بأية حال يمكن أن تشكل الممارسات الثقافية رهانا أو رهانات سياسية؟ إنه الموضوع الذي نريد تفحصه انطلاقا من جمعيتين ثقافيتين هما "الخـلـدونـية" و "جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية" اللتين تأسستا على التوالي سنة 1896 و سنة 1905 بالعاصمة تونس.
اتجه اهتمامنا الى هاتين الجمعيتين لأنهما تمثلان ما أسماه "جان-فرنسوا سيرينلي هياكل الجمعنة أي "تجمعات دائمة أو مؤقتة، مهما كانت درجة تأسيسيتها، يتم اختيار المشاركة فيها" إنها شبكات جمعنة "تفرز مجالات إجتماعية مصغرة و يمنح نشاط المثقفين الذين يكتبون بها و غالبا ما ينتمون إليها، سمات خاصة تضفي على هذه المجالات خصوصية معينة". من وجهة النظر هذه، تعني كلمة الجمعنة شأنين ملازمين : شبكات لها قدرة الهيكلة و مجالا مصغرا يميز مجموعة ثقافية معينة".
يدفعنا مصطلح "الممارسات الثقافية" إلى تحديد ما نعنيه بالثقافة. نقصد بالثقافة معنا مزدوجا: الأحداث الثقافية و الممارسات و طرق التعبير الثقافي التي تدخل ضمن التاريخ ؛ ذلك التاريخ الذي عرفه لوسيان فيبر[1] بأنه علم الإنسان إذ يختص بتجليات هذا الكل الحي و وظائفه " في الزمان و المكان، يدرس التاريخ التحولات البشرية المتعاقبة و المتزامنة التي تعني السياسة و الدين، الفعاليات العسكرية أو الاقتصادية، التقنيات البسيطة أو الفنون الراقية، الفولكلور المتواضع أو الفلسفة السامية".
كيف نشأت هاتان الجمعيتان و لماذا ؟
إن تناول هذه القضية يستدعي العودة إلى ما نعتبره ظاهرة خاصة بالحياة الثقافية و السياسية التونسية.
خلافا لبلدان المغرب الأخرى، شهدت تونس حركة إصلاحات، بدءا من الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، لم تشهدها لا الجزائر التي احتلتها فرنسا من قبل، و لا المغرب الأقصى. و شملت إحدى النقاط الرئيسية لهذه الاصلاحات التعليم التونسي آنذاك. و تمثل ذلك، خاصة، في إصلاح التعليم الزيتوني سنة 1842 و إن لم يكن لهذا الإصلاح نطاق واسع.
و تمثل الاجراء الثاني في إنشاء مدرسة العلوم التقنية بباردو سنة 1832 غير أن العمل بها لم يبدأ إلا سنة 1840. كانت هذه المدرسة تهدف إلى تزويد عساكر الباي بتعليم تكميلي و بالمعارف العسكرية اقتداءا بما كان يجري في أروبا.
يهمنا هذا المشروع لأكثر من سبب، إذ لاول مرة في تاريخ تونس، يتم ادخال تعليم من نوع حديث إلى جانب التعليم الأصلي الزيتوني الذي يختلف عنه مضمونا و غاية. لقد أضيفت علوم دنيوية أو نافعة و كذلك تعليم اللغات الاجنبية إلى التعليم الذي كان يلقن بجامع الزيتونة في تونس. و ادخلت هذه العلوم الحديثة بإيعاز من شيوخ الزيتونة المناصرين لحركة الاصلاح الجارية في الاقطار الاسلامية التابعة للسلطنة العثمانية (تركيا و مصر على الخصوص).
أخيرا ثمة عامل بالغ الاهمية في رأينا، تمثل في تشكيل "كتلة تاريخية" نشأت انطلاقا من هذه المدرسة، بفعل تعاون علماء الزيتونة و الضباط الشباب المتخرجين من المدرسة العسكرية لباردو الذين اضفوا طابعا خاصا على نمو تونس المعاصرة.
كان وصول خير الدين إلى دفة الحكم كوزير أول عام 1873، و قد شغل مناصب هامة من قبل، بمثابة دفع آخر لحركة الاصلاحات إذ حقق مجموعة من الانجازات الهامة منها تأسيس المدرسة الصادقية سنة 1875. انطلاقا من هذه المؤسسة التكوينية الحديثة سيعمل شيوخ الزيتونة المصلحون و قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية على تخليد روح التجديد التي ميزت خير الدين. لقد أضفت هذه الروح التجديدية طابع الاستمرارية لحركة اصلاحية كانت تتعزز و تتأصل مع توطد نظام الحماية الجديد الذي فرض على التونسيين. و سينمو أسلوب عمل هؤلاء المصلحين وفقا لتطورنظام الحماية ذاته.
جماعة الحاضرة
كان الجيل الأول المؤسس لجريدة "الحاضرة" يتألف من صادقيين و زيتونيين عاصروا خير الدين و تأثروا بروح التجديد التي كانت تميزه. لقد بدا لهؤلاء أن آنتصاب نظام الحماية في بدايتها كان ملائما لتنفيذ القيم التحررية لفرنسا سنة 1789 إذ كانت نصوصه تقر احترام سلطة الباي و السيادة التونسية. و قد كان خير الدين ذاته يحيل في كتابه " أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك[2] إلى هذه القيم التحررية.
لذا تبنى هؤلاء المثقفون اصلاحا ثقافيا كان يدعو إلى مطابقة العلوم الغربية لحاضر العالم الاسلامي بهدف حمايته من الهيمنة الاوربية و إعداد مستقبله إعدادا حسنا. إن مثل هذا الالتزام المحايد -ظاهريا- إن لم يعمل على التشكيك في السلطة الاستعمارية، كان يسعى -على الأقل- إلى ايقاظ الوعي الوطني إذ كان يركز على القضايا الثقافية مثل قضية اللغة و الدين و يرمي إلى تعريف عصري للأمة التي تتوفر على حق الوجود أولا ثم حق تقرير المصير أخيرا.
يقول شارل أندري جوليان في حق هذه الجماعة "كان محرر و جريدة الحاضرة أول من هاجموا الجمود الذي كانت عليه تونس و نددوا بالتغني السلبي بالماضي المجيد و اللامبالاة إزاء المشاكل الاجتماعية و السياسية التي تسببت فيها الحماية و عدم العناية بمستجدات العالم المعاصر".
شكل نشاط جماعة الحاضرة بداية توعية التونسيين بهذه القضايا. و على إثرها، ظهرت جمعيتان ثقافيتان : الجمعية الخلدونية سنة 1896 و جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية سنة 1905.
الجمعية الخلدونية
تأسست هذه الجمعية بإيعاز من المقيم العام "روني مييى". كانت فكرة "ر.مييى" ترتكز على وجوب اصلاح التعليم الاسلامي عن طريق ادخال المناهج الفرنسية و العلوم في كل ما لا يمس بجوهر التعليم الديني. بهذه الطريقة، يمكن لفرنسا - في نظره - أن تستكمل عملها الحضاري في تونس. و يجب كذلك، مواصلة العمل الذي باشرته الحماية الفرنسية بهدف تحقيق الترقية الفكرية و الاخلاقية للشعب التونسي. مثل هذا العمل، لو أضيف إلى الاصلاحات السابقة، سيؤدي إلى ترسيخ ذهنية عامة و تيار نهضوي دونهما لا يمكن للإصلاحات أن تثمر[3].
لقد لقيت هذه المبادرة صدا ايجابيا لدى المصلحين التونسيين الذين كانوا يأملون إدخال إصلاحات على التعليم بالزيتونة الذي أهمل كليا تدريس العلوم الحديثة.
يشير محمد الأصرم بهذا الصدد إلى " الاجتماع الذي انعقد في نهاية اكتوبر 1896 بالمرسي شاركت فيه ثلة من الشبان المسلمين ذوي التكوين اللبيرالي و الفكر المستنير تم تعيينهم من قبل المقيم العام بحكم مواقعهم الاجتماعية. في هذا الاجتماع، تمت مناقشة الأراء التي تعمل على تكوين مجتمع يهدف إلى ترقية تعليم الاهالي و الطلبة الذين يزاولون دروسهم بجامع الزيتونة حيث أبعد تدريس العلوم الحديثة".
هكذا أنشئت الجمعية بعد المصادقة على مرسوم 22 ديسمبر 1896. بناء على المادة الثانية من القانون الأساسي، حددت الجمعية لنفسها الأهداف التالية :
- تنظيم دروس و ندوات حول التاريخ و الجغرافيا، اللغة الفرنسية و الإقتصاد السياسي، و الصحة و النظافة و الفيزياء و الكيمياء.
- تسخير الوسائل لمن هم أهل لذلك، بهدف تكميل تعليمهم.
- تشجيع إنشاء المكتبات.
- إصدار نشرية بالعربية و الفرنسية يكون هدفها الرئيسي تعريف الفرنسيين بالحضارة العربية و المسلمين بالحضارة الفرنسية.
و تنص المادة الثالثة على أن "الجمعية تمتنع عن كل مناقشة أو إعلان ذي طابع سياسي أو ديني".
وفقا لمواد القانون الأساسي، عملت الجمعية على تجسيد "الوفاق الودي" بين "المتطورين" التونسيين و سلطات الحماية، إذ كانت الرغبة المشتركة بينهما إدخال العلوم الحديثة في المؤسسات التي كانت آنذاك تناوئ هذه العلوم، و مع ذلك، نعترف أن الأهداف ذات المدى المتوسط أو البعيد، لم تكن متشابهة بين الطرفين.
بالنسبة لسلطات الحماية، كانت الغاية توفير الشروط المناسبة لادخال إصلاحات جديدة و تكريس فكر يؤمن بالحضارة الغربية أي الفرنسية. بالنسبة للتونسيين، كانت الغاية مواصلة العمل الذي باشره خير الدين قبل انتصاب الحماية، و الذي يرمي إلى اصلاح التعليم بهدف تكوين الاطارات الكفئة لتسيير شؤون البلاد. كان شيوخ الزيتونة و قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، منفذو هذا المشروع و إن لم يكونوا أصحابه الأولين، واعين بالثغرات التي يحتملها التعليم الزيتوني و عدم مطابقته للظروف الجديدة التي تولدت عن تطور العلوم و التقنيات في أوربا خاصة و عن انتصاب نظام الحماية. فوجدوا في جماعة قدماء الزيتونة من تلامذة الشيخ محمود قابادو و معاصري الوزير خير الدين أمثال الشيخ محمد السنوسي و الشيخ سالم بوحاجب، من يؤيدهم و يساهم في حركة التجديد. فليس من الصدفة أن يلقي الشيخ سالم بوحاجب خطابا بمناسبة تدشين الجمعية الخلدونية يوم 15 ماي 1897 و أن تتناول محاضرته موضوع موافقة الاسلام على تدريس العلوم.
و في مؤتمر الجغرافيا بتونس سنة 1904، صرح بشيرصفر قائلا: "تساهم هذه الجمعية في حدود امكانياتها، في ترويج العلوم بين المسلمين و في ترقية قدراتهم الفكرية و اطلاعهم من خلال الجغرافيا، على مكانة كل أمة، و أخيرا تدعوا إلى محاربة الاحكام المسبقة و إلى فتح آفاق كانت مجهولة لديهم، في مجال العمل و التجارة. إنه عمل يستحق كل تنويه إذ يرمي إلى يقظة المسلمين الأخلاقية و الفكرية و هو الهدف الذي نأمل بحزم، إلى تحقيقه تدريجيا" [4].
سيؤسس هؤلاء الصادقيون، و يحذوهم في ذلك نفس الهدف : أي نهضة المسلمين الأخلاقية و الفكرية، جمعية ثانية : جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية.
جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية
يشير على باش حامبة، و هو يتحدث باسم لجنة المبادرة، عن عمل خير الدين و التغيرات التي أحدثها في الذهنيات، إلى الأهداف التي حددتها الجمعية لنفسها قائلا : "لقد عملت الجمعية على نشر التربية الديمقراطية بين الشبيبة حين جمعت على مقاعد مشتركة و في نفس المرقد و المطعم، أطفالا من كافة طبقات المجتمع التونسي. تلك الشبيبة التي كانت تقاوم التمييز الذي كان قائما - و مازال- بيننا. فنشأ التعارف و التأخي بين الأمير و البرجوازي و إبن الشعب و بفضل النظام الداخلي، احتك أبناء الريف و الاقاليم بابن العاصمة الذي كان يحتقرهم سابقا، فعمل على التعرف بهم و استحسانهم. إن مثل هذا النمط الحديث في المعيشة، الذي كان مجهولا سابقا- افضى إلى تكريس مشاعر الصداقة و الاتحاد و التضامن بين الشبيبة التونسية. و تحول قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية إلى عائلة واسعة تتألف من أفراد، رغم تبعثرهم في انحاء البلاد، سيحتفظون برباط قوى بالفترة التي قضوها في المدرسة. أيها السادة، إنها مشاعر الصداقة و الوحدة و التضامن و هي كلها تقاليد مستجدة نريد العمل على تطويرها و المحافظة عليها بتأسيسنا لجمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية"[5].
ركز المتحدث على التقاليد الجديدة التي تتمثل في الصداقة و الوحدة و التضامن و رأى ضرورة إنشاء مكان للاجتماع و اللقاء بين الاجيال المختلفة. بهذه الطريقة يمكن المحافظة على روح الصداقة و على التضامن الذي يتجسد في المساعدة المتبادلة و الدعم المعنوي الذي يقدمه كل فرد و الإعانة الفعلية في الاوقات الصعبة عن طريق إقطاعات من أموال الجمعية.
و توقعت الجمعية انشاء مكتبة و تنظيم ندوات ترمي إلى "الرفع المتزايد للمستوى الثقافي لأعضائها و إلى ترقية الرغبة في العمل بينهم".
إلى جانب هذه الأهداف التي كان يرمي إلى تحقيقها تلاميذ المدرسة الصادقية توقعت جمعيتهم تنظيم نشاطات ما بعد دراسية. إن مثل هذه النشاطات ستكون مثمرة إذ اعتبر على باش حامبة "إذا تمكنا من غرس الرغبة في العمل بين مواطنينا ووفرنا الوسائل الضرورية لذلك، و اذا تمكنا من توعية الجماهير بنشر الافكار الحديثة و تعميم العلوم، نجحنا -وقتها- في ايقاظ الهمم و عجلنا تحولنا إلى وضعية أكثر ملاءمة بمستلزمات العصر، وضعية تساعدنا على دعم نضال من أجل الحياة أصبح أشد قساوة في هذا البلد" [6].
هكذا، نلمح قيما جديدة كالوطنية و الرفاه المادي للمواطنين و قيم الرقي و العمل تحل محل القيم القديمة في المجتمع مثل الورع و الوازع الديني و ازدراء الحياة الدنيا. لعل هذا "التفكير الجديد" الذي أشار إليه على باش حامبة، كان وراء نشاط قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية سواء داخل الجمعية الخلدونية أو الجمعية الصادقية.
برامج العمل
كانت برامج عمل الجمعيتين متكاملة بل متشابهة. و أشرفت شخصيات بارزة على الجمعيتين أو على الأقل شاركت في نشاطاتهما. على سبيل المثال، كانت اللجنة التي تم انتخابها يوم 3 ديسمبر 1905 على رأس الجمعية الصادقية تضم على باش حامبة الذي عرض أهدافها و محمد الأصرم و أحمد الغطاس و رشيد بن مصطفى. و كان هؤلاء في نفس الوقت أعضاء اللجنة المديرة للجمعية الخلدونية و يتضح التكامل أو التشابه بين الجمعيتين في أن الندوات التي كانت تعقد هنا و هناك تناولت موضوعات واحدة مثل الصحة و النظافة، القانون العقاري، الفقه الإسلامي و القانون الفرنسي، الإقتصاد السياسي، الاقتصاد الزراعي و التنظيم القضائي في تونس.
و إذا نظرنا إلى محتوى هذه الندوات و الدروس التي كانت تنظمها الجمعيتان، لاحظنا أنها تبدو غير هامة إلا أن ذلك رأى السلطات الاستعمارية التي كانت تسعى إلى ممارسة مراقبة شديدة على نشاطاتهما. هكذا فقد أبدت هذه السلطات تحفظات، عند ايداع القانون الأساسي للجمعية الصادقية، يصدد الفقرة الأخيرة من المادة الثانية التي تنص "على أنها (الجمعية) ستنشيء مكتبة و تنظم دروسا و محاضرات و تصدر نشرية بهدف تعميم الثقافة".
خشيت السلطات أن تنمو تيارات معارضة داخل هذه الجمعيات فألزمتها بتقديم إذن مسبق على نشاطاتها و ربطت المساعدة التي كانت تمنحها إياها بدرجة ولائها للحكم الاستعماري. هكذا جلب الوزير فوق العادة و المفوض لدى الاقامة العامة انتباه المدير العام للشؤون الداخلية بتونس في رسالة يقول فيها : "يخشى السيد المدير العام للتعليم العمومي أن تكون اتجاهات المجلة التي تسعى لجنة الجمعية الصادقية إلى إعادة إصدارها غير موالية لفرنسا و يقترح الامتناع عن مساعدتها طالما لم يتأكد ولاءها لسلطة الاقامة العامة" [7].
ماهي الأخطار التي مثلتها هاتان الجمعيتان ؟
في ظل الاستعمار، يعتبر إنشاء جمعيات تهدف بشكل صريح إلى اليقظة الاخلاقية و الفكرية للأهالي، في حد ذاته، تحديا لسلطة الحماية التي يفترض أنها تسهر على تحقيق هذه اليقظة. و استحال على النخبة المثقفة، نظرا لعددها المحدود و اعتبارا لميزان قوى كان يتجه - تدريجيا- إلى ترسيخ دعائم الاستيطان، أن تقترح مشروعا سياسيا يرمي إلى إعادة النظر في السيطرة الاستعمارية. لهذا السبب، أعتمدت موقفا شرعيا إذ تخيلت أن نظام الحماية الجديد قد يعمل على تطهير المؤسسات في البلاد اقتداءا بالديمقراطية الفرنسية التي اعتبرتها نموذجا يحتدى به.
غير أن سلطة الحماية كانت تفتقد إلى الوسائل الكفيلة بتنفيذ سياسة موالية للتونسيين. في غالب الأحيان، كان نشاطها يواجه موقف المتفوقين المعادي لكل اصلاح في اتجاه هؤلاء. أمام تهاون السلطة، أخذت مجموعة من التونسيين على عاتقها تحقيق ما أسماه الشاذلي خير الله "وصية خير الدين الأدبية" "و لا يتوهم أن أهلها (أروبا) وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصب أو اعتدال في أقاليمهم… و لا أن ذلك من آثار ديانتهم… و إنما بلغوا تلك الغايات و التقدم في العلوم و الصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي و تسهيل طرق الثروة و استخراج كنوز الأرض بـعلم الزراعة و التجارة. و ملاك ذلك الأمن و العدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم. أما الأمة الاسلامية فكانت عظيمة إذ كانت حرة و ذات علم ثم تراجعت أحوالها بسبب التزمت و الجهل"[8].
وجدت هذه الرسالة مناصرين من قبل الأجيال الأولى للصادقيين أمثال بشير صفر، على بوشوشة و الأخوين باش حامبة، خير الله بن مصطفى محمد الأصرم و غيرهم و كذلك من قبل شيوخ الزيتونة المصلحين بصفة خاصة سالم بوحاجب و قد ساهم هؤلاء و أولائك في النشاطات الثقافية التي كانت تنظمها الجمعيتان قبل أن يقبلوا على تأسيس حركة سياسية سنة 1907 تمثلت في حركة الشباب التونسي.
كان التعليم احد القضايا الكبرى التي خاضت من اجله النخبة المثقفة نضالها. في البداية، اتخذ هذا النضال شكلا فرديا ثم أضحى مطلبا رئيسيا لحركة الشباب التونسي. نتوقف عند مظهرين اثنين من هذا النضال : تأسيس الكتاتيب القرآنية العصرية و ما أطلق عليه إسم النضال من اجل البكالوريا.
تم تأسيس أول كتاب عصري سنة 1906 بالعاصمة تونس بمبادرة من خير الله بن مصطفى، وراء هذا التأسيس سببان على الأقل :
- لسدّ النقص الخاص بالمدارس و بالتالي التصدى لضعف نسبة التمدرس لدى المسلمين التونسيين و هي حالة فرضتها مراكز القوى في السلطة الاستعمارية التي كانت تخشى "إقبال الأهالي على الدراسة" على حدّ تعبيرها.
- إعطاء التعليم الإبتدائي التونسي مضمونا يختلف عن مضمون المدارس العربية الفرنسية التي أنشأها لويس ماشويل : المدير الأول للتعليم العمومي بالمستعمرة التونسية ابتداء من 1883. كان تدريس اللغة العربية قائما بهذه المدارس غير أن الغلبة كانت للغة الفرنسية و ثقافتها و هما وسيلتا التفرنس أو بالأحرى إدماج الشعوب الخاضعة للسيادة الفرنسية. في هذه الحالة تتخذ اللغة الوطنية و الدين الاسلامي قيمة استكشافية لانهما عاملا التعبئة ضد العدوان الثقافي الأجنبي.
في الحالات المتباينة، تشكل المدرسة رهانا و إن أرادت السلطة أن تبقيها في وضع محايد وهمي إذا أعتبرنا دور التنشئة الاجتماعية الذي تضطلع به كل مدرسة. فكانت السلطة الاستعمارية و المتفوقون في البلاد يعلمون ذلك جيدا. لقد كان المتفوقون ينظرون إلى الجمعيات الثقافية كالجمعية الخلدونية و كأنها بؤر قادمة لمقاومة الاحتلال الاستعماري. كتب فيكتور كارنير، الناطق باسم حزب المعمرين و رئيس الغرفة الفرنسية للفلاحة، قائلا : "لو قامت انتفاضة في تونس لخرجت هيئة أركانها من الجمعية الخلدونية[9]" و وصف أندريه سرفييه من جانبه الدروس التي كان يلقيها بشير صفر في الجمعية الخلدونية بهذه العبارات "إلى جانب الحفلات الرسمية، لم يترك محروسونا أية فرصة لانتقاد العادات الأروبية و أخلاقنا، و للتنويه بأمجاد الإسلام السابقة ثم لاستعراض مراحل حركة النهضة و اليقظة التي شهدتها تركيا و مصر. لقد برع السيد بشير صفر، المكلف بدروس التاريخ و الجغرافيا التي كان يلقيها مجانا، في هذا النوع من الممارسات. فكان يسهب في ذكر الأحداث التي كانت تسيء إلى عظمة الأمة الفرنسية و كرامتها و بلغت به الجرأة النضالية إلى توظيف الوقائع اليومية للتعريض بمواطنينا و الاستهزاء بما كان يسميه "أحكامهم المسبقة". فقد كان المعمرون الفرنسيون موضع سخرياته و تهكماته ؛ كما كان يسخر من "غلظتهم" و "كبريائهم" و "جهالتهم". أما المستمعون له الذين حملهم التعليم الديني لجامع الزيتونة على التعصب، فقد كانوا ينفجرون بالضحك عند حديثه عن المعمرين".
يصف نص أ. سرفيه - أكثر من غيره - ذهنية النخبة المثقفة خلال هذه الفترة الزمنية، كما يساعدنا على ادراك شكوك المتفوقين ازاء التونسيين الذين كانوا يتابعون - أو يريدون - الدراسات العليا في الجامعة الفرنسية. بهذا الصدد، لاحظ "كارنيار" مايلي "إن أخطر أعدائنا هم أولائك الشبان المنحدرين من الأسر البرجوازية و الذين ربتهم مديرية التعليم على الطريقة الفرنسية… و لو قامت انتفاضة في تونس لكانوا على رأسها".
هكذا، بدأت المعركة من أجل تحسين تعليم التونسيين. و كان أعضاء الجمعيتين : الخلدونية و الصادقية ينتهزون الفرص المناسبة لنقد وضعية التعليم في المدرسة الصادقية التي تحولت إلى مؤسسة لتكوين الموظفين بدل أن تعد تلامذتها إلى المهن الحرة كما أراده لها مؤسسها. فقد أوضح محمد الأصرم في مؤتمر المستعمرات الذي انعقد بمرسيليا سنة 1906 أن مهمتها انحصرت "في إمداد مصالح الدولة بالمترجمين و الأعوان البسطاء".
و في مجلس تحسين التعليم بالمدرسة الصادقية الذي تأسس بموجب مرسوم 28 مارس 1906، نوقشت مسألة الباكالوريا لأول مرة. فقد طالب التونسيون من حكومة الحماية أن تسهل الوصول إلى المهن الحرة و أن تمد التلاميذ الأكثر استحقاقا بمنح التعليم العالي و أن تضمن للطلبة الذين تابعوا دراسات ثانوية أو جامعية الحصول على مناصب مناسبة في المصالح العمومية. في الواقع، لم تتحقق هذه المطالب التونسية إلا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ استقرت السلطات الاستعمارية و حزب المعمرين على معارضة زيادة عدد التونسيين الحاصلين على الشهادات. فقد كانت ترى أن ارتفاع عددهم في المستعمرة سيؤدي إلى هيمنتهم على دواليب الإدارة و الإقتصاد. و كان ذلك رهانا لا يمكن الاستهانة به.
و شكل التونسيون الحاصلون على الشهادات خطرا آخر في نظر السلطات الاستعمارية، إذ كانت تعتقد أنهم سيتكفلون بالنضال المعادي للاستعمار و سيعملون على تنظيمه.
لقد حدث ما توقعته السلطات الاستعمارية داخل المدرسة الصادقية، إذ عاد إلى تونس عدد من التلاميذ القدماء الذين أنهوا دراساتهم الجامعية بفرنسا و أصبحوا أساتذة بالمدرسة المذكورة أو أعضاء عاملين بالجمعية الخلدونية و الجمعية الصادقية و لقنوا تلامذتهم أفكارهم الثورية آنذاك. أفضى هذا التكوين شبه المدرسي إلى تغذية النشاط السياسي في المدرسة و في البلاد و أشرف عليه شباب كانوا متأثرين بمواقف أساتذتهم. و آتضح ذلك عند اعتقال الأستاذ علي بلهوان، فكان رد تلاميذ الصادقية أن اعتبروه قدوة لهم و لقبوه بزعيم الشباب كما تؤكده الشهادات المختلفة.
علمت الحياة بالعاصمة التونسية التلاميذ القادمين من الأقاليم معنى التنظيم. إن التردّد على الجمعية الصادقية و الجمعية الخلدونية و مخالطة طلبة العاصمة دربتهم على الحياة الجمعوية. في هذا الاطار، كان الاحتكاك بالزعماء الوطنيين و نشاطاتهم داخل المدارس - مثل المدرسة الصادقية و الجامعة فيما بعد- قد بلورت شيئا فشيئا وعيهم السياسي.
في الحقيقة، اهتمت هذه الجمعيات بالنشاطات الثقافية. يقدم محمد مزالي شهادة على ذلك في مذكراته، إذ كتب يقول " بالمنستير و أثناء العطلة، كنت أناضل في صفوف "الشبيبة و الأدب"، فلم أكن أنهل من الكتب العربية و الفرنسية التي كانت تزخر بها جمعيتنا فحسب بل كنت، كذلك، ألقي محاضرات تناولت موضوعات أدبية و إجتماعية. و بمساعدة رفاق لي، كنت أنشط فرع المسرح بالجمعية و أنظم رحلات إلى الأقاليم التونسية مرة في كل نصف شهر".
و غالبا ما كانت هذه النشاطات الثقافية تخفي نشاطات سياسية. كم من مرة، عرضت هذه الجمعية أو تلك، مسرحيات بهدف جمع التبرعات لتمويل خزينة حزب الدستور الجديد.
إضافة إلى العروض المسرحية، فسحت المحاضرات و الندوات مجال التعبير للشبيبة، فكانوا يلقنون للكبار و الصغار المعارف التي كانوا يتحصلون عليها في الثانوية أو الجامعة. لنستشهد - مرة أخرى - بمذكرات محمد مزالي :
"أثناء العطلة الجامعية، كنت أقبل على الاتصال بخلية بالمنستير لحزب الدستور الجديد، و قضيت ساعات طوال في دكان عمي : ش ج الأمين العام للخلية، أستمع للمناضلين و أناقشهم. و بحكم رئاستي لجمعية الطلبة المنستيريين، كنت القي محاضرات و أشرف على مناقشات و أنظم رحلات. فكنت أتناسى جامعة الصربون و محاضراتها لأنغمس في بيئتي بهدف تعميق انتمائي إلى الحضارة الإسلامية و بخاصة إيقاض وعيي بخصوصيات الشخصية التونسية و تاريخ بلادي و تقاليدها الأدبية و اسهامها الهام في ترقية الفنون و الأداب و العلوم التي ميّزت العالم العربي الإسلامي… لقد كنت أبحث عن كل أمر يغذي عزة انتمائي إلى الأمة التونسية. لهذا، كانت النشاطات الإجتماعية و الثقافية تأخذ مني وقتا هاما. استحضر ذكريات فياضة ترتبط بهذه الفترة. ففي شهر سبتمبر من سنة 1949 و خلال محاضرة علنية ألقيتها بالمنستير تحت عنوان " حقيقة يجب أن تعرف" نددت بالطريقة الاستعمارية في كتابة التاريخ، إذ تعلمنا زيفا في المدرسة الصادقية، أن فرنسا اضطرت إلى احتلال تونس لتوقيف غارات "جحافل جبل خمير" المتكررة على المستعمرة الفرنسية في الجزائر. و في يوم ما و أنا طالب بجامعة الصربون، كنت سعيدا لحضور درس للأستاذ "بياررينوفان" المختص في تاريخ العلاقات الدولية. فقد كان يتحدث في مدرج ديكارت عن السياسة الفرنسية على إثر حرب سنة 1870 و أبرز استنادا إلى الوثائق أن انتصاب الحماية الفرنسية على تونس كان عملا تم تدبيره بين الجمهورية الفرنسية الثالثة و ألمانيا البيسماركية و انكلترا. مثل هذه المعلومات الثمينة، لم يكن في وسعي الاحتفاظ بها إذ استغلت أول فرصة اتيحت لي، لافادة الشباب التونسي بها".
يتضح من هذه الشهادة أن العلاقة بين الثقافة و السياسة كانت وثيقة في القرى التونسية خلال عهد الحماية الفرنسية. لقد كان تأسيس الجمعيات الثقافية و الرياضية وسيلة استفادت منها المنظمات السياسية لبسط نفوذها داخل المجتمع التونسي. كان تلامذة الثانويات، أثناء العطلة، يشعرون بأنهم مكلفون بتحقيق مهمة مقدسة يحدوهم في ذلك شعور وطني واضح، إذ طالما قرأوا على جدران مدينة تونس شعار "حب الوطن من الإيمان" لهذا، اعتنقوا العمل السياسي.
فالتاريخ السياسي، كما حاولنا تفسيره و على حد تعبير ج.ف.سرينلي، هو "في نفس الوقت تاريخ السلوكات و الذهنيات و الثقافات و الأفكار".
نور الدين سريب - Noureddine SRAÏEB
نقله إلى العربية :
محمد غالم - Mohamed GHALEM
الهوامش
* باحث بمعهد البحوث و الدراسات حول العالم العربي و المتوسطي. المركز الوطني للبحث العلمي "أكس آن برفانس". "Aix en Provence" و أستاذ مدير معهد الدراسات العربية بجامعة Nancy 2 .
[1]- راجع التوطئة بقلم فيبر من كتاب
Moraze, Charles : Trois essais sur histoire et culture.- Paris, A.colin, 1948.- p.p.VI-VII. (cahiers des Annales 2).
[2]- الوزير خير الدين .- أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك.- طبع لاول مرة بتونس سنة 1867 وعرف عدة طبعات منها الطبعة التي حققها و قدم لها المنصف الشنوفي.- الدار التونسية للنشر سنة 1972.- ص.337.- و قد ترجم الكتاب إلى الفرنسية و نشر سنة 1867 و أعيد نشره تحت عنوان :
Essai sur les reformes nécessaires aux Etats musulmans.- présenté et annoté par Magali Morsly.- Aix en Provence, Edisad, 1987.- p.155.
[3]- Cf. Servier, André.- Le péril de l’avenir, le nationalisme musulman en Egypte, en Tunisie, en Algérie.- Constantine, Boet Ed, 1913.- p.76.
[4]- Cité par Khayrallah, Chedli.- Essai d’histoire et de synthèse des mouvements nationalistes tunisiens. Le mouvement Jeune Tunisien.- Tunis, Bonici Ed..- p.26.
[5]- نفس المصدر.- ص.35.
[6]- نفس المصدر.- ص.46.
[7]- Archives de la sûreté nationale.- Tunis, n°81.
[8]- Khayrallah Ch..- Op.cité.- p.p. 20-23.- Voir aussi M. Colombe.- Trois aspects des institutions de l’Islam au XIXème siècle.- in Etudes d’orientalisme dédiées à la mémoire de Levi Provençal.- Paris, Maisonneuve-Larousse, Ed., 1962, t.1.- p.p.99-100.
[9]- Cité par Julien, CH.A..- Colons….-p.p.120-120.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم