق على كتابه "في التفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن."

[21]- ينفتح التأويل بـصورة جلية على النص العرفاني لدى أبوزيد، فالأمر لا يتوقف عند حدود النص القرآني فحسب بل حتى إشكالية كيف نقرأ العرفان الإسلامي. مساءلة مهمة بالنسبة إليه، فالتجربة العرفانية باعتبارها محتوى أنطولوجي ومعطى فينومينولوجي وتأسيس تاريخي تنتج خطابا لها دلالتها ونظام ظهورها، يجمع بين الفكر والذكر، بين التفكير والتدبير، راجع نصر حامد أبوزيد: فلسفة التأويل عند ابن عربي.

[22]- أبوزيد، نصر حامد.- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن.- المركز الثقافي العربي، 1991.

[23]- حرب، علي.- نقـد النص.- المـركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1993.- ص 218.- إن المسلم به مع نهاية القرن العشرين أن أوهام الإيديولوجيا استطاعت أن تكتسح كل المنظومات الفكرية، وخاصة علوم الإنسان، لدى تبقى استراتيجية الإنفلات من قبضتها واردة إلى ما بعد هذا القرن.

[24]- عصفور، جابر.- هـوامش على دفتر التنوير.- المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994.- ص.58.

[25]- يـشبه القارئ بِبْرُوكِسْت، وبروكست هذا قاطع طريق يوناني كان يعذب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها: كان له فراشان، فراش كبير وفراش صغير، فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير، والقصيري القامة على الفراش الطويل، ويحاول أن يجعلهم على قد الفراش. راجـع ع. العروي وعبد الفتاح كيليطو: مساءلة القراءة من كتاب المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال، الطبعة الثانية، 1993.- ص.20.

الإسلام و التمثلات السياسية : دراسة ميدانية حول التدين و الثقافة السياسية

إن العلاقة بين السياسة و الدين موضوع ذو أهمية و حساسية قصوى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة و ظل مجال نقاش بين الأكاديميين خلال معظم هذا القرن.

من الأفكار الشائعة بين الدارسين الغربيين و المسلمين على حد سواء هو أن الإسلام لا ينظم فقط مجال العبادات بل يتجاوزه ليكون مخططا أو برنامجا لنظام إجتماعي يشمل كل مـيادين الحياة بما فيها القانون و الدولة[1]. إن ما يؤكد هذه الحقيقة في نظر هؤلاء الدارسيين هو أن الإسلام ليست له مؤسسة رسمية كالكنيسة، بالرغم من وجود مؤسسات لعلماء الدين يسهرون كحماة لتفسير النصوص المقدسة. فهذا و خصائص أخرى تجعل من المجتمعات الإسلامية كيانات تختلف عن المجتمعات الغربية التي تتميز بفصل الدولة عن المؤسسات الدينية. فالذي يميز هذه المجتمعات كذلك هو وجود مجال مستقل لثقافة علمانية و مجتمع مدني يشكلان ركيزتين أساسيتين للحداثة الغربية.

إن غياب هذه الحداثة السياسية في المجتمعات الإسلامية و عدم الفصل بين العلماني و المقدس منع حسب العديد من المحللين، ظهور مجال مستقل للفضاء السياسي[2].

لا يتفق كل الدارسين للمجتمعات الإسلامية على هذه النتائج فبعضهم يقر أن هناك مجال مستقل نسبيا للممارسة السياسية- فلابدوس LAPIDUS- يرى أن المجتمع الإسلامي عرف نوعين من العلاقات بين السياسي و الديني: أ- علاقات تطابقية غير متمايزة (Undifferentiated) بين الدولة و الدين و التي تميز المجتمعات القبلية. أما المجتمعات الإسلامية الحضرية فعرفت تقسيما بين مجالات الدولة و الدين: "فرغم القول الشائع بأن مؤسسات الدولة و الدين موحدة، و بأن الإسلام هو نهج كلي للحياة الذي يحدد القضايا السياسية و الاجتماعية، فإن أغلب المجتمعات الإسلامية لا تساير هذا المثل بل قامت و أسست حول مؤسسات منفصلة للدولة و الدين"[3] [ لابدوس-ورد عند حسن..].

مهما يكن، فإن العلاقة بين الدين و السياسة مازالت تثير جدالا كثيرا بين الدراسيين و صراعا حادا و في بعض المرات داميا في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فأغلب الدول في هذه المجتمعات ظهرت للوجود على أثر صيرورة إزالة الإستعمار (Decolonisation) قادتـها حركات وطنية كان يتزعمها قادة ذوو نزعة علمانية نسبيا، و حافظوا بعد استقلال بلدانهم على المنظومات القانونية و التربوية الموروثة عن العهد الإستعماري. فالحركات الدينية التجديدية و الحركات الدينية السياسية التي ظهرت على إثر فشل النخب الوطنية نددت بالإتجاه العلماني في بلدانها و نادت بالرجوع إلى دولة تمثل الإسلام كمنهج للحكم و الحياة[4].

إنطلاقا من هذه الخلفية العامة سنحاول المساهمة في هذا النقاش الدائر في الأوساط الأكاديمية اعتمادا على معطيات ميدانية نركز فيها على تمثلات و مواقف الأفراد فيما يخص علاقة التدين و الثقافة السياسية.

لن تكون هذه الورقة مساهمة أخرى إضافية في النقاش النظري الدائر منذ أكثر من قرن حول المسألة الحساسة لعلاقة الدين بالسياسة، و إنما سأحاول التركيز فيها، و من خلال إستعمال أدوات سوسيولوجية، على أبعاد و علاقات التدين بالتـمـثـلات السيـاسيـة بمعـنى آخـر هـي محاولـة مـوضعـة (Objectivation) و قياس علاقة التدين بالسياسة.

إن زخم الأحداث و كثرة الكتابات ذات الطابع الجدالي في مجال العلاقة بين الدين و السياسة، أضفى على هذا الميدان ضبابا كثيفا أصبح من الصعب بناء رؤية موضوعية فيه.

فبالرغم من كثافة الأدبيات حول هذا الموضوع فإنها تفتقر إلى معطيات ميدانية. إننا في هذا العمل سنعتمد على معطيات ميدانية جمعناها بواسطة بحث مغاربي لسبر الآراء شمل 1000 مستجوب في كل قطر (تونس-الجزائر-المغرب)*. فموضوع هذا البحث عام يهدف إلى رصد تمثلات، مواقف و سلوك المستجوبين حول مجموعة من الأبعاد للحياة الاجتماعية الأسرة، العمل، الدين و السياسية.

تنقسم هذه الورقة إلى فصلين، ففي الفصل الأول سنتعرض إلى الجانب المنهجي الذي يعالج تقنية تحليل المعطيات مع عرض للنتائج الإحصائية.

أما الفصل الثاني فسيخصص إلى التعليق و الشرح لهذه النتائج.

المعطيات و المنهجية

تم إخضاع المعطيات إلى مجموعة من التقنيات الإحصائية المختلفة :

- التحليل المعاملي، التحليل الإنحداري..إلخ. أفرز التحليل المعاملي

- مجموعات من المواضع (المتغيرات) ذات إرتباط عال فيما بينها مما يدل على أنها تقيس نفس البعد، إضافة إلى ما يسمح به التحليل المعاملي من تحديد الزمر التي بين عناصرها إرتباط عال، فإنه كذلك يمكن من تكوين سلم الإتجاهات (Scale of attitudes) حول المواضيع المطروحة.

- أسفر التحليل المعاملي على النتائج التالية:

 الأبعاد الدينية :

ثلاثة أبعاد دينية جرى عزلها و قياسها حيث بينت نتائج التحليل المعاملي ثلاثة زمر مختلفة تعبر عن أبعاد مختلفة للتدين. فالمجموعة الأولى للمتغيرات تدل على البعد الشخصي أو الفردي للتدين، و الثانية تبرز البعد السياسي للإسلام و دور الدين في الشؤون العامة، أما البعد الثالث فيشير إلى التقاليد المرتبطة بما يسمى بالإسلام الشعبي.

المتغيرات المكونة لهذه الأبعاد هي كما يلي :

* التدين الشخصي*

- أداء الصلاة بانتظام

- استشارة الإمام أو الفقيه في مسائل شخصية

- قراءة أدبيات دينية

* الإسلام السياسي (دور الدين في الشؤون العامة)

- الدين كمرشد في القضايا الإقتصادية و التجارية

- الدين كمرشد في القضايات الإدارية و السياسية

* الإسلام الشعبي

- زيارة أضرحة الأولياء

- الإشتراك في المواسم (الحفلات الدينية الشعبية)

- اللجوء إلى الطب الشعبي

تقدم توزيع مواقف (أجوبة) المستوجبين بالنسبة لهذه المواضيع بطريقتين:

أولا : تقدم الإجابات عن كل مؤشر على حدى-

ثانيا : تجمع التوزيعات لتكون سلما لقياس المواقف :

جدول I : (أنظر في الملحق)

من الجدول الأول يمكن استخلاص ما يلي :

التدين الشخصي :

الأغلبية العظمى من المستجوبين (76.9%) تمارس الصلاة بانتظام، و تمنح للدين دورا أساسيا كمرشد في الحياة الشخصية و العائلية، و لكن عدد قليل منهم يلجأون إلى استشارة دينية (الإمام) فيما يخص قضاياهم الشخصية أو العائلية، تجدر الملاحظة هنا أن السؤال المتعلق بالإستشارة الدينية كمؤشر على التدين سجل نسبة عالية عندما أختبر في بلدان المشرق العربي[5].

الإسلام السياسي و دور الدين في الشأن العام

إن نصف المستجوبين يمنحون للدين دورا في الشؤون الإقتصادية و الإجتماعية بينما الثلث منهم يؤكدون على دور الدين في الأمور الإدارية و السياسية. فتوزيع الإجابات في هذا المجال يبين أن ربع عدد المستجوبين يوافقون بشدة على الدور الريادي في الشأن العام، و ربع آخر يمنح بعض الريادة لـلدين، أما النصف المتبقى منهم فيرى أنه لا يجب أن يكون للدين أي دور في الأمور الإدارية و السياسية.

الإسلام الشعبي : حسب السلم المكوِّن لهذا البعد فإن ثلثي المستجوبين لا يتعاطون ممارسات لها علاقة بالإسلام الشعبي.

الأبعاد السياسية :

تمت معالجة المعطيات المتعلقة بهذا الفصل بنفس الخطوات المنهجية للفصل السابق –التحليل المعاملي- و كانت من نتائجه تحديد ثلاث زمر (أو مجموعات) بين عناصرها إرتباط عال- و تشير هذه الأبعاد إلى : أولا الموقف من النظام الإقتصادي، السياسي، ثانيا: يدل البعد الثاني عن المشاركة السياسية أما البعد الثالث فيشير إلى الموقف من الديمقراطية و الإنفتاح السياسي، أما التغيرات التي تكون هذه الأبعاد فهي كما يلي :

* الموقف من النظام الإقتصادي و السياسي :

- الهوة بين الفقراء و الأغنياء أصبحت أكثر إتساعا في الخمس سنوات الأخيرة

- الحياة السياسية معقدة جدا حتى يفهمها المواطنون العاديون.

* المشاركة المدنية و السياسية

- الانتماء إلى جمعية مدنية

- المشاركة في المشاريع ذات المصلحة العامة

* المواقف من الديمقراطية

- تطوير المؤسسات الديمقراطية كأولوية في برنامج الحكومة

- الإنفتاح عن الأفكار المختلفة كمعيار للرِّيادة السياسية (أنظر الجدول رقم 2 في الملحق)

إن توزيع الإجابات كما يوضحه الجدول رقم 2، يبين الإتجاهات التالية:

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي

أغلبية المستوجبين أبدو قلقهم من الهوة التي تتعمق باضطراد بين الأغنياء و الفقراء و في نفس الوقت يعتبرون أن السياسة أمر معقد خارج فهم المواطن العادي. و من هنا يتبين أن نسبة الرضا السياسي و الإقتصادي منخفضة جدا حيث لا تمثل إلا 5%.

* المشاركة المدنية و السياسية

قليل من المستوجبين يمارسون نشاطات مدنية أو سياسية فنسبة المشاركة بينهم لا تتجاوز 15%.

* الموقف من الديمقراطية

هنا كذلك قليل من المستجوبين يعيرون أهمية للمؤسسات الديمقراطية أو الإنفتاح على الأفكار السياسية كعامل في الريادة (Leadership) السياسية. فعلى العموم هناك أقل من 20% تعطى أهمية لتنمية المؤسسات و الأفكار الديمقراطية.

العلاقات بين الأبعاد :

لدراسة العلاقات بين البعد الديني و البعد السياسي و كذلك العلاقة الداخلية بـين الـعـناصـر الـمـكـونة لهـذه الأبـعـاد، عـمدنا إلـى تحلـيل متعـدد العـوامل (Multifactorial analysis) و طبقنا تقنية الإنحدار المعاملي (regression analysis) فهذه الأخيرة من شأنها أن تبين العلاقة بين المتغيرات و خـاصة أنها تحدد وزن كل متغير في المـعادلة. إحـتـوى الـنمـوذج الأول لـتـحلـيـل الإنـحدار (regression analysis) على الثلاثة أبعاد المكونة لسلم التدين مع إعتبار التدين السياسي كمتغير مستقل و البعدين الآخرين كمتغيرين تابعين.

بينت نتيجة هذا التحليل أن المستجوبين الذين سجلوا نقاط عالية على مستوى التدين الشخصي هم الأكثر إحتمالا أن يناصرو الإسلام السياسي.

و على العكس من ذلك، فلا توجد علاقة بين التدين الشعبي و البعدين الآخرين (الشخصي و السياسي) أنظر الجدول رقم 3.

أما النموذج الثاني للتحليل الإنحداري و الذي يحتوي على المتغيرات السياسية و الدينية، فيوضح أنه ليست هناك علاقة بين البعدين الدينين و البعدين السياسيين (المشاركة السياسية و الموقف من النظام الإقتصادي و الإجتماعي).

فالعلاقة الوحيدة التي كشف عنها التحليل هو علاقة الإسلام السياسي بالموقف من الديمقراطية، بحيث توجد علاقة عكسية بينهما. أي أن المستجوبين الذين يعطون أهمية كبيرة للدين في الشؤون العامة من المرجح أنهم لا يبدون نفس الأهمية للمؤسسات و القيم الديمقراطية.

إن هذه الإستنتاجات ما هي إلا إتجاهات عامة لا تعكس الإختلافات و الفروقات في المواقف عند المستجوبين فحتى نلقي مزيدا من الضوء عن ديناميكية هذه المواقف المتعلقة بالتدين و الثقافة السياسية قمنا بربط هاته الأخيرة بمتغيرات مستقلة مثل السن، الجنس و المستوى التعليمي. جرى أيضا إجراء تحليل إنحداري (regression analysis) و أعطت النتائج التالية (أنظر جدول رقم 4).

البعد الشخصي للتدين :

يتبين أن نسبة الـتـديـن الشخـصي مرتفعة بين فئة الأكثر من ثلاثين سنة (30 سنة) ذوي مستوى تعليمي متدني و هذا بغض النظر عن الجنس. و تكون نسبة التدين الشخصي منخفضة بين الشباب ذوي مستوى تعليمي منخفض بغض النظر كذلك عن الجنس و كذلك بين الشباب ذو مستوى تعليمي عال :

تشير هذه النتائج إلى وجود تباين في مواقف الفئات الاجتماعية للشباب و الفئات الاجتماعية للكهول (Adults). يظهر أن الفئات الشبانية هي نسبيا أقل تدينا أو بالأحرى أقل ممارسة للدين. و هذا التباين هو أكثر إتساعا بين الأشخاص ذوي المستوى الدراسي المنخفض عند الجنسين و كذلك عند الرجال ذو المستوى الدراسي العالي.

البعد السياسي للتدين :

إن المواقف المؤيدة للسياسات المرتبطة بالإسلام السياسي توجد بنسب عالية بين الشباب من الذكور ذوي المستوى الدراسي المنخفض و بين النساء ذات المستوى الدراسي المنخفض دون اعتبار السن، تنخفض نسبة التأييد بين فئة الذكور الغير الشباب ذوي مستوى عال من الدراسة.

فهذا يبين أهمية عامل التعليم في تفسير التباين في المواقف بين عناصر العينة دون إغفال عاملي السن و الجنس.

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي :

إن مواقف المستجوبين من النظام السياسي و الحالة الإقتصادية لا تختلف، فهي مواقف تعبر عن عدم الرضا و خاصة بين الشباب ذو المستوى التعليمي المنخفض.

* المشاركة المدنية و السياسية :

إن المشاركة المدنية و السياسية هي أعلى عند الشباب ذوي المستوى التعليمي العالي. فنسبة المشاركة منخفضة بين النساء ذات المستوى التعليمي المنخفض مهما كان السن يشير هذا إلى أن عامل الجنس يمكن أن يفسر الإختلاف في المشاركة السياسية و المدنية بحيث نرى و يشكل عام أن نسبة مشاركة الرجال هي أعلى من نسبة مشاركة النساء.

* الموقف من الديمقراطية

يمنح الشباب من الجنسين ذوي المستوى التعليمي العالي أهمية كبيرة للقيم و المؤسسات الديمقراطية. تنخفض هذه الأهمية عند الذكور من الشباب ذوي المستوى التعليمي المنخفض و كذلك عند الكبار من النساء ذوات المستوى المنخفض كذلك. يتجلى هنا الدور الحاسم للتعليم في تفسير المواقف تجاه الديمقراطية. لكل من السن و الجنس دور كذلك إذا اقترنا مع التعليم.

مناقشة

إن أهمية البحث الميداني و بخاصة في موضوع التدين و السياسة تكمن في إضفاء نوع من النسبية و التدقيق (nuance) على كثير من المسلمات التي يرتكز عليها الخطاب الأكاديمي و السياسي في هذا الميدان. طبعا، بعض النتائج جاءت مطابقة للحس العام و الملاحظة المباشرة.

فأحد أهم النتائج الإحصائية هي أن ظاهرة التدين على مستوى التمثلات و السلوك هي ظاهرة متعددة الأبعاد، و أن العلاقة بين أبعادها المختلفة هي ليست علاقة ثابتة و متكاملة.. أي أنه إذا كانت الثقافة الدينية تمثل مرجعا مهما في تمثلات المستجوبين فيما يخص حياتهم الشخصية و الفردية (حيث أن 70% منهم يقرون بأهمية الدين في هذا المجال) فإن الأمر يختلف في المجالات الأخرى للحياة الإجتماعية، بحيث أن 50% منهم فقط يؤكدون على أهمية الدين فيما يخص تنظيم الحياة الإقتصادية و الإجتماعية. تتراجع هذه النسبة إلى 31% عندما يتعلق الأمر بدور الدين في تنظيم الحياة الإدارية و السياسية. ليس من السهل التأكد من صواب هذه الإستنتاجات على مستوى المجتمع ككل، و لكن مع هذا توجد مؤشرات عامة و غير مباشرة تؤيد جزءا من هذه الإستنتاجات، فعلى سبيل المثال نذكر نتائج الإنتخابات التي جرت في 1990 و 1991 حيث كان نصيب التيار الإسلامي يـتـراوح مـا بـين الثلث (3/1) إلى الربع (4/1) من أصوات المنتخبين. فهذه النسبة تقترب من النتيجة التي كشف عنها البحث، و هذا بكل تحتفظ حيث أننا ندرك أن السلوك الإنتخابي لا يعكس بشكل آلي التمثلات و المواقف السياسية.

إن البعد الآخر الذي يكشفه البحث هو جانب الممارسات الدينية الشعبية حيث ما زالت هذه الأخيرة تعرف إنتشارا نسبيا في المجتمع رغم كون العينة تمثل مجتمعا حضريا أين من المفترض أن تكون فـيه هذه الممارسات هامشية. فهذا من شأنه أن يؤكد بعض جوانب نموذج E.GELNER[6]. للمجتمع الإسلامي. أنه أهم خصائص الدين الإسلامي حسب GELNER أن ينقسم داخليا بين إسلام الصفوة (إسلام العلماء) و إسلام العامة. فالصنف الأول هو حضري يحمله علماء مدينيين ينحدر أغلبهم من الفئات البرجوازية التجارية الذين يعكسون قيم و أذواق الفئات الوسطى، تلك القيم التي تركز على النظام، إحترام القواعد، التعليم و الرصانة، و إلى جانب ذلك تؤكد على التوحيد في الدين تحارب كل أشكال التوسـط أو الـوساطة بين الله و الإنسان و يتميز أيضا بالصـفوية (Puritanism) و (Scripturalism) أمـا الإسـلام الـشعــبـي فـهـو إعـتـقـاد يـقــوم عـلى الـتوسط (Mediationist) بين الله و البشر. يرتكز على السحر أكثر منه على التعلم. و أهم مؤسساته هي زيارة الأولياء.

إن ما يلفت الإنتباه هنا و ربما يشوش هذا النموذج الثنائي، هو تواجد و بشكل واسع نسبيا لممارسات شعبية دينية بالحضر، و هذا بالرغم ما يظهر من إكتساح للساحة الدينية من طرف موجة الإسلام السياسي الذي هو أقرب إلى ما يصفه E.GELNER بالإسلام العارف (High Islam).

ربما النقطة التي تهمنا أكثر في هذا البحث هي العلاقة بين هذه الأبعاد المختلفة للتدين.. وخاصة منها العلاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين. إن هذه القضية و نظرا لحساسيتها في الظرف الحالي و هذا في مجمل المجتمعات الإسلامية، فإن النقاش حولها غاليا ما يكون ميرائي (Polemic) و مؤدلج.

تظهر المعطيات الميدانية أن هناك علاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين أنظر جدول 5، نفس العلاقة تفرزها المعطيات المغربية. أنجزت بحوث ميدانية أخرى في مجتمعات شرق أوسطية توصلت إلى نتائج مختلفة، حيث أظهرت أن العلاقة بين سلم قياس التدين الشخصي و الإجتماعي هي علاقة ضعيفة. ففي هذا السياق إنتهى الباحث الأمريكي م.تسلار[7] من خلال دراسة مقارنة لسبر الأراء و المواقف في كل من مصر و الكويت سنة 1988 إلى أن 50% من المستجوبين الكويتيين و 70 من المستوجبين المصريين الذي سجلوا نسب عالية على سلم قياس التدين الشخصي أبدو تأييدا ضعيفا للحركات الإسلامية المعاصرة في بلدانهم.

إن دراسة المواقف و القيم و السلوك الإجتماعي بشكل إجمالي و شمولي قد يخفي التباين في المواقف و بالتالي لا يسمح لنا بإدراك الفروقات الموجودة، و عليه فإن ربط هذه المواقف و القيم و السلوك بعوامل إجتماعية ديمغرافية كان ضروريا لإضفاء دقة و مصداقية أكبر عن النتائج العامة.

أفرز البحث عاملين أساسيين يفسران الاختلاف (Variance) في المواقف و القيم و هما عاملي السن و التعليم و إلى حدما الجنس.

يلعب عامل السن دورا مهما في تفسير السلوكات الدينية الشخصية و يصبح أكثر ثقلا إذا اقترن بالعامل التربوى، نلاحظ أن الفئات الشبانية الأقل تعلما هي الأقل ممارسة للدين. فالبرغم ما يلاحظ من تغيرات على مستوى الممارسات الدينية في الجزائر، فمازالت تخضع تـلك الممارسات إلى ثابت أنثروبولوجي (Anthropological invariant) وهو أن الممارسة الدينية تزداد كلما تقدم السن.

إن المعالجة الإحصائية لموضوع التدين تبقى عاجزة عن كشف طبيعة هذا البعد الحساس، فإن كانت توفر بعض المؤشرات المهمة فإنها تخفق في توضيح طبيعة الممارسات و التغير الذي حدث فيها. ففي ما يخص موضوع الدين و الشباب و رغم انخفاض درجة الممارسة مقارنة مع الكبار، فإن طبيعة الممارسة الدينية تختلف من جيل الشباب إلى جيل الكبار. إن ما حدث من غليان على الساحة الإجتماعية و السياسية الدينية منذ منتصف الثمانينات حتى اليوم هو ليس فقط اتساع في الممارسات الدينية (أو حركة إعادة أسلمة) بقدر ما هو طبيعة جديدة للعلاقة بالدين و الذي تمثله بالخصوص الفئات الشبانية.

فكما أوضحته دراسات سوسيولوجية[8] فإن التدين الشباني يهدف إلى مطلب هوياتي من خلال تمايزه و مخالفته لتدين الأباء. فالأمر هنا يتعلق بكيفية الممارسات الدينية و ليس مدى إنتشارها فحتى على مستوى الممارسات الدينية المحضة - أي الشعائر و العبادات- عمل الجيل الشباني على أن يتمايز عن الآخرين و ذلك بتبنيه لممارسات رمزية و شعائرية مختلفة، و التي تتمثل في ارتداء اللباس و طقوس تأدية الشعائر و كذلك الميل إلى الصرامة و التشدد في مجال المعاملات.

فقيام الشباب بممارسات دينية تختلف عن تلك التي مارسها و يمارسها آباؤهم تعبر عن رغبة و محاولة للتمرد عن النظام الاجتماعى القديم، و يتضح هذا الأمر أكثر عندما نلاحظ من خلال المعطيات الميدانية أن فئة الشباب القليل التمدرس (ابتدائي أو أقل) هم الأكثر تأييدا للإسلام السياسي (و المفارقة كذلك أنهم يمثلون الفئة الأقل ممارسة للعبادات)؟ هل هناك تفسيرا سوسيولوجيا لهذه المفارقات؟ ما معنى أن الشباب الأقل حظا في التعليم هم الأكثر تأييدا للإسـلام السياسي و كذلك في بعض الحالات هم أقل ممارسة للدين؟ ما معنى أن تكون النساء و بغظ النظر عن سنهن هن كذلك الأكثر مناصرة للإسلام الـسياسي؟ فهل من عوامل سوسيولوجية تلقى الضوء على هذا الموقف؟ لا توجد دراسات كيفية تبحث في هذا الموضوع. فإن ما في حوزتنا من معطيات تبرز فقط دور عامل التدريس، حيث المستوى التعليمي لهؤلاء النساء منخفض. فما يثير فضول الباحث أكثر هو أن النساء يمثلن القناة الأساسية لنقل القيم و التقاليد و المخزون الثقافي على الـعموم بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية، فمن المتوقع إذا أن تكون تلك القيم والتقاليد أكثر إرتباطا بالإسلام الشعبي… في الوقت الراهن لا تتوفر لدينا معطيات أكثر لتحليل أدق لهذه النتيجة.

تعرضنا في هذا البحث كذلك إلى عناصر أخرى مكونة للثقافة السياسية: كالمشاركة السياسية، الموقف من النظام السياسي، الموقف من الديموقراطية… إلخ و حاولنا البحث في العلاقة بين هذه الأبعاد و المكونات الدينية.

لا يبدو أن القيم الدينية بأبعادها : الشخصية، الاجتماعية و السياسية ترتبط أو تؤثر في مكونات الثقافية السياسية. بمعنى أنه و رغم الدور التجنيدي للإسلام السياسي فإنه لا يدفع إلى مشاركة مدنية أو إلى معرفة بالنظام السياسي… ربما يرجع هذا إلى محدودية و عدم مطابقة بين المفاهيم النظرية للإقران الثقافية السياسية و الواقع السياسي الجزائري و تمثلاته… و قد يكون الظرف الذي أجرى فيه البحث الميداني - و ذلك في خضم الأحداث الدامية في الجزائر (1995) - جعل المستجوبين أكثر تحفظا في إبداء مواقفهم و آرائهم و سلوكا تهم و إبعادهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، بحيث أكدت النتائج أن هناك نسبة عالية من العزوف أو الاغتراب السياسي political alienation)).

الخاتمة

وثقت نتائج هذا البحث لنسبية الأطروحات المتداولة في ميدان علاقة الدين بالسياسة. فبرغم تأكيدها لأهمية التدين داخل الجمع، فإنها اظهرت الدور النسبي للتدين السياسي.

و أهم من ذلك فإن المعطيات و تحليلها تبيّن الأهمية الكبيرة للمحدادات السيـوسولوجية للـظاهرة الدينية السياسية. فإن علاقة هذا الأخير مع التدين الشخصي / العادي ليست علاقة عضوية و لا آلية. و إذا فإن الثقافة السياسية للجزائري لا يمكن اختزالها في ثقافة سياسية إسلاموية، فمع أهمية البعد الاسلاموي في التعبئة السياسية و الـتمثلات، إلا أن المحددات السيولوجية و السياسية لها أهمية و وزن في تحديد طبيعة الثقافة السياسية.

الملاحق

الملحق 1:

جدول رقم 1 : (أ) البعد الشخص للدين الصلاة

 

التكرارات

النسبة المنوية

يصلي

لا يصلي

ملغى

المجموع

769

218

13

1000

,976

21,8

1,3

100.0

الدين كمؤشر في الحياة الشخصية و العائلية

 

التكرارات

النسبة

كثيرا

بعض الشيء

لا

ملغي

المجموع

715

156

59

70

1000

71,5

15,6

5,9

7,0

100.0

استشارة إمام أو فقيه

 

التكرارات

النسبة

دائما/ بعض المرات

نادرا / أبدا

ملغى

المجموع

120

849

31

1000

0,12

84.9

3.1

100.00

الملحق 2

تابع الجدول 1

(ب) البعد السياسي للتدين

الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

النسبة

التكرارات

 

43,5

43,7

87,2

12,8

100.00

435

437

872

128

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

النسبة

التكرارات

 

23,8

53,8

77,6

22,4

100.00

238

538

776

224

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

سلم لدور الدين في الحياة العامة (هو مجموع الجدولين السابقين)

النسبة

التكرارات

 

21,4

24,8

47,4

77,0

23,0

100.00

214

191

365

770

230

1000

مهم جدا

مهم بعض الشيء

أقل أهمية

المجموع

ملغى

المجموع

الملحق 3

الجدول 2

الأبعاد السياسية

أ ? سلم المواقف تجاه النظام الاقتصادي و السياسي و الذي يتكون من عاملين (أي الإجابات عن سؤالين : تقييم الفرق بين الأغنياء و الفقراء + تقيم للسياسة)

النسبة

التكرارات

 

4,5

28,1

55,90

87,6

12,4

100,0

45

281

550

876

124

1000

راضي جدا

راضي بعض الشيء

غير راضي

المجموع

ملغى

المجموع

ب ? سلم المشاركة المدنية و السياسية و الذي يتكون كذلك من عاملي العضوية في جمعية و المساهمة في أعمال للصالح العام.

النسبة

التكرارات

 

82,9

15,2

1,5

99,6

0,4

100,0

829

152

15

996

4

1000

لا توجد مشاركة

بعض المشاركة

مشاركة أكبر

المجموع

سلفى

المجموع

ج þ سلم الموقف من الديموقراطية (يحتوى على متغيرين 1: المؤسسات الديموقراطية)

  1. 2. الإنفتاج على الأفكار السياسية المخالفة).

النسبة

التكرارات

 

52.3

27.7

7،4

84.7

15.3

100.00

523

277

47

847

153

1000

موقف غير مؤيد

2.00

3.00م

مؤيد

المجموع

ملغى مجموع

الملحق 4

الجدول 3: العلاقات بين الأبعاد الدينية

ا- التدين الشخصي

ب- التدين السياسي

المجموع

غير متدين

متدين

التدين السياسي

التدين الشخصي

587

%100

%2,76

245

%7,41

%6,71

342

%3,58

%9,79

متدين

183

%100

%8,23

97

%0,53

%4,28

86

%0,47

%1,20

غير متدين

770

%0,100

%100

342

%4,44

%0,100

428

%6,55

%0,100

المجموع

نموذج التحليل الانحداري: Model Régression حيث التدين السياسي هو المتغير التابع

Sig

T

Standard

Coefficient

نموذج

   

BETA

 

0,00

0,02

0,21

10,908

3,091

,3122

0,111

0,083

الثابت( (constant

التدين الشخصي

التدين الشعبي

الملحق 5

الجدول 4

علاقات الأبعاد بالمتغيرات السوسيوديمغرافية

السن + الجنس + المستوى التعليم مع مقارنة بإجابات المسجوبين من المغرب

نسب التدين الشخصي مقترن بالسن + المستوى التعليمي

إناث

كهول

تعليم

عال

(إ ك ت ع)

إناث

شباب

تعليم

عال

(إ ش ت ع)

إناث

كهول

تعليم

منخفض

(إ ك ت م)

إناث

شباب

تعليم

منخفض

(إ ش ت م)

ذكور

كهول

تعليم

عالي

ذ ك ت ع)

ذكور

شباب

تعليم

عالي

(ذ س ت ع )

ذكور

كهول

تعليم

منخفض

(ذ ك

ت م)

ذكور

شباب

تعليم

منخفض

(ذ ش ت م)

 

86

74

96

47

87

60

92

50

الجزائر

80

61

90

31

81

56

89

42

المغرب

نسب المستجوبين الذين يوافقون على دور الدين في الشؤون العامة (إدارية / سياسية).

إ ك ت ع

إ ش ت ع

إ ك ت م

إ ش ت م

ذ ك ت م

ذ ش ت ع

ذ ك ت م

ذ ش ت م

 

18

33

40

43

15

28

34

47

الجزائر

37

53

50

42

44

46

56

33

المغرب

الملحق 6

جدول 5

مقارنة للموافق السياسية و الدينية بين المستجوبين الجزائريين و المغاربة

الجزائر

المغرب

 

%78

%73

التدين الشخص (الصلاة)

%12

%29

التدين الشخصي استشارة الإمام

%50

%62

التدين السياسي : الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

%31

%50

التدين السياسي: الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

%37

%37

التدين الشعبي

%86

%74

درجة عدم الرضا

الاقتصادي و السياسي

%05

ضصث

المشاركة السياسية: الانتماء إلى جمعية مدنية

%13

%14

المشاركة السياسية:

المشاركة في أعمال الصالح العام

%17

%20

الموقف من الديموقراطية:

تطوير المؤسسات الديموقراطية

%26

%16

الموقف من الديموقراطية

الانفتاح عن أفكار

المراجع

MAUDUDI, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

LEWIS, B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

ESPOSITO, J.L..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

HASSAN, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper, university of califosmia - Los Angeles, 1999.

HUNTINGTON, Samuel. P..- The clash of civilisation and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

LAPIDUS, IRAM..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.- May 1996.

TESSLER, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.- occasional papers, University of wisconsin- Milwankee, 1993.

GELNER, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

MERZOUK, M..- Quand les jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération.- Archives des Sociences sociales des religions, 1997.- p.p. 141-158.


 


الهوامش

[1]- Maududi, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

Lewis, B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

Esposito, JL..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

Hassan, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper university of California – Los-Angeles, 1991.

[2]- أنظر

Weber, M..- Economy and Society.- Berkley, Californie press, 1978.

Huntington, Samuel.P..- The clash of civilization and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

[3]- Hassan, R..- Op. cité.- 1999.- p.4.

[4]- أنظر

Esposito.- Op. cité.

Lapidus, Iram..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.- May 1996.

* أنجز هذا البحث سنة 1995 - 1996 من طرف باحثين من الجزائر، المغرب، تونس و الولايات المتحدة، بإشراف المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية (AIMS)، تحت عنون عام : "التغيرات الديموغرافية و الاجتماعية في الوسط الحضري في المغرب العربي". اعتمدت فيه الاستمارة كوسيلة لجمع المعطيات.

* إن المتغيرات المذكورة هنا و التي احتفظنا بها في التحليل هي المؤشرات التي تنتخب عن التحليل المعاملي، بحيث أنها ترتبط فيما بينها بعامل إرتباط عال، و هي في نفس الوقت تشكل سلما لقياس المواقف. و قد تم حذف المؤشرات التي لم يبينها التحليل.

[5]- أنظر Tessler, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.- occasional papers, University of Wisconsin- Milwaukee, 1993.

[6]- Gelner, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

[7]-- Tessler, M.. مرجع سابق.- ص.17.

[8]- Merzouk M. : Quand les jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération .- Archives des Sciences sociales des religions, 1997.- p.p. 141 - 158.

الحداثة / المواطنة و الحقل الفقهـي (عناصر من أجل مقاربة إشكالية)

المقدمة :

تشكلت الحداثة والمواطنة (كمفاهيم، وكأبعاد حضارية) في الفضاء الغربي في رحم حركة ذات طابع مزدوج :

1- حركة أفكار تنظيرية ذات مسار (من النهضة إلى عصر الأنوار) تنشد الاستقلالية (في أبعادها المختلفة).

2- حركة اجتماعية وسياسية حملت على عاتقها تحويل هذه الأفكار الجديدة إلى أفق التحقق في الواقع الاجتماعي والحضاري الغربي.

في حين أن الحداثة والمواطنة في فضائنا الحضاري العربي الإسلامي تجد نفسها حتى الآن وكأنها المركب الغريب عنه والدخيلة عليه.

فما العوائق؟

بدون شك يمكن رصد هذه العوائق في الصيرورة التاريخية لمختلف البنى –الكلية والجزئية- للمجتمعات العربية الإسلامية الحديثة إلا أننا سوف نهتم، في هذا المقال، بأحد أوجه هذه العوائق، المتمثل في البنى الذهنية الفكرية المنتجة للفكر العربي الإسلامي الحديث، وبالتحديد تلك البنى الذهنية والفكرية المتعلقة بالحقل المعرفي الفقهي[1].

 1.المواطنة، الحداثة: التحديد والانتماء :

1.1 التحديد :

كلمة مواطنة، هي ترجمة لكلمة Citoyenneté باللـغـة الفرنسية، وتدل في Le Petit Larousse : " أن الفرد له صفة المواطن" وفي نفس القاموس يحدد المواطن بأربعة معاني، نذكر منها:

1- في القديم: هو الشخص الذي يتمتع بحق الانتماء للحاضرة

2- عضو دولة: وهو بهذه الصفة له حقوق وواجبات مَدَنِية وسياسية.

3- في إطار الثورة الفرنسية، صفة تعوض السيد والسيدة[2].

لقد أسست الحَاضِرة اليونانية القديمة دلالة المواطن وفق مشروطية ما اسميه المساهمة والفعل، فالمساهمة متعلقة بدفع الضريبة من أجل تسيير الشؤون العمومية للحاضرة، أما الفعل فيتعلق بحق المساهم في النظر والنقد لتسيير الشؤون العمومية للحاضرة وواجب الالتزام بقوانين الحاضرة، وبالنتيجة من لا يحق له المساهمة المالية يمتنع أن يكون مواطنا، فالمواطنة اليونانية من حيث هي جامعة للمجتمع الفاعل (بالدلالة التي حددناها) فهي في ذات اللحظة مانعة للمجتمع المنفعل (وفق الثقافة السياسية المهيمنة في الحاضرة آنذاك).

تَـنْزَلِقُ الدلالة الحديثة للمواطنة في اتجاه التعميم، فهي تتجاوز حدود منطق الإنسان المنفعل. إن كل إنسان، من حيث هو حيوان عاقل، لن يكون إلا فاعِلاً، المسألة تتعلق بمأسسة الشروط التي ينبغي أن تتوفر ليكون كذلك، فالتنوير (بالمفهوم الكانطي للاصطلاح) هو مـؤسس للإنسان الفاعل لأنه يقطع الصلة مع كل انفعال، كل سلبية، كل خضوع مقابل وهم لا يأتي، فكل فعل لدى الفاعل هو "وجود بالقوة"، توفير الشروط على مستوى الفرد وكذا على مستوى الكلية المجتمعية يؤدي إلى تحوله إلى "وجود بالفعل".

فالمواطنة بهذا المعنى هي امتلاك صفة المواطن المساهم، المتمتع من حيث هو كذلك بمجموع الحقوق المدنية ضمن مجتمع سياسي، فهي هيكليا ذات طابع قانوني تؤسس للفرد الحر المستقل العضو في الدولة (الدولة بالدلالة الحديثة)، لكن وبحكم طابعها الديناميكي (التعليل في سياق لاحق)، لم تبق في حدود المنطق القانوني، بل تجاوزته لتتخذ أبعادا حيوية سياسية، ثقافية، اجتماعية، إيديولوجية ورمزية...

إنها وارتباطا بهذه الحيوية تدل على انتماء، مكانة وتمتع في فضاء الحريات، باختصار أنها تعبر عن ولادة الفرد الحر، المستقل وبدون تمييز. إنها منتوج تاريخي غير مكتمل الإنجاز (وفق تصورات هبرماس) فهو في سيرورة التحقق يجد نفسه في ديمومة التحول.

أما كلمة الحداثة La modernité، فتثير جدلا سجاليا قاتلا لها، وخلطا مثيرا بينها وبين مفهومي الحديث والتحديث، في حين أنها تختلف جوهريا[3] فهي "ليست مفهوما سوسيولوجيا، وليست مفهوما سياسيا، وليست مفهوما تاريخيا خالصا... ليست مفهوما، إجرائيا للتحليل، ليس هناك قوانين الحداثة، مميزات الحداثة... بل هناك منطق الحداثة، إيديولوجية الحداثة، إنها نمـط حضاري متميز، منطق يتعارض مع منطق الأنماط الثقافية التقليدية السابقة عليه"[4] فمنطق الحداثة يحمل الأبعاد الموضوعية والكونية، وإيديولوجية الحداثة تحمل الأبعاد الذاتية، أبعاد المعنى والتي تنزع إلى الهيمنة[5].

2.1. الانتماء :

يمكن رصد الحداثة و المواطنة، من حيث هما حصيلة متجددة لصيرورة تاريخية طويلة، وفق المحددات التاريخية التالية:

أولها: مرحلة ما قبل الفكر السياسي، إنها تمثل مرحلة المجتمعات اللاهوتية الباهرة كما يصنفها غوريفيتش[6]، إن مقولة ما قبل الفكر السياسي تعني لدينا أن محددات الفكر السياسي وأطره السوسيولوجية وبنياته الداخلية وعملياته الذهنية المنتجة له مرتبطة عضويا بالمنظومة الفكرية اللاهوتية – الماروائية فهي التي تؤطر كل ما هو سياسي (تنظيرا وممارسة)، تغذيه وتباركه باحتفالية أو تمنعه وتحرمه بجزر وإكراه.

ثانيها: مرحلة الفكر السياسي، التي تبدأ بتأسيس الحقل الذي يُمكِّن في الآفاق اللاحقة، بعلمنة الفكر السياسي من خلال تحقيق استقلاليته عن حقل اللاهوت في الفترة اليونانية والرومانية (بالتحديد قبل تبني روما للدين المسيحي)، إنها المرحلة التي ازدهرت فيها الفلسفة السياسية... وظهور البذور الأولى المبكرة لفلسفة الحق (جمهورية أفلاطون وقوانينه، أخلاق نيكوماخ والسياسة الآرسطيين....) الـمُعَلْمَنَة.

ثالثها: مرحلة علمنة السياسي المؤسساتي (أقصد الدولة)، لقد تحققت في العصر الحديث، بتلوينات وتمايزات مختلفة، في الفضاء الغربي. ارتكز الغرب الحديث –وفق هذا التحليل- على مكاسب المراحل السابقة كتراكم تاريخي ملائم لصياغة تدريجية لتنظيم سياسي اجتماعي نوعي ومتميز عن أنماط التنظيمات المجتمعية السابقة عليه، بل لنقل لقد تمكن الغرب بعبقرية نادرة تاريخيا أن يدخل إلى عالم الحداثة السياسية. إن فهم هذا التراكم، آلياته وكذا الوقوف على منطقة الداخلي المتحكم فيه يمكننا من المسك بأحد أدوات إنارة المسلك، أو المسالك الممكنة التي تؤدي بنا إلى تملك الحداثة الرحم "الشرعي" للمواطنة.

ستصاغ الحداثة، من خلال تثمين المكاسب المتراكمة السابقة، فَتُبَنْيِنُ (بضم التاء وتسكين النون) الفضاء المجتمعي الغربي وتشكل بالنتيجة ثقافة سياسية جديدة يتحدد منطقها الداخلي (أقصد الحداثة) ارتكازا على أُسَّيْن اثنين أحدهما يغذي الآخر ويتغذى منه، الأس الفلسفي العام أولا: مؤطر من خلال الدور المتميز للعقل في علاقته بالكون، نظرة جديدة للزمان، وجود طبيعة لـها قـوانينها الخاصة وحرية الإنسان، وأس فلسفة الحق ثانيا: من حيث أن مصدر الحق لن يتأتى إلا من إرادة البشر وتجاوز الرؤى المعتقدة أن مصدره هو النظام الإلهي، أو هو انعكاس للنظام الطبيعي[7] .

في خضم الصراعات الاجتماعية السياسية في العصر الحديث، تم تدريجيا شرعنة الحقوق الإنـسانية الحديثة، وفي قلبها النابض مجموع الحريات الإنسانية بدون استثناء. إن هذه الحريات هي الـمُشَكِّلة لعصب المواطنة النامي، وهي في ذات الوقت الرحم الحي للحداثة، نسغ يغذيها ونسيج يشملها.

فمنطق الحداثة يسبح داخل فضاء متنوع، متعدد الأبعاد، ذو بنى مختلفة. متباينة، تتداخل فيما بينها ضمن تمفصل ملائم، متناغم ومتجدد. إنه (أقصد الفضاء) يحرك المجتمع في ديناميكية لا مثيل لها في اتجاه العالمية والأبعاد الإنسانية، إن منطق الحداثة، يفرض نفسه على الأبعاد الكونية بصفة موضوعية، أدركنا ذلك أم لم ندْرك، رغبنا في ذلك أو لم نرغب، أزعجنا ذلك أو لم يزعج، إنه يتجاوز موضوعيا الحدود وبالتالي الفضاء الذي أنتجها، وهو بهذا يؤسس لرحم المواطنة المتفتقة دوما والمتفتحة على العالمية بإستمرار.

ففي اللحظة التي تتشكل المواطنة في النسيج الاجتماعي و المؤسساتي تجد نفسها مندرجة في مسار تحولها إلى "مؤسسة" فعالة ومنتجة تنسج خيوط المؤسسات الاجتماعية لتؤول هي كذلك إلى فضاء الحداثة، ولِتَتَبِنْيِن وفق منطقها الداخلي، فالحداثة هي بمثابة فعل قلب الأرض (أقصد الأرض الاجتماعية) من أجل انبثاق المواطنة.

فلا يمكن لفعل الزرع إلا أن يكون مشروطا مسبقا بفعل قلب الأرض. وفي الفضاء الحـضاري العربي الإسلامي فعل قلب الأرض لم يتم بعد -رغم المحاولات الجادة التي قامت هنا وهناك منذ عهد النهضة – بل كَمْ هو عسير تحقيق ذلك تاريخيا، ذلك لأن الحداثة هي منبت مجتمعاتها فهي منطق ومعنى إنها كما يقول محمد أركون " تقدم نفسها في آن واحد كنظرية تأسيس فلسفي للعالم وكعلمية لتغيير المجتمعات، في الأنموذج الأول يَتِمٍ إيلاء الأولوية إلى الذات العارفة، إلى "الأنا"، والذات الكامنة تلك، التي كقيمة أسمى تضطلع بالمعنى وتبني العالم وتؤسس الرابطة الاجتماعية. وهو بطبيعته (أي الأنموذج الأول) لا يمكنه أن يؤسس ذاته، فكان عليه أن ينهل من "كاتالوغ" من القيم: الحرية، الفرد، العقل، الكونية. وبالمقابل في الأنموذج الثاني يَجْري الاهتمام بالتحديث، تلك الحركة التي تضمن الانتقال المعقد والمتعدد الأشكال من الحالة (أ) المجتمع التقليدي إلى الحالة (ب) المجتمع الحديث مع التساؤل عن أسبابها ورصد ميادينها ووصف أطوارها وتفحص أشكالها... في الأنموذج الأول: تأخذ الحداثة بالتقسيم المعياري، أما الأنموذج الثاني: التحديث يأخذ دلالة الحيادية[8]".

إن الدلالة التقييمية، المعيارية مرتبطة موضوعيا بالآليات والديناميكيات السوسيولوجبة و الأنتروبولوجية الحاملة للمعنى والتي تشكلت (هذه الدلالة) في أحضانها، فهي مُرَشَّمَة (الشدة على الشين وبفتحها) و تُرَشِّمُ بترشيماتها الخاصة؛ لكن –وهذا يتطلب التبصر- من العسير أن نرى بنـية الحداثة تنحصر في المعنى (الرمزي) المحلي الخصوصي (الفضاء الحضاري الضيق الذي أنـجبها)، بالرغم من أنها تتغذى منه نُسُغًا كثيفة. فهي تَنْزَع بطبيعتها إلى أن تكون عالمية، كونية، و هذه هي حيويتها المثيرة لأن عنقها يَشْرَئِبُّ دوما إلى العلى (التوسع و الانـتشار)، فتحمل في حركتها الأفقية حركية مماثلة عمودية، فالكونية هاهنا تتزاوج مع نزعة الهيمنة ويصبح أمر التمييز بينهما مستعصيا.

النتيجة معاداة الكونية تحت وطأة الهيمنة، أو الإنسياق وراء الهيمنة و الإعتقاد الوهمي بالظفر بالكونية دون التَّسَلُّح بالأدوات النقدية لتأسيس الذات الفاعلة في العصر.

في جميع الحالات، تندحر الأنا، وتَنْدَحِرُ معانيها الرمزية، ففي أحسن الأحوال تنتج الهيمنة، العداء ومن ثم المقاومة (مقاومة الآنا للأخر) وفي أسوأ الأحوال يؤول الأنا إلى الاحتضار في اتجاه التلاشي، فلا يعاد تشكيل الذات وفق متطلبات زمانها وتحدياته ورهاناته بل إما إنبهار وإما إمتعاض، إنبهار يولد الإغتراب، وكل إغتراب هو نفي للمواطنة، إنه نفي للفعل وتأسيس للانفعال، إمتعاض يولد الصدمة والصدمة المضادة، فلا تحقق إلا الإنطواء على الذات وفق منطق المقاومة، والمقاومة وإن كانت تبدو فاعلة، فهي فاعلة إلا ضمن بنية الإنطواء، فيتم إسْتِـنْـزَاف للقوى والملكات حتى يتم الاستنفاذ.

إن فهم المواطنة في مجمل أبعادها وفي بنية أَمْشِجَتِها، والعمل على تَشَكُّلِها في النسيج الاجتماعي وبالنتيجة إدراجها بتناغم في حداثة عقلية[9] في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، يُمَكِّن من هضم بعدها الكوني الموضوعي واستيعابه من حيث هو شرط ضروري لتملك موقع فاعل في حضارة الإنسان اليوم، و يُمَكِّن كذلك من تملك المسافة النقدية (الكافية) والروح الجريئة الثاقبة للكشف عن نزعات الهيمنة، آلياتها الصريحة والمضمرة، الثابتة أحيانا، الزئبقية أحيانا أخرى، المتربصة بكل تعبير حر ومستقل لتجليات رأس المال[10] (الذكاء، القدرة، العبقرية، الجرأة في الإبداع والإختراع) المتجهة للتوظيف الخلاق في فضاءاتها الأصلية (فضاءات الأنا المحلية).

2.المواطنة، الحقل الفقهي والعوائق الفكرية :

1.2. مكانة المعرفة الفقهية في حقل إنتاج المعرفة :

بإنقضاء الوحي، و إستكمال الرسالة، ووفاة الرسول (ص)، بدأ يدب في المجتمع الجديد، المتوسع في الأمصار إحتياجات جديدة ومتنوعة منها (في هذا المقام) الحاجة لإنتاج المعرفة المتعلقة بالله، بالكون، وكذلك بالإنسان، معرفة ملائمة ومتناغمة مع النسق الأطولوجي و الأكسيولوجي للنص المقدس (القرآن والسنة). إن حاجة الفرد (المسلم) والمجتمع الـمُنْتَمِي إليه إلى ضبط (في أدق التفاصيل) تشريعيا العلاقة المزدوجة: العمودية أولا، المتعلقة بالمسلم وربه والتي تتشكل من العقائد (كشرط للدخول في دائرة الإيمان) وكذا العبادات، والأفقية ثانيا والمتعلقة بالمسلم الفرد وغيره (بين المسلم والمسلم، بين المسلم وغير المسلم، بين الفرد و الجماعة، بين الجماعة والجماعة)، إنها تتشكل من المعاملات، وحاجة المجتمع للرد على العقائد المغايرة للإسلام والمجادلة له.

إن العقل في سيروراته و من أجل هضم وتمثل هذه الإحتياجات المعرفية سَيَتَلَونَّ بلونها، و يتشكل ويتبنين موضوعيا وفق منطق هذه الاحتياجات، وبالنتيجة لن تكون هذه المعرفة المنتجة إلا مستجيبة لهذه المتطلبات الضرورية، معالجة للمشاكل المطروحة على الفرد والمجتمع وفق المعاني الرمزية للنسق الأنطولوجي والأكسيولوجي للمقدس.

فظهر علم الفقه الذي يهتم بصياغة الأحكام الفقهية، وبعده علم أصول الفقه الذي يهتم بالمعايير التي تجعل تلك الأحكام مشرعنة، كما تشكل علم الكلام الذي سوف يحمل على عاتقه البحث في الأدلة العقلية للرد على العقائد المغايرة.

من حيث المبدأ، لاجدال في الحقل الفقهي و أصوله، إلا فيما يتعلق بالفروع بالنسبة للأول وآليات ضبط الأحكام من أجل أن تكون شرعية بالنسبة للثاني. إن الإيمان شرط مسبق للدخول داخل دائرة دار الإسلام، والتسليم بمسلماته أمر لا يمكن تجاوزه داخل هذه الدائرة. و بالتالي القبول والإذعان بطيبة خاطر لمنطقه ونتائجه المتعلقة بالأحكام (أي التشريع)، أما في الحقل الكلامي فالجدل هو المؤسس له، بحكم أنه موجه (من الوجهة المبدئية) خارج دائرة الإسلام، إنه موجه للرد على العقائد المغايرة.

في منظورنا، العقل العربي الإسلامي، في إنتاجه للمعرفة، خضع موضوعيا لآلية يمكن وصفها بالمجال المتحور حول نفسه، مجال مغناطيسي ممثل في "مركز-نواة" والأطراف تأتي لتتبنين حوله. إن آليات المركز النواة، بحكم طابعها المغناطيسي فهي تحدد حركة الأطراف من حيث التوجيه، الضبط والتحكم[11].

إن المعرفة الفقهية وأصولها في المركز النواة، والأطراف تمثل مجمل المعارف المنتجة في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، فالمعرفة الفقهية، معرفة دينية مُشَرِّعه للسلوك الفردي و الجماعي فهي مرتبطة عضويا بالنص المقدس، وعلماء الأصول بالرغم من أنهم علماء اجتهاد، فإجتهادهم لن يكون إلا في حدود النص ووفق هذه الحدود فقط وضمن أطر وبنيات العلوم اللغوية واللسانية لعصرهم. ومن هذا المنظور يعتبر الباحث عبد الجواد ياسين أن الفقه السني[12] قد احتل موقعا ليس له "إن النص الخالص لم ينفرد بتأسيس المنظومة السلفية، وإنما تأسست بوجه عام على مصادر تاريخية مفارقة للنص وإن كانت متاخمة له كالإجماع والقياس فلقد أتى مع الإسلام حين من الدهر لم يكن شيئا سوى النص، ثم أتى على الإسلام حين آخر من الدهر أصبح الإسلام فيه هو النص منضافا إليه الفقه والفكر.

و لقد صارت للفقه مكانة مرجعية مساوية لمكانة النص في الناحية العملية، ثم راحت تلعب في تكوين العقل المسلم على مدار الزمان دورا تجاوز بهذه المرجعية مكانة النص بقدر غير يسير، إن حجم الفقه في هذه المنظومة أكبر من حجم النص على وجه التحقيق[13]".

ولما كان المجتمع الإسلامي، تاريخيا، قد انقسم من حيث التراتب الفئوي الاجتماعي إلى العامة والخاصة، وخاصة الخاصة، سنجد العامة تهتم بالمركز- النواة، تدور في فلكه، إنها تخضع للفضاء المغناطيسي للحقل الفقهي، وهو بهذا يزود العامة - وعلى الدوام- بمختلف الأحكام الشرعية في أدق جزئياتها والمرتبطة بحاجات الناس اليومية المادية والروحية (الاعتقاد وشروطه، العبادات والمعاملات)، إنه الحقل المعرفي الوحيد الذي في فضائه يُضْبَطُ، يُشَرْعَنُ (بفتح الشين وتسكين الراء) السلوك الفردي والجماعي للمسلمين والنتيجة، التقنين الفقهي (بفعله، و مفعوله) "يسطو" موضوعيا على البنية الذهنية الوجدانية السلوكية للعامة، إنه يشكلها بالصورة التي تلائمه وتتناغم معه بصورة كلية، ومطابقة له إلى حد التماهي إطلاقا. وهي بهذا (أي العامة) والتي تمثل الجمهرة الواسعة المشكلة للمجتمع الإسلامي، تنفر من كل جدل في العقائد وبالتالي من المتكلمين. فالمعرفة الفقهية إذن هي أقرب إلى العامة وإلى أذهانهم ونفوسهم فهي التي تشكل هيكليا الحس المشترك (Le sens commun) لديهم، إنه نسق ذهني مغلق مشكل لعناصر بنائية في السِّمْتِ[14] (Habitus) بدلالة "بياربورديو"[15]. أما المعرفة الكلامية بعيدة عنهم إطلاقا، فهي مُشَوِّشَة، بل مُشَوِّهة لبنية أذهانهم مُخِلَّة بقواعد إيمانهم، مُزَعْزِعة لاطمئنانهم، مُعَطِّلة لعزائهم، فهي لا تتناغم مع سمت المؤمن، إنها معرفة غريبة عن عالمه البديهي، وتبدو له وكأنها معادية له، غرزوها من أجل تخريب السمت المتناغم والآنا، المنافي للآخر، بالنتيجة تكون المعرفة الكلامية في وضع معاكس لوضع السمكة في الماء، فيتم الشعور بثقل الماء، و لا يُدْرَك العالم وكأنه بديهي[16]، لذا سيدفع العقل العربي الإسلامي –من خلال بنيته الأساسية- عملية ذات طابع مزدوج ومتكامل، صرف أنظار العامة –أولا- عن المعرفة الكلامية "لوقايتهم" من كل مفسدة إيمانية (من خلال شرعية الأحكام التي تحرم السؤال الذي سكت عنه النص) العمل على إدخال وترجيح كفة آليات النص والنقل على حساب العقل –ثانيا- من أجل قص أظافر الجدل الكلامي، تهذيبه ثم تدجينه بالصورة التي يتقاطع ويتمفصل مع الفكر الفقهي السني تحديدا في المرحلة الأولى ويتناغم مع نسقه الفكري في مرحلة ثانية ليصبح جزءا منه يتمايز عنه في الدرجة وليس في الطبيعة، فيلائم السمت ويتناغم معه، إن فرقة الأشاعرة، قد تشكلت موضوعيا لتحقيق هذا الغرض، فقد غَذَّت الجدل والمساجلة من موقع "سني- متعقل".

إن داخل حقل النواة المركز الذي هو حقل مغذي، مؤطر، مراقب وضابط لمجمل عملية إنتاج المعرفة، يصطف إنتاج المعرفة الفقهية ذاتها من خلال رافعتين متكاملتين بالرغم من تعارضهما.

الرافعة الأولى: إجماع الأمة لغرض وحدة الدولة، الرافعة الثانية: الإختلاف الذي لا ينبغي أن يمس بالإجماع وبالتالي بالوحدة.

وبناء على هذا لن يكون الإختلاف الفقهي شرعيا إلا إذا كان مندرجا ضمن وحدة الأمة وبالنتيجة وحدة الدولة، إن آلية يجوز أو لا يجوز (الحلال والحرام) التي هي الآلية الجوهرية في الحقل الفقهي والمحددة لمختلف عملياته الإستيميولوجية (إن كل مستويات الأحكام الشرعية تصطف وفق تراتب ذكي، معقول ومثير من موقع أعلى وهو يجوز إلى موقع أدنى وهو لا يجوز)، هي سلاح في يد سلطة الفقهاء لتحقيق آلية الغلق حين يتجاوز الاختلاف في الحقل الفقهي الخط الأحمر ويمس بوحدة الأمة، هاهنا لتتقاطع سلطة الفقهاء مع سلطة الأمراء موضوعيا. أما في حقل الجدل الكلامي فيتخذ المسعى صيغة التقارب والنفور، فالتقارب من الأشاعرة والنفور من المعتزلة، ففي الحالة الأولى لغرض التلون بلون الإجماع والوحدة أما في الحالة الثانية لغرض الإبعاد و الإقصاء خارج الإجماع والوحدة.

إن تأسيس الرأي شرعا، حين غياب النص لا يمكن أن يندرج إلا ضمن النسق الفكري لعلم الأصول وهو الإجماع الفقهي للسنة بمختلف مذاهبها للحفاظ على وحدة الأمة، "فالرأي و الاستحسان، على حد تعبير سالم حميش، أخذا شكل القياس، وأن هذا الأخير ظهر مثيرا للاختلاف، وبرز أخيرا التنظير للإجماع بقصد محو آثار الاختلاف أو تليينها"[17] فبالرغم من أن الفقهاء ورجال الفكر عامة يقررون الاجتهاد، فلن يكون هذا الاجتهاد مشروعا إلا ضمن هذا الإطار ولا يمكن أن يكون خارجه، "إن كل المفاهيم الفقهية الرئيسية تتسلسل باتجاه الحفاظ على وحدة المذاهب السنية، ويلزم التأكيد على التبعية الصارمة التي تطبع علاقة مناهج الفقه بأصول الفقه وحتى وأن لاحظنا أحيانا في تلك المناهج بعض التوق إلى الاستقلال بذاتها، فإنه من قبيل التهافت أن نرى في الاجتهاد ممارسة للفكر الحر تُخَوِّل للفقه استقلالا بازاء الأصول و الحق أن الاجتهاد نفسه في هذا الحقل كما أكد الغزالي فيما بعد، ليس مطلوبا، إذ حيزه الخصوصي هو الظنيات وهو بالطبع هامشي وضيق كتحديد القبلة في حالة...[18]".

إنها آلية مضمرة تفعل فعلها من داخل بنية العقل الفقهي الأصولي السني (بدلالة أصول الفقه) فتحدد مساراته، إجتهاداته وتضاريس هذه الإجتهادات والمسارات من أجل كبح الصراع الإيديولوجي بين السنة والباطنية لصالح انتصار الأولى على الثانية لتحقيق "الغلبة" و بالنتيجة الهيمنة، الحصيلة هي أن "...هذا الخطاب، ومنذ نشأته، كان يراوده حلم الإكتفاء بنفسه وكفاية ممتلكاته و بدءا من القرن الرابع وطيلة الخامس الهجري كان ذلك الحلم في طور التحقيق وبدأت بالتوازي تلوح في الأفق علامات إنغلاقه ونهايته[19]".

2.2. الحقل الفقهي وعوائق إنبثاق الحداثة والمواطنة :

إن القراءة النقدية التي أنجزتها الباحثة لطيفة الأخضر للرد على الشيخ : محمد الطاهر بن عاشور[20] على علي عبد الرازق في مؤلفه "الإسلام وأصول الحكم" والتي اعتمدت فيها على آلية تفكيك الخطاب الديني كما وظفها محمد أركون، تمكننا من الوقوف على بعض أوجه العوائق الذهنية المانعة لإنبثاق وتشكل الحداثة والمواطنة: إن العقل الديني الـمُكَوَّن[21]، الذي يهدف إلى تحقيق إتفاق بين أفراده -تحت وطأة هيمنة قسرية- حول مجموعة القيم العقائدية والقواعد الفقهية التشريعية، ويسعى إلى وضع البقية في صف الملل والنحل[22]، هذا العقل الديني الـمُكَوَّن، وعلى طول تاريخ الفكر الإسلامي، كان إستجابة موضوعية لمتطلبات سياسية إيديولوجية متعلقة بالحفاظ على وحدة الأمة والدولة، من خلال تحقيق وحدة الفكر والسيكولوجيا وتشكيلها الديني والعقائدي والتشريعي، الـمُؤَسِّسَة للشخصية الإسلامية القاعدية الـمُبَنْيِنَة للسمت كمنتوج لمنطق الهيمنة السنية.

إن هذا التشكيل لا يرى ضرورة للتفاضل "بين الروحي الإيماني والتشريعي القانوني بل لا يرى له أي هامش للوجود المستقل... وهو بهذا يكرس فلسفة الأصول[23]" التي كانت تجديدية في البداية من خلال إمعان الرأي والاجتهاد، وغدت متحجرة في النهاية "لا يرى للروحاني و الإيماني مكان خارج القنوات التأطيرية التي أرْسَتْها إن كانت أصولا للدين أو أصولا للفقه[24]".

و بهذا الإعتبار الفكر الديني واحد، فهو نسق لا يقبل التجزئة على الإطلاق وبالتالي، هو نسق يشكل للرؤية التي ينبغي لكل مؤمن في كل زمان ومكان أن يتغذى منها ويغذيها، فينظر من خلالها لنفسه، لله وللوجود، و للخلق و العدم.

إن الحقل الفقهي الـمُوَظِّف لهذه الرؤية –بحزم وحسم- يقدم صكا يضع به المفكر داخل الإجماع فَيُشَرْعِنُ اجتهاده وإبداعه، وينزع صكا يضع به المفكر خارج الإجماع فَيُقْصَى و يُكَفَّر. تستخلص لطيفة الأخضر "أن رد الشيخ الطاهر بن عاشور مُؤَسَّس من منطلق نظام ديني مغلق، "إنه يلتجئ إلى حجة تقليدية تضع الطرف الآخر (علي عبد الرازق) خارج الإجماع السني ويعجز عن فهم هذا الاجتهاد الديني وهذه المقاربة النقدية خارج المنظور الأرتودوسكي السني[25]".

تتقاطع هذه القراءة التحليلية النقدية مع ما أطلق عليه البحث (حمادي رديسي)[26] التناول الثلاثي لما هو سياسي (أو خطاب السياسات الثلاث): الخطاب النبوي، الخطاب الملكي، الخطاب الفلسفي، فالخطاب الأول ينتمي إلى اللاهوت والثاني إلى الملك والثالث إلى المدن (البشر)[27].

ليصل إلى القول " فمن سياسات الإسلام الثلاث: صمد وحده مِلْحَاحًا عنيدا في العصور الحديثة الخطاب الديني البحت (ويقصد نظرية الإمامة) التي تأخذ مشروعيتها من الخطاب النبوي وبذلك أصبحت بمثابة الهوية السياسية للإسلام[28]".

إن نظرية الإمامة التي تستلهم الأفكار و الإجتهادات من السياسة النبوية تستجيب وبالتحديد لمتطلبات السؤال الوحيد والكافي.

من هو الأصلح لخلافة الرسول (ص) ؟ ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه ؟ وقد حددته الأدبيات الفقهية من خلال مصطلح الإمامة الكبرى وهو باب من أبوابها أنه ملحق بالمعرفة الفقهية وبالتالي خاضع لآلياتها وقوانينها الداخلية وهو آخر اهتمام الفقيه، وتلك هي المفارقة.

إنه بهذا قد جرى "انزلاق مضمر من السياسات في الإسلام، إلى سياسية الإسلام[29]" وتم الغلق النهائي والنتيجة التاريخية "تهاوى الخطاب الفلسفي ذو الأصل اليوناني (وكان بؤرة لإبتكار الحداثة الغريبة) واختفى من منظومة المعارف الإسلامية، وتمت أسلمة الخطاب الملكي "مرآة الأمير"ذو أصل " هندي –أوروبي" في حين الغرب حَوَّلَه إلى وصفةٍ حكم[30]"، كما تم فتح لإعادة إنتاج الخلافة[31] كمعنى تنزع إلى الهيمنة القسرية، نستلهم منها وليس من غيرها، نَتَمثَّلها لوحدها ولا وجود لغيرها الرمزي، ففي حدودها وفي حدودها فقط تتشكل هويتنا السياسية ويتنمط الفرد المؤمن وفقها، "فعوض الإنتقال من اللاهوتي السياسي إلى التعددية الحديثة، واجه المسلمون الحداثة بنموذج واحد هو الأنموذج النبوي ...وانطلاقا من هذه اللحظة وليس قبلها تَمَّ انزلاق الإسلام في خلط بين الروحي والزماني[32]".

و بهذا الغلق على الرؤية التعددية للسياسة وللإنسان، وللإيمان وفرض رؤية قسرية– على أساس منتوج فقهي أصولي مقدس له محدداته الزمنية المعرفية و الإبستيمولوجية- تنزع إلى الهيمنة وتلوح بعصا التكفير والتفجير، حجبت عنا إمكانية تاريخية واجتهادية هو تأسيس للحداثة وهي تنبثق من تضاريس العقل العربي الإسلامي ومساراته المعقدة.

و بتشكل هذا المانع أُوصدت الأبواب أمام المواطنة في تشكيلها التاريخي والطبيعي، إن بقاء النموذج النبوي في السياسة منفردا يصوغ المسلم و ينمذجه، ويشكل نظامه الرمزي و يتمثله، هو نتيجة لخضوع مجمل حقول المعرفة (خاصة حقل السياسة) إلى حقل النواة –المركز إلى آلية الإبعاد المضمرة لكن الفاعلة، لكل ما يمكن أن يؤدي إلى تحول نوعي داخل آليات العقل العربي الإسلامي وفق ديناميكية باطنية داخل طبقات العقل نفسه.

الأمر الذي انتهت إليه لطيفة لخضر حين ذهبت إلى طرح فكرة ضرورة تكوين نخبة من الـفقهاء الجدد: "الواقع الراهن للمجتمعات الإسلامية يشكو من شغور خطير يتمثل في انعدام وجود فئة من علماء الإسلام، يمكن أن تلعب دور الوسيط المتشبع بفلسفة الحداثة و ذلك بين الجماهير المؤمنة والمعرفة الدينية"[33] والذين يتكفلون بنقلنا من الأحادية الفكرية إلى رحابة التعددية، من الغلق إلى الإنفتاح، من الأورتودوكسية السنية إلى الإيمان الأنتولوجي –من التشريع وفق منطق الإمامة الكبرى إلى التشريع وفق المدن البشرية، وفي هذه الرؤية الجديدة تنصهر وتتشكل الحداثة وفي حضنها المواطنة.

الخلاصة :

إن الحقل الفقهي - من خلال عناصر هذا التحليل- يخضع لهيمنة داخلية (الأرتودوكسية السنية) وينزع هو كذلك، وفي ذات الوقت إلى إخضاع مختلف الحقول المعرفية الأخرى لهيمنتها، إن هذه الآلية المزدوجة هي المحور المحرك والمجمع للعوائق الذهنية و الفكرية المانعة لكل تحـول نوعي في العلاقة بني المسلم والطبيعة أولا وبينه وبين الحرية ثانيا و بينه وبين مصدر الحق (التشريع) ثالثا إلى الحداثة التي تمثل الفضاء الذي ضمنه تزدهر المواطنة لترتقي بالفرد إلى الأبعاد الإنسانية ضمن جذور تُوِميءُ إلى التفتح؛ ضمن أصول إيمانية متناغمة و حضارة اليوم تُمَكِّن الفرد من الاستلهام و العطاء، الأخذ و النقد بذكاء و كفاءة.

إنها تطلب زحزحة تحديدات المعنى وخلخلتها لتتحرر من هيمنة العقل الديني المكون وتصير إلى فضاء الوعي الديني الإيماني الرحب فَتؤسَّس الظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية التي يكون مركزها الإنسان في مجمل أبعاده، فيُؤَسَّس هنا لحداثتنا، وليس إستنساخا لحداثة غيرنا، تلتقي حداثتنا بحداثتهم في إحداثيات الإنسان، في إحداثيات المواطنة، في إحداثيات القيم، وتتباين عنها في المعنى بالمفهوم الأنتروبولوجي والرمزي.



الهوامش

* أصل هذه المقالة، مداخلة قدمت في إطار ندوة "الحداثة في واقع الفكر العربي المعاصر" والتي نظمها قسم الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة الجزائر بتاريخ 7 إلى 9 نوفمبر 1999؛ لقد أعدنا هيكلتها بما يلائم قراءاتنا الجديدة.

[1]- الحقل بالمفهوم الذي حدده بورديو،ب.- هو بنية من العلاقات الموضوعية بين أوضاع للقوة،يُسْنِد ويوجِّه الخطط التي بها يبحث المحتلون لتلك الأوضاع بشكل فردي أو جماعي ليَحْموا أو يُحْسِّنوا وضعهم وليفرضوا مبدأ التراتب الأنسب لحياتهم الخاصة". أنظر بورديو.ب وقاكونت ج.د، أسئلة علم الاجتماع، في علم الاجتماع الإنعكاسي، ترجمة عبد الجليل الكور، إشراف ومراجعة محمد بودورو، دارتو بقال. - 1977.- ص. 69.

[2]- Voir citoyen, le Petit Larousse, Grand format.

[3]- الحديث والتحديث من مكونات منطق الحداثة؛ لكن الحداثة تتجاوزهما من حيث الجوهر والشكل.

[4]- Baudrillard, J..- Modernité.- Paris, Encyclopedia Universalis, Tome 15, 1996.- p.552.

[5]-كل معنى (بالدلالة الأنتروبولوجية والرمزية) إن توفرت لها التربة الخصبة، تنزع بالضرورة إلى الهيمنة.

[6]- غوروفيتش.ج.- الأطر الاجتماعية للمعرفة.- ترجمة د. خليل أحمد خليل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1981.- ص.ص. 182-189.

[7]- عياض، بن عاشور.- الضمير والتشريع. العقلية المدنية و الحقوق الحديثة.- الدار البيضاء، مركز الثقافي العربي،1998 .- ص.ص. 14-16.

[8]- أركون، محمد.- حوار أجراه حسان العرفاني، العقل الإستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربية الإسلامية، العالم العربي في البحث العلمي (Mars).- باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.

[9]- تشكيل الحداثة العقلية يتطلب توفير شروط النهضة وتحقيقها من جهة وانبثاق التنوير بالمفهوم الكانطي وسيادته من جهة أخرى.

[10]- رأس المال بالمفهوم الذي وظفه بوروديو.ب.- أنظر المرجع السابق.

[11]- عمليات التحديد، الضبط، التوجيه والتحكم لم تكن دائما نافذة بصورة آلية وخطية، إذ في حالات عدة كان يقع "تمرد" داخل هذا الحقل أو ذاك وفي الغالب يأخذ أشكال مضمرة، لكن سرعان ما آليات التحكم والإذعان تستعيد المبادرة لاسترجاع سلطتها الكاملة وفق مفاعيل متنوعة وملائمة. 

[12]- صنف الفقه إلى فقه سني، شيعي، صوفي، وهذا وفق الاتجاهات الفكرية والمذهبية للفكر الإسلامي، وقد هيمن الفقه السني على الاتجاهات الفقهية الأخرى، أنظر د. أبو الفتح بدوي عبد المجيد، التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، عالم المعرفة، جدة، 1983 (مؤلف يؤرخ لمسار هيمنة الفقه السني على المذاهب الفقهية المخالفة له).

[13]- عبد الجواد، ياسين.- السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ.- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1998.- ص.60.

[14]- السِّمْتُ (Habitus) هو نظام من الاستعدادات والتصورات التي يصدر الفعل وفقه وبالتناغم معه.

[15]- بوروديو. ب و فاكونت.ج.د.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[16]- استعرنا المثال من بوروديو وفاكونت.- نفس المرجع السابق.- ص.87.

[17]- حميش سالم، التشكيلات الإيديولوجية في الإسلام، الإجتهادات والتاريخ، ترجمة ماكسيم رودنسون ومحمد عزيز الحبابي.- دار المنتخب العربي، 1993.- ص.40.

[18]- حميش، سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.40.

[19]- حميش سالم.- نفس المرجع السابق.- ص.43.

[20]- أصدر الشيخ الطاهر بن عاشور كتيبا في ستة وثلاثون صفحة عنوانه: "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم" يرد فيه على الشيخ علي عبد الرازق.

[21]- ما يميز العقل الديني المكون "بضم الكاف وفتح الواو" عن الوعي الديني هو أن الأول "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما تعطى لها قيمة مطلقة في تلك الفترة التاريخية (التعريف لمحمد عابد الجابري) والتي يسميها محمد أركون "بالأرتودوكسية السنية" أما الثاني فيؤسس للظاهرة الدينية وفق الأبعاد الروحانية الإيمانية الأنطولوجية (التمييز لمحمد أركون).

[22]- الأخضر لطيفة، قراءة في منهجية الفكر السني ومسلماته: حول رد الشيخ الطاهر بن عاشور على علي عبد الرازق "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم في IBAL N° 182, 1998, t 61 .- ص. 63.

[23]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.65.

[24]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع السابق.- ص.65.

[25]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.64.

[26]- يعتبر الباحث رديسي حمادي أن إلتقائه بالفكر الإسلامي الهندي مكنه من اكتشاف التناول الثلاثي للسياسي في الإسلام.

[27]- رديسي، حمادي.- من التقليد التعددي إلى الحداثة الإسـتـبداديـة، الـعـالم الـعربي في البحث العلمي (Mars) باريس، معهد العالم العربي، العدد 10/11، 1999.- ص.156.

[28]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[29]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[30]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[31]- تعني الخلافة لدى إبن خلدون (في المقدمة): "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدُّنْيَوِية، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها لمصالح الآخرة".

[32]- رديسي، حمادي.- نفس المرجع السابق.- ص.158.

[33]- الأخضر، لطيفة.- نفس المرجع.- ص.74.

المقدس و العنف في التجربة الصوفية : حالة شمال شرق الصحراء الجزائرية

الأسطورة و البعد الرمزي المعرفي :

ارتبطت الممارسة الصوفية منذ نشأتها، كممارسة فردية تأملية، مرورا بتحولها إلى نظرية فلسفية اتخذت الشكل الحركي المنظم، بالجدال و النقاش حول مفهوم التصوف و تأويله، كمصطلح مشتق من الصوف الذي يرتديه الممارسون حتى صار علامة مميزة لهم، أو من الصفة، و هي مكان خاص أقيم خلف المسجد النبوي بالمدينة لفقراء المسلمين الذين لا مأوى لهم و لا دار يقيمون فيه، أو إلى الصفي من الصفاء الروحي و النفسي لرجال التصوف[1]…الخ.

وفي المرحلة التي تبلورت فيها الممارسة الصوفية وتحولت إلى ممارسة جماعية منظمة انخطرت فيها جميع فئات المجتمع و هيمن عليها الطابع العملي التطبيقي للتصوف متخذة الشكل المؤسساتي؛ عبر الزوايا الطرقية، كمؤسسة دينية متفتحة على المجتمع، من خلال إمتداداتها الاجتماعية و الثقافية و التربوية و الاقتصادية و السياسية، امتد النقاش و الجدل إلى النسب الشريف الذي أصبح خاصية جميع الأولياء المسلمين مؤسسي الطرق الصوفية، فما هو تأويل رمز ارتداء الصوف، وما مدلوله الأسطوري، وما علاقته بأسطورة النسب الشريف ؟ و ارتباط هذين الرمزين بالقداسة التي أصبح يتمتع بها الأولياء ؟

1. الرمز و التجربة الينبوعية :

يـبدو أن التصوف الإسلامي هو المرحلة الأخيرة في نظام تعبدي أسطوري مغرق في القدم، يقوم على احتفالات و طقوس متعلقة بالتضحية التي يقدمها المتعبد، فدية أو إرضاء، أو أملا بالوفرة و البركة. بدأ بتقديم أضحية بشرية، ثم تطور فصار البديل عن ذلك غنما "جمل – كبش"، وفي مرحلة أخيرة صار البديل و ضع شيء من الصوف رمز ذلك الحيوان على الرأس أو لبسه على البدن…إلخ. بعبارة أخرى صار الصوف بديلا عن الجمل، الذي كان بدوره بديلا للبشر. فوضع الصوف على الإنسان أو لبسه، هو في ذلك المعتقد عملية نقل أو تمثل، أو أخذ أسطوري لصفات الغنم لما يمثله هذا الحيوان من فداء و تضحية، ورمز للـحياة الخالصة من الذنوب، كما نجد هنا عملية ربط سحري بين الإنسان و الشاة، و الغفران أو التطهر و طلب الخلود، و من هنا نقول صار صوفيا.

فالصوفي هو جمل الله، و الصوفية هم ظأن الله و ملكه و الأضاحي المهداة له، إنه قربان بجسمه بذاته نفسها تقربا لله، أو عبر خدمة بيته و حراسة معبده؛ حيث عوضت الضحية البشرية في هذا النسق التعبدي بالحيوان "الغنم" ثم تحولت الضحية البشرية إلى نذر الله منقطعة إليه بتكريس العمر كله لخدمة معبده و زواره، فهو مرتبط بالحياة الميثولوجية و لا ينعزل عن التضحية بأشكالها المتعددة.

و في ضوء هذا النسق التعبدي الأسطوري، يمكن أن تفهم التقاليد التضحوية السامية جاهلية كانت أم إسلامية، فالتصوف كتضحية يستدعي توضيحه و ربطه بينابيعه التي هي في التحليل النهائي، المستمرة لما سبق وقام به ابراهيم عليه السلام" فديه لابنه البكر إسماعيل" في موسم الحج، و التي نجدها تتكرر في التضحية الجاهلية و الإسلامية عند الكعبة. فإذا كان المسلمون يكرورن في شعائر الحج التي رسمها لهم إبراهيم، الذي بنى الكعبة، و فدى ابنه بذبح. فان الصوفي في قفزة روحية يتسامى فوق المألوف، ليتناول عملية الفداء نفسها، فهو يقفز إلى ذلـك الزمن السحري و يندمج فيه، ليكون ذلك الفدي و ذلك الذبح، أي الكبش الذي لم يولد من رحم، و الذي رعي أربعين عاما في الجنة، إنه أساسا كبش هابيل الذي قبله الله وأصعده إلى السماء، فهو يتماهى في الكبش و من ثم يقدم ذاته ضحية كي يعيش الإنسان، تحدوه الرغبة في أن يكون كبش هابيل الذي يتقبله الله و يرفعه إليه، يرجع الصوفي أسطوريا إلى ذلك الزمان و الحال اللذين سبقا الحال و الزمان المعروفين.

فإنتساب الصوفي لإبراهيم، يتم عبر علاقة معنوية قوامها التضحية إلى أقصى حدودها بتقديم القرابين و منها الذات نفسها، ولعلى ارتباط الفتوة بإبراهيم دليل إضافي آخر، فالفتوة سلوك يقوم على إنكار الذات على كل مبدإ آخر، ذلك لأن تحقيق الذات يستدعي التضحية بالذات نفسها، فإبراهيم رمز التضحية قدم ابنه ليضحي به كما سبق أن أسلم نفسه للنيران و ماله للضيفان و قلبه للرحمان، ولذلك اتخذه الله خليلا، فهو تجربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري.فالصوفي الذي يكرر أعمال إبراهيم، ويتصل به و يهاجر مثله يسعى لأن يكون خليل الله، يوغل في ذلك بـجعل نفسه تلك الضحية ذاتها، فيتماهى بالكبش الذي قدم فداء لإسماعيل "في حـالة الأذى و الهلاك" أو بإسماعيل نفسه المتقدم طوعا للذبح قربانا لله و تحقيقا لنذر يقوم على التضحية بالإنسان "في النجاة". و بتقديم ذاته دبيحة يرى الصوفي أنه يخلد، و يصبح حالتئذ فـدية و ضحية و قداسة. وهكذا يكون عبارة عن الكبش الذي لولاه لما كان العرب و لكانت الكعبة و لكان الإسلام فالتصوف ممارسة رمزية لإنبجاس أول بئر ماء و لإقامة أول بيت، و لبناء أول مجتمع في مكة. فهو عبارة عن عملية خلق سحرية خارج الواقع و التاريخ للحياة نفسها؛ الحياة المباركة حول ماء مقدس "زمزم" و بيت مقدس" الكعبة" و مدينة مباركة " مكة. فالصوفي يتماهى في الإثنين جده إسماعيل و الكبش و يزيل ما بينه و بين طوطمه كل فرق و كل بعد، و بذلك فهو يعيد خلق الإسلام الذي بدأ مع إبراهيم، و يضحي بذاته لإعادة خلق الكون و المجتمع و الإنسان و البيت الحرام و الدين، و بذلك فهو اعتباريا شخص ضروري،لاستمرار الحياة و الدين ولبقاء الطقوس و تأكيدها و إظهار حقيقتها و حصولها التاريخي و الفعلي[2].

2. المعرفة و التجربة الروحية :

موضوع المعرفة في النظرية الصوفية هو الله، ومدارها صفاته و أسماؤه، لاستحالة معرفة ذاته. و منبع هذه الرؤية أن الوجود في نظرية المعرفة الصوفية هو الله و حده، أما الكون و الـمخلوقات بما فيها الإنسان الذي هو أرقاها، فما هي إلا تجليات لصفاته و أسمائه. و قد أدى هذا التصور للوجود، إلى هدم الأساس النظري لفكرة التوحيد المستمدة من الشريعة، و القـاضية بالفصل المطلق بين الله و الكون بما فيه الإنسان إلى الجمع بينهما، وهذا في الواقع رفـض للشريعة كواسطة بين الخالق و الإنسان؛ حيث يصبح مصدر المعرفة الله يستمدها منه العبد مباشرة عبر مقامات و أحوال يمر بها للوصول إلى تحقيق ذلك[3]. لقد نتج عن هذا التصور للوجود و المعرفة، عدم الاعتراف بالتأويل الرسمي للنص الديني "القرآن" و معناه رفض معرفي للأساس الأيديولوجي للسلطة باعتبارها المحتكر الوحيد له حسب النص الديـني، و المقرر بأن التأويل و معرفة أسرار القرآن هو الله و الرسول و أُولُو الأمر، بالاعتماد على نص ديني آخر من القرآن نفسه، يحصر التأويل في الله و الرسول و الراسخين في الـعلم، أي رفض النص الذي يمنح حق التأويل لأولي الأمر "السلطة" و يمنعهم منه باعتبارهم ليسوا أولي الأمر. و تبنوا النص الذي يفتح لهم باب ممارسته، باعتبار أنهم من الراسخين في الـعلم، العـارفين بأسرار القرآن. فأولياء الله المؤيدون بكرماته التي يظهرها الله على أيديهم تثبيتا لهم، و دليلا على بلوغهم درجة رفيعة في اكتساب المعرفة، و تدعيما لهم في مواجهة مناوئيهم من الشيعة "الخصم الآخر لهم بعد السلطة و حلفائها من الفقهاء و غيرهم" الذين يحصرون الولاية في آل البيت و بالتالي حصر حق ممارسة التأويل فيهم.

و انطلاقا من النصوص القرآنية التي تعالج مسألة ممارسة حق التأويل التي فتحت لهم باب و لوجه "كما بيّنا سلفا" توسعوا فيه ليشمل السنة "الحديث" و توصلوا في فهمهم للنصوص الدينية إلى أن لها معنيان ظاهري وباطني، و منهما أخذوا بالباطن الموجه للخاصة "النخبة" من أولياء الله العارفين و من مستواهم من العلماء الأتقياء، ورفضوا الظاهر الموجه للعامة "الجمهور"، ثم توغلوا في تأويل النصوص القرآن و السنة، للقضاء على أي امتياز ينفرد به غيرهم. عنهم، و خاصة الانتساب إلى آل البيت، أي الرسول برفضه و عدم الاعتراف به في البـداية، حيث كان الحلاج يقول دائما ردا على المنتسبين إليه "ما كان محمد أبا لأحد منكم" في سخط على هذا الامتياز الذي يحضون به[4]. ثم تأولوا معنى "البيت" الوارد في الحديث النبوي الشريف، الذي ينسب سلمان الفارسي إلى آل بيت "سلمان منا آل البيت "بـأن المقصود به هو بيت" الله بتوسيع معناه، ليشمل و يستوعب حتى من هو من غير العرب، ليتناسب و يتطابق مع النص الآخر، الذي ينسب فيه الرسول إليه الاتقياء حتى و لو كـانوا من الأحباش و يتبرأ من الأشقياء ولو كانوا من قريش " أنا جد كل تقي و لو كان عبدا حبشيا، وبريء من كل شقي ولو كان قريشيا"، و هو مافتح باب الانتساب إلى آل البيت الذي أصبح ظاهرة بارزة تستطيع أي جماعة أن تلجه بالانتماء، فيما صار يعرف ذلك بالنسب الشريف الذي هو سمة كل الأولياء[5].

و الخلاصة إذا كان الولي الصوفي قد انتسب إلى إبراهيم عبر عملية الفدي لابنه إسماعيل رمزيا بارتداء الصوف أو وضع جزءا منه على جسمه دلالة على الكبش الذي فدي به باعتباره تـجـربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري. فإن التجربة المعرفية الروحية قد عمقت هذا الانتساب من خلال ربطه بالنبي صلى الله عليه وسلم حفيد إسماعيل دمـويا و روحيا. مما أهله لتلقي المعرفة من الله مباشرة، باعتباره وريث الوحي لانتسابه الدمـوي لشجرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، و معرفيا لوراثة الأنبياء لأن العلماء هم ورثة الأنـبياء، فقد ورد في الحديث " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" و في الأثر "العلماء ورثة الأنـبياء". و هذه الميزات أو الصفات هي التي مكنت الولي الصوفي من محاكات و تقليد الأنبياء، واستلهام سيرهم و تجاربهم التي فتحت الباب أمامهم لاكتساب القداسة، وبالتالي التسرب و التغلغل في بنى التركيبة الاجتماعية القبلية في المغرب العربي، فجل قبائل المنطقة تنسب لولي صالح يتصل نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكلها وصل أجدادها المؤسسون إلى منطقة إقامتهم الحالية قادما من المشرق مرورا بالساقية الحمراء. و هذا ما سنجد له أثرا في المعطيات الشفهية التي زودنا بها الميدان، و هو الأمر الذي سيظهر جليا في صيرورة القداسة و المقدس.

II .صيرورة المقدس و القداسة

المقدس محوره الإنسان، و مصدره الدين، خاصة في الديانات التوحيدية، فالإنسان يستلهمه من الدين و يقوم بتفعيله ليشمل بإشعاعه الفضاء بمختلف مكوناته. و في التجربة الإسلامية التي تعتبر صورة الله في الأرض فإن قداسة الإنسان تأتي في المقدمة، قبل أي شكل آخر من القداسة مـهما كانت درجتها، باعتبار أن هذه الأشكال من القداسة تم اكتسابها في الغالب من الإنسان و بواسطته.

فالقداسة مرتبطة بذات الإنسان بالدرجة الأولى و لهذا تأتي حرمته و عدم التسامح في انتهاكها في المقام الأول قبل حرمة الأماكن المقدسة نفسها، و في مقدمتها الكعبة بيت الله الأول، فهـدم الكعبة أهون من سفك الدماء ظلما بغير حق رغم ما لهذا المكان من قداسة تضعه في المرتبة الأولى من ثلاثة أماكن مقدسة في الديانة الإسلامية على الإطلاق و هي : البيت الحرام- الكعبة، المسجد الأقصى - بيت المقدس، المسجد النبوي.

لكن في المجال العملي نسجل بعض الاختلاف في منبع القداسة و سيرورتها التاريخية و في كل الأحوال فهي كامنة في ذات الإنسان، إلا أن تفعيلها قد يكون عبر الاكتساب بالوراثة أو بمجهود ذاتي إرادي كما يلي :

1.أشكال المقدس

  • المقدس في اللغة هو المطهر و المنـزه و المبارك، و من هذه المعاني فإن القداسة تكتسب بالوراثة، و هي بهذا الشكل تصبح غير ذاتية و لا تخضع لإرادة الإنسان بل هي قوة خارجة عنه و عن إرادته، و هو ما ينطبق على آل البيت المطهرين بصريح النص الديني الذي يؤكد ذلك و يثبته، فالقداسة بهذا المعنى و هذا الشكل مبنية على رابطة الدم و النسب العائلي، فالبركة النبوية تسري في عروق آل البيت بدون جهد ذاتي إرادي، و تمتد لتشمل الفضاء الاجتماعي و حتى الكون.
  • المقدس كفعل إرادي ذاتي يكتسبه الإنسان بمجهوده الخاص و هي طريق الأولياء في الاكتساب، الذين يمكنهم بفضل المجاهدة عبر الرياضة الدينية بعد المرور بالمقامات و الأحوال من الوصول إلى الحقيقة التي هي المعبر الموصل للقداسة، و ترتكز في ذلك على تفعيل البعد اللاهوتي في الإنسان ليطغى على البعد الناسوتي فيه، و هو ما قال به بعض المتصوفة في تأويل معنى (خلق الإنسان على صورته) كالحلاج و ابن عربي.

2. مجالات المقدس و فضاءاته :

انطلاقا من اعتبار القداسة نقطة الارتكاز في المؤسسة الطرقية، و لكون المعطيات التاريخية لا تشير إلى وجود المؤسسة الطرقية بمنطقة شمال شرق الصحراء الزاب، واد ريغ، ووادي سوف بل كل ما تشير إليه هو وجود بعض الممارسات الصوفية الفردية غير المنظمة في أي شكل محلي و إن كان بعض الممارسين ينتسبون إلى بعض الطرق التي كانت منتشرة خارج الـمنطقة في بداية العصر الحديث منذ القرن الخامس عشر، إلا أنه ابتداء من تلك الفترة حدث تطور هام باندماج المقدس الموروث بالمقدس المكتسب عبر اتحاد ابن الصلب مع ابن القلب أو بالتحام الطيني بالديني، مما أعطى دفعا قويا للمقدس و فعالية اجتماعية، بتحول المقدس من الفرد كميزة شخصية إلى المؤسسة كالولي المؤسس للقبيلة أو القطب مؤسس الـطريقة الصوفية، مما نتج عنه ارتباط المقدس بالظاهرة العمرانية بدوية كانت أم ريفية حضرية عبر التأسيس أو إعادة التأسيس أو المباركة لضمان الحماية و الاستمرارية.

لقد أدى هذا التحول إلى تركيز مجال فعالية المقدس داخل التشكيلات و البنى الاجتماعية للقبائل - بدوية كانت أم ريفية - حضرية، عبر الدور الفعاّل الذي لعبه في تأسيس القبائل البدوية المعروفة بالمنطقة، مثل سيدي أمحمد السايح الجد المؤسس لقبيلة أولاد السايح، و سيدي نائل الجد المؤسس لقبيلة أولاد نائل، عبر فرعها بالمنطقة عرش أولاد زكرى… إلخ.

أما في ما يتعلق بالعمران الحضري، فقد كانت للمقدس الدور المحوري في عملية التأسيس كما هو الشأن مع الولي سيدي أمطير مؤسس بلدة أولاد جلال القديمة التي كانت موقعها على الضفة الجنوبية لوادي جدي بجوار زاويته التي تضم الآن ضريحه و المقبرة المحيطة به. أو عملية إعادة التأسيس التي قام بها تلميذه سيدي أحمد بن سالم و التي بدأت ببناء دار الضيوف في الضفة الشمالية المقابلة، بناء على طلب من سيدي امطير و برغبة من الولي سيدي عيسى بن أمحمد، بعد أن منعه فيضان الوادي من العبور إليه لدى زيارته له، و انتهت بخراب الأولى، و عمران الثانية التي أصبحت نواة البلدة الحالية.

و أخيرا عبر ضمان الحماية و الاستمرارية بإضفاء البركة على العمران، كما هو الشأن مع مؤسسة مدينة توقرت الأميرة الأرملة تيقرت بعد نفيها من طرف أهالي غمّرة رعايا زوجها سلطان غمرة بعد وفاته، و طردها من طرف سكان بلدة الشمّاس الواقعة إلى الجنوب بجوار توقرت الحالية، بالدعاء لها بالخير و البركة من الوالي سيدي بوجملين والي المسيلة بالحضنة، نتيجة إساءة سكان الشمّاس معاملته عندما أتى لأخذ القفارة منهم، و الكرم و الحفاوة التي حظي بهما من طرف الأميرة. ثم الدور الذي قام به سيدي أمحمد بن يحي سلطان وادي ريغ الذي تولى الحكم لفترة انتقالية، في تأمين انتقال السلطة من الأميرة تيقرت التي لم تخلف من يرثها في الحكم بعد وفاتها، إلى الشيخ سليمان بن جلاب الذي أسس حكم أسرة بني جلاب بالمنطقة بعقد اتفاق بينه و بين السكان يتنازل بموجبه الشيخ بن جلاب عن الديون التي كانت له ذمّتهم مقابل اعترافهم بسلطته عليهم.

3. علاقة المقدس بالمجال :

لقد اختلفت هذا العلاقة و تنوعت بين المجتمعين البدوي و الريفي - الحضري في منطقي الزاب ووادي ريغ، و تشابهت في المجتمعين حسب الروايات المتداولة من :

  • العنف المادي الصريح، كما هو الحال لدى فروع عرش أولاد زكري أحد الفروع الرئيسية لعرش أولاد نائل، جنوب الأطلس الصحراوي، غرب ولاية بسكرة، باِستعمال قوة السلاح للسيطرة على المنطقة الممتدة من وادي جدي شمالا حتى وادي ريغ جنوبا، و امتلاكها بعد طرد ملاكها السابقين من عرش السلمية و رحمان جنوبا إلى حدود وادي ريغ الشمالية. فالمقدس هنا إضافة إلى مكانته في البنية الاجتماعية امتد تأثيره و توسع ليشمل الفضاء المادي.
  • العنف الرمزي : في منطقة وادي ريغ من خلال الصراع بين سيدي ناجي و سيدي أمحمد السايح حول المجال الحيوي، و انتهى بطرد سيدي ناجي من المنطقة إلى السفوح الجنوبية لجبال الأوراس بمنطقة الخنقة، التي صار يطلق عليها خنقة سيدي ناجي، حيث استوطن أولاد السايح منطقة وادي ريغ منذ تلك الحادثة التي وقعت بين الشيخين، و التي ترتكز حسب الرواية المتداولة على البعد الكرامي الذي يخفي العنف المادي، و ينتهي لصاحب الكرامة الأقوى، على حساب الكرامة الأقل قوة، و تفصح في النهاية عن مكانة الوليين في القوة مادية كانت أم روحية على أنه يجب تسجيل ملاحظة هامة تتمثل في أن الصراع في النموذج الأول الخاص بالعنف المادي بين أولاد زكري و السلمية رحمان كان بين قبائل بدوية، في حين أن الصراع في النموذج الثاني الخاص بالعنف الرمزي كان بين ريفيّي سيدي ناجي و بدو سيدي أمحمد السايح، و هو ما يوحي بان الصراع في النموذج الأول كان بين مجموعات بشرية في حين كان بين شخصيتين في النموذج الثاني.
  • السلم و هو ميزة مؤسسي العمران الريفي و الحضري، بل هم ضحايا العنف كما هو الحال مع الأميرة تيقرت المنفية أو الوالي سيدي أمحمد بن يحي الذي توصل إلى حل سلمي لمعضلة الديون بين سكان توقرت و الشيخ سليمان بن جلاب، و هي نفس الوضعية بالنسبة لمؤسس بلدة أولاد جـلال القديمة حول زاوية سيدي أمطير على الضفة الجنوبية لوادي جدي، الذي حاول في الـبداية الإقامة في بلدة سيدي خالد، و لكنه رفض من طرف السكان، و منع من الإقامة معهم، فعاد بعد طرده إلى الإقامة بجوار زاوية سيدي أمطير التي صارت نواة للبلدة. أما التحاق السكان للإقامة بالبلدة فقد كان يغلب عليه الطابع السلمي، حـيث يتم قدوم بعضهم بصفة لاجئين فارين من بطش أعدائهم، أو كنجدة بطلب من السكان الأصليين لمواجهة أعداء متربصين بهم، و أخيرا كمساعدين بصفتهم حرفيين، أو ناشري علم و معرفة… إلخ.

هذا في ما يخص المجال في بعده الحيوي، أما في بعده الإنساني البشري، فهو يتمايز من :

  • الاختلاف حول المؤسسين ذوي الأصول الدموية، حيث تصبح المعطيات نادرة حتى تكاد تكون منعدمة في المجتمع الريفي القروي، مثل عدم توفر معطيات كافية حول شخصية الـهامل الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد الهامل بأولاد جلال، مقابل وجود كمية نوعية من الـمعطيات حول زكري الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد زكري أحد فروع عرش أولاد نائل متمحورة حول شجرة النسب التي يحتفظون بها، امتدادا من الجيل الحالي مرورا بسيدي نائل، و إدريس الأكبر و انتـهاء بالرسول صلى الله عليه و سلم، عبر حفيده الحسين بن علي و فاطمة.
  • الانسجام و التشابه إلى حد التطابق في الجانب الروحي، حيث يتوفر النموذجان على معطيات نوعية حول هؤلاء المؤسسين متمحورة حول سيرهم، بما تحتوي من مناقب و كرامات منسوبة لهم، تبرز دورهم في تشكيل المجموعات البشرية في العمران بنوعيه البدوي و الحضري، كما هو الحال مع سيدي الحبشي الجد المؤسس لفرع الملالطية من عرش أولاد الهامل، و سيدي علي بن حركات الجد المؤسس لعشيرة أولاد قرين فرع أولاد حركات المتفرعة من عرش أولاد زكري.

إن هذا الاختلاف في الاستحواذ على المجال الحيوي و مكانته في بعده الإنساني البشري يؤدي بنا إلى نتيجة هامة جديرة بالتسجيل و هي : رغم أهمية المجال الحيوي في المجتمعين البدوي و الريفي الحضري كمعلم يحدد هويتهما، فإن القبائل البدوية تؤكد كذلك إضافة على هويتها من خلال شجرة النسب التي تحافظ عليها كصك يبرر وجودها و هذا قد يعود لعدم استقرارها و تنقلها الدائم الذي يفرضه نشاطها الاقتصادي المتمثل في حرفة الرعي، رغم امتلاكها لمجال حيوي محدد و معترف به. في حين أن القبائل الريفية لا تعطي أهمية كبيرة لشجرة النسب لاستقرارها في مجالها الحيوي، و هو وضع يلائم نشاطها الاقتصادي المرتكز أساسا على الفلاحة و الحرف[6].

أما في العصر الحديث فإن الصراعات الناتـجة عن التحولات الاجتماعية، أو بسبب محاولات السلطة المركزية ممثلة في بايليك الشرق بسط نفوذها و التحكم مباشرة في المنطقة منذ منتصف القرن 18، بنزع منصب شيخ العرب من أسرة بوعكاز الدواودة الذين كانوا يتوارثون هذا المنصب منذ العهد الحفصي، و تم إقراره في العهد العثماني عبر زرع عائلة غريبة عن المنطقة، من خلال تنصيب الشيخ الحاج بن قانة في منصب شيخ العرب، و محاولة توسيع نفوذ هذه الأسرة بنزع مشيخة توقرت من أسرة بني جلاب، الذين كانوا يتوارثون الحكم فيها منذ القرن 15 و تنصيب أحد أفراد أسرة بن قانة فيه. لقد أدت الصراعات الناتجة عن هذه السياسة إلى تحطم البنى الاجتماعية القديمة ذات النمط الإدماجي الهلالي و كل أشكال السلطة المحلية بالمنطقة في الثلث الأول من القرن 19[7] مما أدى بالنتيجة إلى توسيع مجال و مكانة المقدس ؛ حيث تجاوز مرحلة تأسيس القبيلة أو القرية، إلى تأسيس ما يشبه الفدرالية القبلية التي تضم مجموعات مختلفة من القبائل البدوية و الريفية الحضرية، و تشمل مناطق شاسعة من بوادي و أرياف و حضر في شكل طرق صوفية، و هو الوضع الذي يبدو أنه أثر على الأمير عبد القادر في اختيار خليفته بالمنطقة ؛ حيث عين في هذا المنصب الشيخ لحسن بن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية بها، رغم محاولات شيخ العرب بالمنطقة الشيخ فرحات بن اسعيد في الحصول على هذا المنصب مع الأمير، حيث أصبح للصراع مع أو بين الأولياء مؤسسي الطرق الصوفية أو فروعها بمنطقة شمال شرق الصحراء حضورا قويا.

ففي منطقة الزاب كان الصراع بين تلاميذ الشيخ سيدي محمد بن عزوز ناقل الطريقة الرحمانية إلى المنطقة و من بعده الشيخ سيدي علي بن عمر مؤسس فرعها بطولقة، ممثلا في كل من الشيخ المختار، و الشيخ علي الجروني، الذي انتهى بطرد الأول من بلدة سيدي خالد إلى أولاد جلال أين أسس الزاوية المختارية، أو طرده من أفراد عشيرته حسب رواية أخرى، و هو الصراع الذي تحول إلى صراع بين البلدتين.

أما في منطقة وادي ريغ فتمثل في الصراع بين الشيخ بن جلاب سلطان توقرت و سيدي الحاج علي التماسيني مؤسس الزاوية التجانية بتماسين بسبب تدخل سيدي الحاج علي في الصراع بين فرع أسرة بن جلاب الحكام في تماسين مع سلطان توقرت و انغماس قبائل المنطقة في الصراع، و بالأخص قبائل منطقة وادي سوف كأحلاف للمحورين المتصارعين[8].

إن هـذا المآل للمقدس بإنغماسه في ممارسة العنف يعطي لنا فكرة عن التغيرات التي عرفتها المنطقة حيث خضعت لنموذج الإدماج المرابطي الذي كان سائدا في غرب المغرب العربي منهيا بذلك نموذج الإدماج الهلالي الذي كان سائدا في شرقه[9]. و يفسر بصورة دقيقة و واضحة ارتباط العنف بالمقدس ؛ فتماسس المقدس أي تحوله إلى مؤسسة يؤدي إلى تحرك آلية العنف و يفتح المجال لممارسته، لأن الرهان عندئذ يصبح السيطرة على الفضاء.



الهوامش

[1]- لمزيد من التفاصيل يجب الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية للتصوف. كحلية الأولياء: لأبي نعيم الأصفهغاني؛ الرسالة القشيرية: لأبي القاسم القشيري ؛ كشف المحجوب: لأبي عثمان الـهجويري ؛ الإحياء: لأبي حامد الغزالي ؛ عوارف المعارف: اعمر السهروردي ؛ المقدمة: لإبن خلدون ؛ دائرة المعارف الإسلامية: الجزء الخامس: مادة تصوف ؛ تراث الإسلام تأليف شاخت، بوزورث، ترجمة حسين مِنس عالم المعرفة، الطبعة الثانية، الجزء الثاني، الكويت، 1988.- ص.ص 87 – 104… إلخ.

[2]- زيعور، علي.- العقلية الصوفية و نفسانية التصوف.- بيروت، دار الطلعية، الطبعة الأولى، 1979.- ص.ص. 12،13،27،28،29 ؛ الربيع، تركي علي.- العنف و المقدس في الميثولوجيا الإسلامية.- بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994.- ص.ص. 113 – 118.

[3]- لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية حول التصوف السـابـقـة الذكر في الهامش رقم "1".

[4]- يبدو أن هذا الرفض ذو خلفية سياسية، لعلاقته بممارسة السلطة التي كانت حكرا على بني هاشم، و بالتحديد آل البيت كامتياز خاص بهم؛ و هو ما يظهر بوضوح في ثورات ذلك العصر التي كانت في أغلبها بقيادتهم.

[5]- مروة، حسين.- النـزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية دار الفرابي الطبعة الخامسة بيروت لبنان 1985 الجزؤ الثاني ص ص 193 – 226.

[6]- الهراس، المختار.- التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية : حـصيلـة نـقدية - نحو علم اجتماع عربي : علم الاجتماع و المشكلات العربية الراهنة .- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1986.- ص.ص. 273-275.

[7]- معاشي، جميلة.- الأسر المحلية الحاكمة في بايليك الشرق.- قسنطينة، رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة 1987.- ص.ص. 19-76 ؛ 271-289.

[8]- معاشي، جميلة.- الأسر المحلية.- مرجع سابق.- ص.ص. 305-313.

[9]- و هذا ينفي ما ذهب إليه عبد الله العروي حول هذا الموضوع.- لمزيد من التفاصيل أنظر :

Laraoui, A..- Histoire du Maghreb.- Tome 2, France, Maspero.- p.p. 18, 19, 21, 27.

البعد السياسي لتجمع النساء عند الأولياء "الصالحين" في منطقة الأبيض سيد الشيخ

مقدمة :

وضحت الدراسات المتعلقة بمشاركة المرأة في الحياة السياسية، تطورها من المجال المنزلي إلى المجال السياسي ثم الرجوع مرة أخرى إلى المجال الأول الخاص بها مثل ما جاء في الدراسات الجزائرية الفرانكـفـونية : ف.ز. ساي،H. Vande vela س. خوجة.

فهذه الدراسات تدل على أننا مازلنا نعيش في أسطورة " الدولة و المواطنة "، خاصة و أن ضعف مشاركة النساء في الحياة السياسية ظاهرة عالمية تعبر عن السيطرة الذكورية [1]P. Bourdieu لإحتكار الرجل المجال السياسي و غياب المرأة عن مراكز القرار لذلك اعتمدنا لعدم التطرق إلى المعادلة الكلاسيكية المهمة في جميع البحوث رجل / امرأة، مجال سياسي عام / مجال خاص غير سياسي حتى لا نسقط في إعادة إنتاج النتائج.

عند دخولنا الأولي للميدان لدراسة واقع النساء في المجال العام في هذه المنطقة، اصطدمنا بظاهرة ممارسة النساء للطقوس الخاصة بالأولياء، ظاهرة أصلية و متجذرة في هذا المجتمع لكنها كانـت تمارس بغزارة مما جعلنا نتساءل عن هذا الرجوع القوي لممارسات المؤسسات التقليدية المقدسة في فترة بدأت الحركة الجمعوية النسائية بالظهور و بداية تكوين مؤسسات جديدة لجزائر "التعددية".

فقمنا بتوضيح العلاقة الآنية للنساء بالسياسة و ربطها بغزارة ممارسة الطقوس في السنوات الأخيرة 1993 - 1995 في مجتمع يتميز بالدنيوي و المقدس. بالاعتماد على التيار الأنثروبولوجي السياسي التكبري الذي رفض اقتصار السياسة على مجتمعات الدولة و يعمم الوجود السياسي في كل الأشكال الاجتماعية : الرمزية، الشخصية، الطقسية...

فكل ثقافة تحمل بداخلها نموذجا لتفسير نظم الحياة الاجتماعية فهي الإطار الواسع الذي يتشكل من : المعتقدات، القيم و الطقوس هذه الأخيرة التي تعد عنصرا هاما في تفسير مجتمعاتنا.

و الظاهرة التي نبهتنا لدراسة هذا الموضوع من خلال العمل الميداني الذي قمنا به في هذا الملجأ المحلي هي كثرة زيارة النساء "للصلاح" بتجمع هائل اتسمت به فترة معينة مناسبة 1993 - 1995 تسمى هذه الظاهرة " بالحضرة " عند سكان المنطقة حيث قمنا بتسجيل البعض منها في فترة تزامنت مع الأزمة السياسية التي هزّت البلاد بعد إلغاء الانتخابات التشريعية الأولى (1991)، خلال بداية مرحلة "التعددية" الجديدة و ما نجم عنها من نتائج.

و كان عدد التجمعات التي قمنا بملاحظتها و دراستها 58 تجمعا عند كل قبب الأولياء الموجودة في المنطقة و على رأسها :

- أ - قبة الولي سيدي الشيخ :

باعتباره الجد المؤسس للمنطقة و عشائرها زيارة النساء له من كل الأنساب مستمرة و بدون انقطاع يومي الاثنين و الجمعة شكل اعتيادي و تعتبر الحضرة التي تقام عند قبة سيدي الشيخ تجمعا عموميا تشارك فيه النساء و الرجال خلال المناسبات الكبرى : الدينية و الوطنية.

- ب - قبة عبد القادر الجيلالي :

تجتمع النساء من كل العشائر عند مقام الولي الذي يبعد عن البلدة بعدة كيلومترات في الخلاء حيث تقطع النساء هذه المسافة مشيا على الأقدام بدون تعب و تصارع كل الظروف للوصول إلى هذا المكان المقدس.

- ج - عند بعض قبب أبناء سيدي الشيخ :

1 - سيدي محمد عبد الله

2 - سيدي الحاج بن الشيخ ( الابن الأكبر).

تجتمع عندهما النساء المنتميات نسبا إليهما مع نساء العشائر التي تسكن بقرب من مقامهما.

كـثرة هذه التجمعات تفسرها كذلك الفعاليات السوسيولوجية كونها المناسبة الوحيدة التي تلتقي فيها كل النساء باعتباره مجال مقدس الذي لم تقص منه المرأة لحد الآن و الممارسة فيه نشيطة.

- علاقة تجمع النساء عند الأولياء بالخطاب اللاغي لطقوس الأولياء:

بعد دخول الجزائر عهد " التعددية الحزبية " و ظهور عدة اتجاهات لبرالية، إسلامية، اشتراكية، وطنية...، دخلت الجزائر في مأزق سياسي خاصة بعد تصاعد " العنف " إثر إلغاء الانتخابات التشريعية التعددية الأولى، دل على أزمة قيم و معايير المجتمع لظهور عدة خطابات متضاربة تريد إعادة بناء أو خلق قيم جديدة على حساب ثقافة اخرى متجذرة في هذا المجتمع، في ظل هذه الأحداث بدأت ظاهرة تجمع النساء عند الأولياء في هذه المنطقة منذ التحضيرات للانتخابات التشريعية الأولى، كانت البداية هدفها حمائي و معارض للحفاظ على طقوس المجتمع و على ثقافته التقليدية التي توارثتها النساء عبر أجيال، و مازالت تحافظ عليها و بشدّة خاصة مع ظهور خطاب لاغي لها كانت تمثله التيارات الإسلامية الرافضة لإسلام الأولياء و الطقوس الخاصة بهؤلاء خطاب ظل بعيدا عن هذه المنطقة منذ المرحلة الباديسية " جمعية العلماء المسلمين " التي مازال جيلها ينقم منها في المجتمع المدروس إلى أن جاءت مرحلة " التعددية " بخطاب متشدد عليها.

في دراسة مريم بوزيد حول المقامات لاحظت بعد ظهور هذه الخطابات إنعدمت ممارسة الناس لطقوس الأولياء في المناطق المجاورة للعاصمة، عكس ما لاحظناه في المجتمع المحلي حيث مع هذه المرحلة أخذت النساء على عاتقهن مهمة المحافظة على هذه الطقوس و الشعائر التي تـحاول بعض الخطابات القضاء عليها أين كثرت زيارة النساء للأولياء بصفة مستمرة و منتظمة لم يكن لها مثيل سابقا كرد فعل لهذا الخطاب المهدّد لمعتقداتهن و كدفاع عن ثقافتهن، دليل على أن المرأة تبقى المعنية الأولى لحماية العادات و التقاليد من خلالها " تدرك مقدار التحدي و الصمود في مجال البقاء للأقوى انطلاقا من مركزية الرجل و مركزية الخطاب تحاول إلغاء أصوات في الفضاء الحر و ممارسات نبذها الكثير و اعتبرها نسوية[2].

- تجمع النساء عند الأولياء و علاقته بالتجمعات النسائية الرسمية:

في المرحلة التي كانت تقوم نساء المنطقة بتجمعات على مستوى القباب، قمنا بتتبع وسائل الإعلام خاصة منها المكتوبة فلاحظنا أن حضرة تجمع النساء لازمت فترة التجمعات الوطنية التي تـعددت مـنـذ سـنة 1989 خاصـة مـع فـترة عـدم "الاستقرار الأمني" التي ميزتها تجمعات كانت تترأسها النساء قبل الرجال في كامل القطر الجزائري حيث اهتمت الصحافة المكتوبة بهذا الحدث النسوي مع سنة 1989 - 1990، منها صحيفة المجاهد[3] اليومية الناطقة بالفرنسية قبل ظهور الصحف المستقلة كانت مضامين التجمعات النسائية حسب الصحيفة حول:

- الحق في تكوين جمعيات نسائية، التعاون الجمعوي المغاربي النسائي و مناقشة قانون الأسرة ...

- صحيفة الوطن[4] مناسبة 1991 - 1994 : اهتمت بالتجمعات و المسيرات حول غـياب المرأة عن المجال السياسي، تعديل قانون الأسرة، النشاط التجمعي على المستوى الوطني للتنديد "بالعنف" حيث كثرة المسيرات التي ترأستها النساء في هذا المجال.

إذن التجمعات النسائية نشطت مع مرحلة "التعددية" السياسية، و ما نتج عنها من نتائج على كامل الأصعدة فكانت تمثل نوعا من المشاركة النسائية مع الأحداث السياسية و بداية لحركة جمعوية نسائية، فهل حضرة تجمع النساء هي نشاط جمعوي سياسي ؟

البنية التنظيمية لتجمع النساء عند الأولياء :

سميناها بحضرة تجمع النساء هو تجمع هائل للنساء عند أحد قبب الأولياء بصفة مستمرة و منتظمة (خلال مرحلة الدراسة) نموذجها المؤسساتي كمايلي :

- المشاركات : تتمثل في الزائرات اللواتي يحضرن حسب قرب الحي السكني من القبة، و بالتالي حسب العشيرة، فكلما كان الحي السكني قريبا منها كلما كانت نسبة مشاركة نسائه أكبر و العكس صحيح. عدى المشاركة عند قبة الجد المؤسس (س / ش) فهي متساوية نوعا ما بتجمع كل نساء العشائر.

- عملية الاتصال : هي جماعية، بمشاركة جميع النساء،بداية مع بوابة الولي التي تقوم بنشر الخبر على النساء القريبات منها، ثم على باقي المجموعات النسائية .

- عملية التنظيم : هي كذلك جماعية، يكون دور البوابة بإعلان عن "نوبة" الزيارة، بـفتح القبة و استقبال المشاركات من كل الأنساب، و عند الحضرة ينتظمن في مجموعة واحدة كبيرة من طرف القوالات (المغنيات) و النساء المسنات، و يكونن كتلة واحدة متحدة كأنهن يؤدين مهمة رسمية لواجب رسمي و مقدس.

- مكان او مقر حضرة تجمع النساء : قبة أحد الأولياء هو المقر الذي تلتقي و تجتمع فيه النساء خلال هذه العشيرة، فيعتبر هذا المكان المقدس المقر الرسمي لتتجمع حوله النساء إلى مـجال عام تناقش فيه كل القضايا منها السياسية، و هو الـمكان الوحيد الذي لا يحتوي على أية قيود، تمارس فيه النساء نشاطهن بحرية تامة.

و بفعل هذه الممارسات النسائية المنتظمة أصبح هذا المكان مجالا عاما رسميا، تنظم فيه التجمعات الرسمية (كالحملات الانتخابية...) للسلطات المحلية و لبعض الأحزاب، فخلال الحملة الانتخابية*للرئاسيات الماضية (نوفمبر 1995)، أقام الحزب الحر حملة عند قبة الجد المؤسس سيد الشيخ الذي يتربع في وسط المدينة على فرعيه، مرفوقة بالأغـاني التقليدية للأولياء (الديوانة) فـكانت حضرة أكثر من حملة انتخابية، التي نجحت في تجميع كل المجموعة السكانية: رجال، نساء، أطفال، و استطاعت أن تمرر رسالتها الانتخابية بهذه الإستراتيجية "التقليدية"، كانت لها عملية تأثير على المجتمع العشائري المبني على المقدس. فالولي و بعد ما كان مجرد مجال مقدس حوّل إلى مجال يجمع بين المقدس و الدنيوي (Profane) حيث أصبح مقرا لكل التجمعات النسائية أو العمومية. 

موضوع تجمع النساء عند الأولياء هي الأحداث السياسية التي كانت تعيشها البلاد و انعكاساتها التي أصابت كل شرائح المجتمع، فرجعت النساء و المقدمات بإصرار خلال هذه المرحلة إلى نشاطهن الذي توقف الرجال عن القيام به.

نستنتج مما سبق أن ظاهرة تجمع النساء عند الأولياء لها دلالاتها، مكانتها و طابعها السياسي الخاص بها، تحدده ظروف زمنية، ثقافية و سياسية، وليست مجرد طقس نسوي يعتبر البعض ممارسته مخلفا من مخلفات الماضي. نستطيع أن نحدد هذه الدلالة السـيـاسـيـة انـطـلاقـا بالاقـتـراب الأنثروبولوجي لـبـلانـدي G. Blandier أن السياسي موجود في كل التنظيمات الاجتماعية و ليس مقصورا على المؤسسات السياسية للدولEtats الحديثة و ما علينا إلا اكتشاف حلقه الحقيقي حددناه في مايلي :

في العلاقة "السياسية" بين كثرة تجمع النساء عند الأولياء و ارتباطها مع الأحداث السياسية في البلاد ما بعد "التعددية الحزبية"، حيث اعتبرناها نموذجا من المشاركة السياسية لنساء المنطقة كباقي نساء البلاد المنتظمات مؤسساتيا في جمعيات نسائية و حتى في المسيرات الوطنية التي نشطت كثيرا خلال هذه المرحلة كما أشرنا سابقا.

مشاركة غير مباشرة لأنها غير رسمية، ليست لها علاقة بالمواد المنصوص عليها في قانون[5] الدولة الخاص بالتجمعات، لكن دلالتها السياسية الثقافية عميقة تؤكد على أن النساء تمثلن الرأسمال الثقافي للمجتمع و خزان قيمه و معاييره، تقوم بالمحافظة على هوية الجماعة كلما اقتضى الأمر، كبعد تصاعد الخطاب الديني اللاغي للاولياء، و هذا الأخير الذي يمثل العلاقة السياسية الأولى مع تجمع النساء عند الأولياء، إلى جانب علاقتـها مع تصاعد"العنف"الذي"ندّدت" به كثيرُ النساء عبر كامل القطر الجزائري[6].

تمثل حضرة تجمع النساء عند الأولياء جمعية غير رسمية لأنها ليست لها علاقة مع مؤسسات "الدولة الحديثة"، لكنها تخضع لنفس سمات الجمعية "الرسمية" من خلال بنيتها التنظيمية، و تختلف عنها في الجماعة المكونة لها "تشترك كل التنظيمات ببعض السمات الأساسية فلديها جميعها بني متمايزة بدرجات متنوعة فالعناصر التي تنسق نشاطاتهم لا تحتلّ فقط مراكز متميزة تراتبيا و إنما تختلف هذه العناصر في حياتها الخاصة[7] و نساء المنطقة مازلن يحافظن على قيم و معايير الـمجتمع التقليدي Weber جمعية لها خصوصيتها المرتبطة ببنية هذا المجتمع المبني على المقدس فقد برهنت النساء على أن ليس كل ما هو مقدس غير دنيوي فإشكاليتي : الروحي / بدائي، دنيوي / حديث تسقط هذه الـمعادلة في الظاهرة المدروسة، حيث استطاعت النساء أن تكون مؤسسة من نموذج آخر تتحكم النساء في تسييرها من دون منازع لها و بفعالية يـميزها الاتحاد الشديد بين النساء لـعدم وجود سلطة "دنيوية" يخضعن لها في هذا المجال المكاني، أين السلطة هي تقليدية يمثلها الولي الحاضر الغائب، حيث تذوب كل الفوارق الاجتماعية عنده و تصبح النساء كتلة واحدة يلعبن فيه أدوارا سياسية فهي فعالية منبثقة من قوة فعالية الأولياء، التي ميزت هذه المؤسسة المغاربية في مرحلة قديمة.

الخاتمة :

فارتباط النساء بالطقوس في هذه المرحلة السياسية الراهنة، مؤشر ثقافي يعكس أساليب تفكير النساء و اتجاهاتهن نحو المحافظة. و الممارسات الغزيرة للطقوس الخاصة بالأولياء تؤكد على أن النساء تمثلن الرأسمال الثقافي للمجتمع و خزان قيمه و هويته.

فهذا الطقس سمح للنساء بـالمشاركة في :

- التنظيم

- التقليل من الصراعات الاجتماعية و السياسية و ذلك من خلال ممارستها لبعض الطقوس.

نستطيع أن نسمي هذه الممارسات النسائية : أفعالا اجتماعية سياسية تقوم بعملية المراقبة و التأثير على القرارات المتعلقة بشؤون المجتمع المحلي، و أنها نموذج من الثقافة السياسية النسائيـة، لارتـبـاط سلوكـاتـهن الشـعـائرية بالدولة "Etat" الحديثة التي وجدنا علاقة النساء بها، علاقة تعاطف و اهتمام بأحداثها، لا علاقة مشاركة و ممارسة، و أن للنساء أدوار سياسية في حقول أخرى فعالة مرتبطة ببنية المجتمع الذي تنتمي إليه المرأة في مؤسسات الأولياء (القبة، الزاوية) "ترفض القيام بدورها التقليدي و تلعب فيها أدوارا قيادية في كل الميادين منها السياسية"[8].



الهوامش

[1]- Bourdieu, P.- La domination masculine.- in : Actes de recherche en sciences sociales.- n : 84, sep 1990.- p.p. 4 - 15.

[2]- بوزيد، مريم .- المقامات و إشكاليات تملك الخطاب، دراسة إناسية لمنطقة بحارة بومرداس.- رسالة ماجستير في علم الاجتماع الثقافي، جامعة الجزائر، 1993.- ص.142.

[3]- El Moudjahid : 1989 N = 7332, 7375, 7381, 7404, 7616,

1990 N = 7664, 7684, 7713, 7740, 7751

[4]- El Watan : 1991 N = 330, 348 , 363, 365, 373

1992 N = 398, 435, 453, 538, 545

1993 N = 716, 723, 740, 743, 767

1994 N = 1041, 1046, 1210, 1233.

[5]- أنظر المواد : 1، 2، 3، 4، 5 من القانون رقم 28 - 29 الصادر في 31 ديسمبر 1989 الخاص بالاجتماعيات و التظاهرات العمومية في :

Journal Officiel de la République Algérienne, 24 Janvier 1990.- p.14.

[6]- في المسيرات كانت الأولى التي عبرت عن سخطها " للعنف " بعدما أصابها حيث اغتيلت 300 امرأة حسب TV.

[7]- بودون، ر. و بوريكو، ف..- المعجم النقدي لعلم الاجتماع.- ص.199.

[8]- المرنيسي، فاطمة .- المرأة و زيارة الأضرحة " ت : صلاح فاطمة الزهراء في أبحاث العدد 4 - 5 جوان 1984.- ص.61.

المقدس والعنف الصهيوني في رواية الصراع العربي - الإسرائيلي

1. حول المفهوم النظري لمصطلحيْ المقدس والعنف:

يحصر التصور الماركسي المقدس والأنظمة الدينية عامة في العجز الإنساني عن مواجهة الكوارث الطبيعية،مجابهة فعلية،وكذا العجز عن تفسير الظواهر الفلكية تفسيرا موضوعيا،قبل أن تنضاف إلى ذلك الظواهر الاجتماعية.[1] غير أن البحث عن مفهوم المقدس والعنف من خـلال الحفريات الثقافية، و استنطاق بعض أشكال الممارسة الطقوسية التي تعبر عنها الأساطير و الأشعار الملحمية والنصوص الدينية،أظهر اهتماما بأصول المقدس وعلاقته بالعنف أكثر من اهتمامه بماهيتهما، و يبدو أن الدراسات العلمية حول مفهوم "المقدس" لم تتفق فيما وصلت إليه من نتائج سواء أتعلق الأمر بالمفهوم أم بالأصول،ولعل أحسن ما نحيل عليه في هذا الصدد هو الموسوعة العالمية Encyclopédia Universalis, (1998).[2]

و يعزو الدارس "ر. جيرار" أصول نشأة فكرة المقدس إلى العنف، باعتباره نسق المقدس و نـظامه، إذ يقول :"يجب أن نضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لنفهم الموانع و المحرمات في مجملها"[3] وعلى الرغم مما تحمله هذه الرؤية لمفهوم المقدس و العنف من اضطراب و تناقض، إلا أنها تستبعد على الأقل المقاربة الفرودية القائمة على الدافع الجنسي، و الاعتقاد الشائع أن عقدة أو ديب أصل المقدس والمبدأ الخفي لطقوسه القربانية.[4]

و يستبعد الباحث "التجاني القرماطي" صحة هذه المقولة،في بحثه الموسوم:"المقدس و العنف" متسائلا كيف يمكن "أن يكون العنف أصلا للمقدس،ومن أهداف المقدس في مظهريه : الـعقائدي والطقوسي الحد من احتدام العنف وتفشيه في المجتمعات الإنسانية؟"[5] كـما يأخذ مفهوم المقدس لدى "روجي كايو" بعدا روحيا،إذ يبدو المقدس مقولة حساسة، ينبني عليها السلوك الديني، و تهبه طابعه المميّز، و تفرض على المؤمنين احتراما، يقي اعتقاده كل روح نقدية، فيُعرض عن الخوض فيه، ويضعه خارج العقل،وما بعده.[6]

وتأسيسا على ما قدمنا ينتهي بنا البحث إلى كشف تلازم المفهومين،بحيث يأخذ هذا التلازم مرجعيته من المقولة المسيحية: "كل شيء في البدء كان دينيا"[7] إلا أن هذه المقولة ما كانت لتلغي ما تضمنته فلسفة الإغريق حول المسألة نفسها ،حيث كان فلاسفة اليونان يعتقدون أن البدايـة كانـت في الحرب،وهذا أستاذهم هيروقليطس يقول : "من الحرب تولد كل شيء"[8] و هو ما يدعم فرضيتنا في هذه المقاربة، والمتعلقة بتعالق المقدس والعنف في رواية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تبدو العلاقة من خلال حضور الصورة الروائية و فرضها لمواجهة متكررة في أكثر من نص روائي، تعكس نزوعا نفسيا داخليا يتعلق بالجانب الصراعي/ الحربي، الذي يعتبر التسامح استراتيجية لمواجهته.

و مثل هذه المقاربة تقتضي منا أن نتجاوز أحادية الدلالة التي ارتبطت بالمقدس و بالعنف، للبحث عن التجليات المختلفة التي صاحبت ميكانيزمات هذا الثنائي، بحيث لا يخضع مفهوم "المقدس" من وجهة نظر أنثروبولوجية لتراتبية بين الأسطورة وما يسمى بالديانات البدائية و الديانات الراقية.[9] فالمقدس بالنسبة للمجموعة هو مؤسسة تنظيمية، أما بالنظر إلى الفرد فهو "تجربة وجدانية، تحيل إلى نوعية العلاقة التي نقيمها مع شيء ما، أكثر ممّا تحيل إلى الشيء ذاته."[10]

ومما سبق نستخلص أن المقدس على مستوى التجربة اليومية للإنسان هو تلك الطاقات الوجدانية، الخطرة، وغير القابلة للفهم والتجزئة.أما العنف،فهو سلوك إيذائي،قد يكون باديا أو متخفيا، ماديا أو معنويا، وفي كل هذه الحالات هو إنكار للآخر من مجال الحياة، و من مجال الفعل ومن مجال القول.[11]

و يعزي الدكتور خليل أحمد خليل حالات العنف إلى أنها " تُبنى على موروث ذهني جاهز، و قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني بكل آلياته و مفاعلات ارتباطه، يحل أو يقترن بالوثن المادي، فيوضع الآخر في القالب المجهز على منوال قاطع الطرق."[12]

و تمثل النصوص التوراتية، و الوثائق اليهودية، و مجمل نتاج الفكر الديني اليهودي في مراحل مختلفة من التاريخ نموذجا صنوا للوثن الذهني الذي أشار إليه خليل أحمد خليل، بحيث لم يـكف كهنة اليهود عن تغذية تلك الأساطير القبلية المؤسسة للسياسة الصهيونية باستمرار، إلى أن أصبحت اليهودية بالنسبة إلى المتدينين من اليهود ذات مضمون عنصري مقدس.

و لقد أفادت الدراسات الصهيونية المعاصرة من هذا الإطار المرجعي المتعدد المشارب، حـيث وظفته في دعم ادعاءاتها بديمومة التاريخ اليهودي، و تبرير ما تطلق عليه بالحق التاريخي، وتحولت صيغة الوعد الإلهي إلى برنامج سياسي ملزم، أفرز خطابا عنيفا حولته الإيديولوجية الصهيونية إلى هدف مقدس، و تجسد هذا العنف في انتزاع أهل الأرض الأصليين، و اجتثاث انتمائهم بالحرب و القتل و الطرد و التشريد.

إن العلاقة بين المقدس والعنف الصهيوني في ضوء الصراع العربي الإسرائيلي تكشف عن أن المقدس، لا يمكن اختزاله في الدلالة المتداولة، فكأننا بالمقدس في الصراع العربي الصهيوني يحاصرنا، و يسكننا في حلنا وترحالنا.

2. عنصر القداسة في رواية الصراع العربي الإسرائيلي :

إن رصد ثنائية المقدس و العنف الصهيوني في النص الروائي تدخل ضمن المقاربات المعقدة التي تستدعي من الناحية الأيديولوجية و المنهجية حضور عدد من تقنيات التحليل، و التي قد تبدو متضاربة أحيانا.

و إذا كانت مساءلة المقدس تكتنفها معضلات منهجية التحليل المتضاربة، و التي اعتادت تثمين خياراتها و تبريرها بدعوى الاعتبارات العلمية لتمرير منطوقها الأيديولوجي، فإن مساءلة المقدس و العنف الصهيوني تطرح أكثر من إشكالية، إن على المستوى الأيديولوجي الـذي يحمل مخزون الصراع العربي- اليهودي منذ عهود قديمة جدا، أو على المستوى المنهجي، في ظل المقاربات العلمية المختلفة التي اعتادت تهميش المقاربة النقدية الأدبية باعتبارها رهـينة النص الأدبي، لا تبرحه، و لا تتعداه إلى ما يكتنفه من ملابسات قد يكون لها عظيم الأثر في تأويل و قراءة النص الأدبي.

إن المقدس مثله مثل العنف يتموقع في مواضع مختلفة من آنيتنا الفردية و الجماعية، و النص الروائي كإنتاج تخييلي يمثل مخزونا هاما لصور الصراع التي تتجلى من خلالها ثقافة الذات الفردية والجماعية، للأنا و الآخر عبر سلسلة من المجابهات بحثا عن تملك الأرض و التاريخ، و قد أفصح النص الروائي عن أن كل شيء في الصراع العربي الإسرائيلي قابل لأن يكون مقدسا، على حد تعبير "مرسيا إلياد "، في كتابه "المقدس و الدنيوي" و هو بصدد الحديث عن البنية الأسطورية للحركات السياسية المعاصرة،وللحياة العصرية برمتها."فالزمان والمكان والكائنات الحية و الجماد والكلمات جميعها أشياء مهيأة للانخراط ضمن فضاء المقدس."[13]

إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم التقليدية، أي المجموعة المشتركة التي تكوّن الدين و الطقوس التقليدية،كما يذهب إلى ذلك بعض الدارسين[14]، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري، تكون وظيفته غالبا تطهيرية. ولا نعتقد أن إطار صورة المقدس في النص الروائي العربي تستوفي مواصفاتها الكبرى في غياب محور رئيس آخر، ممثلا في العنف الذي يلازم المقدس في النص الروائي الذي له صلة بموضوع الصراع العربي الصهيوني.فالقداسة لا تكتمل إلا من خلال صورة الشخصية الروائية،مبنية على جمع لما لا ينجمع ضده، دون أن يفجر جوهره ووحدته، حيث يتعالق المقدس بالعنف لتقديم صورة خيالية، وتتحول البطولة التي لا تكاد ترادف ضمنا القوة البدنية و الحنكة، فهي لا تستوجب شرطـها الجوهري بحكم مواصفات العناصر الفاعلة،وهو التناقض المبدع المصاحب للنص الروائي،نجدها هنا يفصح عن جدلية الصراع التي نقرأها من خلال ملامح القداسة الماثلة في الثقافة العربية،على هيئة بطولة نمطية، ذات مرجعية قيمية، تلغي من اعتبارها وجود الآخر.

على هذه الصورة ووفق هذه الرؤية، يتجلى بعد استثمار المقدس و العنف في النص الروائي، بمختلف أشكاله، وبصورة أساسية،كعامل اجتماعي في مقاومة اليهود، رمز الكفرو الفجور و العنف.

تلك كانت إشارة إلى تعالق النص الروائي بالمقدس،توجب علينا التركيز عليها، إلا أن الملاحظة العامة المستخلصة من هذه القراءة التي لم تشمل إلا مدونة قليلة النصوص[15]- لاعتبارات منهجية- توحي بأن النص الروائي يسعى دوما إلى أن تكون الرؤية جزئية للمقدس، مما يجعل المواقف الدرامية للصراع تنحو نحو التعتيم، و تخفي الأسباب التي تشكل نزوع الإنسان العربي نحو المقدس في الصراع مع الآخر/ اليهودي.

إن استحضار المقدس في النص الروائي، باعتباره أحد أركان قوة الأنا في مواجهة الآخر/ اليهودي، لا يأخذ مرجعيته من القيم العامة المشتركة التي تشكل الدين و الطقوس التقليدية، بل يضاف إليها متمم سحري/ أسطوري

تكون وظيفته تطهيرية مما يعانيه العربي في صراعه مع الآخر،سعيا وراء تعويض ما فقده من آمال، و طموح.

و قد شكل المقدس ملجأ الذات العربية التي ظلت بعد هزيمة جوان 1967 تبحث عن أفضل صورة لها،فلم تجد ذلك إلا في مخزونها التراثي والأسطوري الذي اختلط فيه التأريخي بالمقدس، و ارتبطت البطولة في رواية الصراع العربي الصهيوني منبتا و تصورا بالخوارق و الأسطورة، بحيث لم تتواجد منفصلة و لا معزولة عن الإطار العقائدي للدين الإسلامي، و هو إطار لا ينضب لما ينضح به من رموز للأبطال و الأولياء و الصالحين، و القديسين و القديسات.

و تأسيسا على ما قدمنا نتصور أن الموروث الثقافي بما يحمله من قداسة في منظور الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة،أسهم كعنصر راَفْدٍ رئيسي في تشكيل أرضية النص الروائي، و لتحقيق ذلك سعينا في هذه المقاربة إلى الكشف عن هذا التوظيف.

3. البعد القدسي والعنف الصهيوني في رواية الصراع العربي الإسرائيلي :

كان من أبرز الأسباب التي جعلتني أركز على "المقدس" كعنصر موضوعاتي بارز في بناء رواية الصراع العربي الصهيوني، الخلفيات التاريخية و الثقافية التي ليس هذا البحث مجالها، و التي تضمنت كيف استقبل العرب هجمة الصهيونية على فلسطين، وما ترتب عليها من حروب، بوعي كامل الخرافية.وكان من أبرز علامات الخرافية الطريقة التي فهمت بها الصهيونية نفسها،حيث ظلت مشروعا خرافيا، يواجهه المثقف العربي، و سلطة الحكم في الوطن العربي، بخليط من المكابرة، و الإصرار، و ظل اليهود مجرد "جبناء، سفلة، حقراء، و صيارفة وضعفاء."[16] وتحول العجز عن تفسير الهزائم إلى مأزق يعيشه العرب أفرادا و جماعات،[17] و لما كان للأسطورة والمقدس منطق خاص،هو منطق الخيال الجامح، الذي يستوعب مختلف أشكال الصراع الإنساني، و يدرك رمزيا حقائق الحياة، كان اللجوء إلى توظيفهما هروبا من وضع تاريخي متأزم، إلى عالم خيالي، وفرته بعض النصوص الأدبية من رواية، و شعر، و مسرح، حيث برزت في هـذا العالم التخييلي خرافة "التفوق" على الآخـر/ الصهيوني، وعمت الرغبة في الاحتجاب عن العالم المعاصر الذي نجحت إسرائيل في أن تنتمي إليه، وكما يقول حازم صـياغ : "فاستيلاء الصراع العربي- الإسرائيلي على عقولنا حطم البنية الذهنية العربية."[18] و أمـام تحطم البنية الذهنية، على هذا النحو، لم يعد مهما الهزائم العسكرية أمام إسرائيل" فحـتى لو تحقق لنا، بفعل مصادفة عابرة، أو سهو تاريخي ما، أن نحرز انتصارا.. بدونا عاجزين عن استثماره."[19]

لقد ولدت هذه الحاجة إلى طرد الهزيمة و أسبابها حاجة أبعد منها، فقد بات العربي يتمنى طـرد "العالم" الذي هو مسرح هزائمه، و انتصار الصهيوني، وكان البديل الضامن لتحقيق هذه "الرغبوية" الأسطورة و المقدس، حيث عبرت كثير من النصوص الروائية العربية عن انتصار اليهود الذي حولته الرواية عبر الخيال الجامح إلى انتصار للعرب.[20]

و من هذا القبيل أسطورة اختراق "الموساد" المخابرات السرية الإسرائيلية، في رواية : كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان، لصالح مرسي.[21] حيث أثبت شاب مصري قدرته في صنع المعجزات، و هي صورة من التحدي الذي يحلم به العربي في مواجهة الآخر / الإسرائيلي،فرأفت الهجان ليس أقل شأنا و دهاء من الإسرائيلي، و الألماني، وغيرهما.و قد تميزت قصة هذا العميل "الجاسوس" بامتزاجها بالعناصر التراجيدية التي تذكرنا بعوالم الأسطورة، خاصة بعد تلك الإضافات الفنية التي وظفها صالح مرسي، و التي أراد لها أن تمتزج بالواقع امتزاجا كيماويا، قصد الإيهام بواقعية الأحداث، وهو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه كل أديب روائي. وقد ساعد الجنس الأدبي الذي اختاره الروائي إطارا فنيا لعمله، و هو : رواية التجسس، على إضفاء الجو الأسطوري، لأن طبيعة هذا الجنس الأدبي تتطلب أن يكون البطل شخصية تؤتي المعجزات، وهو ما تحقق فعلا في الرواية.

كما تبدو بنية "المقدس" في رواية الصراع العربي الصهيوني متجلية في تحقيق "مفهوم الخلاص"، و هو الدور الذي يسند إلى الرجل الصالح، و الذات المضطلعة بهذه الوظيفة تـكتسي الطابع القدسي، و ليست رحلة (الشيخ مرجان) في رواية: "أسطورة ليلة الميلاد" قبـل الوصول إلى بيت المقدس عبر غزة، إلاّ صورة من رحلة البطل في الأساطير و الحكايات الخرافية، للوصول إلى تحقيق "موضوع القيمة" المتمثل عادة في حيازة التفاحة الذهبية، أو الأميرة المقدسة، أو نبع الخلود.[22] يبحث البطل- في القصص الشعبي، و الشخصية في رواية الصراع..- في رحلته عن فكرة الوصول إلى عالم سحري، عالم الخلود، حيث يكون الطريق إلى هذا العالم محفوفا بالمخاطر، ذلك أن الموت يقف عائقا في طريق الوصول إلى الغاية" موضوع القيمة"، و لكن الموت في النص الروائي لا يعني الفناء، أو الانقطاع عن عالم الأحياء، فالشيخ مرجان يمنح كرامته إلى أهل القرية بعد وفاته.

و ما يلاحظ مما تقدم ذكره، أن النص الروائي لا يكتفي بعرض "الحادث الأسطوري"، بل يقدم كيفية الانفعال به، و التعامل معه، و يتجلى ذلك في الصورة التي تقدمها لنا رواية: "أسطـورة الميلاد" عن "المنقذ/ المخلص"، من خلال هذا المقطع السردي، "اختلفت الآراء حول هـوية الشيخ مرجان، فمن رأى أنه شيخ صالح مات مقتولا على يد الكفار، و من قائل أنـه شـاب مـغربي جاء ساعيا ليقدس الحج، و لم يمكنه المرض من أداء ما أراد.. فمات و دفنه بعـض الخيرين، و من قائل أنه حجازي طيب أتى بقافلة متاجرا و أراد الله أن تكون هذه البقعة نهاية مطافه، فدفنه رفاقه، ورحلوا."(الرواية:ص.22)

و ينسب الشيخ مرجان –في النص الروائي- إلى الأقطار العربية كلها: مصر، العراق، الحجاز، المغرب العربي، و مهما كانت الآراء قد اختلفت حول هوية الشيخ، و موطنه؛ فإن هناك إجماعا على أنه مسلم عربي، و أنه ولي من أولياء الله الصالحين، و أنه ما وجد بغزة إلاّ ليكون بشير بركة، و خير، وعلامة على رضى الله عن أهل الحارة أجمعين. (الرواية :ص.23) و من ثمّ تفانت الحارة "في إشعال السراج كل ليلة، لينير له المقام،كما توارثت العائلات.. عادة ملء إبريق فخار من الماء الطاهر ليتوضأ به، و يصلي..كل مساء." (ص.23)

كما يربط النص الروائي بين صورة المقدس الممثلة في شخصية "الشيخ مرجان" و شهادة الفدائييْن : رمزية و أبو اليزيد،"وقف الهوس لحظة أمام قبر الشيخ مرجان.. تلفت في كل اتجاه، ثم أمـسك بشاهد القبر، وهمس: جاءك أحباب يا شيخ مرجان، سأضع على قبرهما سراجا مثل سراجك.. سيزورهم الناس، فالفرح، فالكثرة بركة" (ص.75)

إن هذا المشهد على الرغم من دلالته على الممارسة الفردية، يمثل استغراق الذات الفلسطينية في "بحر الثورة"، بشكل يقترب من العشق و الصوفية. أما البعد الأسطوري للحـدث، فقد كان ما أكده "الهوس"، أنه شاهده بنفسه من تحرك شاهد قبر رمزية و أبو اليزيد بـين يـديْه: رأى كيف ترجل أربعة يهود بسلاحهم العسكري، وجذبوا بعنف جسديْن لرجل و امرأة، ما زالت بهما نبضات حياة.. أطلقوا عليهما الرصاص للتأكد من موتهما، و استشعر حينها أن هناك أشياء غير طبيعية تتكشف.. فقد اهتزت الأرض، وارتعش شاهد القبر حيث ووريت الجثتان، "نظر إلى المقبرة الفارغة في غبش الضحى،كل شيء ساكن" إلا الشاهد الذي يهتز، فصاح: "تحركت القبور.. تحركت القبور."(ص.71) فهب الناس من رقـادهم، و ما من أحد في غزة إلا وقد "أصابته شظية صرخة الهوس المجنونة، وتحركت الألسن فولدت أسطورة."(ص.71)

مارس هذا البعد الأسطوري مدّا جماهيريا لدى السكان، و ذعرا حقيقيا لدى صفوف العدو،"وقد نجح الكاتب في استعمال الأسطورة الشعبية وتحريكها بمهارة لأداء دور هام في أحـداث القصة"[23]، حيث تصور الرواية لحظة من لحظات تصعيد المقاومة، بفضل مد جماهيري ذي طابع أسطوري من خلال تكثيف الضوء على اقتران حدث فدائي بامتداد الأسطورة القائلة بتحرك قبور الشهداء في مدينة غزة، وقد "استعمل الكاتب الإمكانات الكامنة في الأسطورة، و خاصة تلك المتعلقة بالوجدان الجماهيري، لتصوير أصالة الثورة في نفوس عانت الكثير من حياة اللجوء و التشرد، و أحرقها الشوق لوطن طال غيابها عنه"[24].

و نظرا للفعل السحري الذي يؤديه توظيف المقدس في مجتمع القرية المغلق، حاول الحاكم العسكري للقطاع أن يحد من هذا الفعل، فصاح في رجاله : "طوقوا الإشاعة بأي ثمن، فالأسطورة أشرس من السلاح."(ص.76) فلقد اعتمد بناء الرواية بشكل أساسي إلى جانب مقومات الشخصيات،على ذلك الخيط الأسطوري- القدسي، شبه الخفي الذي يربط كافة الأحداث و المواقف التي تنسب إلى الشخصيات، بموضوع "سراج الشيخ مرجان"، عبر شخصية "الهوس" الذي ظنه السكان مجنونا، فإذا هو شخصية صالحة، و يحيط بهـذا الموضوع أجواء مشبعة بالأسطورة و العجائبية،عكست معتقدات القرية،وممارستها للطقوس الدينية.[25]

و تنبع المعتقدات -غالبا- من الدين الإسلامي، ومسلماته العقائدية.. و يأتي في مقدمة هذه المعتقدات الاعتقاد في الولاية، فالأولياء رجال مقربون إلى الله،لهم إمكانيات الاتصال به أكـثر من غيرهم، و لهم مقدرة عجيبة على الأفعال الخارقة والمعجزات،وتظل لهم المقدرة نفسها بعد وفاتهم، و يظل الضريح رمزا لهذه القدرة على الفعل.[26] غير أن اتجاه روايات الصراع العربي الصهيوني بعد السبعينيات طرأ عليه تغيير جذري، مسّ على الخصوص بناء مضـامينه الفكرية و الإيديولوجية، فلم يعد الخلاص مرتبطا بالبعد الروحي/ الأسطوري، بل أصبح المد الثوري هو السبيل القويم لحسم الصراع العربي الصهيوني. إلاّ أن بعض روايات الصراع فضلت المزاوجة بين البعد الروحي و البعد الثوري، لتحقيق الخلاص/ التحرر. و أحـسن نموذج في المدونة يمثل هذا الاتجاه، رواية" سلام على الغائبين" لأديب نحوي، حيث تسند وظائف خلاص الأمة إلى الفدائي، البديل الموضوعي في الصراع العربي الصهيوني للرجل الصالح ذي الكرمات الروحية. و يرتبط بالفدائي الذي ينهي رحلته بالشهادة، شأن البطل المخلص/ المنقذ، مفهوم القدسية" الشهادة في سبيل تحرير الوطن"، حيث تمثل هذه "الشهادة"، مدخلا إلى تغيير الوضع الأنطولوجي للعالم. فالمجتمع الخالي من الاستعمار هو نسخة أخرى من أسطورة العصر الذهبي، و الصراع بين المعمِّر و المستعمَر هو صورة للصراع بين الخير و الشر، و الذي يمكن مقارنته بالصراع بين الإنسان و الشيطان، المسيح و الدجال، المسلم و اليهودي.

هكذا يصبح الصراع العربي الصهيوني،وخاصة في صيغته "التخييلية" في العالم الروائي، وكذا الصيغة الشعبية الدوغمائية المبسطة،بمثابة أسطورة تاريخية،ذات نفحة تنبئية، يؤيدها تاريخ الأمة العربية الإسلامية المليء بأحداث الصراع بين اليهود والعرب، مما يجعلها خلفية مغرية، و مفسرا سحريا لكل الأحداث التي تدخل ضمن إطار الصراع العربي الصهيوني. يرتبط بذلك إضفاء صبغة شيطانية على اليهودي/ الصهيوني، وصبغة مثالية على العربي/ المسلم، و إقامة تصور ثنائي "مانوي"[27] في العالم الروائي، حيث تحل الصهيونية محل القدر، و يصبح استعمار الـقدس (فلسطين)، هو الخطيئة الأولى، و يتحول الجندي الإسرائيلي إلى رمز لقوى الشر، بينما يكتسي الفدائي العربي صبغة الملاك "المخلص/المنقذ" والمحرر، وتأخذ الثورة سمة البعث و النشور، و يأخذ "القدس المحرر" صورة الفردوس المفقود.

و ما نستخلصه بوجه عام من توظيف عنصر "المقدس" في نصوص المدونة، هو أن الأديب يـتوخى من خلال تلك الممارسة الفنية تصوير عالم خيالي جديد، يزدري العالم الواقعي المعيش و يحطمه، و قد يكون وراء ذلك محاولة إظهار التحدي الروحي الذي يفخر العرب بامتلاكه، دون الشعوب و الأمم الأخرى، ضد التطور المادي و الصناعي و التكنولوجي الذي يتصف به الآخر/ الإسرائيلي، و الذي بفضله حقق انتصاراته المتلاحقة على الأنا / العربي.



الهوامش

[1] - الجوة، محمد ؛ بن جماعة، محمود وآخرون.- الإنسان و المقدس.- تونس، دار محمد علي الحامي، 1994.- ص.72.

2- Encyclopédia Universalis.- Tome: 20, 1998.- p. 646.

3- GIRARD, R..- Des choses cachées depuis la fondation du monde.- Paris, Grasset, 1978.- p.22.

[4]- الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.72.

[5]- القرماطي، التجاني.- المقدس والعنف، في: الإنسان والمقدس.- مرجع سابق.- ص.73.

5- Caillois, Roger.- L’Homme et le sacré.- Paris, Gallimard, Collection Idées.- p. 18.

[7]- المقدس والعنف.- مرجع سابق.-ص.71.

[8]- المرجع السابق.-ص.71.

[9]- القماطي، التيجاني.- المقدس والعنف.- مرجع سابق.- ص.70.

[10]- المرجع السابق.- ص.ص. 70-71.

[11]- المرجع السابق.-ص..71

[12]- أحمد خليل، خليل.- مجلة الفكر العربي المعاصر.- عدد مزدوج:27/28، 1983.- ص.19.

[13]- إلياد، مرسيا.- المقدس والدنيوي.- دمشق، ترجمة: نهاد خياطة، 1987.- ص.ص.190-191.

[14]- Otto, Rudolf.- Le sacré, L’élément non rationnel dans l’idée du divin et sa relation avec le rationnel. Traduit de l’allemand par André Jundt.- Paris, Editions Payot, 1995.- p.p.166-209.

[15]- شملت هذه المدونة الروايات الآتية:

- أسطورة ليلة الميلاد لتوفيق المبيض.- القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.

- كنت جاسوسا في إسرائيل-رأفت الهجان-، صالح مرسي.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1990.

[16]- صياغة، حازم.- البعد الذهني للصراع العربي الإسرائيلي.- الكويت، مجلة العربي، العدد : 443، 1995.- ص.25.

[17]- المرجع السابق.- ص.25.

[18]- المرجع السابق.- ص.25.

[19]- المرجع السابق.- ص.25.

[20]- راجع تحليل عنصر "الأرض" في أطروحة الدولة حول رواية الصراع العربي الصهيوني المقدمة من قبل الباحث ،حيث بيّنا كيف أن أغلب روايات المدونة،كانت تنتهي بتحويل الهزيمة إلى انتصار، ومثال ذلك ما لاحظناه في نص:"أسطورة ليلة الميلاد"،ونص:""سلام الغائبين".

[21]- مرسي، صالح.-كنت جاسوسا في إسرائيل. رأفت الهجان.- القاهرة، أبوللو للنشر والتوزيع، 1988.

[22]- إبراهيم، نبيلة.- الإنسان و الزمن في التراث الشعبي.- مجلة الأقلام، مرجع سابق.- ص.ص.2-4.

[23]- أبو مطر، أحمد.- الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.ص.146-147.

[24]- القلماوي، سهير مقدمة.-أسطورة ليلة الميلاد.- ص.4.

[25]- الرواية في الأدب الفلسطيني.- ص.145.

[26]- بورايو، عبد الحميد.- القصص الشعبي في منطقة بسكرة."دراسة ميدانية".- ص.22.

[27]- المانوية "Manichéisme"، و هو مذهب ماتييس الفارسي الذي يعتمد على ثنائية الصراع بين شيئين متضادين كالخير والشر.

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال