عدد 07 : في الهجرة و المنفى

دفاتر إنسانيات

تقديم : في الهجرة و المنفى

من نافل القول أنّ مسألة الهجرة واللّجوء والمنفى اليوم لا تحتلّ فقط مركز الاهتمام في السّياسات العموميّة لكل دولة على حدة، بل تقع في صميم العلاقات بين الدّول، دول المنشأ والعبور والاستقبال على السّواء باعتبار أنّ الهجرة "مشكلة" لا يمكن حلّها إلاّ بتظافر مجهودات الجميع، دولا وحكومات ومنظّمات غير حكوميّة أيضا. من أجل ذلك أطلقت الأمم المتّحدة سنة 2016 مسارا تفاوضيّا بين دول الجمعيّة العامّة لصياغة إعلان أمميّ حول اللاّجئين والمهاجرين، عرف بـ"إعلان نيويورك"، والذي جاء فيه:

"إنّ للتّنقّلات الكبيرة للاّجئين والمهاجرين آثارا سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة، تنمويّة وإنسانيّة، وآثارٌ تتعلّق بحقوق الإنسان التي ليس لها حدود. إنّها ظاهرة عالميّة تستدعي مقاربات وحلولا عالميّة ولا يمكن لأية دولة لوحدها أن تسيّر هذه التّنقلات. إنّ الدّول المجاورة ودول العبور، وهي دول ناميّة في الأغلب، هي الأكثر عرضة لهذه التّنقّلات، وفي كثير من الحالات يُطلب منها بشدّة تجنيد إمكانيّاتها لمواجهة هذه الظّاهرة، ما يؤثّر على تنميتها وعلى تجانسها الاجتماعيّ والاقتصاديّ. أيضا، أصبحت أزمات اللاجئين طويلة الأمد ظاهرة عاديّة مع نتائجها بعيدة المدى لاسيما للاّجئين أنفسهم، وأيضا بالنّسبة للبلدان المستقبلة التي يجب مساعدتها بتعزيز التّعاون الدوليّ"[1].

كان هذا الإعلان الأول من نوعه الذي ترعاه الأمم المتّحدة، لكن سرعان ما طفت إلى السّطح خلافات عميقة بين الدّول بمناسبة صياغة "الإعلان العالميّ حول المهاجرين" سنة 2018[2]، والذي عرف بـ "إعلان مراكش"، على اعتبار أنّه يقيّد السّيادة الوطنيّة للدّول فيما يتعلّق بصياغة سياساتها العموميّة الخاصّة بالهجرة، كما أنّه لا يميّز بين الهجرات الشّرعيّة وغير الشّرعيّة وبين الهجرات الاقتصاديّة والهجرات لأسباب إنسانيّة، بل والأكثر من ذلك أنّه لا يتعرّض لـ "جذر المشكلة" باعتباره يتحدّث عن "المسؤوليّة المشتركة" للدّول في أزمات اللاّجئين خاصّة، وهذا ما رفضته العديد من الدول التي لها تجارب مباشرة مع مسائل اللّجوء والهجرة القسريّة كالجزائر، كما أنه يتحدّث عن الإجراءات الواجب اتّخاذها من أجل تحسين ظروف معيشة السّكان في إطار مقاربة التّنمية المستدامة لـ "مكافحة العوامل السلبيّة والمشاكل البنيويّة التي تدفع بالأفراد لمغادرة بلدانهم الأصليّة"[3]، لكن دون الإشارة إلى أنّ هذه "العوامل السلبيّة والمشاكل البنيويّة" ترجع في الأساس إلى التّقسيم الدّوليّ اللاّمتكافئ والبنيويّ بين دول الشّمال المهيمن ودول الجنوب المتخلّف، وهذا ما يلاحظ في كل مرة تنفجر فيها أزمة لاجئين، مثل أزمة اللاّجئين السّوريّين وتوجّههم نحو أوربا، أو اللاّجئين من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبيّة وتوجّههم نحو الولايات المتّحدة، أو أزمة اللاّجئين التي ظهرت على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا (2021).

هذه الأمثلة تبيّن أهميّة مسألة الهجرة واللّجوء على المستويين الدّوليّ والوطنيّ معًا، وتبيّن أيضًا أهميّة رهاناتها ليس السّياسيّة منها فقط، وإنّما أيضًا الأكاديميّة إذا ما تمّ تجاهل السّياقات التي يجب أن توضع فيها، لا سيّما ما يتعلق بسياق البنية اللاّمتكافئة بين دول الشّمال ودول الجنوب. طبعا اهتمّت هذه الدّول جميعًا، كلّ من منظورها، بمسائل الهجرة[4]. فإذا أخذنا كمؤشّر على ذلك إصدار مجلاّت متخصّصة فإنّنا نجد في بلدان الشّمال مثلا مجلاّت Hommes et migration European journal of migration and law, أو International migration review. أمّا في الجنوب، فنجد مثلا المجلّة البرازيليّة Travessia، المجلّة الآسيويّة South Asian Diaspora أو المجلّة الإفريقيّة Revue africaine des migrations internationales.

من جهتها خصّصت مجلة "إنسانيّات" ثلاثة أعداد موضوعاتيّة في حقل دراسات الهجرة: "الهجرات – رؤى من الجنوب" (عدد 69-70)، "الأشخاص المسنّون بين ضفّتي المتوسّط: أيّ مصير؟" (عدد 72-73) و"الممارسات اللّغوية المتعدّدة والتّنقّل بين البلدان المغاربيّة وأوروبا" (عدد 77-78). لكن يبدو اهتمام المجلّة بقضايا الهجرة واضحا منذ إصدار أعدادها الأولى، إذ قدّمت مساهمات مميّزة نذكر منها مقالات حول شباب الجالية المغاربيّة بفرنسا (عدد 08)، أدب المهجر (أعداد 09 و10)، المهاجرون بين الذّاكرة والتّاريخ (عدد 32-33)، الهجرة الداخليّة (أعداد 16 و28)، الهجرة السريّة (أعداد 55-56 و69-70)، كمّا أنّها اهتمّت أيضا بوضعيّة الجاليات الأخرى من دول الجنوب على غرار المهاجرين المغربّيين والإكوادوريّين بإسبانيا، أو المصريّين بالصّين (عدد 69-70) أو الموريتانيّين بفرنسا (عدد 77-78).

سنقدّم فيما يلي عيّنة من الإحصاءات والقراءات حول الهجرة الدوليّة واللاّجئين، بعدها سنعرض عددًا من المقالات التي نشرت في مجلّة "إنسانيات" حول الهجرة واللّجوء والمنفى من منظور "باراديغم الجنوب"، لنختم بمناقشة بعض الشّروط التي نراها ضروريّة "من أجل أنثروبولوجيا ملتزمة حول الهجرات".

إحصاءات وأحكام مسبقة حول الهجرة الدّوليّة واللاّجئين

حسب "تقرير الهجرة في العالم لعام 2020" الصّادر عن المنظمة الدّوليّة للهجرة، فإنّ العدد الإجماليّ للمهاجرين في تزايد مستمرّ إذ بلغ 153 مليون شخص سنة 1990 (2.9% من سكّان العالم)، وارتفع إلى 173.5 مليون شخص سنة 2000 (2.8%)، ليصل إلى 272 مليون شخص سنة 2020 ( 3.5%)[5].

وإذا ما أردنا أن ندقّق في الخصائص السوسيو- ديموغرافية لهؤلاء المهاجرين، فإنّ نفس التّقرير يشير إلى أنّ 52% منهم من الذّكور و48% من الإناث وذلك سنة 2019. أما بالنّسبة للسّنّ، فإنّ حوالي 74% منهم كان في سنّ العمل (20-64 سنة). أمّا الذين تقلّ أعمارهم عن 20 سنة فقد بلغت نسبتهم 14% والذين تفوق أعمارهم 65 سنة بلغت نسبتهم حوالي 12%[6] .

بالنّسبة لمتغيّر العمل، يقدّم هذا التّقرير إحصاءات لسنة 2017 حول العمّال المهاجرين إذ بلغ عددهم 164 مليون شخص، ممّا مثّل 64% من العدد الإجمالي للمهاجرين الدّوليّين آنذاك، و70% من المهاجرين الدّوليّين البالغين سنّ العمل. أمّا بالنّسبة لتوزيعهم حسب الجنس، فقد بلغ عدد العمال المهاجرين 96 مليونا والعاملات المهاجرات 68 مليونا[7].

فبالإجمال، وحسب هذه الإحصائيّات، يمكننا القول أنّ الهجرة الدّوليّة هي هجرة ذكوريّة وهجرة عمالة في الأساس. لكن هذه الإحصاءات لا تغطّي كلّ فئات المهاجرين مثل فئة اللاّجئين والمنفيّين، والتي سنعرض لمحة عنهم فيما يلي:

في نهاية سنة 2020، قُدّر العدد الإجمالي للاجئين[8] عبر العالم بـ 82.4 مليونا (كانوا حوالي 40 مليونا سنة 2010)، منهم 26.4 مليونا تحت وصاية هيئات الأمم المتحدة للاجئين ( HCR وUNRWA). من حيث خصائصهم السوسيو- ديموغرافية، فإنّ الفئة العمرية 18-59 سنة تشكّل النسبة الأعلى من بين اللاجئين: 25% نساء و27% رجال. أمّا الفئة العمرية الأقلّ من 18 سنة فتشكّل نسبة 42%. وتشير الإحصاءات إلى أنّه من 2018 إلى 2020، وُلد ما بين 290000 و340000 طفلا في بلدان اللجوء والمنفى. بالنّسبة لمناطق الاستقرار، فإنّ 61% من هؤلاء اللاجئين، حسب معطيات سنة 2018، يستقرّون في المناطق الحضريّة بالخصوص[9].

هناك معطيات أخرى تجعلنا نعيد النّظر في عدد من الأحكام الشّائعة حول اللاجئين. مثلا، وعلى العكس من التّهويل (والعويل) الإعلامي والسياسي حول "موجات" اللاجئين التي أغرقت البلدان المتقدّمة و"الأخطار" و"الكوارث" التي قد يحدثونها في نمطها المعيشيّ، تشير الإحصائيّات الخاصّة بسنة 2020 أنّ البلدان المتقدّمة تستقبل فقط 14% من هؤلاء المهاجرين بينما تستقبل البلدان النّامية 86% منهم، والبلدان المستقبلة الأولى في العالم ليست بلدانا متقدّمة (تركيا، كولمبيا، باكستان وأوغندا). وفي العموم، فإن 73% من اللاجئين هم لاجؤون في بلدان مجاورة لبلدهم الأصلي و27% في بلدان أخرى[10].

هذه الإحصائيّات الأخيرة دفعتنا للبحث عمّا إذا كان هنالك واقع آخر خلف أرقام الهجرة واللّجوء والمنفى، عبر الجغرافيا وعبر التّاريخ، وذلك من أجل تمحيص وتفكيك الكثير من الأحكام المسبقة، خاصّة تلك المؤسّسة على النّزعة الكمّية من النّاحية المنهجيّة وعلى مركزيّة الشّمال من النّاحية الإديولوجيّة. لهذا السّبب قمنا في هذا العدد من دفاتر مجلّة إنسانيات بجمع عدد من المقالات حول تجارب مختلفة للهجرة، ترتبط بالماضي والحاضر، خارجيّة وداخليّة، وهي مقالات ذات مقاربات كيفيّة بالأساس وتشمل تخصّصات متعدّدة في العلوم الانسانيّة (أنثروبولوجيا، علم الاجتماع، تاريخ...).

تجارب في الهجرة

تعدّ هجرة الجزائريّين نحو البلاد الإسلاميّة خلال الفترة ما بين نهاية القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين من التّجارب التّاريخيّة التي استقطبت اهتمام المؤرخين، ومنهم المؤرّخ الرّاحل محمّد غالم الذي انتقد بداية الإسطوغرافيا الاستعماريّة حولها والتي اعتمدت على أرشيف الإدارة الاستعماريّة. هذه الأخيرة اهتمّت بهذه الهجرة أوّلا لأسباب أمنيّة خشية أن تكون الشّرارة التي قد توقد حركات ثوريّة، ولكن أيضا لأنّها "تشوّه صورة فرنسا" أمام الرّأي العامّ الفرنسيّ والعالم الإسلاميّ، إضافة إلى أنّ هذه الهجرة تشكّل خسارة فادحة في اليد العاملة الضّروريّة للاقتصاد الكولونياليّ. هكذا أنتجت هذه الإدارة كمًّا من الوثائق التي شكّلت المادّة الأوليّة لـ "تفسيرات" المؤرّخين الاستعماريّين[11] حول هذه الهجرة والتي صنّفها م. غالم إلى فئتين: تفسيرات تقليديّة تحاول إبعاد مسؤوليّة الإدارة الاستعماريّة كسبب للهجرة، وأخرى جديدة أو حديثة تشير مباشرة إلى هذه الإدارة باعتبارها المسؤول عن الوضعيّة الاقتصاديّة المزرية لـ "الأهالي" والنّاتجة عن الفقر واستغلال "الكولون". لكنّ هذا التّفسير لا يشير إلى المشكلة الأصليّة وهي وجود الاستعمار نفسه وليس نوعيّة الإدارة التي ينتهجها. لقد انتقد غالم كلاّ من التّفسيرين وبيّن كيف أنّ عددا من المؤرّخين المعاصرين[12] قد سلكوا نفس الطّريق وأعادوا نفس التّفسيرات، ولكن ذكر أنّ هناك أيضا مؤرّخين أكثر موضوعيّة[13]. في النّهاية، يسهم المقال في إبراز ضرورة وضع النّتاج الإسطوغرافيّ الكولونياليّ في سياقه التّاريخيّ من أجل حصر أحكامه المسبقة وضبط نقائصه وتفسيراته الخاطئة، وكذا عدم إغفال مساهماته المعرفيّة والمنهجيّة، كما يوصي غالم بضرورة القيام بدراسات "وطنيّة" حول هجرة الجزائريّين إلى البلاد الإسلاميّة وذلك بالاعتماد على أرشيف الإدارة العثمانيّة والأرشيف الموجود بمصر وبلاد الشّام، بالإضافة لجمع الشّهادات من العائلات المهاجرة.

هذه المبادئ المنهجيّة هي التي وجّهت عمل مليكة ونوغي حول المنفيّين إلى كاليدونيا الجديدة، إذ اعتمدت على الوثائق المتاحة في الأرشيف بفرنسا وفي بلديّة "بوراي" بكاليدونيا الجديدة، كما قامت بتحقيقات ميدانية ذات طابع إثنوغرافي مع السّكّان الكاليدونيّين أحفاد الجزائريّين والمغاربيين، إضافة إلى تحقيقات ميدانيّة أخرى بالجزائر وتونس وفرنسا، وانطلاقا من كلّ هذه المواد استطاعت المؤلفة إعادة بناء صورة حيّة لمأساة المنفيّين الجزائريّين خلال القرن التّاسع عشر. فهؤلاء المنفيّون هم أساسا ثوّار الانتفاضات الشعبيّة لأولاد سيد الشّيخ أوّلا سنة 1864، ثمّ انتفاضة منطقة القبائل سنة 1871، وانتفاضة منطقة بسكرة سنة 1876. لقد حوكم هؤلاء في محاكم خاصة "حسب القانون الخاصّ بمتمرّدي 'كومونة باريس' سنة 1871، وحُكم عليهم بالأشغال الشّاقة أو العزل"، واحتُجزوا طويلا في "مخازن" قبل أن يتمّ ترحيلهم في قوافل بحريّة نحو كاليدونيا الجديدة. لقد وصفت المؤلفة الرّحلة الطّويلة وكذلك حياة المنفيّين على هذه الأرض الجديدة في إطار "تجربة استعماريّة جنائيّة" كانت تهدف إلى "إدماجهم"، لكنّهم أفشلوها وقاموا بمواجهتها عن طريق تجنيد عناصر كثيرة من تراثهم الثقافي ("الجماعة")، الاجتماعي (علاقات القرابة والمصاهرة)، الرّمزي (الدّين، المقبرة) وكذلك بخبرتهم الزراعية (النّخيل). لقد كانت ملحمة جديدة أو بعبارة أدقّ، كانت هذه المواجهة استمرارا لمقاومات سابقة للاستعمار ولكن على أرض أخرى وبوسائل أخرى.

لتجربة الإدماج هذه قصّة أخرى، تجاوزت الفترة الاستعماريّة، ترويها لنا فرانسواز لورسوري "حول تمدرس أطفال المهاجرين بفرنسا". لقد بيّنت في مقالها كيف أنّ أطفال المهاجرين اعتُبروا في البداية من "ذوي الاحتياجات الخاصّة" الذين يجب التّكفّل بهم في مؤسّسات تربوية خاصّة ذات برامج تربوية خاصّة بغية إدماجهم في المجتمع الفرنسي وتحضيرهم، في الوقت نفسه، لإدماجهم المحتمل في البلدان الأصليّة لآبائهم، وكيف أنّ هذا المنظور لم يتغيّر جوهريّا عبر الزّمن رغم تغيّر الحكومات. لقد بيّنت المؤلّفة أيضا، استنادا لتحقيقات ميدانية، كيف أنّ هذا المنظور "إثنيّ" بالأساس وكيف تغلغل ليس فقط في الممارسات المؤسّساتيّة (تنظيم الأقسام مثلا)، بل أيضا في التّعاملات اليوميّة بين مختلف الفاعلين التربويّين، بل وحتى خارج أسوار المدارس كما تدلّ على ذلك "قضيّة الحجاب" وارتداداتها في قطاع التربية والمجتمع العامّ على حدّ سواء. أخيرا، ومن أجل تناول مسألة النّجاح أو الفشل المدرسيّ لأطفال المهاجرين، عرضت المؤلفة ثلاث فرضيّات كبرى جنّدت ثلاث متغيّرات تفسيريّة هي: التّقسيم الطّبقي، التّعاملات التّمييزيّة النّاقلة للتّقسيم الاجتماعيّ الموجود خارج المدرسة، وتعبئة الفاعلين في القطاع التربويّ. لقد بيّنت نتائج التحقيقات المعروضة "صدق" هذه الفرضيّات وكيف أنّ أبناء المهاجرين يدرسون تحت وطأة التّقسيم الطّبقي على غرار أبناء العمّال، إضافة للمعاملات التّمييزيّة والانتقائيّة ضدّهم. لكن نتائج تحقيقات أخرى بيّنت "نضال" أسر المهاجرين من أجل تمدرس أطفالهم وخاصّة عزيمة الفتيات ومثابرتهن من أجل النّجاح في دراستهنّ، وكأنّها نفس القصّة، قصّة مقاومة نظام تمييزيّ حتى لا نقول عنصريّ، والتي جرت سابقا في وديان كاليدونيا الجديدة، وها هي تتكرّر هنا ولكن بين جدران "المدرسة الجمهوريّة" هذه المرّة.

يعرض لنا كلّ من سعيد بلڤيدوم وأليفييه بليز تجربة هجرة أخرى للجزائريّين تختلف عن الوجهة الكلاسيكيّة نحو فرنسا، وبالتّالي تجربة أخرى للاندماج في المجتمع المستقبِل. إنّها تجربة التجّار المهاجرين نحو مدينة "ييوو" الصّينيّة، هذه المدينة التي تقع في الجنوب من مدينة "شنغاي" أصبحت من أكبر أسواق الجملة في العالم والمتخصّصة في بيع السّلع ذات الحجم الصّغير (أدوات كهرومنزليّة، أدوات التّزيين، منتجات ورقيّة، أجهزة إلكترونيّة صغيرة...). فحسب المؤلّفيْن، يرجع هذا النّموّ التّجاريّ والعمرانيّ الهائل إلى تظافر ديناميكيّتين اثنتين: ديناميكيّة "ماكرويّة" للتحوّل الاقتصاديّ الصّينيّ بداية سنوات الثّمانينات نحو اقتصاد أكثر لبراليّة ثمّ الانضمام إلى منظّمة التّجارة العالميّة مطلع سنوات الألفين، وتُرجم ذلك إلى سياسات عموميّة لا-مركزيّة أكثر فأكثر، وديناميكيّة "ميكرويّة" لنشاط آلاف التّجّار والوكلاء على المستوى المحليّ والذي خلق بالموازاة أعمالا خدماتيّة مزدهرة لاستقبال الوافدين كالفنادق والمطاعم. هذه الحركيّة التّجاريّة، بأسعارها التّنافسيّة وتسهيلاتها الخدماتيّة، هي التي استقطبت رجال الأعمال والتّجار من المنطقة العربيّة ومن بينهم الجزائريّون الذين اتخذوا من مدينة "دبي" الإماراتيّة محطّة أولى لهم نحو الصّين ليربطوا فيما بعد علاقاتهم مباشرة مع مدينة "ييوو". يعود هذا الحضور الجزائري إلى نهاية سنوات التّسعينات بفضل عدد من "الرّوّاد" الأوائل من مدينة "العُلمة" بولاية سطيف ليرتفع عدد التجّار والوكلاء بعد ذلك وتتنوع أصولهم الجغرافيّة وتتزايد بالخصوص فئة الشّباب بينهم. أمّا استراتيجيّات الاندماج فهي تتوزّع بين المجالين الرّسميّ وغير الرّسميّ، لكن في كلتا الحالتين يبقى لمؤسّسة العائلة وشبكة المعارف الثّقل الأكبر لنجاح استراتيجيّات الاندماج هذه.

حول هذا الموضوع أيضا، أي استراتيجيّات الاندماج، يبرز لنا مقال خديجة عادل ونادية بلحسين-مساسي أهمية البعد الجماعاتيّ (العائلة وشبكة المعارف) ولكن هذه المرّة ليس على المستوى الخارجيّ، بل على المستوى الدّاخليّ أي فيما يتعلّق بالهجرة الدّاخليّة، وبالخصوص الهجرة نحو مدينة قسنطينة انطلاقا من منطقتي الأوراس والقبائل. وضعت الباحثتان بداية هذه الهجرة في سياق تاريخيّ أشمل يعود للفترة الاستعماريّة، خصوصا الهجرة الرّيفيّة التي أعقبت النّهب العقّاري الكولونياليّ بعد انتفاضة 1871 وكذلك خلال حرب التّحرير الوطنيّ، لكن هذه الهجرة استمرّت أيضًا بعد الاستقلال. لقد حاولتا تتبّع مسارات بعض العائلات المهاجرة واستراتيجيّات اندماجها في الفضاء الحضري لمدينة قسنطينة انطلاقا من ثلاث مؤشّرات أساسيّة هي العمل، السّكن والمصاهرة. لكن المشترك بينها جميعا يبقى قوّة الجماعة القرابيّة، فهذه الأخيرة هي التي تضمن العمل لأفرادها المهاجرين، وهي التي تضمن لهم السّكن الأوليّ ريثما يتدبّرون مسكنا لهم فيما بعد، وهي أيضا التي تضمن استمراريّتها من خلال تفضيل الزّواج الدّاخليّ، حتّى من طرف الشّباب، مع أنه لا توجد "صعوبات لعقد المصاهرة خارج الجماعة" كما تقول المؤلّفتان. إلاّ أنهما تشيران من جهة أخرى إلى استراتيجيّات جديدة للاندماج "قائمة على توافقات ثقافيّة، فكريّة، على الصّداقة..." تميل بكفّة الميزان إلى الفرد على حساب الجماعة القرابيّة، وتجعل منه "الشّخص الثّالث" الذي يحمل داخله "ولاءين اثنين ومرجعيّتين اثنتين" حسب تعبير المؤلّفتين. فهل هي بداية "العمر الثّالث" للهجرة حسب نموذج عبد المالك صيّاد للأعمار الثلاثة للهجرة؟[14]

يمكننا طرح السّؤال نفسه بالنّسبة للاّجئين الصّحراويّين بمخيّمات تندوف: هل دخلوا هم أيضًا مرحلة العمر الثّالث للهجرة مع أنّ هجرتهم كانت قسريّة وليست طوعيّة؟ هذا ما يمكننا تلمّسه ولو جزئيّا لدى قراءتنا مقال صوفي كراتيني التي اهتمت خصوصا بمؤسّسة العائلة في هذه المخيّمات. لقد بيّنت بدايةً مركزيّة العائلة الممتدّة في الحياة الاجتماعيّة للصّحراويّين في الماضي، على غرار مناطق أخرى عبر العالم، وكيف أنّ مكانة الفرد وتنشئته وأدواره محدّدة كلّها بقواعد علاقات القرابة المنسوجة حوله، وأولى هذه العلاقات علاقات النّسب الأبوي، ثمّ تأتي بعد ذلك علاقات المصاهرة سواء داخل النّسب نفسه أو مع خطوط أنساب أخرى، وهنا تبرز أهميّة وضعيّة المرأة في تعزيز الرّوابط بين المجموعات القبليّة للمجتمع التّقليديّ الصّحراويّ بانتقالها القائم على مبدأ السّكن مع عائلة الزّوج. لكن كلّ هذا النّظام الاجتماعيّ- القرابيّ تزعزع بعد 1975 "إثر الاجتياح المغربيّ للأراضي الصّحراويّة وفرار المدنيّين باتّجاه الجزائر، الوجهة الوحيدة الممكنة للّجوء"، تكتب المؤلّفة. ففي حياة المنفى والمخيّمات، وللضّرورات السّياسيّة والعسكريّة من أجل قضيّة التّحرير وبناء الدّولة الوطنيّة، لم تعد "القبليّة" أساس العقد الاجتماعيّ بين الصّحراويّين، بل على العكس أصبحت تعتبر عائقا لبناء الحسّ والهويّة الوطنّيين. ولكن هذه ليست التغيّرات الكبرى الوحيدة التي عرفها الصّحراويّون، فهناك تغيّرات خاصّة بالزّواج (منع تزويج الفتاة دون موافقتها، تغيّر قواعد إقامة الزّوجة مع عائلة الزّوج...)، كما أنّ هناك الأدوار المهمّة التي اضطرّت النّساء الصّحراويّات للقيام بها في المخيّمات بسبب غياب الرّجال في جبهات الحرب كالأعمال الخاصة بالصحة والتربية ورعاية الأطفال والشيوخ وغيرها، إضافة إلى النشاطات السياسية والإعلامية من أجل القضية الصحراوية. هذا ما نقلته لنا ص. كاراتيني في مقالها، وهي تتساءل في النّهاية عن مستقبل هؤلاء النّسوة الصّحراويّات والعائلة والمجتمع الصّحراويّين بصفة عامّة بعد وقف إطلاق النّار سنة 1991 ومشروع استفتاء تقرير المصير الذي لم ير النّور بعد.

يتناول المقال الأخير في هذا العدد هجرة الأقليّة اليهوديّة ويتتبّع مساراتها من بلدان المنشأ (شمال إفريقيا) خلال الفترة الاستعماريّة إلى البلد المستقبِل (فرنسا) بعد الاستقلال. يبيّن المؤلّف، ريتشارد أيون، كيف أنّ اندماج يهود شمال إفريقيا في المجتمع الكولونياليّ متباين من بلد مغاربيّ لآخر، وأنّ ذلك يرجع أساسا إلى طبيعة الوجود الاستعماريّ (احتلال سكانيّ أو حماية) وطول مدّته في كلّ بلد إذ "كانت فرنسا حاضرة لمدّة مائة واثنتين وثلاثين سنة في الجزائر، من 1830 إلى 1962، وخمسة وسبعين سنة في تونس من 1881 إلى 1956، وفقط أربعا و أربعين سنة في المغرب من 1912 إلى 1956". إضافة إلى هذا الوضع العام، هناك الوضعيّة القانونيّة لليهود في كلّ بلد إذ تمّ منح يهود الجزائر الجنسيّة الفرنسيّة بصفة جماعيّة سنة 1870، بينما بقي يهود تونس من رعايا الباي ويهود المغرب من رعايا السّلطان. لكن هذا الاندماج لا يرجع فقط للإطار المفروض من المستعمِر، بل يرجع كذلك إلى طبيعة استجابة أفراد الطّائفة اليهوديّة للحقوق والفرص والامتيازات التي يقدّمها هذا الإطار كالحقّ في التّعليم والعمل والانتخاب والتّقاضي، كلّ ذلك كان له أثر أكيد في ارتقاء السّلّم الاجتماعيّ، لكن من جهة أخرى كان له الأثر الأكيد أيضًا في تفكّك الثّقافة التّقليديّة اليهوديّة، وهذا ما شكّل هاجسا لحاخامات وأعيان الطّائفة اليهوديّة، خاصّة بعد هجرتهم الجماعيّة نحو فرنسا واستقرارهم بها غداة استقلال الجزائر، رغم نداء الرّئيس "بن بلّة" لهم: "ارجعوا، فمكانكم بيننا"، الذي لم يجد له صدى، يكتب ر. أيون...[15] وهناك كان عليهم مواجهة نفس الإشكاليّة التي تواجهها أيّة جماعة مهاجرة: الاندماج في المجتمع المستقبِل دون فقدان الهويّة. فقد شكلّ الدّين والأسرة ركيزتيْ هذه الهويّة اليهوديّة المهددة وأولى خطوط مقاومة انحلالها الثقافيّ.

من أجل أنثروبولوجيا ملتزمة حول الهجرات

هذه عيّنة من المقالات المنشورة في مجلّة إنسانيات حول الهجرة واللّجوء والمنفى، ولكن هناك غيرها كثير كما أشرنا إليه سابقا، مثلا حول الهجرة بين بلدان المغرب العربيّ خلال الفترة الاستعماريّة[16]، أو هجرة الأفارقة من دول السّاحل واستقرارهم في مدن الصّحراء الجزائريّة[17]، أو المسألة الدّينيّة لدى المهاجرين في إيطاليا من مدخل الموت والحياة الأخرى[18]... كلّها تقدّم لنا الأوجه المتعدّدة لظاهرة الهجرة وذلك من خلال مقاربات متعدّدة أيضا وفي إطار تخصّصات مختلفة في العلوم الإنسانيّة. نشرُ هذه المقالات في مجلّة ذات طابع أنثروبولوجيّ مهمّ جدًّا من أجل تسليط الضّوء على ظاهرة الهجرة وخاصّة من أجل "إسماع صوت المقهورين" في حقل أكاديميّ شديد التّنافس ومميّز تطبعه الهيمنة واللاّتكافؤ. لكنَّ هناك شروط أخرى، أكثر جذريّة، نرى أنّه يجب توفّرها لتجاوز هذا الوضع، أو على الأقلّ العمل على إحداث نوع من التّوازن:

فهناك أولاً ضرورة إعطاء أهميّة أكبر للمقاربة الكيفيّة في دراسات الهجرة، خاصّة المقاربتين التّاريخيّة والإثنوغرافيّة. فالأكيد أن للمقاربة الكمّيّة أهميّتها، ولكن دقّتها التّقنيّة ليست ضمانًا لـ "حيادها" المزعوم ولا تحميها من الاستغلال والتّوجيه المنحاز، هذا إضافة إلى أنّه حتّى على المستوى التّقنيّ نفسه نجد كثيرا من ظواهر الهجرة لا يمكن قياسها كميّا بدقّة، بل فقط "مقاربتها بالإحصاءات المتاحة" كالهجرة السّرّيّة مثلا، بل حتى الإحصاءات الرّسميّة للدول تثير مشاكل منهجيّة عويصة تجعل من الصّعب القيام بمقارنات دوليّة لاختلاف منهجيّة كل دولة عن الأخرى. على أنّ أكبر مَطبّات المقاربة الكمّيّة يبقى نزوعها لتشيييء أيّة ظاهرة اجتماعيّة، بما فيها ظواهر الهجرة، وإفقادها بعدها الإنسانيّ، فمثلا غرق مهاجر سرّيّ في عرض البحر هو رقم آخر في جدول سنويّ للهجرة السّرّيّة، وهجرة طبيب هي خسارة ماليّة لبلده الأصليّ ومكسب للبلد المستقبل، وعمل المهاجرين يُقدّم كسبب رئيسيّ لارتفاع نسبة بطالة المواطنين "الأصليّين"، وهكذا. وكأنّه لا توجد حياة إنسانيّة حقيقيّة خلف هذه الأرقام، أو لا توجد معاناة ومآس إنسانيّة حقيقيّة ناتجة عن الهجرة يمكن تحديد المسؤول عنها بدقّة، بل وحتّى محاسبته سياسيّا وقانونيّا. ومن هنا تكمن أهميّة المقاربة الكيفيّة لإعادة هذه الأبعاد الإنسانيّة للهجرة إلى الواجهة وخاصّة كشف علاقات الهيمنة التي تُعتبر أصل هذه الظّواهر.

يقودنا هذا العنصر إلى الشّرط الثّاني لإقامة أنثروبولوجيا ملتزمة حول الهجرات وهو ضرورة القطيعة الإبستيمولوجيّة مع الخطاب المهيمن في هذا السياق، الخطاب الذي يجعل مركز ثقله الوحيد بلدان الشّمال المتقدّمة وتناول جميع قضايا الهجرة من منظورها هي ومراعاة لمصالحها حصرياّ. لقد بيّن عبد المالك صيّاد فيما مضى كيف أنّ علاقات الهجرة هي في الأساس علاقات هيمنة، وكيف تتجلّى آثارها في حقل دراسات الهجرة نفسه، الحقل الذي يعرف وفرة وتنوّعًا في أدبيّاته "إلى حدّ التّخمة" في بلدان الاستقبال الشماليّة، بينما يبقى فقيرًا جدًّا في البلدان الأصليّة الجنوبيّة، والأسوأ من ذلك أنّه إن وجدت دراسات حول الهجرة، فهي تفتقد للاستقلاليّة وتتميّز بتبعيّتها الفكريّة للخطاب الشّماليّ المهيمن بمقولاته وأدواته التّحليليّة، بل وحتّى في اختيار مواضيع الدّراسة[19]. هذا الوضع لم يتغيّر كثيرا اليوم ويرجع ذلك بالأساس إلى أن علاقات الهيمنة بين بلدان الشّمال المتقدّم وبلدان الجنوب لم تتغيّر جوهريّا والحقل الأكاديميّ العالميّ نفسه، بما فيه الحقل الفرعيّ للدّراسات حول الهجرة الذي لا زال مطبوعًا بعلاقات الهيمنة تلك. يكفي للتّأكّد من ذلك إلقاء نظرة على عناوين الدّراسات والتّقارير والمؤتمرات، ملفّات المجلاّت ومواضيع الأطروحات، المواقع الإلكترونيّة المتخصّصة والعامّة... إضافة إلى العنصر البشريّ في البحث العلميّ إذْ نادرًا ما نجد باحثين من الجنوب قد أفلتوا من "فيروس مركزيّة الشمال" واكتسبوا "مناعة أدبيّة" ضد إغراءاته الماديّة والرّمزيّة وتناولوا قضايا مجتمعاتهم الجوهريّة، ومن بينها قضايا الهجرة، من منظور مجتمعاتهم الأصليّة.

تتطلب هذه القطيعة الإبستيمولوجيّة، الضّروريّة لبناء أنثروبولوجيا ملتزمة في حقل دراسات الهجرة، إعادة الاعتبار لشخصيّة "المثقّف الملتزم" وتعزيز قيمها وإعادة إنتاجها
في بلدان الجنوب. طبعًا هنالك شخصيّات أخرى موجودة في السّاحة: فهناك شخصيّة "الأكاديميّ" الذي ليس له من هدف سوى تنمية المعرفة العلميّة في حدّ ذاتها دون الالتفات لجوانبها التّطبيقيّة المُحتملة، ولا يأخذ بعين الاعتبار سوى آراء وأحكام "نظرائه" الأكاديميّين، وهناك على العكس "الخبير" الذي لا يؤمن سوى بالأبعاد التّقنيّة والتّطبيقيّة للمعرفة ومدى فعاليّتها لإنجاز البرامج والخطط والسّياسات العموميّة وغير العموميّة، وهناك في الأخير "الإعلامي" ذو العلاقة الوطيدة بوسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعيّ وأحد المدعوّين والحاضرين الدّائمين في الفضاء العامّ باعتباره، للمفارقة، أحد "المختصّين في كلّ المواضيع" المطروحة للنّقاش![20] كلّ هذّه الشّخصيّات موجودة وتدلي بدلوها في القضايا المتعلّقة بالهجرة، لكن إذا لم يكن لديها باراديغم مرجعيّ أو على الأقل خلفيّة فكريّة تجعل من مجتمعاتها الأصليّة نقطة ارتكاز أوليّة، فإنّها تصبح "فريسة سهلة" لمركزيّة الشّمال بل وتصبح إحدى أدواته الإديولوجيّة الفعّالة في بلدان الجنوب.

يحاول هذا العدد من دفاتر مجلة "إنسانيّات" الإسهام في بناء هذه "الأنثروبولوجيا الملتزمة" في حقل دراسات الهجرة وذلك من خلال مقالاته المختارة والمُترجَمة، وهي مقالات ذات مقاربات كيفيّة يمكن وضعها في إطار باراديغم الجنوب، ويمكن أن تكون أيضًا أرضيّة مشتركة لدراسات ونقاشات مستقبليّة بين مثقّفين ملتزمين بقضايا الجنوب.



الهوامش :

[1] Nations Unies, Déclaration de New York pour les réfugiés et les migrants, résolution adoptée par l’Assemblée générale le 19 septembre 2016, page 02.

[2] Nations Unies, Pacte mondial pour des migrations sûres, ordonnées et régulières, résolution adoptée par l’Assemblée générale le 19 décembre 2018.

[3] Ibid., p. 10-11.

[4] هذا الاهتمام المتمايز بمسائل الهجرة بين الشّمال والجنوب، أو بعبارة أدقّ هيمنة "مركزية الشّمال" في حقل دراسات الهجرة، نجده بوضوح في كتب المداخل إلى علم اجتماع الهجرة. فمثلاً، يرجع كلّ من أندريا ريا Andrea Rea وماريز تربييه Maryse Tripier، في كتابهما "سوسيولوجيّة الهجرة"، نشأة هذا الحقل إلى مدرسة شيكاغو الأمريكيّة وإلى محاولات التّأسيس الصّعبة في فرنسا، وضمن هذا الرّافد الثّاني لم تحظ مثلاً إسهامات عبد المالك صيّاد التي استمرّت لحوالي أربعين سنة سوى بصفحة واحدة ! أنظر: Rea, A, & Tripier, M. (2003). Sociologie de l’immigration. Ed. La Découverte.

لكن أثر هذه المركزيّة الشّماليّة لا يقتصر على حقل دراسات الهجرة فقط، بل يتعدّاه إلى علم الاجتماع بصفة عامّة وهناك عدّة محاولات لتشخيص وتجاوز هذا الوضع، نذكر منها مساهمة جمال غرّيد بالنسبة لعلم الاجتماع في الجزائر، زكريا خضر بالنسبة لعلم الاجتماع في العالم العربيّ، تشنغ هانغ شنغ ولي ينغ شنغ بالنسبة لعلم الاجتماع في الصّين وفالنتان نڤا ندونڤو Valentin Nga Ndongo بالنسبة لعلم الاجتماع في إفريقيا. أنظر:

زكريا خضر، نظريات سوسيولوجية. (1998). الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الفصل 11.

تشنغ هانغ شنغ ولي ينغ شنغ، (2017). تاريخ علم الاجتماع في الصين (ترجمة: رامي طوقان)، دار المستقبل الرقمي للنشر والتوزيع، بيروت،.

Guerid, D. (2013). L’entrée en sociologie – Les limites de l’universel européen, Publisud.

Nga Ndongo, V. (2015). Leçons de sociologie africaine, L’Harmattan.

[5] المنظمة الدولية للهجرة، "تقرير الهجرة في العالم لعام 2020"، ص. 21.

[6] المرجع نفسه، ص. 21-22.

[7] المرجع نفسه، ص. 33-34.

[8] نستعمل هنا مصطلح اللاجئين بشكل عام إذ يشمل في تعاريف هيئات الأمم المتحدة المختصّة اللاجئين
في بلدان أخرى، المهجّرون داخليا وطالبي اللجوء.

[9] المصدر: "تقرير الهجرة في العالم لعام 2020"، وأيضا إحصائيات هيئة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR 2020، في:https://bit.ly/37FExtg et https://bit.ly/3Lc3SJH, consulté le 13/07/2021

[10] المصدر نفسه.

[11] مثل المؤرخ ومارسيه W. Marçais .

[12] على غرار ش.- ر. آجرون C. -R. Ageron، ج. راجي J. Rager و ب. باردان B. Bardin.

[13] مثل ر. ڤاليسوR. Gallissot ، ج.- ک. فاتان J.-C. Vatin، أ. نوشي A. Nouschi و ج. مينييهG. Meynier.

[14] Sayad. A. (1977). « Les trois ‘‘âges’’ de l’émigration algérienne en France », Actes de la recherche en sciences sociales, 15(01).

[15] نشير هنا إلى أنَ ر. أيون لم يتطرق في مقاله إلى علاقة يهود الجزائر بحرب التحرير الوطني رغم أن أرضية مؤتمر الصومام قد خصصت جزءا كاملا للأقلية اليهودية، و رغم أن عددا من يهود الجزائر قد شاركوا في حرب التحرير و لو بشكل فردي. أنظر:

Front de Libération Nationale, Plate-forme de la Soummam, 1956, partie « Minorité juive ».

Le Foll-Luciani, P.-J. (2015). Les juifs algériens dans la lutte anticoloniale. Trajectoires dissidentes (1934-1965), PUR.

[16] محمد أحميان، "الطريق البحري للهجرة الريفية المغربية نحو الجزائر – خلال النصف الثاني من القرن 19 وبداية القرن 20 م"، إنسانيات، عدد 69-70.

[17] عبد القادر خليفة، مهاجرو دول الساحل في مدن الصحراء الجزائرية : من مسار عبور إلى فضاء استقرار (مدينة ورڤلة - الجزائر) ، إنسانيات، عدد 69-70.

[18] محمد خالد غزالي، أرض الميعاد في "الحياة الأخرى" : الموت وعودة الجثث إلى الوطن في تصوّر المهاجرين المسلمين في إيطاليا، إنسانيات، عدد 75-76.

[19] Abdelmalek Sayad, « Une relation de domination », in La double absence – Des illusions de l’émigré aux souffrances de l’immigré, Seuil, Paris, 1999, p. 213. A l’origine un article publié à l’Annuaire de l’Afrique du Nord, XX, 1981.

[20] استعدنا هنا بتصرف تصنيف عالم الاجتماع النقدي Jan Spurk في كتابه :Quel avenir pour la sociologie ? PUF, Paris, 2006, p. 17-22.

من أرشيف الإدارة الاستعمارية في الجزائر : الوثائق الفرنسية والهجرة إلى الديار الإسلامية

تقول القاعدة التاريخية الكلاسيكية "لا تاريخ دون وثائق"[1] ويذهب المؤرخ المغربي : عبد الله العروي أبعد من ذلك حين يؤكد "يتغير نوع الوثيقة - أي الرمز الشاهد - فيتغير مفهوم الحدث وبالتالي يتغيّر النقد والتأليف، أي تتغير ذهنية المؤرخ"[2].

عموما، كل خطاب تاريخي تتحكم فيه جملة من العوامل هي المصادر أولا، ثم الاختيارات المنهجية الصريحة أو الضمنية فالتصورات حول الإنسان والمجتمع، بين هذه العوامل علاقة عضوية واضحة.

إن ما يميز الأسطوغرافيا الاستعمارية التي عالجت تاريخ الجزائر المعاصر (1830–1954) هو ارتباطها بأرشيف الإدارة الاستعمارية، ارتباطا يجعلها تعيد إنتاج تحاليلها المختلفة وخلاصاتها العامة، هذه النتيجة نلمسها بوضوح عند قراءة الوثائق التي تتناول هجرة الجزائريين إلى الديار الإسلامية خلال الفترة 1898–1912. تشتمل هذه الوثائق على مجموعة هامة من التقارير والتحقيقات التي وضعها موظفون – على مختلف المستويات – واستخدمها المؤرخون الفرنسيون بكيفيات قررت مضمون أبحاثهم ووجهت نتائجهم.

لا شك أن التأليف التاريخي الاستعماري مليء بالأحكام المسبقة السلبية المبنية على مفاهيم لا ترتبط، ارتباطا عضويا، بالوقائع التاريخية الجزائرية، حقيقة دامغة لكن لا ينبغي أن نعتبرها حكما مطلقا نركن دائما إليه في المساجلات الفكرية مع المؤرخين الاستعماريين، مثل هذا الموقف المتخلف أخطر على مستقبل التاريخ والفكر التاريخي في بلادنا.

لا يجوز أن نستقر في موقع السجال العقيم، ننقد التاريخ الاستعماري وأحكامه، نلغيه بسبب نقائصه ونغفل ذكر رصيده المعرفي والمنهجي. ننسى أن المؤرخين الاستعماريين قد كتبوا تاريخ الجزائر بوسائل فكرية وأدوات منهجية ارتبطت بوضعية العلوم الإنسانية والتاريخ في عصرهم. إنهم – مثل المؤرخين في العالم – قد تأثروا بأصولهم الاجتماعية وبالبيئة السياسية المحيطة وبالمناخ الفكري الثقافي السائد.

ندعو إلى تجديد كتابة التاريخ وتخليصه من المسحة الاستعمارية، غير أن هذه الدعوة لا تتحقق إلا بالتنقيب عن مصادر بديلة – غير المصادر الفرنسية- وبإعادة تحليل الوقائع التاريخية اعتمادا على المناهج العلمية الحديثة.

الوثائق الفرنسية الخاصة بالهجرة إلى الديار الإسلامية

شغلت حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية، التي شهدتها الجزائر خلال الفترة 1890–1911 شـغل الإدارة الاستعمارية. ويعود ذلك إلى اعتبارات ترتبط بما أسمته هذه الإدارة "أمن المستعمرة"، لقد خشيت السلطات الفرنسية أن تكون هجرة الجزائريين سببا في انتشار الاضطرابات الثورية. "بمجرد أن تتجه الأنظار إلى الهجرة، تفقد الإدارة ثقة الأهالي وتنتشر موجات القلق،… وقد يتحول هذا القلق في بعض المقاطعات إلى حركات ثورية لا تحمد عقباها…"[3].

لذا كانت الإدارة الاستعمارية تهب، كلما ظهر خطر الهجرة، إلى اتخاذ الإجراءات الإدارية والعسكرية لتوقيفها. وتتمثل هذه الإجراءات في عدم تسليم جوازات السفر ومراقبة الحدود وتجنيد الفرق العسكرية لمتابعة من يغادرون البلاد سرا.

إلى جانب هذا العامل، كانت الدوائر الحكومية في الجزائر وفرنسا، تخشى على سمعتها لأن حركات الهجرة إلى البلاد الإسلامية كانت تترك انطباعا سيئا على الرأي العام في فرنسا والعالم الإسلامي. فهي توحي بأن "أهالي المستعمرة يئنون تحت نير الظلم والاستعباد " وبالـتالي "يجب العمل على إيقافها " وإلا "تحول المهاجرون الجزائريون – عند وصولهم – إلى دعاة معادين لفرنسا وأعداء ناقمين عليها"[4].

ولم تنظر الإدارة – وحدها – بعين القلق إلى حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية، فالمعمرون – أو أوساط واسعة منهم، - كانوا يعلنون عن غضبهم كلما انتشرت الهجرة في مدينة أو مقاطعة ما. ولنا أمثلة واضحة عن هذا الموقف، في الصحف التي كانت تصدر في المستعمرة وفي المجالس المختلفة التي كان المعمرون يشرفون عليها.

وترتبط أسباب غضب المعمرين، عموما، بمصالحهم الاقتصادية، إذْ كانت حركات الهجرة، تسبب لهم نقصا خطيرا في اليد العاملة الضرورية لتسيير مزارعهم ومؤسساتهم الاقتصادية الأخرى.

هذه العوامل كلها، هي التي دفعت السلطات الفرنسية إلى الاهتمام بظاهرة الهجرة. فخصصتها بمجموعة من التقارير والدراسات يعتبرها المؤرخون الفرنسيون مصدرا تاريخيا رئيسيا. واعتمد جل هؤلاء المؤرخين عليها في بناء تحاليلهم لحركة الهجرة إلى الديار الإسلامية.

نريد في هذه المقالة أن نركز اهتمامنا على مجموعة من التقارير التي وضعتها الإدارة الاستعمارية لدراسة ثلاث هجرات هي هجرة سكان "الشلف" سنتي 1898 و1899 وهجرة سكان "بوعريرج" سنتي 1909 و1910 ثم هجرة "تلمسان" في أواخر سنة 1911. وتوجد هذه الوثائق – حاليا – بمركز "أرشيف ما وراء البحر " بمدينة أكس الفرنسية، في علب تحمل الأرقام التالية: (3H 63 و9H 61 و9H03 و9H 04 و9H 05 و9H 106).

لاشك أن هذه التقارير تحتوي على معلومات هامة لا يمكن أن يستغني عنها الباحث، لأن أصحابها كتبوها من مواقع رسمية وانتقلوا إلى المناطق التي وقعت بها الهجرة وعاينوا أوضاع سكانها… إلا أن النتائج التي توصلوا إليها كانت في الواقع، غير سليمة.

وقد قسمنا هذه التقارير، من حيث نتائجها إلى قسمين:

أولا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي

ثانيا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الجديد.

التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي :

لأصحاب هذا التقارير قاسم مشترك، فانهم يرجعون الهجرة إلى الديار الإسلامية، إلى عوامل وأسباب لا ترتبط بواقع النظام الاستعماري كما أنهم ينفون مسؤولية الإدارة الاستعمارية – وهم أطراف فيها – في وقوع حركات الهجرة. وتنقسم هذه التقارير بدورها إلى ثلاثة أصناف :

التقارير التي تعزو الهجرة إلى "الدعاية العثمانية"

نجد هذه الأطروحة في عدد من التقارير والدراسات أهمها التقرير الذي كتبه مدير مصلحه "شؤون الأهالي" (LUCIANI) عقب الهجرة التي عمت الجالية الجزائرية في تونس ثم انتـشرت إلى مقاطعتي "المدية والشلف"[5] سنتي 1898 –1899. يعتبر السيد "لوسياني" ما أسماه بـ "الدعاية العثمانية" تارة و"التحريض الأجنبي" تارة أخرى، السبب الرئيسي في هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام، إذ يقول: "هدفت هذه الدعاية العثمانية إلى إثارة الشعور الديني لدى مسلمي المستعمرات وخاصة المستعمرات الفرنسية"[6] وفي نظره، فعلت هذه الدعاية فعلها لأنها انتقلت عبر قنوات مختلفة هي :

* الصحف التي تصدر في الأقاليم العثمانية مثل "المعلومات" (الإستانة) و"ثمرة الفنون" (بيروت) و"الإسلام " (الإسكندرية) ويؤكد أن هذه الصحف كانت تصل إلى الجزائر بسهولة إذ أنه "حصل على عدد كبير منها دون صعوبة تذكر" [7].

وعلى حد زعمه، دعت هذه الصحف مسلمي الجزائر والمستعمرات الأخرى إلى مغادرة أوطـانهم والتوجه إلى الأقاليم العثمانية في الشرق الأدنى بهدف الاستقرار فيها.كما أنها نشـرت "رسائل بعض المغاربة المقيمين بالشام يناشدون فيها إخوانهم في الجزائر إلى الهجرة قصد التخلص من الحكم الأروبي المسيحي والإقامة في ظل الحكم العثماني الإسلامي".

* وإلى جانب الصحف انتشرت الدعاية العثمانية على يد تجار وجواسيس كانوا يعملون لصالح الدولة العثمانية. وعند إقامتهم بالجزائر، تحدث هؤلاء التجار والجواسيس كثيرا عن "الحـفاوة والمساعدات المختلفة التي كان يتلقاها المهاجرون من قبل المصالح الإدارية العثمانية: أراضي، مساكن وأموال"[8].

وفي الأخير، يخلص مدير "الشؤون الأهلية" إلى النتيجة التي توقعها منذ البداية وهي "أن الـدعاية العثمانية وحدها – تكفي لتفسير حركات الهجرة التي تشهدها الجزائر من حين لآخر. "فلا يجوز، في اعتقاده، أن نبحث عن أسباب أخرى ولا يعقل أن نحمّل الإدارة الاستعمارية مسؤولية وقوعها."

في الواقع، يضخم السيد "لوسياني" دور الدعاية العثمانية، فالمؤرخ الموضوعي، يعلم أن العوامل الخارجية – مهما كانت أهميتها – لا تؤثر إلا إذا استندت على العوامل الداخلية التي تشكل الأرضية الفعالة في حركة الأحداث التاريخية.

إنه يرتكب خطأ كبيرا حين يفصل بين عامل "الدعاية" والواقع الاستعماري الذي يشكل مصدر غضب الجزائريين عامة والمهاجرين على الخصوص. أضف إلى ذلك، أن التجار والجواسيس الذين شغلوا عقل السيد لوسياني، لم تعثر الإدارة على أحد منهم.

لا يعني قولنا هذا، أننا ننفي وجود شعور قوي يدفع الجزائريين خلال هذه الفترة، إلى التـطلع إلى الدولة العثمانية. وقد يعود هذا الشعور على حد تعبير "لوسياني" إلى العامل الديني "الذي يجمع بين المسلمين في المشرق والمغرب، غير أننا لا نشاطره الرأي حين "يعتبر الشعور الإسلامي مجرد عامل نفسي لا يحتوي على أبعاد سياسية واضحة"[9].

وفي الحقيقة، اتجه الرأي العام الجزائري خلال الفترة 1880 – 1918 نحو الدولة العثمانية لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى هي :

* كانت الدولة العثمانية الدولة "الإسلامية" الوحيدة التي وقفت في وجه الدول الأوروبية وتصدت لنواياها الاستعمارية وإن كانت على حالة خطيرة من الضعف.

* كان النظام العثماني، باعتباره نظاما "إسلاميا" مستقلا، يرمز في الحقيقة إلى النقيض للنظام الرأسمالي الاستعماري الذي كان يخضع له الجزائريون. وهذا الواقع، نستشفه من دراسة الأدب الشعبي (الشعر الملحون) الذي ازدهر خلال هذه الفترة. فكان الشعراء يكتبون القصائد للتغني بأمجاد السلطان العثماني. ولمقاومة ظاهرة اليأس التي عمت قطاعا كبيرا من الرأي العام الجزائري بسبب فشل المقومات الشعبية المسلحة، أنتج الشعر الملحون صورة "خلافة عثمانية جبارة" تعد العدّة لتحرير المستعمرات.

التقارير التي تعزوا الهجرة إلى أسباب عرقية

في 28 أكتوبر 1911، كتب "السيد صاباتيي" (SABATIER): العضو في المجلس العام لعمالة وهران، تقريرا عن هجرة تلمسان[10] أخلص فيه إلى أن غالبية العائلات التي هاجرت، كانت تنتمي إلى "الطائفة الكرغلية". فيقول: " تمكنت مصالح البلدية من وضع قائمة بأسماء المهاجرين. إن ما يلفت الانتباه في هذه القائمة هي أنها تتكون من 508 اسما من أصل تركي"[11].

وفي اعتقاده، أن السبب الذي دفع الأقلية الكرغلية إلى الهجرة، هو اعتزازها بأصلها التركي ومكانتها الاجتماعية الخاصة. فهي تعيش في أحياء خاصة بها، لا تريد الاختلاط بـ "الحضر" الذين ينتمون إلى الأصل العربي أو الأصل البربري. إنها تتفاخر بتقاليدها التركية وعاداتها التي تميزها عن باقي سكان المدينة.

ويخلص السيد "صاباتيي" إلى النتيجة التالية: "أن الكراغلة يعتبرون تركيا وطنهم الحقيقي… أما الجزائر فهي – في نظرهم – أرض هجرة لا غير"[12] و يتابع قائلا :"تقيم العائلات الكرغلية في تلمسان علاقات مستمرة مع الوطن الأم. فهي تتابع عن كثب أحداث تركيا السياسية والاجتماعية وتتأثر لها. فحين قامت الحرب بين الباب العالي واليونان، اهتزت قلوب الكراغلة وقوى اعتزازهم وزاد اهتمامهم[13] لا ينكر السيد "صاباتي" أن الهجرة قد مست الفئات الأخرى التي تسكن المدينة أو ضواحيها، لكنه يؤكد أن "الهجرة كانت في الحقيقة هجرة الكراغلة بالدرجة الأولى" أما انتشارها إلى بقية السكان فيعود -أساسا- إلى قرار الحكومة الفرنسية الخاص بتطبيق قانون الخدمة العسكرية الإجبارية على الشبان الجزائريين.

وفي نفس السياق، نشير إلى أن اللجنة التي عينتها الولاية العامة للتحقيق في أسباب هجرة سنة 1911، تعتبر هي كذلك، قرار التجنيد "الإجباري سببا رئيسيا للهجرة، فهي تنفي وجود علاقة سببية بين النظام الإستعماري والهجرة. "لا يمكن أن يكون قانون الأهالي وقانون الغابات والمنافسة التجارية والصناعية وحالة الفقر وتصرفات الموظفين أسبابا لحركة الهجرة"[14].

من السهل على الباحث أن يفكك مواطن الضعف والتشويه التي يتضمنها التحليل العرقي، أو حسبنا أن نشير، بإيجاز، إلى أهمها :

* لم يتجه مهاجرو سنة 1911 إلى تركيا بالذات، لكنهم اتجهوا إلى بلاد الشام باعتبارها إقليما عثمانيا لا تركيا، وفي دمشق، استقر المهاجرون في "حارة المغاربة" إلى جانب من سبقهم من المهاجرين الجزائريين الآخرين.

* عرفت مدينة تلمسان هجرات سابقة (سنة 1891، سنة 1901 وسنة 1904) مست هي كذلك العائلات الكرغلية. واختار المهاجرون خلال هذه الفترة، المغرب الأقصى ومصر وليبيا باعتبارها أقاليم إسلامية مستقلة، للاستقرار فيها.

* لا يستند السيد "صاباتي" إلى أدلة تاريخية قاطعة تثبت أن الكراغلة كانوا يعتبرون أنفسهم أتراكا، لا جزائريين.

الهجرة : ثورة الماضي على الحاضر

يحتوي التقرير الذي تقدم به "و.مارسيه" (W.MARCAIS) المدير السابق لمدرسة تلمسان العربية-الفرنسية، إلى لجنة التحقيق، على أطروحة تهدف إلى "توضيح الأبعاد الرئيسية للهجرة".

يرى "مارسي" في تقريره أن الهجرة: "حركة تميّز المجتمعات الحضرية التقليدية" فالمهاجرون، في نظره هم "من أشد الناس تمسكا بالماضي وأكثرهم محافظة على تقاليد الحياة التي تعود إلى القرن الخامس عشر : عصر ازدهار المدنية التلمسانية"[15].

إن التغني بالسلف والحنين إلى الماضي "خلق في نفوس سكان المدينة ومسلمي شمال إفريقيا عامة روحا تتميز بالعداء الشديد للتقدم والتجديد" ويتابع قوله "إن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الحقيقة سعي يائس وراء الماضي" بل ردة على الحاضر والمستقبل.

ويعزو السيد "مارسي" هذه النزعة الماضوية" إلى "العقلية الإسلامية" والتي تعتبر كل جديد بدعة ضالة غريبة في جسم المجتمع الإسلامي الفاضل، ويأتي عامل التعصب الديني في المرتبة الثانية إذ من أصل 637 مهاجر، كان 526 منهم ينتمون إلى الطريقة الدرقاوية التي تشرف عليها عائلة الشيخ ابن يلس [16] ما من شك، أن هذا التقرير يحتوي على معلومات قيمة لا يجوز اغفالها، لكن نتائجه في مجملها خاطئة.

يعتبر "مارسيه" الهجرة ثورة الماضي، الذي ترمز له الحضارة العربية الإسلامية، على الحاضر الذي يرمز له النظام الاستعماري في الجزائر. وأبعد من ذلك، فإن "مارسيه" يعتقد أن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الواقع ردة يائسة ضد زحف التقدم والحضارة الغربية.

وفي الواقع، لا يمكن أن نساند "التفسير الماضوي" لأن صاحبه أغفل إدراج حقائق هامة كانت تميز المجتمع الجزائري خلال الفترة 1900-1918 وقد أشار إليها شهود عيان ومؤرخون.

لقد كان المجتمع الجزائري –في المدن خاصة- يشهد ابتداء من مطلع القرن العشرين تحولا هاما يدل دلالة قاطعة على أن سكان المدن، لم يكونوا ينفرون من التقدم والتجديد، بل من الواقع الاستعمارى المرير. ففي هذا الصدد، كتب المثقف الجزائري "ابن علي فخار" الذي عاصر الأحداث، مقالا سنة 1908 يصف فيه هذا التحول قائلا : "منذ عشرين سنة خلت، والـوسط الجزائري بمدينة تلمسان يتأثر بحياة العصر. فهو ينتقل تدريجيا من النمط الاجتماعي التقلـيدي إلى نمط حياة معاصرة.."[17] وترسم صحيفة "الحق الوهراني" التي كانت تصدر سنتي 1911-1912 صورة تختلف عن الصورة التي جاء بها "مارسي" في تقريره إذ تقول: "يعتبر المثقف التلمساني نموذجا حيا لحركة النهضة التي يشهدها الوسط الجزائري في المستعمرة. وإذا كان الشباب يضطر إلى الهجرة ومغادرة الوطن، فذلك بفعل القوانين الاستعمارية الجائرة"[18].

لا يتسع المجال لذكر شهادات أخرى، بل نكتفي بالإشارة إلى رأي المؤرخ "آجرون" تضم مدينة تلمسان عددا هاما من الشباب المتطور يقرأون ويكتبون بلغتنا الفرنسية ومنهم من يحمل شهادات عليا"[19].

وأخيرا، إذا كان المهاجرون يتوجهون نحو بلاد الشام، فلم يكن ذلك، بدافع الهروب من التقدم والحضارة لأن المدن السورية كانت خلال هذه الفترة، تشهد نهضة ثقافية واقتصادية ترمز إلى الدعوة إلى التمدن والأخذ بأسباب التطور والإصلاح.

التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الحديث

تعزو هذه الوثائق الهجرة إلى عامل الفقر الذي كانت تعانيه الجماهير الجزائرية في المدن والأرياف. وقد تبنى غالبية المؤرخين الفرنسيين المعاصرين هذا التفسير، فكانت مؤلفاتهم نقدا عنيفا لأعمال الإدارة الفرنسية في الجزائر.

وحمل هؤلاء على الإدارة الاستعمارية لأنها كانت – في نظرهم – ترفض العمل على تخفيف وطأة الفقر وإزالة أسباب الحرمان الاقتصادي في المستعمرة. فلو انتهجت هذه الإدارة سيـاسة إصلاح اقتصادي لما ظهر الغضب في أوساط " الأهالي" لأن هؤلاء لا يقاومون الوجود الفرنسي بل تصرفات الموظفين وكبار المعمرين الذين يستغلونهم توجد بوادر هذه "الأطروحة الاقتصادوية" في التقرير الذي كتبه الأمين العام للولاية العامة. "فارنيي (Varnier) سنة 1910، على أثر هجرة سكان مقاطعة "بوعريرج" بناحية سطيف. يقول "فارنيي": "إن هجرة الأهالي تعود، جملة وتفصيلا ، إلى الأزمة الاقتصادية التي شهدتها مقاطعة سطيف"[20] ثم يذكر عواملها.

- اجتياح الجراد الذي أتلف المحصول الزراعي خلال الفترة 1908-1910.

- الضرائب الثقيلة التي كان يدفعها السكان للإدارة.

- تنازل الفلاحين عن أملاكهم، وماشيتهم لصالح المعمرين وبعض التجار الجشعين.

- إلى جانب هذه العوامل، يعتبر "فارنيي" قانون التجنيد الإجباري بمثابة "قطرة الماء التي أطفحت الإناء" فساد القرى جو من اليأس دفع سكانها إلى مغادرة أراضيهم والهجرة إلى الشام.

- في دراسته لحركات الهجرة، يعتمد الأستاذ "آجرون" على نفس التحليل مستندا في ذلك، على الشهادات التي وردت في بعض الوثائق مثل تقرير "فارنيي" وتقرير "باربودات" وفي بعض المقالات التي صدرت عن الصحف مثل "لاديباس دي كنستنتين" و"ايكو دوران" وغيرهما.

لا يستطيع الباحث أن ينفي، في تحليله للمقاومة المناهضة للاستعمار، أثر العوامل الاقتصادية، لكن، لا يجوز له أن يوقف هذا التحليل عليها لأن دعاة "التفسير الاقتصادوي" يهدفون من وراء ذلك، إلى إنكار الطابع الوطني لهذه المقاومة.

فالأسباب الاقتصادية هي، في الواقع، جزء من كل والكل هو الوجود الفرنسي باعتباره وجودا استعماريا ينفي للشعب الجزائري حقه في تأسيس دولته الوطنية. إن هذه الفكرة هي التي كانت أساس "التفسير الاقتصادوي" " لا توجد هناك، ثوابت تاريخية تدفع الأهالي إلى تـأسيس دولة وطنية… أبدا، لم تكن الجزائر أرضا تكونت فيها شخصية وطنية ولغة مشتركة وثقافة جماعية… فقد كانت دائما بلدا معرضا للغزو والفتوحات، يخضع لمختلف التيارات الفكرية والحضارية… فهي – حتما – أرض مهيأة لأن تكون ملكا لفرنسا"[21].

في الختام، نريد الوصول إلى النتائج التالية :

أولا

إن عددا من الباحثين الفرنسيين الذين درسوا حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية قد بنوا تحاليلهم المختلفة على أساس النتائج التي وردت في وثائق الإدارة الاستعمارية.

فالباحث ج ج"راجي" يبني تفسيره للهجرة على "العامل النفسي". وقد تأثر في كتابه "المسـلمون الجزائريون في فرنسا والبلاد الإسلامية"[22] بالوثائق الإدارية التي تعزو الهجرة إلى "الدعاية العثمانية".

أما الباحث ب "باردين" فإنه أرجع سبب الهجرة إلى العامل العرقي. وهو يستشهد في كتابه "الجزائريون والتونسيون في الإمبراطورية العثمانية" [23] بفقرات مطولة من تقرير "صاباتي".

ويعزو المؤرخ "آجرون" الهجرة إلى الفقر، إذ يستشهد بالوثائق الإدارية التي تتضمن هذا التفسير كتقرير "فارنيي".

ثانيا

نكتفي بذكر هذه الأسماء، لأن القائمة قد تطول، غير أنه لا يجوز أن نعتبر كل المؤرخين الفرنسيين ينتمون إلى المدرسة الاستعمارية بوجهيها القديم والحديث. بل فيهم من يبحث في تاريخ بلدنا بروح موضوعية ومناهج علمية (رونيه قاليسو، ج.ب. فاتين، أ.نوشي وغيرهم…)

أشير، على الخصوص، إلى الأستاذ "ج. مينيه" الذي كتب أطروحة هامة عنوانها "الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين" [24] انتقد فيها نتائج المدرسة الاستعمارية الحديثة.

ثالثا

لا يتم تجديد الدراسات التاريخية في بلادنا إلا إذا اعتمدنا على مصادر محلية غير المصادر الفرنسية. وبشأن الهجرة إلى الديار الإسلامية، يجب أن تتجه أنظارنا إلى أرشيف الإدارة العثمانية والقضاء الشرعي في الشام وأرشيف مصر الخاص بالمهاجرين المغاربة. كما يجب أن نجمع شهادات العائلات الجزائرية التي هاجرت ثم عادت إلى أرض الوطن قبل أو بعد الاستقلال.

يساعدنا هذا الصنف من الوثائق على دراسة الهجرة دراسة علمية قائمة على إشكالية وطنية بعيدة عن الإشكالية الاستعمارية التي تميّز قسما من المدرسة التاريخية الفرنسية.

بيبليوغرافيا

Archives

Aix En Provence : archives d’Outre-mer

9h60 : Recensements des indigènes (textes - circulaires : 1901 – 1909)

9h61 : Etudes sur le recrutement des indigènes : 1907 – 1911.

9h63 : Recrutement des indigènes : 1911 – 1912.

9h98 : Emigration des tribus et des familles : 1864 – 1874.

9h99 : Emigration en Tunisie : 1899 – 1900.

9h103 : Emigration en Proche-Orient : 1882 – 1897.

9h104 : Rapport Varnier : 1900 – 1910.

9h105 : Emigration en Syrie : 1911 – 1918.

9h106 : Emigration en Syrie : 1910.

Archives de la wilaya d’Oran

Conseil Général d’Oran : 1911 : Rapport Sabatier

Presse : Echo d’Oran – El Hack-Oranais -

Gouvernement général d’Algérie

Exode de Tlemcen : rapport de la commission Barbedette – Alger, 1914.

Ouvrages

Ageron, C.-A. (1968). Les algériens musulmans et la France .T1 et T2. PUF.

Bardin, B. (1979). Algériens et Tunisiens dans l’empire ottoman : 1848 – 1914. Paris.

Melia, J. (1919). La France et l’Algérie. Paris.

Meynier, G. (1979). L’Algérie relevée. Thèse d’état.- Nice.

Rager, J.-J. (1950). Les musulmans algériens en France et dans les pays islamiques. Paris.

Vatin, J.-C. (1974). L’Algérie politique : histoire et société. Paris.

Revues

Fekar, B. (1908). La société musulmane de Tlemcen. Revue du Monde musulman. Paris.

Marchand, H. (1912). L’exode des musulmans algériens. Questions diplomatiques et coloniales. Paris.

ابن شنب س، (1971). الخدمة العسكرية الاجبارية والرفض الأخير. مجلة الثقافة. الجزائر.

العروي عبد الله، (1994). مجمل تاريخ المغرب. بيروت.

العروي عبد الله، (1992). مفهوم التاريخ. بيروت.



الهوامش : 

[1] لا تاريخ دون وثائق "قاعدة المدرسة المنهجية الألمانية رددها المؤرخان الفرنسيان "لانقلوا" و"سينبوس" في كتابهما" مدخل إلى العلوم التاريخية" باريس 1898 (بالفرنسية)، إن هذه القاعدة المنهجية صحيحة لكن لا يجوز أن نحصر" الوثيقة التاريخية" في المصادر الرسمية على نحو ما يتصوره المؤرخون الوضعانـيون. إن مفهوم "الوثيقة" في علم التاريخ أشمل من ذلك إذ يؤكد مؤسس مدرسة "الحوليات": لوسيان فيبر "لاشك أن التاريخ يكتب إعتمادا على الوثائق المكتوبة إن وجدت، لكن يمكن بل يجب أن يكتب على ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه، أن يستنبطه من أي مصدر: من المفردات والرموز، من المناظر الطبيعية ومن تركيب الأجر، من أشكال المزارع ومن الأعشاب الطفيلية، من خسوفات القمر ومن مقارن الثيران، من فحوص العالم الجيولوجي للاحجار ومن تحـليلات الكيميائي للسيوف الحديدية "(نقلا عن : ع، العروى : مفهوم التاريخ ص. 428) تستغل هذه المقولة لغرضين: أولا لتفنيد نظرية أنصار التاريخ التقليدي الذين يقرون باستمرار أن لا تاريخ دون وثائق مكتوبة" وثانيا للدفاع عن "التناهج" : أي التعاون العضوي بين التخصصات المختلفة.

[2] العروى، عبد الله.- مفهوم التاريخ. – ج 1.- ص. 8.

[3] أكس: أرشيف ما وراء البحر: علبة 9 H 98 : تقرير رقم 705.

[4] أكس ك علبة9H 98 ك تقرير رقم 38.

[5] هجرة واسعة مست في البداية الجالية الجزائرية المقيمة بتونس عند نهاية سنة 1898، استقر هؤلاء الجزائريون (عددهم 800 مهاجرا) على أراضي منحتها الحكومة العثمانية لهم على إثر المساعي التي قامت بها أسرة الأمير عبد القادر والمكتب العربي للهجرة. انتشر خبر هذه الهجرة إلى مقاطعة الأصنام إذ قدم 436 جزائرى طلبا للـهجرة إلى مصالح العمالة، وفي عمالة وهران، تقدمت أسر جزائرية (منها ستون من دائرة معسكر) بـنفس الطلب إلى مصالح العمالة، وتمكنت أسر جزائرية أخرى – لا نعرف عددها – من دائرة المدية من مغادرة المستعمرة خفية وتوجهت إلى بلاد الشام.

[6] أكس – علبة 9 h 99 – تقرير "لوسياني".

[7] أكس – علبة 9 h 99 - - تقرير "لوسياني".

[8] أكس : علبة 9 h 99 : تقرير لوسياني.

[9] أكس: علبة 9h 99: تقرير لوسياني.

[10] بدأت هجرة تلمسان في جوان 1911 وكان المهاجرون يغادرون البلاد سرا، وفي شهر أكتوبر، بلغت حركة الهجرة ذروتها إذ عمت سكان المدينة والمقاطعة، تراوح عدد المهاجرين بين 3000 نسمة حسب جريدة La dépêche algérienne و1800 نسمة حسب جريدة "الحق الوهراني" و1200 نسمة حسب جريدة ECHO d'Oran .

[11] أرشيف ولاية وهران: المجلس العام للعمالة: جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[12] أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[13] أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[14] الولاية العامة للجزائر : هجرة تلمسان-الجزائر: 1914- ص. 30 (بالفرنسية).

[15] أكس : أرشيف ما وراء البحر : علبة 9h105 : تقرير : مارسكيه.

[16] تقرير مارسي.

[17] مجلّة العالم الاسلامي.- عدد 6، سنة 108 (بالفرنسية).

[18] جريدة الحق الوهراني.- عدد 2 (أرشيف ولاية وهران).

[19] ش. أ. آجرون.- المسلمون الجزائريون وفرنسا.- ج.2 .- ص. 1086 (بالفرنسية).

[20] أكس: أرشيف ما وراء البحر.- علبة 9H104 تقرير فارنيي.

شملت هذه الهجرة فلاحي بلدية عين تاغروت بدائرة سطيف عام 1910. لقد هاجر 576 فلاحا تضرر من الجفاف والجراد الذي أصاب محصولهم الزراعي خلال موسمي 1909 و1910، فاضطر الفلاحون الفقراء إلى بيع ماشيهم والتنازل عن أراضيهم لصالح المعمرين وبعض الأثرياء الجزائريين. إلى جانب الفواجع الطبيعية، عانى هؤلاء الفلاحون من الجباية الثقيلة واستاءوا من قرار الخدمة العسكرية الإجبارية… فتواجهوا -سرا- إلى الشام عن طريق الحدود التونسية الجزائرية.

[21] ميليا، ج. - الجزائر وفرنسا (بالفرنسية).- باريس، 1918.- ص. 46.

[22] راجي، ج.-ج.- المسلمون الجزائريون في فرنسا والبلاد الإسلامية (بالفرنسية).- باريس، 1950.

[23] باردين، ب..- الجزائريون والتونسيون في الإمبراطورية العثمانية 1848 – 1914 (بالفرنسية).- باريس، 1979.

[24] مينيه، ج.- الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين.- أطروحة دكتوراه الدولة.- نيس، 1979.

المنفيّون المغاربيون في كاليدونيا الجديدة

على القارئ الذي يريد فهم تاريخ جزائريّي كاليدونيا الجديدة أن يأخذ بعين الاعتبار التاريخ الثقافيّ، السياسيّ والدينيّ للجزائر، وبالخصوص تاريخ موجة التّهجير الكبيرة نهاية القرن التّاسع عشر. ففيما يخصّ هذه الفترة المنسيّة، لا يوجد شيء دقيق يسمح للقارئ المعاصر أن يكوّن فكرة حول الوقائع التاريخيّة، حتى وإن وجدنا عددا من الطّقوس الاجتماعيّة ذات الأصل العربيّ-البربريّ في منطقة "بوراي" Bourail. لا يلحظ الزائر لهذه المنطقة، على الأرجح، التّنظيم التّقليديّ الذي تمّ إنشاؤه في هذه الوديان، وبما أنّه غير مرئيّ مباشرة، تطلّب الأمر قضاء سنوات عديدة في هذا الإقليم من أجل إبراز دلالته ومضمونه الاجتماعيّ من خلال عملية غرس النّخيل، طقوسها، مكانتها المقدّسة ومبادئ التّضامن التي كانت الأساس في تكوين "جماعة" قديمة. لم يتمكّن القمع المعنويّ (بالإدماج أو تغيير الّديانة) أو القمع الجسديّ (التّعذيب والوحشية) من تشكيل قاعدة للمنهج الكولونياليّ للاندماج. لقد تمثّلت الرّسالة الموروثة عن الأسلاف لـ "دار الحاج" (وهي عبارة احتقاريّة استعملت خلال الفترة الكولونياليّة لوصف القادة المقاومين) في إعادة تنظيم العدد الكبير للكاليدونيّين أحفاد الجزائريّين والمتضامنين على أساس تجمعّ ثقافيّ ودينيّ حول الشّيخ "سيدي مولاي". 

العقوبة المسلّطة كظاهرة كولونياليّة

اتّخذ المحامي من أصل إسرائيليّ أدولف إسحاق كريميو، المقيّد في سجلّ محاماة "نيم" Nîmes وحافظ الأختام في حكومة 04 سبتمبر، قرارا في سنة 1870 يمنح بموجبه يهود الجزائر صفة المواطن الفرنسيّ. لقد أدارت هذه السّياسة ظهرها تماما لـمشروع "المملكة العربيّة" Royaume Arabe لنابوليون الثّالث. فعندما نعلم حجم العلاقات التّجارية القديمة بين الجماعات الموجودة آنذاك، نفهم كيف أنّ الحصول على الجنسيّة الفرنسيّة من طرف البعض (الأهالي اليهود) على حساب البعض الآخر (الأهالي المسلمين) جعل ثورة القبائل الجزائريّة الكبرى أمرًا محتوماً. لقد أعلن نابوليون الثّالث الحرب على بروسيا سنة من قبل، ولكن يبدو أن حكومة الدّفاع الوطنيّ لم تقرّر إطلاقا القتال ضدّ البروسيّين. وأمام انتهاك المكانة العائلية الجماعيّة، تكوّن قطب على أساس تضامني رفض الاعتراف بالقادة الجدد لحكومة الدّفاع الوطني إذ رفضت كتيبة الـ "سباهي" spahis بالجزائر ركوب البحر باتّجاه فرنسا في شهر ديسمبر 1870. وفي أفريل 1871 تزعّم الشّيخ المقرانيّ الثّورة ولكنه [قُتل في المعركة يوم 05 ماي 1871].

تمّ استبدال إمبراطوريّة نابوليون الثّالث بالجمهوريّة في 04 سبتمبر 1870 وتمّ تشكيل حكومة دفاع وطنيّ. لقد نُصّبت محاكم خاصّة مزيّفة سُمّيت بـ "مجالس الحرب" في القطاعات الثّلاث (الجزائر، قسنطينة، وهران) من أجل محاكمة ما اعتبر انتهاكات أثناء فترة الثّورة. لقد أعطيت للائحة اتّهام الثّوّار عدّة تأويلات. فبما أنّه قد تقرّر أن من غير الممكن المساواة في التعامل مع المجموعات المختلفة، تمّ توجيه الاتّهام نفسه لـ 213 فردا بما فيهم "كبار القادة". ومن أجل تشويه صورة المتّهمين لدى هيئة المحكمة، قامت النّيابة العامّة بتقديم هؤلاء الثّوار كمجرمين عاديّين، زعماء قتلة، مشعلي نيران، ناهبين وسارقين. لقد استغلّت جريدة جديدة تسمّى "المبشّر" نظرة سلبيّة كليًّا للوطنيّة العربيّة النّاشئة وللدّين الإسلاميّ ووجّهت الدّعاية ضدّ الثّوار الذين وصفوا بقطّاع الطّرق، القتلة والمتمرّدين.

تستحقّ إدانة الشيخ بومزراق الذّكر، وهو الذي خلف أخاه المقرانيّ بعد وفاته في المعركة على رأس ثورة 1871، لأنّ محاكمة هذا القائد أثارت زوبعة كبيرة. لقد أدّى في الواقع هذا الحكم الجائر إلى ردّة فعل لدى رجال القانون الفرنسيّين إذ أبدى البعض منهم معارضتهم القاطعة مبيّنين أنّ إدانته تمّت حتّى قبل مثوله أمام المحكمة، لكن رغم ذلك فقد اعتُبر مذنبًا وحُكم عليه بالنّفي مع الثّوار الآخرين الذين وُجّهوا نحو فرنسا واعتقلوا في الموانئ السّاحليّة (حصن تولونToulon ، جزيرة بوركرول Porquerolles، جزيرة سان مارغريت Saint Marguerite، حصن سان-مارتان-دي-ريSaint-Martin-de-Ré ، حصن برستBrest ، في كورسيكا Corse بـكالفي Calvi وكورتCorte ).

نفي المغاربيين إلى كاليدونيا الجديدة

لقد تضرّر عدد من الوثائق الخاصّة بالنّفي سواء في فرنسا (خلال الحرب العالميّة الثّانية) أو في كاليدونيا الجديدة (الفيضانات). ومن أجل تحديد المنفيّين السّياسيّين من أصل مغاربيّ، بدا لنا أنّه من الضّروريّ القيام بمقارنة بين سجلات النّفي وسجلات أمكنة الاحتجاز انطلاقا من مصادر أرشيفيّة مختلفة. من جهة أخرى، وبسبب طول فترة صدور أحكام مجالس الحرب والمحاكم، كان على المنفيّين الانتظار طويلا قبل ركوبهم في قوافل بحريّة نحو كاليدونيا الجديدة. لهذا كان يُحبس هؤلاء المساجين في مخازن أو أماكن احتجاز قبل مغادرتهم النهائيّة. لقد استطعنا لحسن الحظّ، من خلال أرشيف أماكن الاحتجاز على الخصوص، إعداد قائمة لأصول وتواريخ ميلاد المحكومين المغاربيون وكذا تواريخ ركوبهم في كل قافلة بحريّة نحو كاليدونيا الجديدة[1].

من النّاحية الكرونولوجيّة، انطلقت أولى القوافل البحريّة للمُرحّلين المغاربيون نحو كاليدونيا الجديدة ابتداءا من 1867. لقد أحصينا ما مجموعه 178 محكوما حسب القانون العام. لقد كان هؤلاء المنفيّون الأوائل جزءا من انتفاضة أولاد سيد الشّيخ سنة 1864. حدّدنا بعد ذلك عدد المنفيّين السّياسيّين بعد انتفاضة منطقة القبائل سنة 1871 وانتفاضة "العمري" (بسكرة) سنة 1876: 120 راكبا في القوافل البحريّة من 1874 إلى 1878. لقد تمّ تطبيق قانون 23 مارس 1872 على هؤلاء المتمرّدين السّياسيّين، القانون الخاصّ بمتمرّدي "كومونة باريس" سنة 1871، وحُكم عليهم بالأشغال الشّاقة أو العزل. نقلت قوافل أخرى منفيّين سياسيّين جددًا بعد انتفاضة الجنوب الوهرانيّ 1881-1882 (بوعمامة مرة أخرى، فرقتي "الغرابة" و"الشّراقة") وكوّنوا ما مجموعه 13 راكبا في القوافل اللاّحقة بين 1881 و1882. بعد ذلك تمّ ترحيل 12 تونسيّا بين 1890 و 1892 بعد انتفاضة الجنوب التونسي (الجريد/طبرقة) سنة 1881، من بينهم من وُلد أو بقي في الجزائر خلال الموجة الثّوريّة لـ 1871. علاوة على ذلك، يجب الإشارة في هذا السّياق أنّ الجنوب الجزائريّ لعب دورا متزايدا انطلاقا من الجريد التّونسيّ. فعند محاكمتهم تحت طائلة القانون العامّ من طرف مجلس حرب تونس ومحكمة تونس، كانت الدوافع الرئيسية لإدانتهم هي رفض السّلطة الفرنسيّة والعصيان. لقد تبعت قوافل أخرى لنفي التّونسيّين، لكن الأرشيف يشير في الواقع إلى عدد من المساجين الجزائريّين المُوجّهين إلى السّجن الكاليدونيّ وهؤلاء كانوا مُسجّلين كنزلاء تحت أرقام الاعتقال التّسلسليّة. لقد كانوا جزءا من القوافل الأخيرة بين 1887 و1895 [2] .

لقد سمح لنا تنظيم المعيشة على متن السّفن الاهتمام بالطّعام المقدّم للمحكومين. لاحظنا مثلا أنّ المغاربيون لم يستطيعوا التّكيّف مع طعام أوروبيّ بالكامل حيث أنّ هذا الأخير لم يُدخل في مكوّناته حينذاك المنتوجات الفلاحيّة المتوسطيّة، وكان هذا السّلوك الغذائيّ يقلق إدارة السّجون التي كانت تحاول معالجة الأمر قدر الامكان.

"(...) ما الذي يمكننا فعله مع ذلك؟ كانت تغذيتهم هاجسا كبيرا للجميع: لقد كانت أذواقهم غريبة! كمسلمين، كانوا يكرهون الكحول والنّبيذ؛ جيّد، ولكن لحم البقر والخضار الجافة لا تناسبهم أيضا؛ ففي عرض المحيط كانوا يطلبون الفواكه والسّلطة [!]"[3].

مع ذلك، وبالرغم من مصاعب هذه السّفريّات العابرة للمحيط، لم يسقط الكثير من المرضى بين المغاربيون وذلك على العكس من زملائهم من "كومونة باريس". مثلا، من أصل 62 راكبا على متن سفينة "كالفادوس" Calvados يوم 02 سبتمبر 1874، نسجّل أربع وفيات فقط في الجماعة المغاربيّة. لقد كانت المعارف الطّبيّة غير كافية، خاصّة تلك المتعلّقة بأصل بعض الأمراض التي كانت لا تزال مجهولة آنذاك. كمثال على ذلك، لم نكن نعرف كيف تتمّ معالجة مرض "الأسقربوط" scorbut الذي كان ينسب، في هذه الحالة، إلى المناخ البحريّ:

" الأكيد هو أنّ الأسقربوط وحمّى التّيفوئيد، بعد الأسبوع الدمويّ، هما من أسقط أكثر الضّحايا من بين متمرّدي 'الكومونة'؛ لقد أفرزا آثارهما الخبيثة ليس فقط أثناء الاحتجاز في الموانئ، بل أيضا خلال التّنقّلات نحو كاليدونيا الجديدة"[4].

من الجدير أيضًا الإشارة إلى تمسّك المغاربيين بديانتهم كما يخبرنا بذلك الأرشيف إذ يسجّل هذا الأخير كيف أنّه ابتداءا من 13 أكتوبر، دخل العرب في فترة الصّوم لشهر رمضان، إنّهم لا يشربون ولا يأكلون من شروق الشّمس إلى غروبها ويرفضون أيّ دواء خلال هذه الفترة من اليوم"[5].

تواصل رسالة مؤرخة في 30 أوت 1873 حول موضوع شرب الحليب بدل النّبيذ:

"من بين منفيي 'سان مارتان' St Martin يوجد 89 عربيّا مدانا بعد انتفاضات الجزائر. كان يجب فصل هؤلاء الأفراد عن المساجين الأوربيّين ووضعهم في أكثر الأماكن تعرّضا للشّمس. كان يسمح لهم بطبخ أكلهم بأنفسهم وبالنسبة لهم، كان يُعوَّض النّبيذ بالحليب، والشّحم بالزّبدة. كانت تُقدّم لهم ألبسة عربيّة كتلك التي كانت تُوزّع في 'كيلارن' Quélern. أرجو منكم إيصال مضمون هذه البرقيّة للمدير. نعلم هذا الموظّف كما نعلمكم بانطلاق الباخرة من 'سان مارتان'. تقبّلوا (...)"[6] .

من ناحية أخرى، لا يمككنا تقرير وجود التّمور على متن البواخر انطلاقا من قائمة السّلع المشحونة. هل من الممكن على الرّغم من ذلك الافتراض أنّ المدانين، الأوفياء لعاداتهم الغذائيّة المتوسّطيّة، قد حملوا معهم هذه المنتوجات الضّروريّة (والتي يمكن حفظها لمدة طويلة)؟ كانت التّمور في تلك الفترة الغذاء الأساسيّ للعديد من سكّان المغرب الكبير: بعض الأنواع الجافّة كـ "مش-دڤلة" من "الزّيبان" أو "دڤلة-بايدة" من "واد ريغ" قابلة للحفظ بشكل ممتاز وتشكّل بالنّسبة للسّكّان الرُّحّل بخاصّة مصدرا غذائيّا قاعديّا غنيّا بالحريرات وبالأملاح المعدنيّة، ولكن ليس ذلك فحسب، بل حتى النّوى كانت تستهلك من طرف الحيوانات[7]. لا يجب إذن الاستغراب إذا حفظ المحكومون الجزائريون، بشكل أو بآخر، مخزونًا من هذه الثّمار خلال سفر التّرحيل الطّويل. من الممكن أيضا أنّ طواقم البحّارة كانوا يقدّمون التّمور كعنصر رئيسيّ في قائمة الغذاء على متن السفن لمزاياها العمليّة والواقعيّة باعتبار أنها لا تتطلّب لا تحضيرًا ولا طبخًا، زيادة على أنّها قابلة للقسمة بسهولة.

على سبيل المقارنة، يُستخلص من مقابلاتنا مع أولياء أسر جزائريّين وصلوا إلى فرنسا سنوات 1950 أنّ البعض منهم –خاصة أولئك الذين لهم علاقة عميقة مع الواحات- كانوا يحملون معهم (في جيوبهم) تمورًا رطبةً أو جافّةً (حسب الأنواع) خلال تنقّلهم نحو أو بين المدن الفرنسيّة. زيادة على ذلك، لا زال الالتزام قويّا بالجمع بين التّمر )الدّڤلة( واللّبن كعادة أسلاف قديمة في واحات المغرب الكبير، وهكذا بقيت كعنصر من تقاليد التّبادلات المنتظمة بين ضفّتيّ المتوسّط. فاتّجاه هذه الممارسات التي يمكن اعتبارها بشكل معقول كبقايا نظام غذائيّ، يمكننا القول أنّ هذا التّراث –كمعرفة علميّة- قد لعب دورا حاسما في مستقبل هؤلاء المنفيّين. نعلم مثلا أنّ النّخلة في التّقاليد الموروثة تضمن بقاء الفرد الذي تعوّد الاعتناء بها منذ عدة قرون. وعندما يتنقّل من وسطه المعتاد نحو المدينة أو نحو بلد أجنبيّ، فإنه يأخذ معه هذه الثّمار الثّمينة من محصوله. فهذه الأخيرة تعتبر مرجعيّة بالنسبة إليه، بل حتى انعكاسا لهويّته. وهكذا، عندما يستقرّ نهائيّا في أرض مجهولة بالنّسبة إليه، يتمّ العمل على فرز أنوية التّمور وحفظها وإعادة غرسها.

تجربة استعماريّة جنائيّة في وديان "بوراي"

"كانت إدارة السّجون بحاجة لمساحات جديدة من أجل نقل المحكومين إليها والقيام بتجربة استعماريّة جنائيّة تبعًا لروح قانون 1854" [8].

ولدت "بوراي" Bourail من سياسة التّهجير والنّفي إلى كاليدونيا الجديدة إذ حسب "جورج كلينغ" Georges Kling، عيّن الحاكم "جيلان" Guillain لجنة من أجل استكشاف الأراضي المحيطة بالميناء الصّغير لـ "بوراي" وذلك من أجل القيام بتجربة استعماريّة جنائية[9]. لقد بدت وديان "بوراي" من منظور المؤسّسين الاستعماريّين مناسبة من أجل إنشاء إصلاحيّة زراعيّة ستتجمّع حولها شيئا فشيئا مجموعة من المِلكيّات، أي قطع من الأراضي التي تنازلت عليها إدارة السّجون[10]. كانت هذه الأخيرة في الواقع مالكة لمعظم إقليم "بوراي"[11] ومركز زراعيّ من هذا النّوع لا يجب أن يُتصوّر كإصلاحيّة، بل كمجموعة قرى موجّهة لإسكان المحكومين تشبه قدر الإمكان القرى الفرنسيّة. لقد كان ذلك مشروعا نموذجيّا حسب روح المذهب السان-سيمونيّ[12] إذ لا نجد في هذا الأخير الأسطورة التي تمزج بين "الشّرق والغرب"، ولكن محاولة استيطان مختلط يجمع بين "العنصر الجنائيّ" و"المستعمر الصّغير". لقد تمّ تطبيق هذا البروتوكول على المنفيّين المُحرّرين الأوائل في الملكيّات الرّيفيّة الفرنسيّة لما وراء البحار.

"في كاليدونيا الجديدة، لم يصبر الأميرال "جيلان" Guillain على مقاومة فكرة تطبيق نظريّاته، وهو الذي بقي في حدود المذهب السّان-سيمونيّ لسنوات 1830. في سنة 1864 حملت سفينة "لا سيبيل" La Sybille قافلة من المرحّلين واختار الأميرال من هذه المجموعة عشرين مستوطنًا يمارس كلّ منهم حرفة مختلفة وقدّم لهم 300 هكتار في منطقة 'ياتي' Yaté، مع وسائل العمل، البذور والحيوانات الضّروريّة. أما أرباح الشّراكة فقد قُسّمت إلى قسمين، أحدهما يُوزّع بدوره على المستوطنين، والآخر بالتّناسب مع أيّام العمل"[13].

رغم ذلك، لم تكن نتائج هذه التّجربة الأولى مرضية وتمّ إيقافها بعد فترة زمنيّة[14] . كان يجب استكشاف مكان آخر وهكذا تمّ اختيار "بوراي" كأفضل منطقة لتجربة استيطان جنائيّ. ففي المركز الإصلاحيّ الزّراعيّ لـ "بوراي"، تتضمّن عمليّة التّنازل وجوب دفع المستفيد المُحرّر ثمن الأرض التي يخدمها إذ أنّ الشّرط الرّئيسيّ لتحريره هو الرّيع السّنويّ ورأسمال تخليص الملكيّة المُتنازل عنها، فرأس المال هذا هو ما يحدّد حرّيّته النّهائيّة. كان هذا الإجراء أساسيّا بالنّسبة للإدارة التي حرصت على انتقاء أفضل عناصرها والذين كانوا يخضعون لقواعد سلوك دقيقة جدًّا. وهكذا أصبحت وديان "بوراي" أرضًا مختارةً وفيّةً لروح المذهب السّان-سيمونيّ كما تطوّر آنذاك في الجزائر. وكما ذكر سابقا، لم يقاوم الأميرال "جيلان"، الذي كان يعتبر في ذلك الوقت طوباويّا، الرّغبة في تطبيق نظريّاته على "المُرحّلين" الأوائل سنة 1864. لقد تمثّلت هذه الرّغبة في إنشاء مزارع وقرى حديثة، ما تطلّب وجود مزارعين. وهكذا، وبواسطة مجهودات مشتركة، تمّ تعليم المرحّلين أساسيّات " العمل الجماعيّ التّعميريّ" – إضافة إلى بعض قواعد السّلوك – من خلال مهامّ متنوّعة: الإنشاء، الغرس، السّقي والزّراعات المُحسّنة. أصبحت إذن "بوراي" أرضا مُختارة جديدة شهدت تطبيق روح قانون 30 ماي 1854. يهدف هذا الأخير إلى فرض نفي دائم للمحكوم عليهم بأكثر من ثمان سنوات من الأشغال الشّاقة ويقدّم لهم إمكانيّة الحصول على ملكيّات أراض متنازل عنها، إمكانية أن يصبحوا مستوطنين. فهؤلاء المدانين يدفعون ثمن حرّيّتهم (رأسمال تخليص قطعة الأرض التي منحت لهم) ويصبحون رجالا أحرارا بامتلاكهم هذه الأراضي نهائيّا، ولكن بشرط أن يثبتوا حسن تربيتهم وسلوكهم. وهكذا تمّ إعادة تجديد أسس المشروع الاستعماريّ بتجنيد العنصر الجنائيّ هذه المرّة.

مسار تجديد الهويّة

سمح لنا الاطلاع على سجّل وكلاء المركز الإصلاحيّ لـ "بوراي" بالتّحقق من الأصول الاجتماعيّة للمستفيدين المغاربيون إذ يظهر مباشرة للعيان أنّ الغالبيّة من المتمرّدين المغاربيون المنفيّين ينحدرون من أصول ريفيّة (مزارعون). وأخذًا بعين الاعتبار العناصر الإثنوغرافيّة، بيّن تحقيقنا ديناميكيّة ريفيّة قويّة في هذه المِلكيّات، كما استفاد المنفيّون المغاربيون من تجربة الأرض "الجماعيّة" لامتلاكهم معرفة جيّدة بالأنظمة الزراعيّة.

بالرغم من تطرّف المعاملات القاسية (نقص التّغذية، رعاية صحيّة محدودة، عقوبات شديدة، محاولات لتغيير الدّيانة، توحيد الألقاب)، لا نزال نلاحظ اليوم في أودية "بوغن" Boghen و"نيساديو" Nessadiou، ذات الماضي الشاقّ، آثارا عميقة وظاهرة على الدّوام لإعادة بناء بيئة مغاربيّة وذلك من خلال مساحات نخيل مغروسة ومتنوّعة ذات أصول عربيّة-بربريّة. نحن نمتلك عددا من العناصر التّاريخيّة والتّصويريّة التي تسمح لنا بتحليل ظاهرة "إعادة إنتاج تقاليد الأسلاف" هذه. فعلى الرّغم من النّظام المهيمن، لم يتخلّ الجزائريّ المستفيد من هذه السّياسة عن تراثه الزّراعيّ وكان يريد أيضا إعادة بناء الرّابط الثّقافيّ القديم في أرض المنفى التي كان يحسّ أنها أرض "عدوّة".

رسالة "دار الحاج"

كانت تقتضي الرّسالة الطّبيعيّة لـ "دار الحاج" [15] تنظيم جماعة متضامنة جديدة في إطار المستعمرة. ففي حين كان يعمل المشروع الاستعماريّ من أجل رفاه فرنسا، كانت هذه المؤسّسات ترمز إلى الرّابط السّوسيو-ثقافيّ في منطقة تكوّنت أساسا منذ زمن مبكّر من زيجات مختلطة، حتى أنّ صورة هؤلاء "الشّيوخ العرب"[16] الذين يشكّلون "دار الحاج" أصبحت أسطوريّة. لقد قُدّم لنا وصف تاريخيّ لهؤلاء الرّجال المرحّلين على هضبة "فوجاراس" Fougères (البلديّة الخامسة، جزيرة الصنوبر):

"نراهم يمشون هنا وهناك، في وقار وزهد، تحت برانيسهم البيضاء الطّويلة المعقودة على رؤوسهم بحبل من وبر الجِمال. تحتفظ عيونهم بشعلة ناعمة، نصف منطفئة؛ ينحنون بتواضعهم المُحترم عند مرور قائد فرنسيّ ؛ وفي المساء يسجدون مع مغيب الشّمس، يقبّلون هذه الأرض العدوّة لهم، ولكنّها تبقى رغم ذلك أرض الله" [17].

الغريب في الأمر أنّه في حين لم تخلّف تجربة السّجن في غويانا Guyane آثارا ثقافيّة كبيرة، فإنّ مغاربة كاليدونيا الجديدة لعبوا دورا كبيرا في الرّبط الدائم بين المجموعات الأخرى. لقد تبنّت نساء المنفيّين، الأوروبيّات في غالبيّتهن أو الميلانيزيّات، التّقاليد الجزائريّة والتّراث العربيّ-البربريّ. ويبدو أنّ هذا الأخير قد تمّ قبوله كليّة والموافقة عليه من طرف الشّابات اللاّئي تزوّجن من جزائريّين، كما أنّ الوفاء لتراث الآباء قد احتلّ مكانة جديدة تماما. لقد تركت العقود الاندماجيّة، المؤسّسة من طرف السّلطة الكولونياليّة، مكانها لعقود المشاركة الشّعبيّة المتميّزة بالدّرجة الأولى بتعليم النّساء الأوربيّات الممارسات التّقليديّة كـ "التّويزة" (العمل الجماعيّ التّطوعيّ)، وذلك من أجل تنمية حسّ الانتماء الجماعيّ فيما بعد. على مستوى الممارسات الغذائيّة، كان طبق الكسكسيّ يُحضّر بواسطة منتجات البساتين العائليّة: اليقطين، اللّفت، الفاصولياء، الفلفل، الكزبرة وحليب الماعز. أمّا القمح الصّلب فقد كان يستعمل لصنع الفطائر ("الكسرة") أو "الخبز". لقد كانت الأسر تحضّر أيضًا فطائر من التّمر المهروس.

يحافظ الكاليدونيّون أحفاد المغاربيين، لغاية اليوم، على التّقاليد العائليّة في ذاكرتهم ويضمنون استمراريّتها. إنّهم يعرفون كيفيّة العناية بالنّخيل وكذا الأدوات الخاصّة بـهذه الزراعة. فالأحفاد الأكبر سنًّا كانوا شاهدين، مع آبائهم المزارعين الذين كانوا غالبا حدّادين وتجّارا في الوقت نفسه، على طرق عمل منقولة مباشرة من الصّحراء الجزائريّة. ففي محلّ الحِدادة تمّ إعادة صناعة "المنجل" و"المسحاة" وحتى الكمّاشة الخاصّة بـ "الجبّارة" من أجل فصل الزّوائد عن الجذع الأصليّ للنّخلة [18].

المصاهرة المختلطة والجينيالوجيا التّقليديّة

يمكن أن يُدرس النموّ الدّيموغرافيّ لكاليدونيا الجديدة على أساس مجموعات متمايزة (جزائريّون، أوربيّون، ميلانيزيّون أو آسيويّون). ولكن كيف تبدو وضعيّة سكّان هذه الوديان موضوع دراستنا؟ هنا، ومن أجل دراسة نظام القرابة في وديان "نيساديو" Nessadiou و"بوغان" Boghen، لا بدّ أيضا من إدخال سلطة "قدماء العرب" – المُلقّبين في الغالب بـ "الشّيوخ". يتعلّق الأمر بمعرفة أيّة أنظمة قرابيّة (وبالتّالي أيّة أشكال من التّبعيّة) يضعها الشّيوخ منذ الزّواج الشّرعيّ الأوّل المعترف به. من أجل تحليل القرابة الأوّليّة التي أتيح لنا دراستها، توصّلنا إلى معرفة خمس عائلات جزائريّة قمنا بتحديد أسمائهم، الأراضي الرّيفيّة التي تمّ التّنازل عنها لصالحهم، علاقات النّسب الخاصّة بهم وأحفادهم لغاية ثلاثة أجيال. يمكننا ملاحظة وجود قرابة معقّدة وغنيّة بعلاقات النسب التي تتقاطع بين الملاّك الجزائريّين في هذه الأودية. نلاحظ في أغلبيّة هذه العائلات علاقات نسب مشتركة تمّ نسجها من طرف مجموعة أفراد كانت تريد الاستقرار.

نلاحظ إذن أنّ القادمين الأوائل قد جلبوا قيمهم التّقليديّة الرّيفيّة وحاولوا إقامة روابط أسريّة قويّة. وهكذا، إذا كانت نسبة الخصوبة متغيّرة من أسرة لأخرى، فإنّنا نحصي أحيانا إلى غاية عشر أطفال في الأسرة الواحدة. هذا النّوع من البُنيات العائليّة ولّد تضامنا قويّا في الوديان، التّضامن الذي لا زال مستمرّا إلى اليوم. تهدف المجموعة "الجماعاتيّة" إلى ضمان استمراريّة التّراث القرابيّ العربي-البربري القائم على علاقة قرابة داخليّة وتضامن وثيق في حالة الصّراعات الخارجيّة. لقد تطوّر هذا النّظام بطريقة متجانسة ومندمجة بفضل التّقنيّات والطّقوس الزّراعيّة التّقليديّة المنقولة اجتماعيّا. هنا تقوم "الجماعة" على الملكيّة الجماعيّة للأراضي (غير القابلة للتّقسيم). لنأخذ مثالا: عنما يتزوّج جزائريّ منفيّ مع ابنة منفيّ أوربيّ[19] فإن الابن البكر، حسب التّقاليد، يرث الحقل الأبويّ وعليه أن يساعد إخوته المضطرّين لاستعارة حقل جديد - وهذا ما يجعل نظام النّسب مستقرًّا ومانعًا لكلّ الصّراعات في إطار قرابة "زراعيّة نخيليّة – ثقافيّة" [20]..

إدخال زراعة النّخيل في منطقة "بوراي"

تمتاز منطقة "بوراي" بمناخ شبه-جافّ أين ينمو النّخيل بشكل جيّد. تقع سكنات الوديان بين الحقول الزّراعيّة والهضبة غالبا على أراض مائلة وتوجد بالقرب منها النّخلة التي تؤسّس لمكان الغراسة وفي بعض الأحيان لقيمة ثقافيّة ودينيّة ("مرابطيّة"). تتكون البنية العائليّة من "الشّيخ" المحاط بقبيلته وهذه الأخيرة تجمع ذريّته كلّها. إنّ لجميع هضبات منطقة "بوراي" تحديد دقيق حسب نظام يحيل إلى تملّك الأرض وذلك بواسطة نظام للتّسميات الجغرافيّة ("أولاد"، "بن" أو "بني"). نحن هنا أمام "عرش" مُعادٍ تشكيله أين يتجلّى تجانس المجموعة الجديدة، سواء كانت جماعيّة أو عائليّة، في نظام علاقات المصاهرة بين "الشّيوخ"، كما تُقدّم النّخلة دائما على أنّها مركز الاهتمام والعناية. إنّها بالفعل رمز للهويّة الأسريّة للمجموعة الزّراعيّة والثّقافيّة.

من المؤكّد أنّ نقل زراعةٍ أصيلةٍ للنّخيل ليس وليد الصّدفة إذ من البديهيّ أنّه مرتبط بوجود المغاربيون في الإقليم الكاليدونيّ الجديد خلال القرن التّاسع عشر. لقد حافظ هؤلاء المزارعون على خبرتهم الفلاحيّة بنجاح اعترفت به حتّى الإدارة الاستعماريّة[21]. ففي "البلديّة الخامسة" لـ "جزيرة الصنوبر" l’île des Pins، أنتج هؤلاء الفلاّحون اللّيمون وفيما بعد، خلال إقامتهم في الأراضي التي تنازلت عنها السّلطات، نجحوا في إقامة مستثمرات فلاحيّة حقيقيّة، خاصّة في منطقة "بوراي". لقد اختاروا في هذه الوديان أراضي ذات تربة طينيّة-رمليّة على مسطّحات طبيعية مُصفّاة جيّدا و"مغسولة" إلى حدّ كبير بالفيضانات المتكرّرة للأودية[22]. من جهة أخرى، سهّلت سنوات الجفاف الاستثنائيّة الثّلاث، 1883، 1884 و1885، تطوير زراعات بديلة. لكن يبدو أن درجة الانخراط في العمل الفلاحي من طرف المستفيدين من هذه التّنازلات كان مرتبطا بظروف مناخيّة ملائمة لزراعة النّخيل إذ في فترة سابقة، زمن "الشّيوخ العرب"، كانت هذه الزّراعة كثيفة ودائمة [23].

لا نعرف على وجه الدّقة طرق غرس النّخلات الأولى. لا نجد أيّ أثر لنقل رسميّ لــــــ "النُّخَيْلات" ("الجبّارات"، "الحشّانات") التي كان من الممكن أن تضعها الإدارة تحت تصّرف هؤلاء "الكولون" رغما عنهم، أي المنفيّين. لكن من ناحية أخرى تحتفظ الذّاكرة الجماعيّة بذكرى البذور (نوى التّمر) المزروعة في قطع الأراضي المتنازل عنها. ما هو أكيدا أنّ هذه الأنوية - التي تعطي إحصائيّا عددا مماثلا من النّخيل المذكّرة والمؤنّثة - يمكن أن "تخلق" واحة حقيقيّة. وما من شك أنّ المزارعين المغاربيين قد عملوا بسرعة على مضاعفة أفضل أنواع النّخيل بغرس هذه "النُّخَيْلات".

يمكننا أن نفترض وجود علاقة بين تمور الواحات (المغاربيّة) والتّمور الكاليدونيّة الجديدة، لكن لا يمكننا أن نؤكّد ذلك بشكل يقينيّ، لهذا قمنا في أعمالنا بمعالجة إشكاليّة التّنوع ليس بمقاربة بيولوجيّة أو زراعيّة وإنّما بمقاربة أنثروبولوجيّة. فانطلاقا من تصنيف التّمور، يتعلّق الأمر بإعادة تشكيل معرفة السّكان حولها واكتشاف التّأويل والرّمزيّة التي يعطونها لها[24]. يستند هذا العمل إلى تحقيقات ميدانيّة قمنا بها بين سنتي 1999 و2001 في الوديان شبه الجافّة لمنطقة "بوراي" (Nessadiou, Boghen) وفي مناطق أقرب (أكثر جفافا) للمقاطعة الشماليّة (Pouembout, Voh) مع عيّنة من حوالي خمسين مزارعا.

في منطقة "بوومبوت" Pouembout، يحدّد التّراث الشفويّ، مثلا، نوعا من التّمور يسمّى بـــــــ "معمّر" نسبة إلى منفيّ سياسيّ بهذا الاسم من "أولاد زكري". لقد قام هذا الأخير حسب روايات السّكان بغرس أنوية هذا النّوع من التّمور في أرضه حتى يُرسّم ارتباطه ببلده الأصليّ [25]. من جهة أخرى، تُنسب أنواع أخرى (مشتركة بين سكّان Nessadiou ، Boghen وVoh) إلى المنفيّ "بن تومي" [26]. من المحتمل إذن أنّه قد تمّ غرس هذه الأنويّة من طرف "الشّيوخ" من أجل ترسيم عروشهم أو انتماءاتهم القبليّة حسب طقوس لا نعرفها جيّدا [27].

انتشار غرس النّخيل والطّقوس المشتركة

لقد أدّى غرس النّخيل إلى انتشار طقوس مشتركة في إطار مصاهرات مختلطة بين مجموعات إثنيّة متمايزة (جزائريّون وأوروبيّون، ميلانيزيّون وآسيويّون). من النّاحية الدّيموغرافيّة، أدّى انتشار غرس النّخيل إلى زيادة عدد المواليد في المجموعات المغاربيّة. يمكننا التّساؤل في المنظور نفسه حول أثر السّياسات الخاصّة بالإنجاب والممارسة في الجزائر منذ 1830 على مجموعة سكانيّة مُحتقرة من طرف "السّادة" (Prépotens) [28]، والتي تهدف في النّهاية إلى محو "الأنديجان". هل تمّ تطبيقها على المنفيّين الجزائريّين نظرا لوضعهم الجديد كمستفيدين من التّنازلات العقّاريّة؟

فبالفعل، كان بإمكان "الأنديجانيّ" المنفيّ الذي أصبح مستفيدا أن ينجب من أجل المستعمرة، وبهذا كانت تهدف الإدارة الاستعماريّة إلى تكوين أسر مسيحيّة أساسا. لقد كانت تعتقد أنّ الأجيال المستقبليّة ستفقد هويّة وديانة الآباء بواسطة الزّواج المختلط. لكن هذه السّياسة الاندماجيّة –القائمة على مشروع "نخبة مستقبليّة" – قد فشلت لأنّ النّظام التّقليديّ للقدماء نجح في إعادة إنتاج طقوس جماعيّة وتطوير جماعة حقيقيّة. في كل الأحوال، لقد بقيت ممارسات حيّة إلى الآن كما يدلّ على ذلك الطّقوس والتّمثلات الجماعيّة المتعلّقة بالمقبرة المغاربيّة التي نلاحظ أنّها تقترب من مبدأ "الزّاوية". تستمد هذه البنية التّقليدية أصلها من معتقد الوليّ الصّالح وتنتظم حول عدد من الطّقوس القديمة ("الزّيارة"، "الزّردة"، "التّويزة"، "الصّدقة"، "الموسم"). في السّياق الكاليدونيّ الجديد، إنّها حالة مؤسّسة "سيدي مولاي" التي أصبحت لها أهميّة اجتماعيّة وروحيّة كبيرة [29].

خاتمة

نجد في مقبرة "نيساديو" Nessadiou عددا كبيرا من أسماء شيوخ القبائل الجزائريّة الشاهدة على الحضور التّاريخيّ لمنفيّي الجزائر والمُدانين في غالبيّتهم لأسباب سياسيّة "التّمرد". لكن رغم النّفي، أنتج تضامن السّنوات الأولى تحالفات قويّة على أساس تجمّعات عائليّة ذات طابع عشائريّ. إنّ الميراث العائليّ، القائم على خدمة الأرض وحفر الآبار، كان نتيجة منهج مقاومة تبنّته كلّية الأجيال اللاّحقة[30].

لقد قام هؤلاء المنفيّون بخدمة حقولهم على مرأى مناظر جبليّة خضراء باهرة، وطوّروا زراعات متنوّعة بواسطة أساليب تقليديّة قديمة. لقد قاموا أيضا بممارسة الرّعي حسب التّقاليد البدويّة على أطراف الوديان، من "بوغان العليا" Haute-Boghen إلى "نيساديو"، ويبدو أنّ قطعان الماعز كانت كبيرة جدّا كما يدلّ على ذلك الأجبان المعروضة للبيع في "بوراي" نهاية القرن التّاسع عشر. ورغم أنّ كاليدونيا الجديدة قد قدّمت لهؤلاء المنفيّين إطارا مختلفا عن بلدهم الأصليّ، إلاّ أنّهم قد نجحوا في إعادة تشكيل نسيج اجتماعيّ أصيل بخصائصه المميّزة (اللّباس، معتقدات الأضرحة، الشّعائر الجنائزيّة، الطّقوس الزّراعيّة) وحافظوا في منفاهم على الكثير من الأسس الاجتماعيّة الخاصّة بوسطهم المغاربيّ الأصليّ.

يبدو أن درجة انخراط المنفيّين الجزائريّين - من أصول زراعيّة غالبا - في خدمة الأرض مرتبط بظروف مناخيّة ملائمة لزراعة النّخيل بهذه المنطقة. وعلى الأرجح أنّ المحكومين الأوائل قد جلبوا معهم أنوية التّمر التي كانوا يرونها رمزا لقيم ثقافيّة واحاتيّة. لقد قاموا بغرس هذه الأنوية في إطار احترام تقاليدهم، وهكذا تمّ إدخال زراعة النّخيل في أرض المنفى حسب طرق تقليديّة مغاربيّة لتكثير "النُّخَيْلات" والسّقي. هكذا إذن أصبحت النّخلة الرّمز الأكثر بروزا لعمليّة نقل زراعيّ ناجحة لعشرات السّنين من حضارة عربيّة-بربريّة في كاليدونيا الجديدة.

مصادر شفاهية

في إطار تحضير أطروحتي للدّكتوراه، قمت بإنجاز عمل ميدانيّ لمدّة خمس سنوات في كاليدونيا الجديدة (مموّل من طرف مخبر الأنثروبولوجيا التاريخية لجامعة باريس 08 وبلدية "بوراي") والذي قمت من خلاله بإنجاز حوالي مائة مقابلة مع السّكّان الكاليدونيّين من أحفاد الجزائريّين (والمغاربيون بشكل عام) في مناطق Nouméa، Pouembout، Voh، Koumak، îles Loyautés وكذلك مع ممثّلي جماعات "الكاناك" Kanakes الذين أشكرهم بالمناسبة.

لقد قمت أيضا بإنجاز تقرير ميداني (1999-2000) لصالح بلدية "بوراي" ومراكز البحث حول الأقاليم (I.A.C. وI.R.D.). بالإضافة إلى ذلك قمت بتحقيقات تكميليّة في الواحات المغاربيّة (الجريد، بسكرة، وادي ميزاب).

الأرشيف

Archives Communales de Bourail, Dossier 5. Note explicative sur les fondateurs de Bourail rédigée le 19 nov. 1873 remise par le Directeur du Service Pénitencier à M. Le Général de division Reboul, sur sa demande.

Archives de la Marine de Brest. "Extrait du Cabinet du Ministère de la Marine (Versailles le 8 août 1874)".

Archives Historique de la Marine, Fort de Vincennes, Dossier BB2 532. "Instruction pour le voyage de Circum navigation de la Loire à M. le capitaine de vaisseau Mottez, commandant de la Loire à Brest, Paris le 7 mai 1874".

Archives du Ministère de l’Intérieur - IY210. "Lettre du Ministère de l’Intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire".

Archives Historiques de Vincennes, 1H 1023. « Détermination de la quantité d’eau nécessaire pour le fort Saint-Germain et les plantations qui en dépendent» «Projet de règlement pour l’organisation d’un syndicat, chargé d’assurer le service des irrigations dans la ville et l’oasis de Biskra et de régulariser les usages divers adoptés jusqu’à ce jour».

Archives du Ministère de l’Intérieur, Lettre du 30 Août 1873. Dossier IY210. Lettre du Ministère de l’intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire.

Archives Territoriales de Nouméa, Table alphabétique des concessionnaires de Bourail, série 198 W.

بيبليوغرافيا

Emerit, M. (1941). Les Saint-Simoniens en Algérie, Paris : Editions Les Belles lettres.

Julien, Ch.-A. (1986). Histoire de l’Afrique du Nord (Tunisie, Algérie, Maroc) (1932). Paris : Payot, 9ème éd.

Nicomède, G. (1886). Un Coin de la colonisation pénale. Bourail en Nouvelle-Calédonie (1883-1885), Thèze : Société Anonyme de l’imprimerie Ch.

Ouennoughi, M. (2000). "Les Calédoniens originaires du Maghreb et la symbolique du palmier dattier en Nouvelle-Calédonie", in Encyclopédie Le Mémorial Calédonien, Planet Memo.

Ouennoughi, M. (2005). Le Voyage forcé des déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie : Histoire anthropologique, culturelle et ethnobotanique, Annales calédoniennes, n° 2, "Les Kanaks et l’histoire", Université de Nouméa.

Ouennoughi, M. (2005). Les Déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie et la culture du palmier dattier (1864 à nos jours), Paris : L’Harmattan.

Pérennès, R.(1992). Déportés et Forçats de la Commune, De Belleville à Nouméa. Nantes : Ouest Edition.

Rinn, L. (1890), Histoire de l’insurrection de 1871 en Algérie. Alger : Adolphe, Jourdan.

Rivière, H.(1981), Souvenirs de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa : Edition du Pacifique, (Réédition).

Saussol, A. (1979), « Une expérience fourriériste en Nouvelle-Calédonie: le phalanstère de Yaté », Bulletin de la Société d’Etudes Historiques de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa : n° 38.

Villechalane, B. (1998), « La Calédonie, c’est ça !



ترجمة :

الهوامش :

[1] Cf. "Etablissement généalogique des premières listes des mouvements de Maghrébins condamnés au bagne calédonien. 1867- 1895", in M. Ouennoughi, Les Déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie et la culture du palmier dattier (1864 à nos jours), Thèse Université Paris VIII, soutenance 01 Avril 2004, 472 p.

[2] لا يجب نسيان المحكومين الآخرين على الأرجح في أصل مقاومة قديمة للنظام الاستعماري. القوائم الجينيالوجية الجاري إنجازها (بالتعاون مع مصالح أرشيف "نوميّه" Nouméa) ستعطي نظرة نهائية على الرحلات المتجهة إلى المعتقل الكاليدوني.

[3] Archives de la Marine de Brest, Extrait du Cabinet du Ministère de la Marine (Versailles le 8 août 1874).

[4] Pérennès, R. (1991). Déportés et Forçats de la Commune, De Belleville à Nouméa. Nantes, Ouest Editions, p. 167.

بالرغم من ذلك، في تلك الفترة، يبدو أن الإنجليز قد ورثوا تقنيات التشجير المتوسطية كعلم منذ أكثر من قرن. لقد كانوا يستعملون منذ زمن طويل عصير الحمضيات: "لقد كانوا (الإنجليز) يوزعون بانتظام على متن السفن عصير الليمون المحفوظ وقضوا على مرض (الأسقربوط scorbut ". (المرجع نفسه، ص. 168.

[5] Service Historique de la Marine - BB2 532. "Instruction pour le voyage de Circum navigation de la Loire à M. le capitaine de vaisseau Mottez, commandant de la Loire à Brest, Paris le 7 mai 1874".

[6] Archives du Ministère de l’intérieur - IY210. Lettre du Ministère de l’intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire.

[7] حتى اليوم، يعتبر سكان الصحراء أن الاحتياطي السنوي الضروري يقدر بـ 50 كلغ للشخص الواحد.

[8] G., Nicomède, Un Coin de la colonisation pénale Bourail en Nouvelle-Calédonie (1883-1885), Société Anonyme de l’imprimerie Ch. Thése, 1886.

[9] انطلقت اللجنة يوم 12 جوان 1867 على سفينة La Fine. لقد كانت مكونة من Dugat، رئيس إدارة السجون، Boutan، مهندس زراعي، Caillé، حارس مدفعية، Vernier، عون جسور وطرقات، و Lacroix، عون إدارة استعمارية. لقد كان يتبعهم عريفان وأربعة جنود وعشرة محكومين يحملون الحقائب. أنظر :

La Calédonie, c’est ça ! Une enquête de Bernard Villechalane.

[10] Archives communales de Bourail. "Note explicative sur les fondateurs de Bourail rédigée le 19 nov. 1873 remise par le Directeur du Service Pénitencier à M. Le Général de division Reboul, sur sa demande".

[11] لا ننسى أصول "الكاناك" kanake لأراضي السكان المحليين في هذا الإقليم.

[12] لقد تم إدخال مبدأ إدماج الزراعة، التجارة والصناعة كمنهج اقتصادي لـ "السانسيمونيين" في الجزائر: "الزراعة للأهالي، التجارة، الصناعة، القروض، الأشغال الكبرى للأوروبيين، هكذا كان المذهب الرسمي للإمبراطورية الثانية".

(M. Emerit, Les Saint-simoniens en Algérie, p. 115)

[13] المرجع السابق.

[14] حول هذه التجربة الريفية بمنطقة "ياتي" Yaté، أنظر:

Saussol, A. (1979). Une expérience fourrieriste en Nouvelle-Calédonie : le phalanstère de Yaté. Bulletin de la Société d’Etudes Historiques de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa, (38), 25-34.

[15] في عملنا البحثي، قمنا بإعادة وضع معنى عبارة "دار الحاج" في السياق التاريخي لبلاد المغرب القروسطي (خلال العهد المرابطي) وتبيان، في السياق الكاليدوني الاستعماري الجديد، أن هذه العبارة قد عرفت تحويرا سلبيا لغاية تحولها إلى عبارة Darrages (من أجل إدانة سلوك الشيوخ في تنظيم العادات بمنطقة "بوراي").

[16] العبارة المركبة "الشيوخ العرب" تشير إلى المنفيين الجزائريين في كاليدونيا الجديدة. إنهم يتمتعون بتقدير كبير جدا إذ تتجمع حولهم العائلات في المقابر الخاصة بهم حسب التقاليد الجزائرية.

[17] Rivière, H. (1981). Souvenirs de la Nouvelle-Calédonie. Nouméa : Éditions du Pacifique, (Réédition), p. 75-76.

حجاج، شيوخ، أمناء، قضاة في أغلبهم، التحقوا بمنطقة "بوراي" عند تحريرهم.

[18] لقد تم جمع الأدوات التقليدية من الأراضي المتنازل عنها ووضعت في متحف "بوراي".

[19] هذا ما كان يحدث غالبا.

[20] لقد أمكننا التحقق من نظام الحصص هذا (والمعقد جدا) في إطار الملكية العائلية المشتركة. يبدو أن نظام البنوّة – وليس نظام التّتابع – هو الطريقة الأكثر ملاءمة للنظام الجماعي موضوع بحثنا. هذه الطريقة تقترب من قاعدة البكورة (إعطاء مجموعة من الحقوق للإبن البكر – المترجم)

[21] في الإقليم الكاليدوني الجديد، يمكن للكفاءة الفلاحية للمزارعين أن تنسجم مع المكانة الظاهرة للشيخ أو الأمين. هذا "التعدد الوظيفي" موجود أصلا في الفضاء التقليدي البربري.

[22] يحب النخيل الأراضي "الرخوة" والعميقة إذ يمكنها في هذه الظروف مقاومة فترات جفاف طويلة. حسب شهادات الأبناء فإن الشيوخ قد قاموا أيضا بحفر آبار ذات طابع صحراوي تقليدي تسمح عن طريق السقي بتعويض نقص محتمل للماء. تتذكر الأجيال الأولى والثانية استعمال آبار "ذات ميزان" ("شادوف") وكذلك قنوات طينية هوائية على سطح الأرض ("ساقية"). لقد وجدنا بأنفسنا بعضا من هذه الآبار، شاهدة على انتشار تقنية قديمة، والبعض الآخر قد دفنت أو دمرت بسبب الفيضانات المتكررة في وديان "بوراي".

[23] لقد كانت الفواكه الغذاء اليومي لسكان منطقة "بوراي" خلال سنوات عديدة.

[24] في إطار أبحاثنا حول تاريخ المغاربيون بكاليدونيا الجديدة وإدخال زراعة النخيل إلى هذا الإقليم، قمنا بعقد شراكة مع معاهد INRAA وINRAT بهدف إنجاز أبحاث أخرى حول جرد أنواع أخرى من التمور الكاليدونية.

[25] في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تم تحديد موقع قبيلة "زكري" على مستوى واحة "سيدي خالد" في منطقة "الزيبان". أنظر:

Rinn, L. (1890). Histoire de l’insurrection de 1871 en Algérie.

ولكن رغم ذلك، نسجل كذلك وجود صنف "زكري" في واحات "توزر" و"قبيلي" (جنوب تونس). 

[26] أحد الأعيان من أصل إباضي من منطقة وادي ميزاب.

[27] حسب شهادات الأبناء، فإن أسلافهم قد قاموا بغرس الأنوية حسب الدورة القمرية المرتبطة بشهر رمضان.

[28] حسب تعبير شارل أندي جوليان:

Charles-André, Julien, Histoire de l’Afrique du Nord. Tunisie, Algérie, Maroc, Paris, Payot, 1932.

[29] نلاحظ أنّه قد تم الحفاظ في كاليدونيا الجديدة على طقوس ذات أصول قديمة اختفت جزئيا في بلاد المغرب.

[30] لقد وجدنا أن هناك تراثا شعبيا حول سير الأولياء الصالحين يماثل بين هؤلاء المنفيين القدماء و"الشّيوخ الفلاّحة".

حول تمدرس أطفال المهاجرين بفرنسا

أدى قرار الجزائر توقيف هجرة العمال نحو فرنسا إلى تدفق هائل للعائلات المهاجرة نحو أوربا، وهو القرار المتخذ من جانب واحد سنة 1973، متبوعا بقرار توقيف استقبال العمالة المهاجرة سنة 1974 من طرف فرنسا وعدة بلدان أخرى من الاتحاد الأوروبي. منذ سنة 1980، أصبح نصف عدد السكان المهاجرين بفرنسا يتكون من أفراد أسر الجالية العاملة. اليوم، إنهم أحفاد المهاجرين من يرتادون المدارس.

تغيرت أمور عديدة خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، ما جعل من الواجب التساؤل أولا ما الذي نتحدث عنه، وما هي الوقائع الاجتماعية التي تشملها عبارة "تمدرس أطفال المهاجرين": هذا ما سيتناوله الجزآن الأوّلان من هذا المقال حيث أنّ كلاهما سلّط الضوء على تأثير لمّ الشّمل العائلي خلال سنوات السبعينات على التركيبة الديموغرافية لمدارس بلدان المهجر والإجابات المقدمة خلال هذه الفترة؛ وبعد ذلك تأثير التغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة خلال سنوات الثمانينات وتغير طبيعة المشاكل المطروحة للمدرسة، المشاكل الموصوفة اليوم بعبارة "صناعة الطابع الإثني" ethnicisation[1] يقدم العنصران المواليان الإجابات المؤسساتية: فالإجراءات الخاصة التي تعود لفترة السبعينات لا زالت موجودة، غير أنها في حالة أزمة واضحة، ومع ذلك لم يتمّ إعادة النظر فيها لإعادة تأطيرها. وعلى العكس من ذلك، فإن تسييس قانون الجنسية وخاصة فيما ما تعلق بـ"حوادث الخمار" أدى بوزارة التربية الوطنية إلى البقاء بعيدا عن النقاشات التي تمس صورة الأمّة. يتطرق الجزء الأخير إلى مسألة نتائج التحصيل الدراسي لأبناء المهاجرين ملخّصا بذلك المعطيات المتوفرة. من جهتها توضح هذه النتائج، المثيرة للدهشة للوهلة الأولى، الاستعمالات الاجتماعية اليوم للمدرسة من طرف المهاجرين وأبنائهم.

نهاية "المهاجرين"

كانت تدل عبارة "تمدرس أطفال المهاجرين" خلال فترة السبعينات على جملة الإجراءات الخاصة باستقبال الأطفال الذين التحقوا بالمدارس في إطار لمّ الشّمل العائلي وإدماجهم.

لقد حفّزت فرنسا حينها التفكير ضمن إطار المجموعة الأوروبية والمجلس الأوروبي و كانت أكثر بلد معنيّ من الناحية العددية، إذ تمّ تسجيل ما يعادل أكثر من 600 000 طفل أجنبي في الطور الأول سنة 1980، ما يشكل نسبة 10% من العدد الإجمالي، مقابل أقل من 000 250 تمّ إحصاؤهم قبل 10 سنوات خلت (الجداول الإحصائية الأولى على المستوى الوطني تعود لسنتي 1974-1975). فتحت على إثر ذلك مئات الأقسام التحضيرية (Clin) لإدماج الوافدين الجدد، ولقد كان لـ "مراكز التكوين والمعلومات من أجل تمدرس الأطفال المهاجرين" (CEFISEM)، والتي أسست سنة 1976 لتشمل تدريجيا جميع مديريات التربية، مهمّة جمع المعلومات السوسيوثقافية المفيدة وتشجيع الممارسات البيداغوجية الملائمة، خاصة "ترقية الثقافات الأصلية". تجسّد عمل هذه المراكز من خلال معلمين أو أساتذة وُظّفوا على أساس "الملمح المطلوب" الخاص بتكوين فئة الأجانب، وذلك برعاية مدرسة لتكوين المعلّمين، ما يخوّلهم تأطير عدة دورات تكوينية. لقد تمّ فتح "مركز التوثيق البيداغوجي- المهاجرين"
في باريس وبدأ بنشر كتيّبات ببليوغرافية معنونة بـ : أخبار المهاجرينMigrants Nouvelles) ) وكذا نشر مجلة فصلية : المهاجرون والتكوين (Migrants Formation) .

لقد تمّ سنة 1977 اعتماد الأمر التوجيهي الأوروبي الخاص "بتمدرس أبناء العمالة المهاجرة" وجاء فيه أنّ الدول الأعضاء بالاتحاد ملزمة إجباريا بتعزيز تدريس لغة البلد المستقبل مع تدريس لغة البلد الأصلي وثقافته على حد سواء، وذلك من أجل تشجيع إدماج الأطفال بمكان إقامتهم الجديد، ومن أجل تحضيرهم لإعادة إدماجهم المحتمل في بلدهم الأصلي. كان هذا الإجراء في البداية خاصا بأبناء العمالة المهاجرة القادمة من دول المجموعة الأوروبية، إلاّ أنه سرعان ما تمّ تعميمه على كافة الجماعات المهاجرة الأخرى. أجرت فرنسا منذ بداية السبعينات تجربة أولية على أبناء المهاجرين البرتغاليين باعتبارهم يشكلون أكثرية المقيمين الأجانب آنذاك. تمّ بعدها بقليل ترسيم الإجراء وتمّ في نهاية العشرية اقتراح تدريس اللغات والثقافات المحلية (CLCO) لثمان دول، ثلاث منها فقط أوروبية وهي: البرتغال، إسبانيا، إيطاليا، إضافة إلى الجزائر، المغرب، تونس، تركيا ويوغسلافيا. ولكي يدمج هذا النوع من التعليم في المدارس، استوجب الحديث عن أهمية "النشاطات الثقافية المتداخلة" التي تتطلب العمل الجماعي في فرق تجمع أساتذة فرنسيين وأساتذة لغة وثقافة البلدان الأصلية.

بعد عشرين عاما - اليوم-، لم يعد من المعقول، كما كان عليه الحال في سنوات السبعينات، الحديث عن "أبناء المهاجرين". لقد كان هذا الحديث في الحقيقة مشكوكا فيه حتى زمن التدفق الكبير المرتبط بالنزوح العائلي الناتج تحديدا عن توقيف هجرة العمالة سنة 1974. وبما أنه لا يوجد اليوم بصفة مؤكدة في فرنسا سوى بضعة آلاف من المهاجرين الموسميين (أقل من 000 10 سنويا)، فإن عبارة "أبناء المهاجرين" لا زالت تختفي خلف الأحرف الأولى لـ "مراكز التكوين والمعلومات من أجل تمدرس الأطفال المهاجرين" (CEFISEM) (لكن من يهتم لإيجاد معانيها؟). لم تعد مهمة هذه المراكز- ذات الانتساب المؤسساتي المتغير- الاستجابة لاحتياجات التعليم الخاصة بأطفال الهجرة، وبدرجة أقل تعزيز وتشجيع المشاريع ما بين-الثقافات، فدورها الأساسي والجديد الذي أوكل إليها هو دعم تمدرس فئات التلاميذ المسمّاة "صعبة". في ربيع 1998، ألغى "مركز التوثيق البيداغوجي حول المهاجرين" (CNDP-Migrants) كلمة "المهاجر" من عنوانه ومنشوراته ليصبح بعدها مركز التوثيق: "المدينة-المدرسة-الإدماج".

من "المهاجرين" إلى" الفئات الصّعبة" إلى "الإدماج" : تبدّل كل من الخطاب والسياسات كما تغيرت الوضعيات الاجتماعية. لقد تمّ أيضا تخطّي عتبة مهمة خلال سنوات الثمانيات عندما تحصّل أبناء العائلات المهاجرة على الجنسية الفرنسية أو الإقامة وبدأوا ينشطون جماعيا في الفضاء العمومي.

لقد كانت سنة 1979 السّنة التي أدرك فيها الأبناء الأوائل للجزائريين المولودين بفرنسا بعد 1963 أنّهم فرنسيون، بعدما بلغوا السّنّ القانونية للحصول على طلب بطاقة الإقامة[2]. بعدها بقليل، رفع الاشتراكيون -عندما وصلوا إلى سدّة الحكم حيث بدأ فرانسوا ميتيران عهدته سنة 1981- مخاوف الطّرد وعدّلوا القانون نحو اتجاه إدماجي. أبرمت بعدها جملة من الاتفاقيات الفرنسية-التونسية والفرنسية-الجزائرية خلال سنتي 1983 و1984 على التوالي، والتي كان من شأنها السماح لأبناء الجالية التونسية أو الجزائرية المقيمين بفرنسا أن يؤدوا التزاماتهم العسكرية في أي بلد يختارونه دون أن يكون لذلك تأثير على الجنسية التي يحملونها (وهذا في الواقع اعتراف بالجنسية المزدوجة). كما تمّ في سنة 1984 إصدار البطاقة الموحدة للإقامة والعمل والتي حُدّدت مدتها بـ 10 سنوات متجدّدة بصفة آلية. كما تمّ من قبل في سنة 1981 إلغاء البند الذي يعطي للفرنسيين الحق الحصري لرئاسة الجمعيات، وفتح أيضا الطّريق أمام الأجانب للتعبير عبر أمواج الإذاعة. شهدت على إثرها سنتي 1983 و1984 تنظيم مسيرتين حاشدتين "للمغاربة" (Beurs) عبر كافة التراب الفرنسي. لقد تضاعفت مؤشرات "المواطنة" في السجل التشريعي والاجتماعي لهذه السنوات لصالح شباب الجالية المهاجرة.

رسمت هذه السنوات الخطوط العريضة لتحول رسمي في بناء "مشكلة" تمدرس أطفال المغتربين. لقد أصبح الحديث قليلا عن استقبال وتوفير التعليم الخاص لتلاميذ صُنّفوا ضمن فئة من لهم احتياجات خاصة. أكّد عمل السلطات العمومية، سواء في مجال التعليم أو في المجالات الاجتماعية الأخرى، هدف محاربة عدم المساواة وتعزيز الانتماء المشترك. لقد أنشأ الوزير ألان صافاري (Alain Savary) سنة 1981 في هذا المجال "المناطق التربوية ذات الأولوية" (Zones d’éducations prioritaires - ZEP) والمصمّمة على هيئة مناطق لتعبئة فاعلين متنوعين جدا (كالمدارس والقطاعات الأخرى التابعة للدولة، المدن، الجمعيات، السكان)، وكلهم مدعوّون للعمل "بشراكة" تهدف إلى تحسين النتائج الدراسية. لقد شكّلت معدلات أبناء المغتربين مؤشرا من بين المؤشرات المعتمدة لتحديد هذه المناطق: فحيث أنّ السّكن المتباين من الناحية الاجتماعية، وحيث أنّ العائلات الشابة وكثيرة العدد أكبر مقارنة بمتوسّط العائلات الفرنسية، فإنّ هذه المقاطعات الشعبية تستقبل في أغلب الأحيان نِسَبًا مرتفعة من أبناء المغتربين. لكن مشاريع العمل التي خرجت للعيان وجُسّدت لم تكن تستهدف فئة "أبناء الجالية" بعينها.

تشكّل هذه المناطق في الواقع اليوم، والتي تمّ بعثها من جديد خلال سنوات 1988-1992، ومرّة أخرى سنة 1998، الجهاز الرئيسي لدعم تمدرس أبناء المغتربين. إلاّ أنّ تعزيز "التّضامن" بين المتمدرسين الموجودين في هذه المناطق، كما كان يتمنى ذلك بشدّة جاك بارك في تقريره حول تمدرس أبناء المغتربين (Berque, 1985)، لم يُترجم لسياسة عمومية. كما أنهم لم يُذكروا ضمن التعابير الرسمية للسياسات العمومية، بل أُشير إليهم ضمنيا بتعابير من مثل "مناطق متدهورة"، "فئات في أزمة"، "فئات صعبة"، تعابير أصبحت في نهاية الأمر ملتبسة ولا تصفهم بدقة. وعندما تبرز ابتعادهم عن معيار معيّن فإنها بذلك تعطي الشّرعيّة لإجراءات تعويضيّة، لكنّها تنقل أيضا وبامتياز صورة سلبيّة يمكن استثمارها من طرف التّصنيفات الاجتماعيّة الإقصائيّة لـ "الهجرة الوافدة".

يمثّل هدف المساواة، في الواقع، مبدأ منح الشرعية الأكثر تأكيدا فيما يتعلق بتمدرس أبناء المغتربين حيث أنه يقع ضمن منطق المؤسسات الديمقراطية ويفرض نفسه كذلك في جميع الدول الأوروبية. حتى الجبهة الوطنية -هذا الحزب اليميني المتطرف والمعارض للمهاجرين الوافدين- تطالب "بمدرسة جمهورية" (باستثناء معارضة التسجيلات المدرسية الخاصة بأطفال الأجانب المقيمين بصفة غير شرعية). لكنّ الرّهان هنا ليس سوى تقييم إلى أيّ مدى تمّ تحقيق هدف تحسين النجاح الدراسي لأبناء المغتربين: سنعود لهذه النقطة فيما بعد.

ما يطرح للتساؤل، بالمقابل، هو المشروع السياسي، أي ما نوع "روح المدينة" الذي يجب إنشاؤه في المدرسة وبالمدرسة مع أبناء المغاربة، الأفارقة والآسيويين. لم تضع نهاية المهاجرين حدًّا لتصنيفات "الهجرة الوافدة" أو لـ "المهاجر الوافد" في الحياة الاجتماعية، بل على العكس من ذلك، لقد استغلّت الحكومات اليمينية وحتى اليسارية في العشرية الأخيرة عند كل فرصة ملف الهجرة لأغراض انتخابية بحتة. في النهاية، لقد كان تكييف القادمين الجدد مع المجتمع الفرنسي )بما في ذلك داخل المدرسة( وإدماجهم القانوني أسرع بكثير من تقبّلهم التّام كأفراد من طرف هذا المجتمع.

زحف الطابع الإثني على الحياة المدرسية

كشف التحقيق الميداني مع عائلات المغتربين أو بالأحرى أبناء المغتربين أنّ هناك في المتوسط هبوطا سريعا في السّلوكات الثقافية الخاصّة مثل استعمال اللغة الأمّ مع الأطفال، الالتزام الدينيّ المستمر، السّكن الجماعي، الاختلاط الاجتماعي المحصور في إطار المجموعة الاثنية، إلخ. كما كشف هذا التحقيق انتشار الزواج مع أشخاص من خارج الفئة الإثنية وكذا تزايد عدد حالات التّجنس، لدرجة أنّ الباحثة الديمغرافية ميشال تريبالا Michèle Tribalat تحدّثت عن "الاندماج" (Tribalat, 1995, 1996 a)[3]. لكن هذا المصطلح قد تمّ توظيفه في الإديولوجيا الاستعمارية لدرجة أنه ليس من المحايد استعماله من أجل وصف سيرورات تعني أشخاصا لا زالوا، جزئيا على الأقل، يتذكّرون التّجاوزات التي عانوا منها. وكيفما كان الحال، يُعدّ هذا التوجه واضحا بشكل خاص لدى الجالية الجزائرية التي تُعدّ الآن الأكثر عددا من بين السّكّان المنحدرين من الهجرة الوافدة خلال نصف القرن الماضي. وإذن فإن المجتمع الفرنسي لم يكن مهدّدًا بالانقسام (Wieviorka, 1996)، وأنّ القادمين الجدد لم يشكلوا في حقيقة الأمر أقليّة إثنيّة حتى وإن أمكن وجود البعض من الأنوية الإثنيّة noyaux ethniques محليّا.

من ناحية أخرى، كانت هناك "الأقلنة" أو "سيرورة صناعة الأقليّات" processus de minorisation تشتغل على المستوى العميق. لقد كان هناك العديد من الأفراد، شباب أم لا، يُعرَّفون ويعرِّفون أنفسهم على أنّهم "جاؤوا للسّياحة" كما يقولون ذلك في مرسيليا. إنهم فاعلون بالمجتمع - كأعضاء كاملي العضوية- وفي الوقت نفسه مرتبطون بأصول خارجية، بسبب أسمائهم العائلية أو مظهرهم الخارجي أو بأي مؤشر آخر، مما يميزهم في نظر الآخرين ويمكن أن يسبّب لهم ذلك مصاعب جمّة. تنتج سيرورات التّمييز هذه حالات اجتماعية لها علاقة بالسّمات الاثنية. لهذا السبب استرجعت اليوم العلوم الاجتماعية الفرنسية، المتردّدة منذ زمن طويل، المفاهيم الجذرية لـ "الإثنية" ethnicitéو"صناعة الطابع الإثني" ethnicisation ، المفاهيم الأقدم استخداما في العالم الأنجلوسكسوني. لقد سمح هذا الباراديغم الجديد بطرح أسئلة جديدة وفهم حقائق التّمييز الإثني، بالمعنى المعرفي والتطبيقي، أو دراسة التسيير الفردي والجماعي لـ "الوصم" الإثني و"الوصم" stigmatisation حسب تعابير ڤوفمان (Goffman, 1975). لقد اكتسبت هذه الاشكالية مصداقية كبيرة من أجل مقاربة الواقع التربوي بفرنسا لدرجة أن عددا حديثا من مجلّة المهاجرون- التكوين قدم حصيلة لنتائج البحث في هذا المجال (1997).

في الواقع إنّ هذا المفتاح هو الذي يعمل حاليا في المجال المدرسي. لقد أظهرت الدراسات السوسيولوجية أنّ سيرورات صناعة الطابع الإثني والوصم لا تصيب فقط التجارب الدراسية لأطفال المغتربين فحسب (أو البعض منهم إذ ليست كل الجماعات مرئية[4] بنفس الطريقة، كما أن ليس لكل الأفراد نفس مسارات الهوية)، بل يتعدى الأمر ليصل إلى نظرائهم التلاميذ وأعضاء الطاقم التربوي، الذين يُعدّون كفاعلين ضمن هذه المسارات ويستلزم عليهم بشكل أو بآخر تحديد سلوك معين في هذا الإطار. تبعا لذلك، يؤدي هذا الباراديغم الجديد إلى إعادة تحديد حقل الملاحظة الخاص بـ "تمدرس أبناء المغتربين". مثلا، أظهرت الملاحظة الميدانية في مدارس مرحلة المتوسط كيف أنّ الحسابات الإثنية والجنسية كانت (منذ مدة طويلة؟) في أساس تنظيم الأقسام من طرف الإدارة (توزيع التلاميذ بين الأقسام) (Payet, 1995). كما بيّن تحقيق ميداني معمّق حول تصوّر العنف والعنف الممارس في المؤسسات الثانوية أن هناك ارتباطا قويا بين تجارب العنف ونسبة أبناء المغتربين من بين جملة التلاميذ. يستنتج المؤلف أن "سويولوجيا العنف المدرسي هي سوسيولوجيا الإقصاء والإثنية"، كما يشير أيضا إلى الكراهية المعلنة من الأساتذة اتجاه الأولياء[Debarbieux,1996,1997]. ووصفت دراسة إثنوغرافية أخرى، في متوسطة تقع أيضا في الضواحي، الطابع الإثني "العادي" للتعاملات بين التلاميذ [Lepoutre, 1997]، إلخ.

باختصار نجد اليوم أنّ التصنيف الإثني قد تسلّل إلى الدواليب الأكثر تقنية في المؤسسات المدرسية وكذلك الحال بالنسبة للتعاملات العادية داخل المدرسة. ما ترفضه التقاليد الإدارية باسم المبدأ الجمهوري، تضطر من جهة أخرى إلى تسييره وبشكل أخرق في بعض الأحيان. لقد أسهم الشرخ الموجود بين الخطاب الرسمي، الذي لا يتحدث عن هذه التصنيفات، والواقع المعيش الجماعي بدون شك في تغذية تشاؤم مستخدمي التربية الميدانيين. تُحدّثنا بعض المقابلات في كتاب "بؤس العالم" طويلا عن مشاعر الاستياء والعجز (Bourdieu, 1993) أو أيضا بعض الأفلام الوثائقية التي تم بثها على شاشة التلفزة كفيلم "حياة أستاذ" على قناة Canal +. لقد كشفت مجموعة حديثة من الدراسات الميدانية حول العنف المدرسي، والتي أنجزت تحت إشراف الوزارة الوصية، وبطريقة رائعة - رغم أنها لم تكن تقصد ذلك في البداية- عن مدى انزراع "مسألة تمدرس أبناء المغتربين" في الحياة المدرسية اليوم، خاصة على مستوى المدارس المتوسطة (Charlot-Emin, 1997).

ترتسم هنا رهانات جديدة كبرى لحسّ التمدنcivilité في المؤسسات المدرسية، وفيما وراء ذلك من أجل اندماج المجتمع ككل، من أجل اندماج "الأمة" (من أجل تشكيل ضمير الـ "نحن" سياسيا). تمتنع إلى يومنا الحالي وزارة التربية الوطنية من الاعتراف بالتصنيف الإثني، وهذا من شأنه أن يكون تحوّلا لا يلزم قطاع التعليم فحسب، بل يلزم الحكومة كذلك. لقد تبنت الوزارة على الأقل مؤخرا برنامج أبحاث حول انتشار الطابع الإثني في الوسط المدرسي، كما أنّ الحكومة قد تبنّت، وبنفس التّسمية، مسألة التمييز الإثني في كل من التوظيف والتكوين خلال خريف 1998.

نهاية "المهاجرين"، الإدماج الثقافي لأبنائهم، والطابع الإثني للتعاملات في المجال المدرسي كما في الحياة الاجتماعية، كلها عوامل غيّرت بعمق شديد الظروف الاجتماعية لتمدرس أبناء المغتربين في فرنسا. لم يكن للإرادة السياسية سوى دور محدود في هذه التطورات. فيما يخص المدرسة، لقد جرى التغير الاجتماعي جزئيا بإسهامها، لكن خارج إرادة واضحة وفي ظروف (اقتصادية، مؤسساتية، سياسية) شجّعت التوترات[5]. لم يستطع البناء المؤسساتي لـــــ "المشكلة"[6] متابعة التغير الاجتماعي الذي تأكد خلال السنوات الأخيرة، ناهيك عن التحكم فيه. لقد اعتمد هذا البناء من جهة على التدابير المتخذة خلال الفترة الأولى والتي لم يتمّ تحديثها، ومن جهة أخرى على عروض ظرفية تأرجحت بين اتجاه تربوي واتجاه قمعي، لكن ترجمتها الفعلية كانت ضعيفة.

فوضى اللّغات الأصليّة

أفضل مثال لـ "حالة الجمود" هو ترك دروس اللغة والثقافة الأصلية (LCO) لمصيرها. لقد تمّت التجربة الأولى مع الأطفال البرتغاليين، بالشراكة بين إحدى الجمعيات والوزارة الوصية، ولكن من أجل تعميمها تمّ تبني مبدأ الاتفاقية الثنائية بين الدول. لقد استمرت عملية إعطاء الشرعية في الاغتراف من النّزعة الإنسانية ومن إديولوجية التّفاهم الدولي، غير أنّ الإجراءات العملية كانت تحمل أهدافا مختلطة من التكوين والرقابة الاجتماعية[7]. يتمّ إرسال الأساتذة من طرف الدول الأصلية ليكونوا تحت تصرف المدرسة الفرنسية على غرار المتعاونين الدوليين، أما أجورهم فهي تدفع من طرف البلدان الأصلية، لكنهم يبقون مراقبين من طرف الدولتين معا، كما أنّ عليهم أثناء التدريس احترام المبادئ الأساسية للمدرسة الفرنسية (المبادئ التي لم يتم تحديدها بصفة أدقّ). إنهم يقدمون لتلاميذ المدرسة الابتدائية، بناء على تطوع العائلات، دروسا لمدة ثلاث ساعات أسبوعيا لكل مستوى، وذلك في حصتين مدمجتين في جدول الدروس أو خارجه (المذكرة الصادرة في 09 أفريل 1975 وفي 30 مارس 1976).
أمّا محتوى الدروس فهو يشتمل على اللغة والتاريخ الوطني للبلدان الأصلية.

لم يجد هذا المشروع التربوي توازنه أبدا في الواقع. لقد أجريت في بعض المناطق تجارب بادرت بها سلطات أجنبية (إيطاليا، البرتغال) أو هيئات دولية (المفوضية الأوروبية، المجلس الأوروبي)، لكنها لم تصل ولو إلى حد التعريف بنتائجها، وهذا رغم أن تدريس اللغة والثقافة الأصلية، المُوَطَّن في مدارس بدون مشروع مؤسسة غالبا، قد طرح مشاكل متنوعة ومتنامية أحصتها عدة تقارير. في الجانب الفرنسي هناك تقرير بارك (1985)، تقرير المفتشية العامة للتربية الوطنية (1992)، وكذا التقرير الأخير الصادر عن المجلس الأعلى للإدماج (1995)، ولنذكر فقط التقارير الرئيسية والتي سجّلت بأسف تهميش الأساتذة ومخاطر تهميش التلاميذ، صعوبات التنظيم، عدم ملائمة الطرق والبرامج ومخاطر الالتفاف على قواعد تعليم لائكي ومحايد. لقد قامت دول المنشأ من جانبها بإنجاز التقارير وتنظيم الأيام الدراسية، كما طالبت باستمرار أثناء انعقاد اللجان المختلطة السنوية بإدماج أحسن لكل التدابير والإجراءات داخل المدارس.

لم تعرف لا الانتقادات ولا التوصيات طريقا للتطبيق. لقد سُمح باتخاذ هذه التدابير ولكن باسم دوافع تقع خارج مصلحة المدرسة العمومية والأطفال: رغبات الأسر والعلاقات المتبادلة بين الدول الشريكة. في الجانب الفرنسي، يُعتقد في الظاهر أن لهذه التدابير مساوئ وتكاليف محدودة مقارنة بالحلول الممكنة الأخرى. إنّ محو دروس اللغة والثقافة الأصلية، كما يقال، قد يؤدي إلى إضعاف الضبط الاجتماعي لسكان يُعتبر أن ولاءهم غير كاف، بل إنها قد تحوِّل طلبات الشباب خاصة أو العائلات لتعلم اللغة العربية نحو الجمعيات الإسلامية. لقد اقترح المجلس الأعلى للإدماج (1995) التمويل المباشر لهذه الدروس من طرف الدولة الفرنسية، وهو الحلّ الذي أخذت به هولاندا منذ البداية على سبيل المثال. لم تكن بلدان المنشأ، خاصة الجزائر والمغرب الأقصى، مؤيدة في بداية الأمر: لكن ليس من المؤكد أنّهما سيعارضان ذلك اليوم. لكن، زيادة على تكاليفه المالية، فإن لهذا الاختيار بالنسبة لفرنسا تكلفة سياسية ومؤسساتية تعتبر مُعوِّقة اليوم. ولكن يبقى كحل إصلاحٌ محدودٌ في عدة صيغ: تقوية روابط تدريس اللغة والثقافة الأصلية مع التعليم العادي (البرامج ومستخدمي التربية) على أساس ميثاق واضح للحقوق والواجبات، مثل التجربة الحالية في الجزء الفرنكوفوني من بلجيكا، دمج تدريس اللغة والثقافة الأصلية ضمن مجموعة مندمجة من الدروس بهدف تعريف كل التلاميذ بتنوع الحضارات (حل مقترح من طرف جاك بارك سنة 1985)، تسجيل هذا التدريس ضمن النشاطات المبرمجة في إطار المشروع التربوي الشامل للمدرسة في مرحلة التحضيري، المساعدة في صياغة الأدوات التعليمية بالشراكة مع دول المنشأ، إلخ.

في الواقع، ما ساد ضمنيا هو اختيار "الانطفاء الناتج عن التآكل الداخلي". يمكننا تقدير نقصان عدد التلاميذ الذين سجلوا في دروس اللغة والثقافة الأصلية إلى حوالي النصف ما بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات. بالنسبة لسنتي 1993-1994 (حسب آخر الأرقام المنشورة من طرف وزارة التربية الوطنية)، لم يتمّ إحصاء سوى حوالي 000 80 مسجّل في المجموع، أي أن نسبة التسجيلات بهذه الدروس في المتوسط لا تتجاوز 14 % من مجموع الفئة المستهدفة ككل.

الجدول رقم 1 : التسجيلات ضمن دروس اللغة والثقافة الأصلية سنتي 1993-1994 (المجموعات الرئيسية)

تلاميذ التعليم الابتدائي من أصول :

المسجلون ضمن دروس اللغة والثقافة الأصلية

(أ)

 

الفئة المستهدفة

(ب)

النسبة التقريبية

%

 

المجموع

(1)

المسجلون في دروس الإدماج

(2)

 

المجموع

(3)

 

حسب الجنسية

(4)

جزائرية

14 774

8 647

208 000

80 735

7

مغربية

26 293

11 007

140 000

98 547

18.5

برتغالية

8 458

2 704

88 200

42 176

9.5

تونسية

6 661

1 650

50 000

30 061

13

تركية

12 021

5 251

36 000

30 264

33

المجموع

82 890

41 134

580 000

378 340

14

 العمود الأول (أ) : العدد الموجود في العمود رقم (2) هو عدد التلاميذ الذين يحضرون دروس اللغة والثقافة الأصلية خلال الحصص المدرسية (دروس "مدمجة"). أما بقية التلاميذ (ما يمثله الفرق بين العددين في العمودين 1 و2)، فإنهم يحضرون "دروسا بعدية"، وهي دروس تقدم خارج التوقيت المدرسي ولكن في الأقسام الدراسية المعتادة ((source : MEN.

العمود الثاني (ب) : الفئة المستهدفة حسب البلد الأصلي = الأطفال الملتحقين بالمدارس الابتدائية ذوي الأولياء المهاجرين. قمنا بتقديرهم انطلاقا من عدد التلاميذ الحاملين لجنسياتهم الأصلية (العدد في العمود رقم 4) (source : MEN) مضروب في المعامل الخاص: عدد الأطفال/عدد الأطفال من العائلات المغتربة (source : INSEE / Tribalat, 1993).

كما نرى، تتغير نِسب تسجيل الأطفال في دروس اللغة والثقافة الأصلية بتغير نسب الأطفال الحاملين للجنسية الأصلية. 84% من الأطفال ذوي الأصول التركية (30264 / 36000) يحملون الجنسية التركية، من بينهم 33% مسجلين في دروس اللغة والثقافة الأصلية. في القطب المقابل، فقط 39% من التلاميذ من أصول جزائرية يحملون الجنسية الجزائرية (أي من ليس لهم صفة الفرنسي حسب ما ينص عليه القانون الفرنسي)، وليسوا سوى 7% مسجلين في دروس اللغة والثقافة الأصلية. أما فيما يخص معدلات حضور هذه الدروس، فإنها تبدو أقل بكثير من التسجيلات، حتى بالنسبة للدروس المدمجة. إضافة إلى هذا، فإن كل المعدلات في انخفاض مستمر. يجب تقريب هذه الأرقام من الوتيرة السريعة جدا للتخلي عن استعمال اللغة الأصلية داخل العائلات (INSEE, 1994) وكذلك استقرار أو تناقص عدد تلاميذ الطور الثاني الذين يتعلمون اللغة العربية كلغة حية أجنبية أولى، ثانية أو ثالثة (8000 تلميذ سنة 1992-1993، رقم في تناقص منذ ذلك الحين) أو اللغة البرتغالية (12500) ، على إجمالي يقدر بـ 5 ملايين تلميذ.

النفور المتزايد من دروس اللغة والثقافة الأصلية من طرف الأولياء (الذين يسجلون أو لا يسجلون أبناءهم) وكذلك من طرف الأطفال (الذين يتغيبون)، عدم اختيار اللغة الأصلية في الطور الثاني، التخلي عن استعمال اللغة الأم في العائلة: كل هذه المؤشرات تتوافق مع الملاحظة العامة للضعف السريع للخصوصيات الثقافية لدى السكان المهاجرين بفرنسا[8]. وحسب مفارقة يعرفها أخصائيو علم النفس الاجتماعي، فإن محاولة "محو التفرقة" الموضوعية عن شباب الجالية المهاجرة لا يلغي التصنيف الاجتماعي لـ "الهجرة الوافدة"، خاصة وأنها كثيرا ما استغلت من طرف الأحزاب السياسية. ولم تمح، من الجهة المقابلة، المطالبة بهوية مختلفة والمنافسة الهوياتية من طرف الشباب "المطبوع بالاثنية"، والذين يحتمل لجوؤهم للإسلام من أجل الدلالة على ذلك (Vinsonneau, 1996 ; Khosrokhavar, 1996) . وكما قيل، فإن هذا التناقض يتخلّل بعمق المدرسة كفضاء رمزي، فكيف تعاملت مع هذا الأمر ؟

العلمانية في خطر ؟

طرحت بوضوح في أوائل الثمانينات مواضيع ذات طابع احتوائي وتضامني، وهذا خلال التحول الكبير لمسار السياسة العامة الذي تميزت به بداية رئاسة فرانسوا ميتيران. بالنسبة للمدرسة، فتح الوزير ألان صافاري (1981-1984) ورشة لمعالجة جملة من المواضيع الجديدة كالتضامن، حوار الثقافات، التنمية، اللائكية التعددية، كما أعلن عن إعادة النظر في مجمل سياسات تمدرس أبناء المغتربين، لكن انتهت عهدته دون قرارات جديدة. بعد سنة من استقالة الوزير، اقترح جاك بارك، المستشار كخبير، بدوره على الوزير الجديد، جون بيار شفانمون، مراجعة الإجراءات الموروثة عن الفترة السابقة على ضوء ما أطلق عليه "مفهوم جديد للوحدوي وللمتعدد"، المفهوم الذي لا يجب على "العرف المدرسي" عرقلته. ويقول هنا أنّ الرهان داخلي وخارجي في الوقت نفسه: إنّه يتعلق بحضورنا في "المجموعة الإسلاموتوسطية" (Berque, 1985) ، إلاّ أنّه لم تتخذ قرارات في هذه الحالة أيضا. عند رجوع الاشتراكيين إلى الحكم إثر الانتخابات التشريعية لسنة 1988، استعاد وزير التربية الوطنية الجديد ليونال جوسبان (1988-1992) موضوع التضامن بإيجاز في خطابه أمام ملتقى "مراكز التكوين والمعلومات حول تمدرس الأطفال المهاجرين" (oct. 1989) CEFISEM. "أهدافنا واضحة، يقول جوسبان. يستوجب علينا العمل لضمان النجاح المدرسي؛ لكن كذلك يجب علينا أن نجعل من المدرسة المكان المعترف فيه من طرف الجميع بشرعيّة التنوّع الثقافي لمجتمعنا وذلك من أجل الإسهام في تطوّره". لكنّه سرعان ما أوقف في بدايات هذا المسار بعد اشتعال وسائل الإعلام حول "القضية" الأولى المتعلقة بالخمار الإسلامي. وبينما طرحت الحكومة موضوع "الإدماج" سنة 1990، تركزت جهود وزارة التربية الوطنية على تنفيذ التغييرات الهيكلية الكبرى المطلوبة من طرف القانون التوجيهي للتربية[9].

من وجهة نظر فلسفية، يتمثل التحدّي رغم ذلك في إيجاد صيغة تربوية لأشكال معقدة من التنشئة الاجتماعية التي يعيشها الشباب المنحدر من الهجرة الوافدة وزملائهم على حد سواء، مع العلم أنّ هذه الأشكال ستستمر بطريقة أو بأخرى لأنها ناتجة عن الحركية المرتبطة بـــــــ "عولمة" التبادلات. إن للتوجه التضامني في أوروبا مكانة مرموقة بما أنّه يتمثل في التفكير حول "التربية بين- ثقافية" والتي تمّ صياغتها طيلة عشر سنوات من أعمال المجلس الأوروبي وتمّ تزكيتها سنة 1984 من طرف لجنة الوزراء في إحدى التوصيات المتعلقة بـ "تكوين المعلمين حول التفاهم بين – الثقافات، خاصة في سياق الهجرة"، وهي التوصية التي وقعت عليها فرنسا. يهتمّ التداخل الثقافي المصاغ بهذه الطريقة أساسا بآثار الهجرة الوافدة على المهمّة التربوية في بلدان أوربا الديموقراطية ويحرص على ضبط المنهجية الواجب تنفيذها لترقية قيم المساواة، محاربة الكراهية وتقوية الرابط الاجتماعي؛ فهذا التداخل الثقافي يقرّ بالتعددية الثقافية لجمهور التلاميذ، لكنه لا يصنع منها تلقائيا محتوى تعليميا ولا حتى قيمة معينة، إنّه يعطي في هذه النقطة الأسبقية لحرية تعبير الأفراد وللاتصال.

يتجنب وزراء التربية الوطنية في فرنسا، وباستثناء محاولات عرضية، تداول هذا الموضوع، فالمؤسسة التربوية غير جاهزة والمناخ السياسي غير ملائم، والصراع الذي برز سنة 1989 حول ارتداء الخمار من طرف الفتيات المنتسبات للإسلام يوضح هذا الضغط المزدوج، والعمل على تسييره يبيّن مدى حذر الوزارة ولو أدّى ذلك إلى تأخير مواعيد معالجة المشاكل.

كان الصراع في بداية الأمر بين أقليتين نشيطتين: عدد محدود من الفتيات المسلمات اللواتي يقاومن طلب نزع الخمار داخل الأقسام، والطاقم الإداري والأساتذة - وعددهم محدود كذلك- المُصرّون على تطبيق ما يرونه الحقّ القانوني عن طريق العقاب. من جهة البنات، وهن تلميذات هادئات وبدون مشاكل مدرسية في المجمل، فإنّ الدوافع متنوعة: بعضهن يبدين حساسيّة ملحوظة فيما يتعلق بالمواضيع الإسلاموية على عكس الأخريات[10]. لقد قامت الصّياغة العموميّة لـ "القضايا" على تعبئة قوى جديدة، من خارج الميدان المدرسي، حول رهانات جديدة: رهانات سياسية قصيرة المدى أساسا (كالانفجار الداخلي للحزب الاشتراكي واستبعاد رئيس الوزراء ميشال روكار، وعودة حزب اليمين إلى الحكم[11])، أو رهانات سياسية بعيدة المدى (إحياء الهوية الفرنسية مقابل الإسلام، الرقابة على تنظيم الإسلام بفرنسا ومعارضة الإصلاحات المدرسية).

إلاّ أنّه ومنذ نوفمبر 1989، وفي حين بدأ تعقّد الصّراع للتّو بجميع أبعاده المدرسية وغير المدرسية، طرح مجلس الدولة، وبطلب من الوزير، رأيا رسميّا أسّس لمذهب ليبرالي للعلمانية الفرنسية. يقرّ هذا المذهب بمبدأ "السّماح" أو "الجواز" بدل المنع المبدئي وذلك ضمن حدود يرجع تقديرها للسلطات المحلية تحت رقابة القاضي، حالة بحالة[12]. "مبدأ علمانية التعليم العمومي، الذي هو من بين عناصر علمانية الدولة وحيادية جميع أجهزتها العمومية، يفرض بأن يُقدَّم التعليم في إطار احترام حيادية البرامج وكذا حيادية الأساتذة من جهة، ومن جهة أخرى حرية اعتقاد التلاميذ..." يقرّر مجلس الدولة. كما يدقّق على أنّ: "الحرية المعترف بها بالنسبة للتلاميذ تخوّل لهم حقّ التعبير وحقّ إظهار معتقداتهم الدينية داخل المؤسسات المدرسية، في إطار احترام التعددية وحرية الآخر، وذلك دون التأثير سلبا على النشاطات التعليمية، على محتوى البرامج وعلى إلزاميّة المواظبة على الحضور". أما الحدود التي سطّرها فهي: الضّغط، الاستفزازات، الدّعاية، الانتقاص من كرامة أو حرية التلميذ، المساس بصحته وسلامته، الإخلال بسير نشاطات التعليم والدّور التربوي للأساتذة، وفي الأخير التّشويش على النظام في المؤسسة المدرسية أو إرباك عمل الأجهزة العمومية. لقد عرض مجلس الدولة من جديد وبإسهاب مذهب العلمانية - يمكن أن نقول بطريقة بيداغوجية - خلال أول استئناف قضائي، في خريف 1992 (المسمّى arrêt Kherouaa) (Kessler, 1993).

إنّ لهذا المذهب، نظريّا، تأثيرات كبيرة على كلّ من المقاربة الأخلاقية والسياسية لإدماج المغتربين بما إنّه يسلّط الضّوء على الهوّة بين القانون الفرنسي الخاصّ بالحريات العامة والتصورات الاجتماعية للرّموز الإسلاميّة. إنّه يُسائل كذلك السّياسة التعليمية وذلك بالاعتراف للتّلاميذ القصّر بحقّ التعبير في إطار حدود واسعة جدّا. لقد رفعت الحكومة هذا التحدي بتأسيسها بعد أشهر قليلة هيئة للتفكير والتشاور، المجلس الأعلى للإدماج، والذي سُلّمت رئاسته لأعلى قاض بمجلس الدولة، وبصفة أدق لنائبه مارسو لونغ Marceau Long . من ناحية أخرى، لم يطرح الوزير أيّ سياسة تفسيريّة في قطاع التّعليم واكتفى بأخذ المذهب المُؤسّس كما طُرح مع حثّه رؤساء المؤسّسات التّعليميّة بأن يفتحوا الحوار "في حال حدوث صراع ما"، "وذلك من أجل التّخلي عن حمل هذه الرّموز، في إطار مصلحة التّلميذ والحرص على السيّر الحسن للمدرسة " (مذكرة 12 ديسمبر 1989).

بينما هدأت الوضعية في المؤسسات التعليمية، تواصل النقاش في وسائل الإعلام ليشتعل في البرلمان بعد فوز اليمين في انتخابات 1993، وذلك على إثر صراع شديد بقيادة شارل باسكوا (من حزب "التجمع من أجل الجمهورية" RPR)، وزير الداخلية، ضدّ الإسلاموية. لقد انتهى الأمر بـ "فرانسوا بايرو"، وزير التربية (من التيار الوسطي) في حكومة جوبي (Juppé 1993-1995 )، إلى الاصطفاف إلى جانب التّيار المتشدّد. فبدون أن يذكر الخمار علنا، طلب وزير التربية من المؤسسات التعليمية أن تضيف ضمن قوانينها الداخلية بندا يتعلق بحظر "الرموز الدينية الظاّهرة للعيان والتي تشكّل في حد ذاتها عناصر تبشيرية- دعوية أو تدعوا للعنصرية" (مذكرة 20 سبتمبر 1994)؛ مع أنّ القاضي قد رفض سابقا اعتبار فكرة أنّ الخمار رمز ديني للتّباهي الاستفزازي. وعلى الرغم من الضغط الإعلامي المكثف، وفي حين أنّ عددا من الفاعلين اعترضوا على أنّ الخمار الإسلاميّ "استفزازي بطبيعته"، وبأنّه رمز لممارسات "تتنافى تماما مع القيم التي تدافع عنها الجمهورية"، وأنّه يمكن أخذ مبدأ المساواة بين الجنسين كأساس للحظر وللمنع، إلاّ أنّ مجلس الدولة، كما أكّد ذلك مفوّضه للعلاقات مع الحكومة، قد رفض التّأسيس للحظر على ما يعتبر سوى "تصوّرات اجتماعية" نسبية بالضرورة. إنّه يريد التّأسيس على الرّمز في حد ذاته، وليس حول المدلول الذي يمثله أو قد يمثله، "المدلول الذي يراه البعض، سواء أكانوا على صواب أم على خطأ، بأنّه أداة للقمع". "فحينما لا يعتبر الرّمز المُختلف عليه في حدّ ذاته نقيضا للمبادئ التي يجب أن تدافع عنها المدرسة، يكون إذا ارتداء الخمار جائزا" (Kessler, 1993). لقد أحدثت مذكرة 1994 موجة جديدة من الإقصاء، ثم بعدها موجة أخرى من الطّعون أمام المحاكم: لم يثبت القاضي أحكام الإقصاء في أكثرَ من نصف الحالات المطروحة [13]. لقد أعطت الاستئنافات لمجلس الدولة فرصة لتدقيق تشريعاته إذ أنه رفض أن يعزو الطابع الجماعي لارتداء الخمار إلى الدّعوى التّبشيريّة أو التّباهي الاستفزازي، وهذا في غياب محددات أخرى لهذا السلوك (قضية الآنسة صاغلمار Melle Saglamer ، 1995). لقد انتهى الجدل العام بالانطفاء مع الانتخابات الرئاسية ومع سلسلة جديدة من قرارات مجلس الدولة (1995).

أخذ القاضي على عاتقه في هذه القضيّة طرح المعيار القانوني بطريقة بيداغوجية اتّجاه المجتمع[14] وذلك مع الدّعم الصّامت لبعض قطاعات الوسط الجمعوي العلماني، خاصّة الرابطة الفرنسية للتعليم والتربية المستمرة، والأوساط الدينية، خاصّة الكاثوليكية. كما احتجّ المتحدّثون باسم المسلمين من جميع الأطياف معبّرين على تمسّكهم بالعلمانية الليبرالية، وذلك بحجج مختلفة. لقد كان معارضو "القطيعة مع تقاليد الجمهورية"، خلف الحركات الفكرية المكرّسة خاصة للمحافظة على التّقاليد، هم معظم الفرنسيّين، أمّا النّقاش فقد تمّ تسييره في الوسط الإعلاميّ من طرف الكتّاب الفلاسفة (Lorcerie, 1996).

والمدرسة إذن؟ لقد خرجت من هذه الأزمة بتشريع حول العلمانية مشابه لتشريع البلدان الأوروبية الأخرى والتي لا تستعمل كلمة "علمانية"، إلاّ أنها تضمن نفس الحقوق، - مع استمرارها بفرض تقاليدها كما كان الحال في الماضي، بل وبمزيد من الصّرامة. لقد تحكّمت في الأمور مع تجاوز الصّدمة الأولى في الواقع. ففي حالة ما إذا جاءت الفتيات إلى الأقسام وهن يرتدين الخمار (وهذا أمر استثنائي)، فإن هيئات المؤسسات تمارس عليهن ضغطا من أجل نزعه (وقد وظّفت الوزارة وسيطات لهذا الغرض). وإذا رأت هذه المؤسسات قرار الإقصاء مناسبا، فإنها تصدره بدعم من الرّؤساء، مع أخذ الاحتياط بعدم تقديم الحجج القانونية في الملفات المطروحة (حسب التقديرات تمّ إصدار من 150 إلى 250 قرار إقصاء بين سنتي 1991 و1996، من حوالي 1000 إلى 2000 فتاة يرتدين الخمار في هذه الفترة). وفي حالة ما إذا اشتكت العائلات إلى المحاكم وألغى القاضي قرار الإقصاء، فإنّهم يسعون إلى منع إعادة إدماج الفتيات المقصيّات في مدارسهن (تم تنفيذ حوالي عشرين إجراء خلال السنوات التي شهدت طرحا كثيفا لهذه القضايا بالمحاكم).

لقد تغلّب إذن الاتجاه المحافظ الذي طُبّق بالتزاوج مع التوجه الرّدعي المنسجم مع الرأي العام السّائد. نجد نفس خط السلوك في إعلان أولوية "محاربة العنف" التي أدّت إلى تنظيم الشراكة بين المدرسة والشرطة (منذ 1992)، وأدى ذلك إلى تأسيس جنحة التعدي في المؤسسات التي أضيفت إلى قانون العقوبات (1996). ولكي يتمّ موازنة هذا الخطّ الرّدعي، قامت الوزارة بإدراج موضوع المواطنة كعلاج ضد العنف وكامتداد للنقاشات المتكررة حول مراجعة قانون الجنسية[15]. لكن هيهات، لم يتعدّ الأمر مراجعة برامج التربية المدنية بالإكماليات مع الإعلان عن متابعتها مستقبلا بالثانويات. لقد أراد هذا البرنامج الجديد أن يكون أكثر تركيزا من سابقيه على الفرد باعتباره شخصية قانونية sujet de droit، لكنه بقي في حدود الشرعية القانونية الضّيقة والتّصريحات اللفظية، بعيدا في كل الأحوال- في مواضيعه وفي مناهج تطبيقه خاصة- عن جوهر التعلّم العمليّ "للعيش معا" في الوقت الحاضر.

الفشل، النجاح ؟ الوضع المدرسي لتلاميذ الجالية المهاجرة

إذا لم تكن هناك سياسة تعليمية إدماجية حقيقية، ربما فقط على المستوى المحلي من خلال تجنيد مؤسسات تربوية أو مدارس هشّة غالبا، بالمقابل فإن هدف رفع مستوى النجاح العام ودمقرطته لم يفارق خطابات الوزارة، - مع الموافقة الجماعية[16]. لقد حفّز الأخذ بعين الاعتبار أبناء المغتربين بعض السّياسات المُنفّذة من أجل تحقيق مساواة الفرص، خاصة "المناطق التربوية ذات الأولوية" ZEP[17]، ومع ذلك لم يتم التّحقق من فعالية هذه السّياسات إحصائيّا. في نهاية المطاف إذن، ماذا عن نجاح أو فشل أبناء المغتربين؟

إلى غاية السنوات الأخيرة، كان من المستحيل الإجابة بشكل يقيني على هذا السؤال لأن فئة أبناء المغتربين في الحقيقة كانت غير ظاهرة إحصائيا. في الواقع، لا تأخذ وزارة التربية الوطنية، المصدر الوحيد للإحصائيات السوسيو- مدرسية على نطاق واسع، بعين الاعتبار في جداولها العامّة سوى حاملي الجنسية الأصلية، في حين أن 40% من أبناء المغتربين (60% من أبناء المهاجرين من أصول جزائرية) يحملون حاليا الجنسية الفرنسية[18]، ما يجعل الباحث مضطرّا للاستقراء انطلاقا من معطيات جزئية ومنقوصة.

لقد طرحت ثلاث فرضيات كبرى: الأولى تندرج ضمن الإطار النظري للتّقسيم الطّبقي، إنّها تفترض أن النجاح المدرسي لأبناء المغتربين يقارن بذاك الذي يتعلق بأبناء طبقة العمال، الذين يقاسمونهم في العموم نفس الظروف الاجتماعية. لقد تمّ اختبار هذه الفرضية بالاعتماد على مقارنة المسارات التعليمية لكل من هذين الفئتين أو بصفة أبسط توزيع هؤلاء التلاميذ بين مختلف شعب النظام المدرسي. هذا ما قامت به دراسة أجريت في منتصف الثمانينات بالاعتماد على إحصائيات رسمية معتبرة الأطفال الأجانب كممثلين للأطفال المغتربين، وخلصت إلى تأكيد عام لهذه الفرضية، لكن دون أن تكون غنيّة من حيث المعلومات، لأنّها لم تخضع للاختبارات الإحصائية ولم تقسّم المجتمع المدروس إلى فئات (Boulot & Fradet, 1988).

الفرضية الثانية، والتي تندرج ضمن الإطار النظري المعرفي (ذو الطابع النفسي - الاجتماعي)، تتوقّع بأنّ الفاعلين التربويين (أساتذة، مدراء، مستشاري التوجيه...) يطبّقون على أبناء المغتربين تعاملات تمييزية ناقلة بذلك التقسيم الاجتماعي الموجود خارج المدرسة. لقد اعتمد هذا النوع من التحليل في أغلب الدراسات المنجزة اليوم، في إطار التيار التفاعلي (interactionnisme)، والتي تحاول الكشف عن كيفية تسيير النزعة الإثنية في التعاملات الاجتماعية (p. ex. Payet, 1995, en sociologie; Vinsonneau, 1996, en psychologie sociale). وعندما يتمّ إدراجها ضمن التساؤلات حول الفشل والنجاح المدرسيين، يمكن اختبار هذه الفرضيّة عن طريق ملاحظة آثار أحكام الوسط المهنيّ، خاصّة تلك المتعلّقة بالتقييم المؤسساتي. طرحت الدراسة الفرنسية الأولى حول تمدرس أبناء المغتربين، والتي أجراها جون بيار زيروتي Jean-Pierre Zirotti ، هذا النوع من التساؤلات والذي تمّ اشتقاقه من أطروحات بيار بورديو حول الوساطة المدرسيّة لإعادة الانتاج الاجتماعي. لقد بيّنت هذه الدراسة، التي اعتمدت على منهجية إحصائية مبتكرة في تلك الفترة، أنّ سيرورة التّوجيه في مستوى السّنة السّادسة كانت تمييزيّة[19] حيث أنّ اختيار أطفال المغتربين كان مفرط الانتقاء مقارنة بنظرائهم الذين لهم نفس الظروف الاجتماعية، وهذا بغضّ النظر عن كفاءاتهم المدرسية المتماثلة. أمّا المجتمع المدروس، فقد تمّ تحديده على أساس الجنسية التي يحملونها (أجانب) والأصل الإثني بالنسبة "للفرنسيين المسلمين" [Zirotti, 1980] . لقد كانت نتائج هذه الدراسة قاطعة، لكن حجم العينة المدروسة لم يكن كافيا من أجل التعميم.

تتوقّع الفرضية الثالثة، في الأخير، تغيّر النّجاح المدرسي حسب تعبئة الفاعلين في القطاع التربوي. لقد لفتت ثلاث فئات انتباه الباحثين: المدارس والعائلات خاصّة، ثم الفتيات. بالنسبة للمدرسة فإنّه يمكن لتعبئتها كفاعل جماعي أن تؤثّر على نجاح أبناء المغتربين. لقد تمّ تأكيد هذه العلاقة في بريطانيا، أمّا في فرنسا فلم تدرس بصفة شاملة، وتمّ توثيقها في دراسة مونوغرافية أجريت في بداية الثّمانينات وبقيت مشهورة منذ ذلك الحين [Léger & Tripier, 1986]. تناولت هذه الدراسة موضوع تجنّب المدارس الحكومية في قطاع من الضّواحي تقطن به نسبة عالية من المغتربين. لقد بيّنت أنّ ظاهرة تفادي المدارس الحكومية أصابت بصفة انتقائية مدرسة من المدارس، وهذا راجع إلى ديناميكية ونجاعة التعليم في مدرسة أخرى وارتفاع نسبة نجاح التلاميذ فيها. أما فيما يخصّ تعبئة عائلات المغتربين حول تمدرس أطفالهم، فإنّها ظاهرة عامّة تمّت ملاحظتها بواسطة التّحقيقات واسعة النّطاق التي قام بها المعهد الوطني للإحصاء و الدراسات الاقتصادية (INSEE) حول "المجهودات الدراسية" لهذه العائلات (Gissot & al., 1994). بطرح فرضية التّرابط بين طبيعة تعبئة العائلات والنتائج الدراسية للأطفال، قامت زهية زيرولو Zahia Zeroulou في أطروحتها للدكتوراه بتحليل الموارد الاجتماعية والثقافية التي وظفتها العائلات الجزائرية التي نجح أبناؤها، مقارنة مع نظرائهم الذين فشلوا في دراستهم (Zeroulou, 1988). من حدود هذه الدّراسة أنّها استبعدت من حقلها التّأريخ الخاصّ بتعبئة العائلات في فرنسا وذلك في علاقته مع تطوّرات مختلف السّياقات وفي علاقته أيضا مع التّغيّرات التي شهدها المجال المنزلي[20]. لقد أسهمت الفتيات في هذه التّغيّرات الأخيرة، وهذا موضوع آخر في سوسيولوجيا التّعبئة المدرسية. "يتوجّه الأولاد إلى سجن 'بومات'Baumettes ، أمّا البنات فيتوجّهن إلى كلية الحقوق"، حسب القول الشّائع في مرسيليا[21]. لقد كشفت دراسة حديثة أجريت على مجموعة من مدارس الطور الثاني في مدينة طرفيّة عن تميّز واضح للفتيات المغاربيات مقارنة مع الأولاد المغاربة وخاصة مقارنة مع نظيراتهن الفرنسيات من الوسط العمالي، وذلك خلال توجيههنّ في الطور الثالث، بالأخص الأصغر سنّا منهن (Hassini, 1997)، يرجع هذا النجاح بالنسبة للباحث إلى الاستثمار الخاصّ والجيّد للمدرسة من طرف هؤلاء الفتيات اللاتي يدركن حجم توقّعات النجاح من طرف أولياءهن، كما يعرفن كذلك أن نجاحهن الدراسي هذا سيؤثر بشكل إيجابي في اتجاه خفض الضّغوطات العائلية الممارسة عليهن.

لقد دعمت هذه الأعمال فرضيّات مختلفة، متعارضة فيما بينها جزئيّا، وهذا ما أشعل النّقاش بين الباحثين (voir Zirotti, 1989). يمكن أن نتوقّع على أساسها بأنّ أبناء المغتربين، المغاربة خاصة، ينجحون في دراستهم على غرار أبناء الفئات الاجتماعية الأخرى ؛ ولكن الملاحظ أنّ الفتيات المغاربيات ينجحن بشكل أفضل. هناك تغيرات حسب العائلات وحسب المؤسسات، بعض العائلات، بعض المؤسسات تبدو "ناجحة" بصفة مؤكدة وأخرى أقلّ نجاحا. كما أنّه ليس من المستحيل ألاّ تكون إجراءات التّوجيه تمييزيّة، على الأقل محليّا.

لقد أتاحت دراستان منشورتان حديثا إمكانية تعديل بعض هذه النتائج ومن ثمّ التّقدم في معرفة تركيبة الملامح المفسّرة لواقع عمل النّظام المدرسيّ اليوم. لقد فصّل ملف " التلاميذ الأجانب أو المنحدرين من أصول مهاجرة في المدرسة والمتوسطة الفرنسية" نتائج دفعة تلاميذ الطور الثاني، على المستوى الوطني، والملتحقين بالسنة السادسة في سنة 1989 (18700 فرد، منهم 1500 يحملون الجنسية الأجنبية وحوالي 3700 من لهم على الأقل إحدى صفات الأجنبي) ( (Vallet-Caille, 1996. لقد استكملت هذه النتائج بالاستغلال الدقيق لمعطيات التحقيق حول "التنقل الجغرافي والاندماج الاجتماعي" للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة (Tribalat, 1996 b) . أصبحت هاتين الدراستين ممكنتين بسبب التّوافق الذي جرى من سنة 1990 إلى 1993، تحت رعاية المجلس الأعلى للإدماج، بين مختلف المؤسسات الرّئيسيّة المنتجة للإحصائيّات بفرنسا؛ التوافق الذي أدّى إلى الاستخدام الرّسميّ للمؤشرات الإحصائية الخاصّة بأصل "المهاجر الوافد" في الدراسات الخاصة بوصف الحركيات السيوسيو-ديمغرافية المرتبطة بالهجرة. فـ "المهاجر الوافد" هو كل شخص ولد أجنبيا في بلد أجنبي ويقيم بفرنسا، وهذا مهما كانت الجنسية التي يحملها خلال المسح الميداني. يستعمل كل من فالي وكاي Vallet et Caille من جهتهما عبارة "صفات الأجنبي" القابلة لتوزيعات مختلفة[22]. استخدمت الدراستان، واللتين وظفتا عددا هائلا من المتغيرات، نمذجة إحصائية متقدمة وأُنجزتا على أساس مبدأ " دراسة متغيّر واحد في كلّ مرّة دون الأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الأخرى" ( toutes choses égales par ailleurs).

لقد فصلت بين الدّراستين الميدانيتين عشريّة من الزّمن: في وضعيّة مثل هذه، أين يمكن الافتراض بأنها تتطوّر بسرعة، فإنّ هذا أمر لا يمكن إهماله. إضافة إلى ذلك أنّهما لا تحملان بدقّة نفس المتغيّرات وبالتالي فإن مقاربتهما مع بعض لا تخلو من احتمال الوقوع في محاذير الخطأ. ومع ذلك، فإنّ خلاصاتهما تدعم بعضها البعض بالنّسبة للنّتائج الرّئيسيّة بما إنّها تثبت عددًا من خصائص المسارات الدّراسيّة. هكذا، لم يكن لإعادة السنوات الدراسية للأطفال المغتربين أو المنحدرين من الجالية المهاجرة نفس القيمة التّنبؤيّة للمسار المدرسي اللاّحق والمعروفة لدى التلاميذ الآخرين. أيضا، لا ترتبط النّسبة المرتفعة لإعادة السّنوات في الابتدائي إحصائيّا بصعوبات أكثر في المرحلة الثانويّة ولا بفرص أقلّ للحصول على البكالوريا. أمّا تأثير اللغة المستعملة في العائلة، الأمر الذي اختلف حوله الباحثون من قبل، تبيّن أنه يتبع وضعيّة كل عائلة على حدى: فاستخدام اللغة الفرنسية بين أفراد العائلة يساعد على العموم عملية التّمدرس، لكن بالمقابل استخدام اللغة الأصليّة يعتبر مكسبا عندما يكون بشكل مقصود (حالة العائلات التي تستخدم اللغة الأصلية في حين أنّها تكوّنت بفرنسا). من ناحية أخرى، تشكّل بعض العائلات كثيرة العدد في المتوسّط عائقا للتّمدرس، تماما مثل بعض العائلات النووية في بعض الحالات (العائلات الجزائرية خاصّة). أمّا فيما يخص تمدرس الفتيات، لا يمكن في الأخير إثبات أيّ حقائق عامّة، فإذا كانت هناك تلميذات من بنات " المغتربين العمال بدون كفاءة" قد حصلن في شهادة البكالوريا على نسب عالية أكثر من إخوانهنّ الفتيان، فإنّ بنات فئة "المستخدمين المغتربين " قد حصلن على نسب أقلّ بكثير؛ والفتيات الإسبانيات والبرتغاليات حصلن إجمالا على نتائج جيدة، لكن التلميذات من الأصول الجزائرية حصلن إحصائيا على نتائج أقلّ. يمكن أن نستخلص بأن نوع الجنس (ذكر أم أنثى) ليس له تأثير مباشر على مسار تمدرس أطفال المغتربين،– ليس أكثر من تأثيره، علاوة على ذلك وعند الفحص الدقيق، على تمدرس الأطفال الآخرين: نحن هنا أمام أثر معيار ثقافي متغيّر اجتماعيّا كما تقول ميشال تريبالا Michèle Tribalat.

إجمالاً، في جميع الأحوال وعلى نطاق واسع، تدحض الدّراستان بوضوح فرضيّة الفشل المدرسيّ الكبير لأبناء المغتربين عموما أو فشل أبناء هذه الفئة أو تلك من الأصول المهاجرة. أفضل من ذلك، بالنسبة للمجموعة الأخيرة من التلاميذ، تستخلص دراسة فالي وكاي أنّ هناك أفضليّة طفيفة لكن "قويّة إحصائيّا" لصالح الأطفال الذين لهم صفة من صفات الأجنبيّ عند توجيههم في نهاية السّنة الثّالثة (نتائج المراحل اللاّحقة لم تتوفّر بعد). لم يتبيّن عند التّحليل المعمّق أنّ هذه الأفضليّة مرتبطة بتساهل الأساتذة ولا بكفاءات التلاميذ، ولكنّها ترجع إلى تعبئة العائلات التي كانت رغباتها جدّ طموحة مقارنة مع الفئات الاجتماعيّة التي تنتمي إليها. هذا أيضا هو المتغيّر الوحيد الذي استخرجته دراسة ميشال تريبالا والذي يظهر له تأثير إيجابيّ في حصول المبحوثين على شهادة البكالوريا. يتعلق الأمر باستعدادات معقّدة تختلف، إضافة إلى ذلك، مؤشّراتها في الدراستين والتي يمكنها أن تصل إلى حدّ إلغاء الأثر السلبيّ للأصل الاجتماعيّ "الهشّ" على المسارات الدّراسيّة للتّلاميذ.

تُعدّ هذه النّتيجة مخالفة للتّصوّرات السّائدة حول الإعاقة المفترضة التي تشكّلها العائلات المغتربة لأبنائها: إنّها تبيّن ليس فقط مدى طموح هذه العائلات، ولكن أيضا تبرز كفاءتها الاجتماعيّة خدمةً للمسارات الدّراسية لأبنائها، ومن ثمّ "إدماجهم"[23]. تسلّط هذه النّتيجة أيضا الضّوء على الواقع الاجتماعي لإعادة تنظيم إجراءات التّوجيه المدرسيّ في الطّور الثاني : هذه الأخيرة تمنح للعائلات، تحت رقابة الإدارة الجهوية للتربية الوطنية، هامش تدخّل جديد ومعتبر مقارنة مع الفاعلين التربويّين الآخرين. ويبدو أنّ العائلات المغتربة قد اقتنصت هذه الفرصة بشكل نضاليّ أكثر من جاراتها، وهذا الأمر يعتبر عنصرا آخر يُضاف إلى ملف إثنية العلاقات الاجتماعية بالمؤسّسات المدرسيّة.

بيبليوغرافيا

Berque, J. (1985). Les enfants de l’immigration à l’école de la République. Paris : La Documentation française.

Boulot, S. ; FRADET, D. (1988). Les immigrés et l’école. Une course d’obstacles, Paris : L’Harmattan.

Bourdieu, P. (dir.), (1993). La Misère du monde. Paris : Seuil.

Charlot, B. Emin, J.-C. (coords.), (1997). Violences à l’école. Etat des savoirs. Paris : Armand Colin.

Debarbieux, E. (1996). La Violence en milieu scolaire. Paris : ESF.

Debarbieux, E. ; Tichit, L. (1997). Le construit « ethnique » de la violence, Violences à l’école. État des savoirs, 155-177.

Gissot C. ; Héran, F. ; Manon, N. (1994). Les efforts éducatifs des familles. Paris : INSEE.

Goffman, E. (1975). Stigmate. Les usages sociaux des handicaps. Paris : Minuit.

Hassini, M. (1997). L’école. Une chance pour les filles de parents maghrébins. Paris : CIEMI/ L’Harmattan.

Kessler, D. (1993). Neutralité de l’enseignement public et liberté d’opinion des élèves (À propos du port de signes distinctifs d’appartenance religieuse dans les établissements scolaires). Conclusions sur Conseil d’État, 2 novembre 1992, M. Kherouaa et Mme Kachour, M. Balo et Mme Kizic. Revue française de droit adminitratif, 9 (1), janv.-fév, 112-119.

Khosrokhavar, F. (1996). L’universel abstrait, le politique et la construction de l’islamisme comme forme d’altérité. Une société fragmentée ? (dir.) Michel Wieviorka, Paris : La Découverte, p. 113-151.

Léger, A. ; Tripier, M. (1986). Fuir ou construire l’école populaire ? Paris : Méridiens-Klincksieck.

Lepoutre, D. (1997). Cœur de banlieue. Paris : Éd. Odile Jacob.

Lorcerie, F. Chroniques Maghrébins en France. Annuaire de l’Afrique du Nord, Paris : CNRS Editions, Annuel (en coll).

Lorcerie, F. (1996). Laïcité 1996. Revue française de pédagogie, oct.-nov.-déc, 53-85.

Migrants-Formations (1997). « Relations interethniques Complexité et ambiguïté », Dossier (109), juin.

Payet, J.-P. (1995). Collèges de banlieue. Paris : Méridiens-Klincksieck.

Payet, J.-P. (1996). La scolarisation des enfants et des jeunes issus de l’immigration en France. Revue française de pédagogie (117), oct-nov-déc, 89-116.

Sauvayre, A. (1996). La jurisprudence dans les affaires de foulard, et Le foulard dans les collèges et lycées de Mantes-la-Jolie, Conseil national pour l’intégration des populations immigrées (CNPI), La laïcité à l’école, Contributions et avis, octobre.

Sayad, A. (1979). Les enfants illégitimes. Actes de la recherche en sciences sociales (25), 61-81 et (26-27), 117-132.

Tribalat, M. (1993). Les immigrés au recensement de 1990 et les populations liées à leur installation en France, Population (6), 1911-1946. DOI : 10.2307/1534167

Tribalat, M. (1995). Faire France. Paris : La Découverte.

Tribalat, M. (1996 a). De l’intégration à l’assimilation. Paris : La Découverte.

Tribalat, M. (1996 b). La réussite au bac des jeunes d’origine étrangère. Hommes et Migrations (1201), sept, 35-42.

Vallet, L.-A. ; Caille, J.-P. (1996). Les élèves étrangers ou issus de I’immigration dans l’école et le collège français, Ministère de l’Éducation nationale, Les dossiers d’Education et Formations (67), avril.

Van Zanten, A. (1997). Le traitement des différences liées à l’origine immigrée à l’école française. Langue, École, Identité, Marouf, N. et Carpentier, C. (dirs.), Paris : L’Harmattan, p. 149-167.

Vinsonneau, G. (1996). L’identité des jeunes en situation inégalitaire. Le cas des Maghrébins en France, Paris : L’Harmattan.

Wieviorka, M. (dir.), (1996). Une société fragmentée ? Paris : La Découverte.

Zeroulou, Z. (1988). La réussite scolaire des enfants d’immigrés. L’apport d’une approche en termes de mobilisation, Revue française de sociologie, XXIX, 447-470. DOI : 10.2307/3321625

Zirottl, J.-P. (1980). La scolarisation des enfants de travailleurs immigrés. Nice : IDERIC, 2 vol. 

Zirotti, J.-P. (1989). Constitution d’un domaine de recherche : la scolarisation des enfants de travailleurs immigrés. Babylone (6-7), 210-254.



ترجمة :

الهوامش : 

[1] لا توجد ترجمة دقيقة لكلمة ethnicisation. نقترح هنا هذه الترجمة على أن تكون فاتحة لاجتهادات أخرى أقرب للمعنى في اللغة الأصلية. (المراجع)

[2] لقد طبق عليهم القانون الفرنسي "الحق المزدوج للأرض".

[3] أنظر الببليوغرافيا (في آخر المقال).

[4] ينتمي هذا المفهوم لنظرية كوفمان الخاصة بالوصم حيث أنه يسمي "إعاقة" كل صفة (جسدية أو غيرها) يمكن أن تنقص من قيمة صاحبها خلال تعاملات الحياة اليومية (إنها مسألة حكم اجتماعي). بعض الإعاقات أكثر ظهورا من إعاقات أخرى، و لهذا فإن أصحابها هم أكثر أو أقل "قابلية للانتقاص".

[5] لمزيد من المعلومات إرجع إلى: Les chroniques annuelles "Maghrébins en France" de l’Annuaire de l’Afrique du Nord.

[6] أي مشكلة تمدرس أبناء المهاجرين (المُراجع).

[7] التوفيق بين مصالح الطرفين قد يؤدي في بعض الحالات إلى مفاوضات طويلة لها ارتباطات مع ملفات أخرى: إنها (مثلا) حالة الاتفاقيات الجزائرية-الفرنسية والتي وقعت سنة 1981.

[8] ينطبق هذا الاتجاه كذلك على الجالية التركية رغم أن التحقيق الذي قام به المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية INED بمعية المعهد الوطني للإحصاء و الدراسات الاقتصادية INSEEقد بين حيويتها النسبية.[Tribalat, 1995, 1996 a]

[9] قانون 10 جويلية 1989.

[10] أحسن تحقيق على حد علمنا هو الدراسة المونوغرافية التي أنجزت في مونتاس-لا-جوليMantes-la-Jolie من طرف آن صوفايار Anne Sauvayre لفائدة المجلس الوطني لإدماج السكان المهاجرين (Sauvayre, 1996).

[11] بالنسبة لمدير متوسطة غابريل-هافزGabriel-Havez في كرايلCreil ، الذي أدخل "قضية" الحجاب إلى الفضاء العام في خريف 1989، إنها بداية مسيرة سياسية قادته، في سنة 1993، إلى نيابة البرلمان في صفوف حزب "التجمع من أجل الجمهورية" RPR (حزب ديغولي جديد)، والذي سينشط جناحه اليميني.

[12] عرض هذا الرأي خلال الجمعية العامة يوم 27 نوفمبر 1989. لقد طرح الوزير ثلاث أسئلة على مجلس الدولة: "هل يتوافق حمل رموز الانتماء لجماعة دينية معينة مع مبدأ العلمانية؟ إذا كان نعم، ما هي شروط القوانين التنظيمية التي يمكن أن تتطلبها هذه الحالة؟ وفي الأخير، ما هي العقوبات التي يمكن تسليطها ضد كل من ينتهك قاعدة تحظر استعمال مثل هذه الرموز؟"

[13] في سبتمبر 1995 أحصت آن صوفايارAnne Sauvayre 94 دعوى قضائية بالمحاكم الفرنسية ضد الإقصاء بسبب ارتداء الخمار. في مجمل الأحكام الصادرة بهذه القضايا، تمت المصادقة على حكم الإقصاء في 30 قضية بينما ألغيت 50 قضية (Sauvayre, 1996).

[14] لم يكن هناك إجماع من طرف رجال القانون، وفي بداية الأمر اتخذت المحاكم الإدارية قرارات متباينة.

 [15]البند الذي يتعلق بمنح الجنسية آليا للذين ولدوا بالتراب الفرنسي من أولياء أجانب وبلغوا سن الرشد تم مناقشته وبثه من خلال حصة متلفزة من طرف "لجنة الحكماء حول الجنسية" سنة 1987-1988 (حكومة شيراك)، ثم تم تغييره سنة 1993 بموجب قانون التصريح الإرادي [للاحتفاظ بالجنسية الفرنسية أو التخلي عنها] بعد 16 سنة (حكومة بالادير)، قبل أن يتم إعادته في صيغ مختلفة قليلا سنة 1998 (حكومة جوسبان).

[16] أعلن الوزير جون بيار شفانمون سنة 1985 على أن هدفه هو أن يصل 80 % من فئة عمرية معينة إلى البكالوريا. لقد تم إدراج هذا الهدف الكمي ضمن القانون التوجيهي لسنة 1989.

[17] ارجع إلى العنصر الأول.

[18] نتائج آخر تعداد عام للسكان سنة 1990.

[19] لم يعد هذا المستوى التوجيهي موجودا.

[20] أشار عبدالمالك صياد لهذه التغيرات من خلال عرضه لحالة معينة [صياد 1979].

[21] "بومات" سجن يقع بمدينة مرسيليا.

[22] المتغيرات المستعملة هي: الجنسية، مكان الميلاد، عدد سنوات التمدرس خارج فرنسا، أقدمية إقامة الأولياء بفرنسا، استعمال لغة أخرى بالبيت.

[23] لم نستعمل هذا المصطلح إلى الآن، لأن استعمالاته العادية تشوش باستمرار على قيمته العلمية. تعني هذه الكلمة هنا أن العائلات المهاجرة تتصرف كعضو كفؤ في المجتمع الفرنسي.

الممارسات التجارية العابرة للأوطان في سوق "طريق الحرير" : حالة الجزائريين والمصريين في مدينة ييوو (الصين)

تشهد مدينة "ييوو" Yiwu الصينية توافد مئات الآلاف من التجّار إلى أهمّ سوق للجملة في العالم والمخصّص لبيع السلع ذات الحجم الصغير[1]. وبعيدا عن كونها نموذجا للمدينة الشاملة بفعل الصناعة ومجالها العمراني العالمي، تعتبر هذه المنطقة، المتواجدة في ضواحي زيجياينغ Zhejiang التي تبعد بحوالي 280 كلم جنوب غرب عن شونغاي، فضاء ذا إشعاع عالمي، وهذا التوصيف لا يدعو إلى الشكّ عند المحللين الاقتصاديين (Broadman, 2007 ; Simpfendorfer, 2009)، ولا حتى عند رئيس جمهورية الصين الشعبية الذي يعتبرها خطا قويا للسياسة الخارجية الصينية يؤشّر على عودة "طرق الحرير للظهور من جديد". بدأت التجارة الخارجية في الصين، منذ منتصف سنوات 2000، تتجه شيئا فشيئا نحو مدينة ييوو، فاتحة المجال لطموحات النّخب المحلية الرامية "لبناء أكبر مساحة تجارية كبرى في العالم والتأسيس للجنة التسوّق العالمي "وعبارة "طريق الحرير" استعارة نستعملها من أجل فهم هذا الشكل المتفرّد من العولمة الذي يجمع بين الشبكات التجارية العالمية المتعدّدة.

يرتبط ميدان الدراسة في هذه الورقة البحثية بالمحطات التجاريّة المتواجدة في آسيا الغربية والتي يقصدها المستوردون من مختلف أنحاء العالم للتبضّع، متسائلين في السياق عينه عن علاقات ذلك مع كل من الشرق الأوسط، وبالخصوص مدينة دبي التي تعتبر مكانا للتخزين ولإعادة التصدير، وشمال إفريقيا باعتبارها من أهم أسواق المستهلكين. كما تسمح العودة إلى هذه "الطرق الجديدة للحرير" بفهم الكيفية التي تشكّلت بها مجالات تجاريّة ذات إشعاع وطني في الجزائر وذات صلة مع البعد العالمي، فحالتا مدينتي العلمة وعين فكرون الواقعتين في الشرق الجزائري يعكسان هذا الصعود المتنامي لنماذج جديدة من المدن. أمّا انطلاقا من مصر، فموضوع البحث يتمركز حول فهم الكيفية التي وفّق بها المقاولون العابرون للحدود الوطنية في الجمع بين مختلف تخصّصات التموين بالسلع، من الصين إلى الخليج، وصولا إلى مصر، من أجل إيصاله لأكبر سوق استهلاكية في المنطقة (أكثر من 85 مليون نسمة).وعلينا القول إنّ دور مدينة ييوو وثقلها قد شهدا فعاليّة في مجال بلدان شمال إفريقيا، إذ أصبحت هذه المدينة الوجهة الأساسيّة للتجّار المقاولين العرب. ولقد عرف المقاولون عابرو الحدود الوطنية، والفاعلون الأساسيون لهذه الدينامكية الحضرية كيف يتّخذون لأنفسهم طريقا من المنطقة المتوسطية باتجاه الشرق الأقصى من خلال وضع شبكات فعّالة للتموين معتمدة على ما يوفّره كل مجال يتمّ التردّد عليه.

يحدّد العمل الميداني لهذه الدراسة هدفين اثنين. فهو من جهة يسعى إلى دراسة التطوّرات التي عرفتها ييوو وخصوصا حيّها "الغريب" الذي يعتبر مكان استقطاب للتجارة مع الدول العربية و / أو الدول الإسلامية، ويعتبر في الوقت ذاته مرصدا مفضلا لتتبّع تكوّن مجال لتجارة محلية عابرة للأوطان. ومن جهة ثانية، يسعى هذا العمل إلى تحليل بنيات التبادلات التجاريّة التي تتّم عبر مسافات بعيدة المدى وتحليل مساراتها وملامحها وأشكالها بناء على تحقيق ميداني حول التجّار الجزائريين والمصريين. وبعيدا عن كون هذا التحقيق الميداني مجرّد ملاحظات ميدانية، سمح هذا العمل ببروز أسئلة جديدة حول المقاولين، وحول أصحاب المطاعم في هذه المدينة، وحول الترجمة، وحول المهاجرين، وحول طرق تكيّفهم مع المجتمع الصيني وديمومة تواجدهم في هذه المدينة. وعلى عكس الصورة الشمولية التي تبرزها شعارات العلاقات الصينية الإفريقية أو العلاقات الصينية مع العالم العربي، فإنّ طريق الحرير تشهد إعادة تنظيم وإعادة صناعة للدلالة بشكل مستمر من طرف الفاعلين الذين ينشّطون هذه المجالات المحليّة بوصفها مكانا للعلاقات المادية.

ييوو، محطّة عالمية للسلع ذات الحجم الصغير

تتباهى العديد من الصحف والمواقع الافتراضية في شبكة الإنترنت بالمعجزة التي حققتها مدينة ييوو. فهذه الأخيرة تأسست على شاكلة "وانزهو موديل"Wenzhou model التي أصبحت فيما بعد أنموذجا رسميا للتطوّر الاقتصادي في الصين خلال سنوات 1990(Hulme, 2015) ، كما تبرز هذه المدينة مسار الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية ذات البعد العالمي والتي تشكلت تبعا لسلسلة من الاختيارات "الحكيمة المنتهجة من طرف الفاعلين العموميين والخواص" ضمن ظروف شديدة تنافس على المستوى الوطني والدولي.

يعدّ حاليا سكان ييوو بالملايين، فهي تستقبل على تراب إقليمها ما يقارب المليون ونصف المليون مهاجر من كل نواحي الصين (2013 Guihuex,). تقع هذه المنطقة، في الإقليم الساحلي لزيجيان، على بعد ساعتين من الزمن بالقطار جنوب مدينة شانغاي، وقد عرفت هذه المدينة كيف تجني ثمار استثمارها في الأسواق المتعددة بفضل الظروف الملائمة لذلك، وبفضل الدعم الدائم للسلطات المحليّة منذ تبني سياسة إنهاء النظام التعاوني في نهاية سنوات 1970.

يتزامن استحداث سوق البيع بالجملة في ييوو سنة 1982 مع سياسة التفتّح الاقتصادي التي دعا إليها الرئيس الصيني دينغ سياوبينغ (Deng Xiaoping) سنةَ 1979. ومنذ سنة 1984، بدأت التنميّة بواسطة التجارة تعطي للمنتوجات الصناعية المحلية المجال للتواجد والبروز عند تجّار في إقليم زيجيانغ في المرحلة الأولى، ثم عند بقية تجّار الصين في المرحلة الثانية[2]. وابتداء من سنة 1986، أسهمت الحكومة المركزية في إحداث دفع من أجل تحديث سوق للتوزيع من خلال السماح للمنتجين بالتعامل المباشر مع تجّار الجملة.

رسّم الرئيس الصيني جييانغ زيمين (Jiang Zemin) بداية من سنة 1989، وخلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي، طريقا للإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي تبنتها الصين والقائمة على إعادة تنظيم طرق توزيع المنتوجات والخدمات. اُتبعت هذه الإجراءات بتبني تدريجي لسياسة لامركزية، غايتها إعطاء استقلالية تدريجية للحكومات الجهويّة والمحليّة من أجل التدخّل في تنمية وتنظيم الأسواق. يمكن القول إنّ ييوو من بين المدن التجاريّة التي ظهرت نتيجة لإصلاح المنظومة الصينية للتوزيع التجاري الموجهة نحو تسهيل الانتقال من الاقتصاد المخطّط إلى اقتصاد السوق. وقد سمحت هذه الإصلاحات للمنتجين بالحصول على زبائن جدد، وسمحت لتجّار الجملة بالاستفادة من تسعيرات على منتجاتها أقل بـ 30% ممّا هو متداول خارج هذا الإجراء[3]. يمكن القول إنّ نجاح هذه المدن- الأسواق، متعلق بنشاطات أسواق الجملة التي أحدثت دينامكية جعلت منها محرّكا للنمو العمراني في مقاطعة زيجيانغ التي تحصي اليوم 68 تجمعا تجاريا، 7 منها يجتمع ضمنها 000 5 محل تجاري على الأقل[4].

وبداية من سنة 1991، أصبحت ييوو سوق الجملة الأهم المتخصّصة في بيع الأدوات الصغيرة في جمهورية الصين الشعبية. يعكس نجاح هذه السوق الاختيارات التجاريّة والصناعية التي تبنتها الإدارة المحلية والتي أخذت على عاتقها ترقية حركة النشاطات التجارية وتنظيمها، وقد أنشئت لذلك في سنة 1982 مجموعة زيجيانغ للأدوات الصغيرة (CSCG) بغية إقامة سوق الجملة في هذه المدينة[5]، وهذه المجموعة تنتمي إلى القطاع الخاص ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالمجالس المحلية التي تلعب أدوارا رئيسة في ثلاثة اتجاهات.

فضمن الوجهة الأولى، للمجموعة دور بارز في إعادة هيكلة النسيج الصناعي في زيجيانغ والمكوّن خصوصا من المؤسسات المتوسطة والصغيرة من خلال دمج المنتجين المشتتين لمواجهة المنافسة المتنامية وضمان النمو. يمثل هذا التصوّر في حد ذاته قطيعة مع النمط السابق السائد ضمن الوحدات الصناعية المتخصصّة في إنتاج منتوج واحد موروث عن فترة التعاونيات المؤسس وفق المبدإ السابق " قرية واحدة، منتوج واحد". هذه القطيعة تعطي للمدن التجارية إمكانية لعب دور داعم للتحديث من خلال تسهيل تدفّق السلع[6]، وهذا التوجّه يجعل من ييوو واجهة لعدد متنامٍ من المنتوجات (1700.000 في سنة 2008) خصوصا إن كان المتعاملون اقتصاديين ينتمون إلى 22 مقاطعة صناعية متخصّصة في إنتاج منتوج واحد من بين 36 متواجدة في زيجيان يستعملون حاليا هذه المنطقة من أجل الولوج إلى السوق الوطنية في الصين والأسواق العالمية[7].

أمّا التوجّه الثاني فمرتبط بالنجاح الذي حقّقته هذه المدينة والذي أحدث توسّعا وتنوّعا للأسواق المتخصّصة في البيع بالجملة " لقوائم السلع" على شاكلة الأجهزة المنزلية، والمنتوجات الورقية، والألعاب، والألبسة والأدوات الدينية... تتميّز المنتوجات التي يروّج لها منتجوها لفائدة تجار الجملة بتعدّد المنتوج وتنوّعه، وهذا الوضع يمنح إمكانيات واسعة لاختيار السّلع، كما يعطي هذه المنتوجات إمكانيات لتحديدها بسهولة من طرف طالبيها في هذه الأسواق بناء على ترتيبها حسب نوعها ومكان تمركزها. إنّ عرض المنتوجات صناعة ازدهرت في هذه المدينة وفي مناطق أخرى من الصين[8]. ولقد عرف تعداد المحلات والدكاكين في أسواق المدينة الممثّلة لمختلف المصانع ارتفاعا مذهلا، فإذا كان عدد المحلات في سنة 1982 قد بلغ 705، فإنّ التعداد نفسه قد ارتفع في ظرف 10 سنوات إلى 000 16 محلٍّ، ووصل سنة 2006 إلى 000 58 محلٍّ، وتابع نموه سنة 2008 مسجلا رقما قدره 000 62 محلٍّ، أمّا اليوم فإنّ عدد المحلات المحصاة هو 000 220 محلٍّ. استطاع المركز التجاري العالمي الموسوم "فوتيان ماركت"، والذي يحتوى على 000 50 محلّ ممثلٍ لمختلف المصانع مساحة كل واحد لا تتجاوز في العموم 10 أمتار مربعة[9]، أن يمدّ المدينة بواجهة سمحت للمنتوجات المصنوعة في مختلف المقاطعات الصناعية في زيجيان، التي تنتمي إليها مدينة ييوو، بالتواجد في الأسواق بعد سنة فقط من انضمام الصين إلى المنظمة العالمية للتجارة سنة 2001. علينا القول إنّ ما لا يقل عن ثلاثة أرباع المعاملات التجارية تجري على مستوى المدينة، بينما الباقي متمركز في مناطق أخرى من ييوو. أمّا في سنة 2011، فقد كانت ستة من أهم أسواق ييوو، والتي تمثل أهم مصادر المنتوجات، تموّن الشبكات التجاريّة للعولمة الاقتصادية، يضاف إلى ذلك عشرات من الشوارع المتخصّصة في بيع منتوج واحد بعينه (000 170 محلٍّ تجاريّ).

أمّا التوجّه الثالث، فمتعلق بتدويل السوق المتخصّصة في ييوو، الذي يعتبر نتيجة لاستراتيجية مبنية على البحث الدائم لتصريف المنتوجات والسلع، فتشكّل المدينة – السوق ألزم الفاعلين التجاريين بضرورة إيجاد زبائن جدد وأسواق أخرى تابعة لها بغية بيع المنتوجات المعروضة في الآلاف من المحلات التجارية، ومن هذا المنطلق تعوّض كمية المبيعات ضعف هامش الربح حسب المبدإ الاقتصادي الذي ينادي به يو لين (2007Yue Lin, ) والقائل: "إذا كان ربحي 10 سنتيمات عن كل قطعة، فلا يمكنني بيع سوى 10 قطع في اليوم بعائد مالي يقدر بـ 10 أورو، ولكن إذا كنت لا أربح سوى سنتيما واحدا في القطعة فيمكنني بيع ألف قطعة والحصول على 100 أورو". تفرض مثل هذه الاستراتيجية ضرورة التوسيع الدائم للأسواق بغية تصريف السلع وبيعها على المستويين الجهوي والوطني ما دامت المنافسة من خلال الأسعار المنخفضة تلعب دورا في تحديد قيمة المنتوجات الصناعية المعروضة في السوق المتخصّصة وحتى على مستوى الأسواق المجاورة له. وتجب الإشارة إلى أنّ غياب سلطة لضبط الأسعار مهمتها تنظيم الإنتاج وتنظيم عمليات بيعه، يدفع المؤسسات إلى الاحتكام إلى منافسة شديدة، أداتها "سعر المنتوج" على حساب "النوعية والإبداع"، وهذا الوضع يدفع إلى وسم مدينة ييوو ووصمها بعاصمة التقليد غير الشرعي للمنتوجات في الصين[10]. وبما أنّ الأسعار المعروضة في هذه المدينة تعتبر الأكثر تنافسية، تصبح هذه المنطقة قبلة للعالم، خاصة عندما تتوفّر على مكانة متميزّة ضمن التجارة الدولية، وخصوصا عندما يحاول التجّار مضاعفة ثروتهم انطلاقا من مختلف النشاطات المتواجدة في هذه المدينة.

ينمّ بروز مدينة ييوو بوصفها سوقا عالمية للجملة عــن استراتيجية مدبّرة محليا، تلقى تأييدا من مستويات "عليا للقرار" لدى المتعاملين الاقتصاديين العموميين والخواص. وتسعى هذه النظرة إلى فتح المجال إلى اكتساب أسواق جديدة في مقاطعة زيجيان كمرحلة أولى، ثم الصين والعالم كمرحلة ثانية، بفضل تخصّصها في السلع الاستهلاكية الشائعة. يعتبر نموّ التجارة الدولية وتوسّعها عبر الحدود، خصوصا مع كوريا الجنوبية، أهم مرحلة ضمن سياق التدويل المرحلي للنشاط التجاري لييوو والذي يتأكد منحاه خلال سنوات 2000، خصوصا عندما نعلم أنّ 55% من صادرات أسواق هذه المدينة موجّهة إلى سوق كبيرة مكوّنة من 215 بلدا[11]، فاتجاهات التصدير ليست فقط الدول المجاورة للصين بل ستظهر، بداية من 2002، وجهات أخرى تخصّ الأسواق الناشئة في أوربا الشرقية والخليج العربي.

الجدول رقم 01 : أهم المستوردين للسلع من ييوو (2002-2011)

أهم المستوردين للسلع من ييوو (2002-2011) دفاتر إنسانيات

المصدر :

Yiwu customs (http://en.onccc.com, 2002; http://old.echinacities.com, 2006;

http://www.yiwumarketguide.com/, 2009; http://www.yiwu-sourcing-agent.com, 2011)

ييوو، منطلق الطّرق التجاريّة العابرة للحدود الدولية باتجاه العالم الإسلامي

أسهم اقتران القرارات السياسية، المتّخذة على مستويات متعدّدة والمتعلقة بالتحوّلات الاقتصادية والجغرافية، في إعطاء ييوو صدى كبيرا، ممّا جعل هذه المدينة تتموقع في قلب الشّبكات التجاريّة العابرة للحدود الدولية تضمن لها تواصلا مع مختلف مناطق العالم الإسلامي.

صورة 1 : ييوو إشعاع واجهة اقتصادية صينية

ييوو إشعاع واجهة اقتصادية صينية دفاتر إنسانيات

المصدر : بليز، بلقيدوم، جويلية 2015

تعدّد المبادلات التجارية بين الصين و العالم الإسلامي

تشكّل الفترة التي تلت أحداث 11 سبمتبر2001 مرحلة مهمة في جعل الصين وجهة مألوفة بالنسبة إلى المقاولين والتجاّر الوافدين من العالم الإسلامي، ومصدرا للتموين، بعدما كانت وجهتهم السابقة محصورة في أسواق أمريكا الشمالية والأسواق المتوسطية وأسواق الخليج العربي.

لقد شهد تصدير السلع من الصين نحو العالم العربي والإسلامي ارتفاعا محسوسا وهاما منذ نهاية سنوات الثمانينيات، وفي هذا السياق لعب الظرف الجيوسياسي دورا حاسما في ذلك، خصوصا بعد العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية على الصين جرّاء أحداث تيان أنمنTianan Men . فرضت هذه المواقف المعلنة من هذه الأحداث على الصين، خلال الفترة الممتدة بين 1989 و1992[12]، ضرورة البحث عن أسواق جديدة لبيع منتوجات مصانعها بأسعار تنافسية، وعن طريق توقيع عقود في مجال البناء والأشغال العمومية. أمام هذه السوق الواعدة، قطعت العربية السعودية بداية من 1990 علاقاتها الدبلوماسية والتجاريّة مع طايوان ووقّعت على العديد من عقود التعاون مع الصين[13]، ومن جهتم استعان المستوردون المقيمون في القاهرة بغرفة التجارة الصينية في مصر من أجل زيارة المنطقة الصناعية المتواجدة في "دلتا أنهار اللؤلؤ"[14]، وهنا لا يمكن الاستهانة بالدور الذي قام به المسلمون الصينيون أثناء ميلاد هذه العلاقة الجديدة بين جمهورية الصين الشعبية والدّول الإسلامية[15].

أدى التصدير من ييوو باتجاه سوق واسعة من المستهلكين المتواجدين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تسجيل ارتفاع في الصادرات الصينية نحو العالم العربي خلال سنوات الألفين، وقد انفتح مجال عظيم الاتساع أمام صادرات ييوو على أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي كانت تبحث عن منتوجات أقل سعرا. وقد ارتفعت الصادرات الصينية نحو العالم العربي بارتفاع الطلب على السلع الاستهلاكية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول (الجدول رقم01). فعلى سبيل المثال، بلغ حجم المبادلات التجاريّة الصينية-العربية سنة 2005 ما قيمته 51.2 مليار دولار أمريكي، وهذا الرقم يعادل عشرة أضعاف ما سجل سنة 1995، ليرتفع إلى ما قيمته 133 مليار دولار أمريكي في سنة 2008[16]، ويصل إلى مستوى 200 مليار دولار أمريكي في سنة 2011 الموافقة لتاريخ بداية ثورات الربيع العربي[17]. وقد شكّلت كل من العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة أهمّ الشركاء التجّاريين مع مدينة ييوو في سنة 2002، كما عرفت القائمة هذه توسّعا لتبلغ ستّ دول في سنة 2011 بعد انضمام كل من إيران، ومصر، والعراق والجزائر؛ فقلّل هذا التوسّع تدريجيا من تأثير محطّات التبادل التجاري المتواجدة في كل من دبي وجدّة، على مسارات التبادل مع مصادر التموين، فاتحة المجال أمام التبادلات المباشرة بين مصدر التموين ووجهة الاستهـلاك.

الطريق نحو المحطات التجاريّة المتوسطية

نشّط التجّار العرب المتواجدون في جنوب المتوسط العلاقة مع مصادرهم التجاريّة وفق شبكة المبادلات المحصورة بين ضفتي هذا البحر. والمعطيات المتوفّرة اليوم تسمح بتقديم كرونولوجيا تبادلات المغاربة مع هذه الأسواق التجارية. ففي سنوات الثمانينات من القرن الماضي، سُجّل توافد هامّ لتجّار جنوب المتوسط على الموانئ القديمة لفرنسا (مرسيليا) وللدول المجاورة لها (مدن برشلونة وجينوة) من أجل التسوّق. وقد أسهم هذا التوافد في تكوين صورة حيّة عن الطرابانديست[18] (تاجر الشنطة)[19]، أمّا مع بداية سنوات التسعينيات من القرن نفسه، فقد عرفت الوجهات التجاريّة تنوعا، وأصبحت مدينة اسطنبول تشهد تدفّقا مكثفا للمغاربة التجّار الذين كانوا يصادفون في مسارهم التجاري مواطني المعسكر السوفياتي السابق. ولم تكن هذه الوجهة الجديدة وحيدة، فقد شهدت الطرق التجاريّة باتجاه الشرق الأوسط والخليج العربي هي الأخرى انتعاشا، إذ مثلت فضاءَ لقاءٍ بالآسيويين والأفارقة خصوصا الحجاج – التجّار منهم[20]، أمّا في الجنوب الشرقي لآسيا فقد كانت بانكوك هي الوجهة عموما[21].

تعلن هذه المعطيات عن تغيّر في مركز ثقل المبادلات التجاريّة بعد الأزمة المالية الآسيوية (1997)، خصوصا بعد عودة هونكونغ إلى السيادة الصينية وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001. لقد دخل العديد من التجّار إلى الصين بطريقة تدريجية بعد القيام بالزيارة الأولى للتسوّق في هونكونغ، قبل الاتصال المباشر بالأسواق المتواجدة في الصين في مدن قانقزهو Guangzhou وييوو (Belguidoum, Pliez) التي عرفت سمعتها انتشارا لدى التجّار، بفضل الفرص التي تمنحها لشراء قوائم السلع وبأسعار جد تنافسية.

دبي : محطة تجاريّة متجاوَزة ولكن ضرورية

أسهمت دبي بشكل معتبر في إعطاء مدينة ييوو صفة الملتقى التجاري بالنسبة لمسلمي العالم العربي والقارة الإفريقية والشرق الأوسط، وقد طوّر المقاولون في هذه المدينة وظيفتي الاستيراد وإعادة التصدير على المستوى الجهوي باتجاه دول الخليج، بما فيها إيران والعراق؛ وعلى مستوى الدولي باتجاه بقية العالم العربي وإفريقيا. وكانت الغاية من "الاستجابة لحاجات البلدان المجاورة لهذه المدينة من خلال فتح منفذ لها للاتصال مع العالم الخارجي"[22]. ترافق هذا الإشعاع التجاري لدبي مع توسّع العلاقات بالمقاطعات الصناعية في الصين من جهة، ومع توطّن الشركات التجاريّة الإمارتيّة في مدن صينية مختلفة وفي ييوو، مشكلة نافذة تجاريّة هامة للترويج لأسواق الجملة السائرة في طريق التدويل في جنوب شرق آسيا. وتعتبر دول الخليج، بوصفها مستوردًا لليد العاملة وللبضائع، مكانا لبروز الفرص للمقاولين المهاجرين وفضاء للقاءات هامة في مسارهم المهني. يعبّر جزائري يملك اليوم مطعما في مدينة ييوو بعدما كان مستوردا للسلع عن طريق "الشنطة" من اسطنبول، عن دهشته لحظة اكتشافه دبي قائلا: "في دبي، كنت أرى مع أصدقائي نشاط الإماراتيين والإيرانيين، ولكن كنا نعلم أنّنا لسنا بعد في مصدر السلع: الصين". الملاحظة نفسها يقدما أحد المستجوبين من لبنان يدعى خالد، يملك هو الآخر مطعما، وكان يمتهن الطبخ في الكويت إلى غاية إقناعه من طرف أصدقائه التجّار بضرورة زيارة الصين لأنّ الربح فيها سريع. ومن جهته، يشرح ساعَد، جزائري من ولاية سطيف، مسيرته التدريجية بالتفصيل باتجاه الوجهة الصينية. تناسب نشاط ساعد مع بداية فتح التجارة الخارجية في الجزائر في سنة 1992، وقد بدأ مساره التجاري باستيراد السلع من فرنسا، ثم تحوّل نحو أوروبا الشرقية، ليغّيّر فيما بعد وجهة الاستيراد نحو دبي وقطر بغية تزويد "سوق دبي" المتواجدة في مدينة العلمة (ولاية سطيف)،وهذه الأخيرة ستصبح فيما بعد منطقة تجارية ذات صيت وطني. ويعود اكتشاف المبحوث للصين، بوصفها وجهة تجارية، إلى نصيحة أحد أصدقائه. يصّرح ساعد قائلا: "الصين، مصدر كل السلع. علينا أن نغادر دول الخليج باتجاه الشرق لنقترب أكثر من مصدر السلع"، وهنا يرافق ساعد أصدقاءه ويكتشف مدينة ييوو التي سيواظب على زيارتها مرّة كل شهرين للاطلاع على المنتوجات المعروضة في أسواق الجملة وشرائها والتحقّق من ملاءمة السلع لاختياراته ونقلها نحو الجزائر عن طريق عميل صيني مكلّف بالشحن.

ولقد شكّلت سنوات الألفين بداية تكوّن نواة صلبة للتبادل التجاري بين ييوو ودبي التي ستصبح وسيط الربط بين العالم الإسلامي والصين، ودفع هذا الوضع بالعديد من صغار المستوردين لمحاولة تجاوز هذه المدينة عن طريق الاتصال المباشر بالمدينة التجاريّة الصينيّة. وإذا كان المرور عبر دبي اليوم ليس ضروريا، فدورها لا يزال مهمّا خاصة مع تواجد مقرّات شركات الشحن، وخصوصا مقرّات شركات المعاملات البنكية في هذه المدينة.

الشارع الغريب في ييوو : رؤية غامضة من الحي العربي

تقترح مدينة ييوو عروضا جذّابة للتجّار الذين يقصدون أسواق هذه المدينة والتي تفتح أبواب أسواقها طوال أيام السنة (364 يوما)[23]، وتتوقف بالتزامن مع الرزنامة الصينية للمعارض الدولية التي تتحكم في وتيرة زيارات التجّار إلى هذه المدينة. يلخص مستورد جزائري[24] المكانة التجارية لييوو في هذا القول: "على عكس المعارض المنتشرة في الصين، وبالخصوص معرض غانغز الشهير، الأسعار المقترحة في ييوو منخفضة جدا، والسلع متنوّعة ومتعدّدة ومتجمّعة في سوق واحدة"، ويستطرد قائلا: "اشترى الجزائريون، بعد 10 سنوات من الاستيراد المكثّف، العديد من المنتوجات. وقد تمّ التحوّل تدريجيا من صفقات تجاريّة كبرى تهتمّ بمنتوجات متنوّعة إلى صفقات تجاريّة متخصّصة". وأمام أولى ملامح تشبّع الأسواق الوطنية بالمنتوجات ذات الاستهلاك الواسع يجد المموّلون المستوردون أنفسهم مجبرين على تطوير ظروف عرض السلع وتصريفها في الأسواق.

صورة 2 : ييوو، "الحي الغريب"

 صورة ييوو الحي الغريب دفاتر إنسانيات

المصدر : بليز، بلقيدوم، جويلية 2015.

يترجم تزايد أعداد المقيمين العرب في هذه المدينة الأهمية التي تحتلها العلاقات بين مدينة ييوو والبلدان العربية، وتعكس في الوقت نفسه قدم تلك الروابط على الرغم من وجود صعوبات للتحديد الدقيق للعدد في هذه المدينة. تشير الإحصائيات إلى كثافة العلاقات التجارية بين ييوو والبلدان العربية وتتحدث عن وجود 70% من العرب[25] من أصل 000 11 مقيم أجنبي في هذه المدينة خلال سنة 2010، كما تتحدث عن زيارة 000 200 متسوق عربي[26] للمدينة نفسها كل سنة. ولا يقتصر التواجد في هذه المدينة على العرب فقط، بل يتعداه إلى مسلمي العالم من غير العرب، ولهذا الحضور العددي تأثير مباشر ومرئي في المدينة، ينعكس على الظروف الخاصة بالضيافة التي يقترحها هؤلاء المقيمون، ويؤدي إلى بروز تخصّصات خدماتية مجالية تحاول سلطات مدينة ييوو توفيرها.

تجلى تميّز بعض شوارع مدينة ييوو بداية من سنوات التسعينيات من القرن الماضي، كما توضّح تخصّصها في التجارة مع العالمين العربي والإسلامي من خلال عروض بيع الأدوات الدينية والنسيجية، ومثل هذه الشوارع المتواجدة في نطاق جغرافي ضيّق بالقرب من معرض[27] في بيونونغ Binwang (المحدّد جغرافيا ما بين شوارع رقم 6، 8 وشوزهو Chouzhou) ماثلة في "قلب حي المطاعم العربية". وإذا كان هذا الحي يحمل العديد من الأسماء فإنّ التسمية الإدارية الرسمية له هي "سان موشو"San Mao Chu ، ولكن الصينيّين لا يتردّدون غالبا في استعمال اللفظ الصيني "ألادو فان ديان" Alado fan dian والتي تعني "مطعم عربي "للإشارة إلى الحي ذاته، أو في استعمال لفظ "المائدة" مثل بقية العرب في إشارة إلى أول مطعم مصري أقيمَ في هذا الحي.

لقد أعادت مؤخرا بلدية ييوو تسمية هذا الحي باستعمال لوحات معدّة لذلك، مكتوبة بالإنجليزية، اختارت لذلك تسمية "الشارع الغريب" (كتبت العبارة في النص الأصلي بالإنجليزية Exotic Street)، وهذا المكان" يجمع في جنباته 50 مطعما صينيا، و40 مطعما غير محلي، و20 مطعما مختصا في الشواء"[28].

تكمن الغاية من التسمية الجديدة لهذا الحي الموجه لنشاطات الترفيه الليلي في الكشف لرواده عن طابعه العالمي والمتنوّع، سواء كانوا من التجّار الزوار أو من الصينيين المقيمين أو من غرباء عن مدينة ييوو، كما تسعى هذه التسمية أيضا إلى محو كل علامة هوياتية معلنة يمكن أن تلصق بهذا المكان.

يتكوّن "الحي الغريب" من عدد كبير من الحارات المخترقة بواسطة 5 طرق متوازية، تصطفّ على جنباتها المحلات التجارية، ويستدل على نشاطها بواسطة لافتات مكتوبة باللغات الصينية، والإنجليزية، وفي بعض الأحيان بالتركية، أو باستعمال الحروف العربية -الفارسية. وتمثّل الساحة المتواجدة في مفترق الطرق مركز ثقل هذا الحي لما تحتويه من مطاعم وفنادق عربية أو تركية. وتتواصل الحارات فيما بينها بواسطة طرق من أحجام مختلفة تتقاطع فيما بينها لتكوّن ساحات فرعية، كما تتسلسل على حوافها محلات الملابس، والقماش، والأدوات الدينية (طريق كامل مخصص لمثل هذا النوع من التجارة)، ومحلات وكالات العبور، والفنادق ومحلات الحلاقة.

يمثل "الحي الغريب" معلما مركزيا في الوسط العمراني، يقصده التجّار الوافدون من البلدان الإسلامية بعد نهاية يوم العمل، خصوصا بعد غلق المركز التجاري الدولي أبوابه فاسحا المجال للسوق الليلية، ولانتعاش نشاط المطاعم التي تبقى مفتوحة لغاية ساعات متأخرة من الليل، يساعدها في ذلك الفارق الزمني الموجود بين الصين وبقية مناطق العالم. ويتيح التجوّل بين أروقة عرض المنتوجات المجال لتفاوض التجّار القادمين من مختلف أنحاء العالم مع مختلف العارضين، ويتم ذلك في العموم أثناء فترات مؤانسة، يتقاسم فيها طرفا العملية التجاريّة على طاولة التفاوض حول المشتريات وأسعارها تدخين "الشيشة"، وشرب القهوة أو الشاي أو تناول الشواء. ويتعرّف الزائر على الجمهور الذي يقصد هذا الحي من خلال علامتي اللباس واللغات، ويمكن أن نشير في هذا المقام إلى إثنيتي ويغور (Ouighours) ووي (Huis)الصينيتين[29] وإلى الباكستانيين والعرب والأتراك والأفارقة.

كما يوفّر حي سان ماوشو أحد أهم متطلبات التجّار الوافدين من بدان العالم الإسلامي والمتمثلة في الأكل الحلال الذي يتلاءم وتعاليم الدين الإسلامي، ويبدو توفير هذه الضرورة بالنسبة للتجّار الزوار غاية في الأهمية خصوصا في ظل مشاكل التواصل اللغوي المطروحة بحدّة في الصين. تتناسب المعالم الثابتة للحي مع انتظارات بعض المستوردين الذين لا يقضون سوى فترة قصيرة تتراوح ما بين 48 و72 ساعة في هذه المدينة من أجل القيام بأعمال تجارية. ولكل جنسية تتردّد على ييوو فنادقها ومطاعمها التي تعتبر أماكن للتواصل بالنسبة للعديد من المستوردين الزوار، ففي هذه المطاعم، وحتى في صالونات الحلاقة التي لا تمثل في ذلك استثناء، يتواعد الزوار من أجل تبادل المعلومات، أو من أجل إبرام العقود التجاريّة. وإذا كان تسيير الفنادق أو المطاعم صينيا أو أجنبيا، فإنّ معظم العمّال صينيون مسلمون(ويغور،ووي)[30]، ولغة تداولهم المشتركة هي العربية.

وحي سان ماوشو هو نموذج معبّر عن النشاطات التي تشهدها مدينة ييوو والتي تمثّل نموذجا لعالم مصغّر يلتقي فيه التجّار الزوار والمهاجرون الجدد في كل أنحاء هذه المدينة.

صورة 3 : "الحي الغريب" صورة سياحية لحي مطاعم المسلمين في ييوو

 صورة سياحية لحي مطاعم المسلمين في ييوو دفاتر إنسانيات

المصدر : بليز، أوت 2015.

مسارات المقاولين العابرين للحدود : حالة الجزائريين والمصريين

يعود اكتشاف التجّار الجزائريين مدينةَ ييوو إلى نهاية سنوات التسعينيات من القرن الماضي، وقد أسهم في هذا الحضور بروز مكتب تجاري أوجدته في هذه المدينة شخصيات رائدة من مدينة العلمة (ولاية سطيف).و قد تمثّل دور هذا المكتب في مرافقة التجّار الجزائريين خلال اتصالهم بالممولين المتواجدين في أسواق الجملة، كما كان يتكفل بدور الترجمة والمشاركة في عمليات التفاوض بين التجّار والمموّلين، وكان يتعهد بإتمام المعاملات الجمركية ووثائقها، ويراقب نوعية السلع ومدى امتثالها للمواصفات المتّفق عليها، ويتابع عمليات شحنها في الحاويات بغية تنظيم نقلها بحرا إلى وجهتها الأخيرة، كما يلعب المكتب دور الضامن المالي أمام المموّنين الصينين فترة آجال دفع ثمن السلع.

وقد استطاع أحد وكلاء الشحن الجزائريين من مدينة العلمة أن ينشئ أول مطعم في هذه المدينة على شاكلة مطاعم المصريين، والسوريين، واللبنانيين والأتراك الممثلة للجاليات الأكثر حضورا. واتخذ هذا المطعم في البداية تسمية "الأندلسية"، وحمل بعد تغيّر ملكية المطعم اسم "طاسيلي"، ليستقر في الأخير على تسمية "البهجة". ولقد لعب هذا المطعم دورا هاما في التكفل بالتجار الجزائريين الزوار لمدينة ييوو، لكن وفي 2011، أغلق هذا المطعم الجزائريّ الوحيد أبوابه بسبب أشغال إعادة التهيئة العمرانية لجزء من الحيّ الذي يقع فيه، ولم يفتح أبوابه منذ ذلك التاريخ، لكن ومع ذلك، استطاع الجزائريون –بسرعة-إعادة تشكيل أماكن التقائهم بالقرب من المطعم نفسه من خلال التوافد على محلّ للوجبات السريعة وفندقين صينيين مقابل "الشارع الغريب".

صورة 4 : ساحة في "الحي الغريب"

ساحة في الحي الغريب دفاتر إنسانيات

المصدر : بلقيدوم، جويلية 2015.

إنّ تزايد عدد التجّار الجزائريين المهتمين بالأسواق العالمية يعكسه في الواقع تعدادهم المسجل على مستوى مصالح الجمارك الجزائرية والذي بلغ 000 34 تاجر مستورد، فـ 80%من المنتوجات المستوردة غير الغذائية مصدرها الصين[31]، تواجدهم فيها ملحوظ على مدار أيّام السنة، ويبلغ مداه فترة تنظيم المعارض الكبرى في الصين. وتختلف فترات إقامة المستوردين الجزائريين في الصين، ولكن ذلك لا يتجاوز في الغالب عشرة أيام، وهي فترة غالبا ما تخصّص لمعاينة المنتوجات وتقديم الطلبيات وفي بعض الأحيان تصل إلى معاينة السلع المحمّلة للشحن. ويعتمد التجّار المستوردون الذين يقصدون الصين لأول مرّة على عناوين محدّدة مسبقا، ويضمن هذا التقليد التكفّل بهم منذ لحظة نزولهم بالصين من جهة، ويسهّل عليهم تقديم طلبياتهم من جهة أخرى.

كما يشهد عدد وكلاء الشحن الجزائريين في الصين ارتفاعا ملحوظا على الرغم من صعوبات إحصاء عددهم بدقة، كما تعرف أصولهم الجغرافية تعدّدا، فبعدما كان الرواد من مدينة العلمة فقط ، يقدم المشهد الراهن ملامح جديدة لشباب (تعدادهم يعد بالمئات) يقلّد الرواد ويمارس النشاط نفسه وهو قادم من ولايات الشرق الجزائري (سطيف، برج بوعريريج، قسنطينة)، أو من منطقة القبائل والجزائر العاصمة[32]،وهذا الوضع يدفع بوكلاء الشحن الجزائريين للظهور في شكل جماعة مهنية مهمة على غرار باقي الجماعات المتواجدة في الصين والقادمة من مصر ولبنان وتركيا.

يحيل تصنيف[33] الجماعة وكلاء الشحن الدائمة في الصين إلى وجود نوعين من الفاعلين هما: كبار وكلاء الشحن، عددهم عشرون وكيلا، يمثلون فئة الرواد الذين بدأوا نشاطهم مع بداية سنوات الألفين، يختصون بصفقات الاستيراد الكبرى نحو الجزائر ولهم علاقات مع كبار التجّار الجزائريين، ويُشغّلون يدا عاملة محلية و أيضا شبابا قادما من الجزائر (أحد الأقارب أو الأصدقاء).أمّا الفئة الثانية فهي حديثة العهد بهذا النشاط وعددها معتبر، بدأت تتوافد منذ سنتين أو ثلاثٍ على الصين لتجرّب حظها في هذا المجال. وشرع هذا الجيل الجديد من وكلاء الشحن الشباب في التموقع ضمن هذه السوق رغم حدّة المنافسة، مستغلا ارتفاع حجم المبادلات التجارية بين الصين والجزائر. لقد قدم هؤلاء الشباب الذين تربطهم علاقات القرابة مع المستوردين (فهم إمّا أبناؤهم أو إخوتهم) بطريقة مباشرة من الجزائر إلى الصين بعد ما تعلموا مهنة وكيل الشحن من أحد الأقارب المستقرين في قانغزهو Guangzhou (الصين) أو كوالالامبور Kuala Lumpur (ماليزيا).

يجسّد هؤلاء الشباب استقرارهم وإقامتهم في الصين تبعا لاستراتجية غايتها السماح للمؤسسة العائلية بالحصول على حضور دائم في الصين، ويشتغل هؤلاء بطريقة غير رسمية مع أحد وكلاء الشحن الصينيين (وفي الغالب هم من المترجمين الذين سبق لهم الاشتغال عند أحد وكلاء الشحن الجزائريين، والذين أسسوا مكاتبهم الخاصة بعد تعودهم على الزبائن الجزائريين) وفي انتظار تكوينهم لقائمة من الزبائن الدائمين، أو يشتغلون مع أحد كبار وكلاء الشحن الجزائريين، بينما نسجل نشاط العشرات منهم لحسابهم الخاص وبدون تصريح رسمي. إنّ الحضور الدائم لوكلاء الشحن وتعدّدهم يسهّل تنقل التجّار ويضمن التسليم السريع للطلبيات التي يمكن تقديمها بواسطة الهاتف فقط، كما يضمن لعب دور المسهّل المالي.

أمّا المصريون، الذين يشكلون أكبر جماعة مهنية متخصّصة في وكالات الشحن، فيعتبرون من الأوائل في هذا المجال بمدينة ييوو. وقد صنفت مصر سنة 2011 أولى وجهات التصدير من هذه المدينة نحو البلدان العربية، ولا تكاد ملامح هذه الجماعة المهنية تختلف عمّا تمّ تسجيله عن جماعة وكلاء الشحن الجزائريين من حيث تنوّعهم وتعدّد مساراتهم. لقد فتح المصريون المجال أمام ازدهار نشاط هام ترجمه تواجد سبعة مطاعم في حي "الشارع الغريب" ويشهد على هذا السبق مطعم " المائدة". هذه المطاعم لا تستقطب فقط التجّار المصريين بل تعتبر أيضا ملاذا لبقية العرب الذين يمرّون على هذه المدينة والذين لا يجدون سوى هذه المحلات لتغطية غياب مطاعمهم "الوطنية"، وهذا التوصيف ينطبق أيضا على الجزائريين.

مسيرو المطاعم المصريّة من رواد التجارة الدولية الذين سبق أن كانت لهم تجربة هجرة أولى إلى دول الخليج العربي قبل أن يربطوا علاقات واتصالات سمحت لهم بمواصلة مسار الهجرة إلى الصين، وبالخصوص إلى مدينة ييوو مع بداية سنوات الألفين. إنّ مسيري هذه المطاعم المصرية فئتان، فئة سبق لها ممارسة المهنة نفسها قبل الاستقرار في ييوو وهي قليلة، وفئة غالبة قصدت ييوو بهدف ممارسة نشاط التصدير وأجبرت على تغيير النشاط إمّا بسبب صعوبات الحصول على حيز للعمل في ظل المنافسة الشديدة، أو بسب ارتفاع هامش الربح العائد من المطاعم. ويطبع مهنةَ مسيّر المطاعم حالةُ عدمِ الاستقرار في أماكن العمل وفي المسارات المهنية ، فهو يبقى في المحل لمدة ثلاث سنوات إلى أربع، ثمّ يفسح المجال لأحد أفراد عائلته ليواصل النشاط نفسه أو يبيع المحل، وفي بعض الأحيان يغلق المطعمُ أبوابه من أجل تحديثه بغية الرفع من تصنيف المطعم والرفع من مستوى الخدمات فيه.

تعتمد المطاعم المصريّة في ييوو على يد عاملة صينية، ولكن هذه الحال لا تنفي وجود يد عاملة عائلية، فبعض الشباب المنحدر من عائلات مسيّري هذه المطاعم غادر لأول مرّة القاهرة أو دلتا النيل باتجاه ييوو للعمل في المطعم. لقد كانت تجربة هجرة هذا الشباب في الوهلة الأولى مؤقتة، استعملت فيها التأشيرة السياحية "لغرض زيارة الصين"، وقد كانوا مجبرين على تجديدها في هونكونغ كل ثلاثة أشهر. دفع ارتفاع عدد الوافدين المصريّين إلى مدينة ييوو منذ بداية 2005 إلى التوجّه إلى إنشاء مطاعم أو مقاهٍ خاصة بهم، اعتمادا على قرض من أحد الأقارب على الرغم من فشل البعض منهم في مواصلة النشاط نفسه.

اكتشف المصريّون الأوائل مدينة ييوو، التي تشهد ارتفاعا في عدد زوارها وتزايدا في نشاطها التجاري العالمي منذ سنوات الألفين، عبر قنوات مختلفة. العديد من هذه الفئة هم من المهاجرين إلى الخليج العربي الذين نجحوا في تغيير نشاطهم إلى المقاولاتية العابرة للحدود. البعض الآخر منهم اكتشف الفرص التي تتيحها مدينة ييوو في مجال نشاطهم التجاري، بعدما كان يقتني سلعه من المؤسسات الأوروبية، لكن تحويل جزء من نشاطاتها إلى الصين دفع بهذه المؤسسات إلى دعوة المستوردين المصريين إلى زيارة هذه المؤسسات الجديدة. البعض الآخر استطلع النشاط التجاري في مدينة ييوو عن طريق وسيط صيني أو عن طريق غرفة التجّارة الصينية في مصر، التي تعرف نشاطا متناميًا بفعل ارتفاع الصادرات الصينية إلى هذه الدولة. المصريون في ييوو جماعة غير متجانسة، فالمجموعة التي تبدو حديثة العهد بهذه المدينة، أو التي تبدو أكثر أهمية بفضل حجمها، متعدّدة الانتماءات أو متشكّلة في جماعات صغيرة تريد خوض غمار التجربة الأولى في التصدير، سواء بالاعتماد على رؤوس الأموال تمّ جمعها في إطار العائلة أو في إطار الجماعة القرويّة التي تنتمي إليها.

قدم المستوردون الأوائل من مصر إلى سوق ييوو بعد مرورهم بتجربة أولية في الاستيراد على المستوى الدولي، وهم بذلك لا يمثلون استثناء، مقارنة بفئة الروّاد المصريين الذين تخصّصوا في مجال تسيير المطاعم في المدينة نفسها؛ أمّا الأجيال المصرية الشابة فمجيئها إلى ييوو مندرج ضمن سياق حركية واسعة فتحت لهم المجال للدخول في عالم التصدير من الصين، وهذه الفئة المعرّضة لخسارة أموالها أثناء قيامها بعمليات شراء عشوائية تصبّ في مصلحة رواد الاستيراد المصريين من الصين وتدفع بهم للتحوّل إلى خدمة كبار المستوردين. يتعايش في ييوو العديد من أجيال المستوردين ووكلاء الشحن المصريين، وما نلاحظه اليوم هو بداية التشكّل التدريجي لتمايز هرمي بين هذه المجموعات التي يستفيد بعضها من بعض.

مدينة ييوو : واجهة تجارية شاملة ؟

تمثل مدينة ييوو في العالم بأسره مدرسة كاشفة عن طريقة التداخل بين ديناميكيات دافعة حتى وإن بدى البعض منها متناقضا. ولو نظرنا إلى مسار تشكّل هذه المدينة - السوق "من الأعلى" لوجدنا أنّ سياق التحوّل الاقتصادي اللبرالي الصيني منذ سنوات السبعينات من القرن الماضي معلوم، فبوادر بعدها الدولي كان قبل انضمام الصين رسميا إلى المنظمة العالمية للتجارة في 2001، على الرغم من وصمها من المؤسسات الدولية (منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوربي) بسبب دورها في انتشار السلع المقلّدة. أهم هذه المؤسسات التي كان لها دور في بروزها العالمي هي: البلدية، وغرفة التجارة وسلطة تسيير أسواق المدينة.

أمّا إذا نظرنا إلى مسار تشكّل ييوو" من الأسفل" لوجدنا أنّ هذه المدينة تتيح -ضمن حركتيها- مجال النظر للجغرافية الخفية للشبكات التي نسج ملامحها الآلاف من الفاعلين، والتي كوّنت طرقا حقيقية- تمثل مقاييس جديدة لملاحظة الطبيعة غير المتواصلة للمجال الإقليمي- والتي تضمن تصريفا سلسا للسلع التجارية ضمن سياق محكوم بالحدود الجغرافية، أو التشريعات القانونية، أو بحواجز ذات توجّه حمائي. يتطلب فهم هذه الشبكات المعقّدة القيام بعملية تحديد لعناصرها وتفكيك لأشكال تداخل مضامينها المبنية وفق تضامن جماعاتي وطائفي، ووفق مرجعيات ثقافية ومنطق اقتصادي للعولمة من الأسفل.

تتجسّد هذه الشبكات الخفيّة على مستوى أماكن معتادة مثل المقاطعة الاقتصادية رقم 03 المتواجدة في ييوو والتي تحمل تسمية مزدوجة هي: "الشارع الغريب" و"المائدة". هاتان التسميتان للمكان تشيران للحي نفسه، فالتسمية الأولى جاءت بمبادرة من السلطات البلدية التي حاولت استحداث حي سياحي متعدّد مخصّص للترفيه، أمّا التسمية الثانية فتحيل إلى الانتاج المحلي لمقاطعة عمرانية ذات نشاط عابر للحدود الوطنية، وبين هذين المنطقين، تتواجد المطاعم العربية بشكل واضح في "الشارع الغريب" الذي حدّدت منذ مدة مجالات نشاطه في الترفيه مستهدفا في ذلك الصينيين والأجانب.

لا يعتبر تواجد الجماعة العربية ذات الملامح الطائفية تواجدا جزئيا منفردا، ولا يقتصر على "الشارع الغريب" فقط، فالمدينة تشهد نشاطا وحيوية نتيجة التطوّر السريع للتبادلات التجاريّة، يساهم في صناعاتها فاعلون آخرون. لقد شهدت المدينة نفسها قبل ذلك تواجدا لتجّار من الولايات المتحدة الأمريكية، والبعض منهم عمد إلى الاستقرار في ييوو مثلما فعل بعض الأتراك والإيرانيين والأفغان.

محليا، تتحكّم التجربة الميدانية في أشكال تسيير الأماكن التجاريّة والمدن ذات الإشعاع العالمي. وهذه العملية غير متروكة للعفوية، كما أنّ كثافة المبادلات التجارية في أسواق البيع بالجملة لا تتأثر بفعل الأزمات بل ترتفع، فما تقترحه ييوو من ظروف استقبال وضيافة بالنسبة لكل القادمين إليها من مختلف أنحاء العالم يعلن أيضا على تغيّر في ملامح زوارها من المقاول- المهاجر إلى السائح- التاجر بفعل تسامحها مع أشكال التبادل التجاري الرسمي وغير الرسمي، وبفعل الارتباط الموجود بين التنمية الاقتصادية والتنمية العمرانية المحلية.

تعرف ييوو تحوّل محطاتها التجارية وأسواقها إلى محطات دائمة بعد مرور خمس عشرة سنة من تواجدها في المدينة. دعامة هذه التجربة، التي تشهد أيضا توسّعا في آسيا الشرقية، فئة الشباب (22-35 سنة) ذوي الحسّ المقاولاتي والمستعدّين للاستقرار في هذه المدينة، فتوفّر السكن والعائدات المعتبرة التي يستفاد منها أثناء كل عملية تجارية للتصدير (2.5%) هي قيمة عمولة كل عملية مبادلة (تجارية) تسمح لهم بكراء السكن، وبالحصول على موقع في المجتمع الصيني، فنصف الفئة المستجوبة تسجل حضورها في الصين منذ أكثر من خمس سنوات، وكلّهم لم يعبّروا عن نيّة العودة إلى الوطن. يحرص الوافدون الجدد، على عكس رواد السوق الصينية الأوائل، على تعلّم اللغة الصينية في المدارس الخاصة منذ لحظة وصولهم، كما يتحدث المستجوبون عن وجود متزايد لعلاقات زواج مع الصينيات، أمّا أطفال العائلات الفارة من صراعات الشرق الأوسط (العراق وسوريا) فهم مسجلون في مدارس جديدة تدرّس باللغتين العربية والصينية، كما أنّ المسجد الضخم ذا الهندسة العمرانية الشرق أوسطية الذي بني حديثا يرمز إلى الدور الدائم الذي يتنظر أن تلعبه ييوو باتجاه العالم العربي والإسلامي.

صورة 5 : مسجد ييوو

 مسجد ييوو دفاتر إنسانيات

المصدر : بلقيدوم، أوت 2015.

تُؤثّر الصراعات الجيوسياسية الحاصلة في العالم العربي منذ 2011 سلبا في المبادلات التجارية في ييوو، على الرغم من أنّ آلياتها التجاريّة تبدو متكيّفة مع انخفاض الاستهلاك ومع حالة عدم الاستقرار الذي تشهده شبكات التموين التي سبق أن لعبت دورا هاما في كل من ليبيا وسوريا ومصر واليمن منذ سنوات التسعينيات من القرن الماضي. ومع ذلك، ترفع الصين اليوم راية ييوو بوصفها نموذجا لها، فوصول أول قطار حامل للسلع القادمة من ييوو إلى مدريد، وافتتاح الرئيس الصيني للمنتدى السادس للتعاون العربي الصيني احتفالا بالطريق الجديدة للحرير من خلال مثال التعاون بين الصين والأردن -الذي يسيّر مطعما في ييوو- هما واجهتان لتكثيف العلاقات التي تجمع بين الصين وباقي أنحاء العالم وخصوصا العالم العربي.

صورة  6 : لوحة إشهارية بمطار الجزائر

لوحة إشهارية بمطار الجزائر دفاتر إنسانيات

المصدر : بلقيدوم، ماي 2015.

بيبليوغرافيا

Allès, É. (2011). Choses vues à Yiwu. Outre-Terre, (30).

Belguidoum, S. ; Pliez, O. (2012). Construire une route de la soie entre l’Algérie et la Chine . Diasporas, Histoire et Sociétés, Université Toulouse le Mirail, Laboratoire FRAMESPA-Diasporas, UMR-CNRS, 5136.

Belguidoum, S. ; Pliez, O. (2015). Pratiques transnationales dans un comptoir de « la Route de la soie » : Algériens et Égyptiens à Yiwu (Chine). Les Cahiers d’EMAM, (26), http://emam.revues.org/927.

Bennafla, K. (2002). Le Commerce Frontalier en Afrique Contemporaine. Paris : Karthala.

Bertoncello, B. ; Bredeloup, S. ; Pliez, O. (2009). Hong Kong, Guangzhou , Yiwu: De nouveaux comptoirs africains en Chine. Critique Internationale, (44).

Broadman, H.-G. (2007). Africa’s silk road, Washington DC, The World Bank.

Chen, X. (2015), « China’s key cities: From local places to global players », in The European Financial Review, October 20, http://www.europeanfinancialreview.com/?p=4980 (Retrieved November 27, 2015).

China Today, (2014). A young Arab’s dream: Prosperity in China. September 5 http://www.chinatoday.com.cn/english/report/2014-09/05/content_638839.htm (Retrieved November 27, 2015).

Chow, DCK. (2003). Organized crime, local protectionism, and the trade in counterfeit goods in China.China Economic Review 14(4).

Ding, K. (2006). Distribution System of China’s Industrial Clusters: Case Study of Yiwu China Commodity City. Tokyo: IDE-JETRO Discussion.

Ding, K. (2007). Domestic Market-based Industrial Cluster Development in Modern China. Tokyo, IDE-JETRO Discussion.

Ding, K. (2014). The specialized market system: the market exploration of small businesses. in Watanebe, M., (éd.), The Disintegration of Production. Cheltenham, Edward.

Donghong, C. (2011). Study and Revelation on China-Arab States Economic and Trade Relationship. A Discussion on China-Arab States Economic and Trade Forum. News. CN. http://news.xinhuanet.com/english2010/china/2011-09/07/c_131112714.htm (Retrieved November 27, 2015).

Gladney, CD. (1994). Sino-Middle Eastern perspectives since the Gulf War: Views from below. The International Journal of Middle East Studies 29(4).

Guiheux, G. (2013). Travailleurs migrants du prêt-à-porter en Chine. Flexibilités et opportunités. Revue Européenne des Migrations Internationales 28(4).

Gulf News General, (2011), 200,000 Arab shoppers visit Yiwu every year, June 1. http://gulfnews.com/200-000-arab-shoppers-visit-yiwu-every-year-1.815650 (Retrieved November 27, 2015).

Huffington Post Maghreb. (2015). Un homme d’affaires chinois retient en otage des commerçants algériens pour les forcer à payer leurs dettes, January 5. http://www.huffpostmaghreb.com/2015/01/05/algerie-chine-commercants-guangzhou-_n_6414662.html (Retrieved November 27, 2015).

Hulme, A. (2015). Bargain hunting in the “small-commodity city” of Yiwu, China. Metropolitics, http://www.metropolitiques.eu/Bargain-hunting-in-the-small.html (Retrieved November 27, 2015).

Lavergne, M. (2002). Dubaï ou la métropolisation incomplète d’un pôle en relais de l’économie-monde. Cahiers de la Méditerranée 64.

Li, R., Wang, Q. ; Cheong, KC. (2016) . From obscurity to global prominence-Yiwu's emergence as an international trade hub. Cities 53.

Lin, Y. (2007). Yiwu: le carrefour du « made in China ». Outre-Terre 15.

Marsden, M. (2015). Trading Worlds: Afghan Merchants Across Modern Frontiers. London and New York, Hurst & Co and Oxford University Press.

Marchal, R. (2007). « Hôtel Bangkok-Sahara », in Adelkhah, F., Bayart, J.-F., (éds.), Les Voyages du Développement, Paris: Karthala.

Mu, G. (2010). The Yiwu model of China’s exhibition economy. Provincial China 2.

Peraldi, M. (2007). Aventuriers du nouveau capitalisme marchand. Essai d’anthropologie de l’éthique mercantile. In Adelkhah, F., Bayart, J.-F., (éds.), Voyages du Développement. Emigration, Commerce, Exil, Paris : Karthala.

Pliez, O. (2010). Toutes les routes (de la soie) mènent à Yiwu (Chine). Entrepreneurs et migrants musulmans dans un comptoir économique chinois ». L’Espace Géographique (39).

Simpfendorfer, B. (2009). The New Silk Road. How a Rising Arab World is Turning Away from the West and Rediscovering China. Basingstoke, Palgrave Macmillan.

Sun, Z. ; Perry, M. (2008). The role of trading cities in the development of Chinese business clusters. International Business Research 1(2).

Tarrius, A. (2000). Les Nouveaux Cosmopolitismes. Mobilités, Identités, Territoires. La Tour d’Aigues, Aube.

United States Congress. (2006). Report to Congress of the U.S.-China Economic and Security Review Commission, Washington, D.C. United States Government Printing Offi.



ترجمة :

الهوامش : 

 [1]السلع ذات الحجم الصغير small comoditiesكما جات في النص باللغة الإنجليزية عبارة واسعة تشمل أدوات التزين، الأدوات الكهرو منزلية، أدوات التجهيز داخل المنازل، المنتوجات الورقية، الأدوات الإلكترونية الصغيرة... هذه الأدوات المنضوية تحت تسمية exoticknick –knackتمثل مجموعة من السلع المتشابهة على مستوى العالم كلّه.

[2] Ding, K, (2006), « Distribution System of China’s Industrial Clusters: Case Study of Yiwu China Commodity City », Tokyo, IDE-JETRO Discussion.

[3] Sun, Z., Perry, M. (2008), « The role of trading cities in the development of Chinese business clusters », International Business Research 1(2), p. 69-81.

[4] Ding, K. (2007), « Domestic Market-based Industrial Cluster Development in Modern China », Tokyo, IDE-JETRO Discussion.

[5] Chow, DCK. (2003), « Organized crime, local protectionism, and the trade in counterfeit goods in China », China Economic Review 14(4), p. 473-484.

[6] Sun, Z., Perry, M. (2008), op.cit.

[7] Ding, K. (2007), op.cit.

[8] Mu, G. (2010), « The Yiwu model of China’s exhibition economy », in Provincial China 2-1, p. 91-115.

[9] Ding, K. (2007), op.cit., mentionne, parmi les plus notables, les fournitures de bureau (Wuyi), le cristal (Pujiang), les articles de quincaillerie (Yongkang), le textile et les vêtements (Dongyang), les lunettes (Wenzhou) ou les vêtements de pluie… .

[10] Report to Congress of the U.S.-China economic and security review commission, (2006).

[11] http://yiwu.gov.cn/ywwwb/english/e_gyyw/e_ywgk/200812/t20081226_164346.html (site de la municipalité de Yiwu, consulté le 18 novembre 2015).

[12] سنة توافق الاعتراف الرسمي لجمهورية الصين الشعبية بالإسرائيل.

[13] Gladney, CD. (1994), « Sino-Middle Eastern perspectives since the Gulf War: Views from below », in The International Journal of Middle East Studies 29(4), p.677-691.

[14] تصريح تّم تسجيله أثناء تحقيق ميداني أجري في القاهرة في جويلية 2007.

[15] Gladney, (1994), op.cit.

[16] Donghong, C. (2011), Study and Revelation on China-Arab States Economic and Trade Relationship. A Discussion on China-Arab States Economic and Trade Forum. News. CN. http://news.xinhuanet.com/english2010/china/2011-09/07/c_131112714.htm (Retrieved November 27, 2015).

[17] Voir : http://www.yourmiddleeast.com/business/arab-uprisings-bring-opportunities-to-china_17077

[19] Peraldi, M. (2007), « Aventuriers du nouveau capitalisme marchand. Essai d’anthropologie de l’éthique mercantile », in Adelkhah, F., Bayart, J.-F., (eds.) Voyages du Développement. Emigration, Commerce, Exil, Paris, Karthala ; Tarrius, A. (2000), Les Nouveaux Cosmopolitismes. Mobilités, Identités, Territoires, La Tour d’Aigues, Aube.

[20] Bennafla, K. (2002), Le Commerce Frontalier en Afrique Contemporaine, Paris, Karthala.

[21] Marchal, R. (2007), « Hôtel Bangkok-Sahara », in Adelkhah, F., Bayart, J.-F., (eds.) Les Voyages du Développement, Paris, Karthala.

[22] Lavergne, M. (2002), « Dubaï ou la métropolisation incomplète d’un pôle en relais de l’économie-monde », in Cahiers de la Méditerranée 64, p. 257-296.

[23] يتحصّل التجار على المعلومات حول رزنامة المعارض عن طريق الموقع الإلكتروني على شبكة الأنترنت http://www.aboutchinafair.com ou http://www.alibaba.com/

 [24]مقابلة أجريت بييوو في أوت 2009 .

[25] المعطيات المقترحة تستند إلى الأرقام المقدمة من دائرة التجارة الخارجية والتعاون الاقتصادي لبلدية ييوو.

[26] Gulf News General. En ligne : http://gulfnews.com/200-000-arab-shoppers-visit-yiwu-every-year-1.815650 [consulté le 18 novembre 2015].

[27] أغلق هذا المعرض من أجل تحديثه.

[28] Voir : http://english.yw.gov.cn/english_1/e_whly/e_lyzy/e_ygfqy/ (site de la municipalité de Yiwu, consulté le 18/11/2015).

[29] Les Huis, près de 10 millions, comptent pour la moitié des Musulmans chinois.

[30] Allès, É. (2011), « Choses vues à Yiwu », in Outre-Terre, n° 30, p. 411-412.

[31] Voir : http://www.douane.gov.dz/Evolution%20des%20indicateurs.html

[32] العديد من المبحوثين أكدوا لنا يقينا أن تعدادهم هو 500.

[33] يعتمد هذا التصنيف على المعطيات التي تمّ انتقاؤها عن طريق المقابلات المفتوحة وشبه المفتوحة خلال الفترة الممتدة ما بين2012 و2015.

الهجرات واستراتيجيّات الاندماج في مدينة قسنطينة. مسارات عائليّة (الأوراس، القبائل)

العناصر المدرجة في هذا المقال مأخوذة من بعض نتائج البحث الجارية حول المهاجرين المنحدرين من الجماعات الجبليّة للأوراس ومنطقة القبائل، والمستقرّين في مدينة قسنطينة، إذ يبدو لنا أنّه من المهمّ إعطاء نظرة وطرح تساؤلات حول مشكلة حركيّة الهجرة داخل البلاد، مع مقاربة تأخذ بعين الاعتبار المسألة الزّمنيّة (إذ ستتناول الدّراسة عدّة أجيال) وخطاب المعنيّين حول مسارات هجرتهم.

الجزء الأول : الحدود التاريخيّة للهجرات والتعريف بموضوع الدّراسة

المغادرة

تعتبر ظاهرة الهجرة انعكاسا تاريخيّا – اجتماعيّا لعلاقات الهيمنة السّائدة على مستوى العالم. لقد تشكّلت وضعية مزدوجة حول عالمين اثنين: عالم الاستقبال وعالم الانطلاق. هذه الوضعيّة هي الشّرط الأساسيّ لظاهرة الهجرة.

تعكس ظاهرة الهجرة بالجزائر الأزمة الحادّة التي مرّ بها العالم الريفي،والتي لم يسبق لها مثيل بعد صدور قانون الملكيّة العقّاريّةSenatus-consulte de 1863, Loi Warnier en 1873))، والذي جرّد الفلاّحين من أراضيهم. فمنذ سنة 1930 أصبح 50% من السّكّان الرّيفيّين بدون أرض (F. Adel, 1996). إذ تفكّك العالم الريفيّ وأصبحت المغادرة هي السّبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة، وهذا ما توافق مع الطّلب القويّ لليد العاملة في المدينة التي كانت في أوجّ توسّعها الصّناعيّ. وليس من قبيل الصّدفة أنّ النّزيف الكبير لبعض المناطق الجبليّة قد أعقبه الاستيلاء على الأراضي سنة 1871.

ولذلك فإنّ معدّل النموّ الحضريّ، الذي قدّر بـ 05% قبيل الاستعمار، ارتفع إلى 67% بقطاع الجزائر العاصمة، 63% بقطاع قسنطينة و48% بقطاع وهران ما بين 1954- 1960 (P. Bourdieu, 1964)، ويعدل ذلك على مدى تأثّر المدن بحركية بهؤلاء السّكان الفارّين من العالم الرّيفيّ. لقد استمرّت هذه الحركيّة في استقطاب الفائض المنتج من طرف العالم الزّراعي– الرّعوي للقبائل في الأوراس ومنطقة القبائل، وذلك من أجل بيع منتوجاتهم والحصول في المقابل على المواد الأساسيّة للحياة اليوميّة: صابون، قماش، منتوجات مصنّعة .

بعد الاستقلال، شهد النّزوح الرّيفي باتّجاه المدن كثافة خاصّة، وهذا ما يمكن ملاحظته بمدينة قسنطينة فحتّى إن كانت حركيّة الهجرة قد انخفضت، إلاّ أنّها بقيت مستمرّة، فـ 40% من المهاجرين إلى القطاع القسنطينيّ وصلوا ما بين 1963- 1977، التّاريخ الذي قدّر فيه أن نحو الثلثين من السّكّان ذوي أصول ريفيّة (المولودون خارج المدينة) واستقرّوا بقسنطينة (Pagand,1988 ) .

تحديد أهداف الدّراسة

تسمح لنا الأعمار الثّلاثة للهجرة كما حدّدها وعرّفها عبد المالك صيّاد (A.Sayad) بالنّسبة لفرنسا، بصياغة تقييم زمنيّ لظاهرة الهجرة بما في ذلك أهدافها وأشكالها التي تتميّز بها بدون استثناء. لكن فقط العمر الثّاني والثّالث هما ما يتوافق مع مقاصد هذا العمل البحثيّ الذي يهتمّ حصريّا بميكانيزمات اندماج العائلات القبائليّة والشاويّة في مدينة قسنطينة.

فحركات الهجرة داخل البلد أسبق زمنيّا من التّنقلات إلى الخارج. إنّها تأخذ أشكالا أخرى وتلبّي ضرورات أخرى: فهي تمسّ الرّجال، كبار السّنّ المعيّنين من طرف الجماعة العائليّة للبحث عن موارد إضافيّة وذلك من أجل تقوية تضامن الجماعة وحمايتها من التّدهور وتضامن الجماعة الاقتصاديّة العائليّة المؤسّس على التّنمية المشتركة للأراضي، الأشجار، القطعان... هذه التّنقلات، التي تخلّلتها العودة المتكرّرة إلى القرية عرفتها أهمّ المدن في دراستنا: بسكرة، باتنة، سوق أهراس، عنابة، سكيكدة...، أمّا قسنطينة، كقطب اقتصاديّ وثقافيّ، فتعتبر المرحلة الأخيرة لهجرة الجماعات المدروسة.

تجمع قسنطينة اليوم حوالي عشرين عائلة قبائليّة من "آث وغليس" وحوالي مائة عائلة شاويّة من "آث فراح". جميعهم استقرّوا منذ عشرات السنين واندمجوا بشكل أو بآخر في هذا الفضاء المختلف عن الفضاء الجبليّ. وبما أنّ الفضاء الأصليّ يعاني من الأزمة، فإنّ المهاجرين قد بحثوا عن طرق لبقائهم على قيد الحياة في الخارج. وتبدو المدينة الفضاءَ المفضّلَ الذي استمرّ في إعادة توزيع وسائل الحياة على مواطنيها. فقط أنّ الوافدين الجدد قد وضعوا على الهامش الاجتماعيّ لصعوبة وصولهم أوّلا للغة المدينة، لنمط الحياة بل حتّى للطّابع الحضريّ رغم أنّ مجيئهم للمدينة قد تمّ بواسطة شبكات التّضامن التي نسجتها المجموعة الأصليّة.

أيضًا، وبمجرّد وصولهم، فإنّ الوافدين الجدد يستقرّون في أحياء تتواجد بها أسر من نفس مجموعتهم ويعملون في نفس المراكز التي أدمجهم فيها أهلهم بالمدينة إذ أنّ اتخاذ القرار حول الاستقرار في المدينة، والتّفاوض عليه، يتمّ من طرف الجماعة التي يخضع لها الفرد إلى غاية تمكّنه من الاستقلال عنها، تبدأ حينئذ مغامرة أخرى في الفضاء الحضريّ، وهذه المغامرة شخصيّة وتكشف عن الدّروس التي اكتسبها الفرد من تجارب أهله. ومن داخل هذا المنطق يمكننا فهم الزّواج المختلط (مع أهالي المدينة باعتبارهم أجانب عن الجماعة الأصليّة)، ما يساهم في اندماج هؤلاء الوافدين الجدد في المدينة.

بروز "الشّخص الثّالث"

تسمح لنا أعمال غريبودي موريزيو Gribaudi Maurizio، والتي كان ميدانها حيّ العمال "بورغو سان باولو" بـ "تورين" (Borgo San Paolo à Turin) ) بأن ندرك أنّ تاريخ المهاجرين متماثل تقريبًا باعتبار أنّه يستجيب فقط لمنطق السّعي من أجل البقاء على قيد الحياة، وإذا كانت المسارات تتضمّن سيرا ا فرديّة ومتمايزة، فإنّها تبني أيضا إطارا يتجاوز الجماعة الإثنيّة، الإطار الذي سمّاه الكاتب "بانوراما اجتماعية"، ولأنّ الهجرة أصبحت أكبر حجما وأطول فترة، وبعدما كانت وظيفتها الأولى تقديم الوسائل الضّروريّة لجماعة الفلاّحين من أجل الاستمرار، غيّرت من دلالتها وأصبحت غاية في حدّ ذاتها (A.Sayad, 2001).

هكذا، وبنحو متزايد منذ بداية الخمسينات، أخذت الهجرات نحو المدينة أشكالا أخرى: لقد كان هدف الذّهاب بالتّأكيد هو مساعدة الجماعة، ولكن أيضًا وبالخصوص من أجل التّحرّر من قيودها، من أجل إثبات الذّات كفرد يحاول عيش تجربة أصيلة. إذ تسارعت في العالم الرّيفيّ وتعزّزت سيرورة الانحلال الزّراعي dépayannisation التي بدأت منذ سنّ مختلفِ القوانين العقّارية الاستعماريّة، وأُسند العمل الفلاحيّ المنبوذ إلى الفئات الأكثر ضعفا: كبار السّنّ والنّساء P. Bourdieu, 1964)). " إنّ فكرة الاجتثاث déracinement مؤسّسة على واقع معيّن: واقع فقدان التعلّق العاطفيّ بالعمل في الأرض وبكل نظام القيم الذي يدعمه، ولكن هذه الفكرة تنقل معها جملة من التّمثّلات، خاصّة تلك التي تصوّر الفلاّحين كضحايا يتدافعون كالأغنام [هكذا] في قطار المنفى من أجل ضمان لقمة عيش أهاليهم. إنّ الهجرة مشروع يُصاغ عبر تجربة المدينة وعلى الرّابط الثّابت الذي يحافظ عليه المهاجر مع جماعته الأصليّة" F. Adel, 1996)).

ما الذي جرى داخل المدن في نفس الفترة؟ في القطاع القسنطينيّ، لعبت المدينة العتيقة دورا مهمّا، حيث شهدت الكثافة السّكانيّة الحضريّة العامّة زيادة بـ 63%، ما أثّر على التّنظيم السّياسيّ والإداريّ وعلى المبادلات التّجاريّة. إذ انطبعت هذه الفترة خصوصا بحرب التّحرير التي أدّت إلى إفراغ كبير للمناطق الجبليّة.

يخضع المهاجرون جميعا لجاذبيّة الوسط المستقبِل، الذي يجب على المهاجر التكّيف معه، في المقابل يحمل معه مرجعيّات وسطه الأصليّ. وسطان وُضعا في موقف المواجهة. التي ستشكّل الفرد القبائلي والشاّوي الذين لا يعتبران لا الشّخص الحضريّ، المأخوذ أحيانا كمرجعيّة، ولا الشّخص الرّيفي. حسب م.غريبودي، يبرز "شخص ثالث" من هذه المواجهة بين أشخاص "يعيشون فكريّا بين وسطين تربطهما علاقة ويختلف بالضّرورة محتواهما وأهمّيّتهما"، هذا "الشّخص الثّالث" سيكون مزيجا من المسارات الفرديّة، وسيحمل الفرد داخل نفسه بالتّالي "ولاءين اثنين ومرجعيّتين اثنتين".

ما هو الدّور الذي لعبته النّساء في مشروع الهجرة هذا الذي كان خاصّا بالرّجال لفترة طويلة؟ بإمكاننا القول أنهنّ أحدثن نقطة تحوّل في تاريخ حركات الهجرة، فهنّ قد تبعن الرّجال في هذه الهجرة الطّويلة والنّهائيّة غالبا، مع الحصول على عمل ثابت، اكتساب سكن وخاصّة تعليم الأطفال. بالنسبة لكثير من المهاجرين، ساهمت النّساء بقوّة في اتّخاذ قرار هجرة نهائيّة وقاطعة غالبا.

من المفيد أن نذكر أنّه في الفترة الأولى من حركيّة الهجرة، تبقى المرأة جغرافيّا واجتماعيّا في جماعتها التي يتكفّل أعضاؤها بمهمّة حمايتها ومراقبة سلوكها. وإذا تعذّر ممارسة هذه الرّقابة، فليس من المستبعد طردها من طرف زوجها الغائب فشرف الجماعة قد أصبح على المحكّ.

إنّ قرار الاستقرار النّهائيّ في قسنطينة يعبُر بالهجرة من مرحلة المحافظة، كما عرّفها ب.أ. روزنتال P. A .Rosental، أين يقوم المهاجر بعودات متكرّرة محافظا بذلك على الرّوابط، إلى مرحلة القطيعة أين يدير المهاجر ظهره لمكانه الأصليّ ويحاول المساهمة في إعمار المكان المستقبِل. هذه الحالة أكثر انتشارا في الجماعات الأوراسيّة منها في الجماعات القبائليّة.

العيّنة

لدينا عيّنة من المهاجرين تتألّف من عائلات ترجع أصولها إلى دشرتين صغيرتين من الأوراس والقبائل، في منطقتين جبليّتين: تقع الأولى على بعد حوالي 50 كلم شمال مدينة بسكرة في مرتفعات الأوراس، في حين نجد الثّانية على بعد حوالي 60 كلم على الجنوب الغربي من مدينة بجاية. لقد حاولنا معرفة طريقة اندماجهم في الفضاء الحضريّ وذلك بحديثنا مع رجال ونساء هذه الجماعات ومحاولة إعادة بناء مسارهم العائليّ وكذلك تاريخ هجرتهم. يبدو من المهمّ طرح مسألة المحلّي في سياق الهجرة، فما الذي يبقى من هذا المحلّي لمّا يقرّر هؤلاء المهاجرون استثمار فضاء آخر، مختلف، بل وحتّى عدائيّ (مسألة الّلغة). بالنّسبة للمرأة، فإنّ الدّور الذي لعبته في سيرورة الإندماج يفسّر النّسبة العالية للنّساء في العيّنة: فهنّ يمثّلن 50% من مجموع الأشخاص المبحوثين.

الجزء الثاني : استراتيجيات الاندماج في مدينة قسنطينة

تتمّ مقاربة الفضاء الحضريّ هنا كوعاء حاضن للجماعات الاجتماعيّة واستراتيجيّاتها الاندماجيّة، أمّا تلك المتعلّقة باستقرارها فهي معرّفة ومحدّدة من خلال الاندماج في عالم العمل أوّلا، ثمّ من خلال إقامة شبكات التّجذّر في المدينة. هناك أيضا مسارات اندماج أخرى تستحقّ الدّراسة مثل نسج شبكات المصاهرة، فيما تنتمي الأسر المستهدفة إلى جماعات اجتماعيّة تحمل نماذج ثقافيّة تقع في المنتصف بين "الحضارة الجبليّة" و"الحضارة المدينيّة".

سمحت لنا هذه الدراسة، جزئيّا، بإعادة تشكيل السّياق الذي كان عاملا إيجابيّا لاستقبال الجماعات الأجنبيّة في المدينة: فمدينة قسنطينة كانت مكان استقبال حقيقيّ، نوع من التّربة الخصبة ثقافيّا، اجتماعيّا وأيضا (بالأخصّ) اقتصاديّا خلال زمن معيّن من تاريخها. يفسّر هذا المعطى جزئيّا اختيارها مقرّا للبقاء من طرف هذه الجماعات (التي كانت مضطرّة للمغادرة) مع كونها تقع على بعد مئات من الكيلومترات عن المنطقة الأصليّة.

الأدوات المستخدمة

شملت مقابلاتنا عشر عائلات من عرش "آث وغليس" وعرش "آث فراح"، وسنقوم هنا بعرض بعض النّتائج التي تتجاوز إطار هذه العائلات المبحوثة. ففي الواقع، ترتبط العائلات التي تمّ تحديدها بعلاقات قرابة بشكل أو بآخر وتاريخها الخاصّ مندمج غالبا مع تاريخ عائلات أخرى غير مدروسة بعدُ. بهذه الطّريقة برزت صياغة أوّليّة لإعادة تشكيل استراتيجيّاتها من أجل تعمير فضاء مدينة قسنطينة.

أمّا بالنّسبة للمجال التّاريخي لاستقرارها فهو طويل جدّا إذ استقرّت أولى العائلات (رقم 1) سنة 1917-1918، فيما الأكثر حداثة (رقم 7) استقرّت سنة 1965.

أخيرا، تدعّمت هذه الدّراسة أيضا باستغلال الوثائق التي خطّت تاريخ مدينة قسنطينة من خلال العنصر الإثنيّ.

تاريخ العائلات

تشير الأبحاث إلى أهميّة حجم السّكان القبائل المستقرّين بقسنطينة قُبيْل الفترة الاستعماريّة، إذ "كانوا يحتلّون المرتبة الثّانية من حيث الأهمية... ويشكّلون جزءا من سكّان المدينة غير المستقرّين" Benidir, p. 79)). ومع ذلك فقد استقرّت لبعض العائلات في حيّ "الطابية البرّانية" بالقرب من "القصبة". فكان للقبائل بناء خاص بهم خارج الأسوار التي دمّرها أحمد باي خلال الهجوم الفرنسي على المدينة وكانوا يحتكرون تجارة الزّيت ويشاركون في الكثير من الأعمال الحِرفيّة.

كان هؤلاء القبائل، على غرار الشّاويّة يعيشون قبل مجيء الاستعمار في أطراف المدينة. تتحدّث أعمال كلّ من Mercier، PagandوBenidir عن شغل ذو طابع إثني للفضاء الحضريّ، حيث كانوا مُبعدين إلى أبواب المدينة قبل تمكّنهم من الوصول إلى الأحياء المركزيّة. هذه المعلومات تدعم تلك التي تمّ جمعها في التّحقيق الميدانيّ من مبحوث أشار إلى الدّور الذي لعبه أحد أفراد المجموعة في استقرار عائلات أخرى) 4)، فهذا الشّخص كانت له مكانة مميّزة ترجع إلى وظيفته كمعلّم: إنّه يمثّل بطريقة ما نموذجا لشخص نبيل يضع سمعته في خدمة أهله.

بإمكاننا الحديث عن شغل تدريجي للأماكن المركزيّة وشبه المركزيّة للمدينة من طرف المهاجرين، فالزّمن كان كفيلا بوضع شروط الاندماج تبعا للوضع الاجتماعي للفرد ولجماعته على حدّ سواء.

المسار المهنيّ

يبدأ المسار المهنيّ دائما من طرف أحد الأقارب الأقدم استقرارا في المدينة. فقد كان أرباب العائلات القبائليّة المبحوثين عمّالا في شركة الكهرباء (l'ex-EGA) إلا فردا واحد كان معلّمًا. فالانتماء إلى هذه المؤسّسة يرجع إلى المهاجر الأوّل (1876) الذي أدخل فيما بعد العائلة) 2). هذه الأخيرة استقرّت أوّلا بسكيكدة وبناء على طلب مدير شركة الكهرباء، استقرّ الأقارب
 (من الأبناء الشّباب، أبناء العمّ والأصهار) بقسنطينة بعد فتح ما يشبه فرعا آخر في هذه المدينة. وهكذا أصبحت هذه الشّركة مؤسّسة لا غنى عنها لأفراد العائلات ( 1- 2 - 3 - 4) رغم أنّ كلّ الأشخاص الذين ولدوا قبل 1930 قد عملوا بشركة الكهرباء هذه.

لاحظنا أيضا أنّ حراكًا مهنيًّا قويًّا يرافق أحيانا التنقّل السّكني. لقد مارس أرباب العائلات 1)- 6 - 7 - 8) سلسلة من الحِرف قبل الاستقرار المهنيّ ويبدو أنّ أغلبية العائلات المبحوثة (1- 2 - 3 - 4 - 5 - 7 - 8) قد غيّرت إقامتها داخل المدينة.

كان استقرار هؤلاء الأفراد في المدينة، أوّلا وبشكل جزئيّ، بدافع المهنة المضمونة من طرف أحد الأقارب الأقدم هجرة. أمّا الآخرون ( 5 - 6 - 7) فقد انتقلوا عن طريق التّحويل الوظيفيّ mutation، أي حسب منطق يفلت من منطق التّضامن الجماعيّ. ومع ذلك فإنّ الحاجة إلى الانتماء للمجموعة تظهر مثلا عندما تبرز الحاجة إلى تأسيس شبكة قرابيّة عن طريق الزواج.

المسكن

يقوم أحد الأقارب أحيانا بإيجاد سكن للعائلة المهاجرة ويلعب دور الضّامن في بعض الحالات اتّجاه مالك المسكن، إذ يقيم الاثنان في نفس الحيّ. وهكذا في قسنطينة، سكن كلّ أفراد العائلات (1 – 2 – 3 - 4) في نفس الحيّ ولا يزال البعض منهم هناك. وبالإجمال فهم يقيمون في نفس الأماكن: في المدينة القديمة ( 4- 5) وفي الأحياء المحيطة.

عموما يتمّ احترام قاعدة التّضامن الجماعاتيّ من أجل استقرار العائلات الجديدة، وقد لوحظ ذلك بالخصوص في حالة العائلة (9) لدى هجرتها إلى قسنطينة. أمّا عندما يكون التّنقل في إطار التّحويلات المهنيّة فإنّ السّكن يكون مؤمّنا من طرف المؤسّسة المشغِّلة (5 - 6 - 7 - 9)، لكن كما بيّن ذلك ف. عادل (F. Adel) في دراسته حول علماء قسنطينة، فإنّ "حركيّة التّنقل السّكنيّ لم تكن بالضّرورة نتيجة الحراك الاجتماعيّ...".

كانت الهجرة في بدايتها خاصّة فقط بالرّجال الذين كانوا يسكنون غرفة واحدة بأحد الحمّامات العامّة ( 2 - 4 - 7 - 9)، وهذا في الواقع حلّ مؤقّت إذ أنّ مشروع الاستقرار النهائيّ هو الدّافع الأول للبحث عن سكن.

استقرت العائلات على عدّة مراحل لاضطرار أغلبيّتها إلى التّنقل عدّة مرّات. بعض العائلات تحصّلت على سكن، ضمن القطاع الخاصّ، بالقرب من مكان العمل (l'ex-EGA)، ولا زالت نفس هذه العائلات ( 2 - 3) تسكن اليوم في نفس الحيّ. بالنسبة للعائلة (4) فهي تسكن في منزل فرديّ في منطقة سكنيّة بعد مشاركتها للأخ غير الشّقيق في سكن اجتماعي (HLM)، والحصول على هذا المنزل كان بمساعدة نفس القريب. أمّا العائلة (1) فقد سكنت منزلا فرديّا بحي في الضّواحي علمًا أنّ تدخل أحد الأقارب كان ضروريّا للحصول عليه.

حصلت العائلات ( 5 - 6 - 7) على مساكنها في إطار العمل واستقرت بقسنطينة مع نهاية الخمسينات. بالنّسبة للمدرّس (5) فقد ترقّى إلى مدير مدرسة واستفاد من سكن وظيفيّ قبل حصوله على سكن اجتماعي (HLM)، والذي لا زال يسكنه حاليّا. لكن من المثير للاهتمام أنّه رغم السّكن قد تمّ في إطار وظيفته، إلاّ أنّ تدخّل أحد المسؤولين (عضو من جماعة " آث وغليس") كان حاسما للتّعجيل في الإجراءات.

تمّ الاستقرار بالمدينة إذن من خلال شبكة تضامنيّة من نسيج الوافدين الأوائل، وهذا ما حلّ غالبا إشكاليّة العمل والسّكن على حدّ سواء.

المصاهرة

هناك نوعان من المصاهرة: النّوع الأوّل يرتبط مباشرة بالوالدين اللّذين يجعلان منها مسألة شخصيّة، والثّاني يرتبط بالزّواج الذي يعقده الأولاد دون تدخّل الوالدين. في هذه الوضعيّة يمكن تمييز حالتين: الأولى لمّا تتحقّق المصاهرة داخل شبكة المعرفة الفرديّة التي تفلت بشكل كليّ من الوالدين، والثانية، وبشكل يدعو أكثر للتّعجّب، تتحقّق داخل المجال القرابيّ للمجموعتين.

تحافظ هذه العائلات على العلاقات بينها، خاصّة وأنّ الكثير منها تنتمي إلى نفس المجموعة القرابيّة. فقد شكّلت ما يشبه جماعة communauté على أساس تشابك قرابيّ تقع نقطة بدايته في المجتمع الأصليّ، وهي تحضّر الظّروف المناسبة من أجل زيادة حظوظ المصاهرة وذلك بالمحافظة على العلاقات الاجتماعيّة التي تسهّل الاتّصال بين الشّباب. حالة العائلة (5) توضّح هذه الاستراتيجيّة بما أنّه أربعة من خمس بنات تزوّجن رجالا من "آث وغليس".

يتميّز الجيل الأوّل من المهاجرين بالزّواج الدّاخليّ إذ أنّ جميعهم قد تزوّجوا من نساء ينتمين إلى مجموعتهم القرابيّة، بينما ظهر الزّواج الخارجيّ في الجيل الثانيّ. يكشف زواج المبحوث (3) عن هذه التّغيرات: تزوّج هذا المبحوث، المولود في قسنطينة، من فتاة مدينيّة في سنوات السّتينات. لقد تخوّفت الأسرة في البداية من هذا الزّواج، لكن تمّ تجاوز الصّعوبات بسرعة من طرف الأب (تلميذ الشّيخ عبد الحميد بن باديس) الذي اعتبر كلّ عرقلة للزّواج بين المسلمين فعلا غير مشروع. أمّا الجيل الشّاب فهو لا يجد حاليّا صعوبات لعقد المصاهرة خارج الجماعة. ورغم ذلك فمن المثير للاهتمام الإشارة إلى أنّ أولياء العائلات ( 1- 2 - 3 - 4 - 6 -7) قد تمكّنوا من عقد زواج واحد على الأقلّ داخل الجماعة.

خلاصة : حقيقة وجود استراتيجيّات فعليّة !

يمكن استنتاج خلاصتين كبيرتين: الإندماج بواسطة العمل ( 5 - - 6 7) وبواسطة شبكات التّضامن (1 - 2 - 3 - 4 - 8 - 9 - 10) التي تسهّل الحصول على المهنة والإقامة على حدّ سواء، فحلّ هذين المشكلتين الكبيرتين يتمّ من طرف الجماعة الأقدم استقرارا في المدينة حتّى لو كان الإيواء في البداية متعلّقا حصريّا بالرّجل، في حين تواصل المرأة والأطفال العيش مؤقّتا في الجبل، لكن مسار الاندماج بواسطة المهنة لا يفقد أهميّته إذ أنّ المهنة تسمح بتأمين الظّروف الدّنيا للاندماج في المدينة أو القدرة على البقاء في المدينة. وهكذا يمكن للفرد أن يعيش فردانيّته التي بحث عنها في وقت ما، فالحاجة إلى البعد عن الجماعة، والحاجة للتّحقق كفرد والازدهار يمكن التّعبير عنها بسهولة وتندرج ضمن استراتيجيّة يتمّ صياغتها بشكل واع (6).

يبقى فقط أنّ اللّجوء إلى الشّبكة أمر حتميّ من أجل تكوين جماعة اجتماعيّة لا تزال قائمة في الأساس على الانتماء إلى نفس المجموعة الإقليميّة. فالبحث عن هذه الجماعة هامّ جدّا لإنشاء مجال قرابيّ في الفضاء الحضريّ، ونوع من الفئات الاجتماعيّة في طور التّشكّل والتي يبقى قاسمها المشترك هو الانتماء إلى نفس المجموعة ومعرفة نفس المسار العائليّ، أو أنّها نوع من الطّبقة الاجتماعيّة التي لم يعد أساسها اقتصاديّا فحسب، وإنّما بات أكثر من ذلك اجتماعيّ.

يظهر هذا المنطق على وجه الخصوص من خلال المقابلة (5). إذ لم يكن تنقّلُ هذا الشّخص إلى قسنطينة في الواقع بقرار من جماعة الانتماء، وإنّما تمّ وفق منطق مهنيّ. لقد تابع هذا الفرد مسارًا أفلت كليّةً من الجماعة، فالحاجة لإعادة تشكيل هذه الجماعة اندرجت ضمن استراتيجيّات من أجل ضمان مستقبل الأولاد. هذا ما حدث فعلا بالنّسبة لجماعة
"آث وغليس": حيث كان إنشاء مجال قرابيّ داخل الجماعة الضّامن الحقيقيّ ضدّ الزّواج مع الأجانب الذي تجعله المدينة ليس فقط محتملاً بل أحيانًا حتميًّا. وعند وجود مثل هذه الاستراتيجيّة فإنّها تعطينا مثل هذه النّتائج كما تبيّن ذلك بوضوح الحالة (5).

يمكن للعائلة السّماح بالتّواصل في إطار الزّواج الدّاخليّ ويمكن للاختيار أن يتمّ أحيانا من طرف الأولاد الذين يفضّلون أيضًا الزّواج داخل الجماعة لأنّه عامل استقرار، "... هو فعل خاصّ بالجماعات الأقليّة من أجل البقاء..." (5). إنّ هذه العائلات تعرف بعضها البعض منذ القِدم وأبناء الدشرة يعودون دائما إلى دشرتهم.

تتحدّد حاليّا، معايير اندماج الفرد وتقوم على توافقات ثقافيّة، فكريّة، على الصّداقة، وهكذا يتمّ إنشاء عالم جديد لا تمتلك فيه العائلة دائمًا وزنًا معتبرًا، ولكن يجد فيه "الشّخص الثّالث" توازنه المنشود.

العائلات المبحوثة

العائلة (1) : م. ب.

ولد م. ب. بمنطقة القبائل سنة 1917. ولد الأب سنة 1897 والأمّ سنة 1898. استقرّت العائلة (الأمّ، الأب والإبن) بقسنطينة بين 1917-1918.

عمل الأب بشركة الكهرباء l'ex-EGA وكان من أوائل أفراد العائلة الذين وُظّفوا بالشركة.

يقع المنزل الأول للمبحوث بـ"الرّْصيف" (في المدينة العتيقة)، ويقع المنزل الثّاني في الحيّ الكولونياليّ Faubourg Lamy. سنة 1958 جرى التنقّل الثّالث إلى سكن ترقويّ بحيّ "التّوت" les Mûriers ولا يزال مقيما به إلى اليوم.

عمل م. ب. بشركة الكهرباء l'ex-EGA بين 1942-1943. وهو أب لطفلين وثلاث بنات ولم يتابع أياّ من أبنائه دراسات جامعيّة. فقد تزوّجوا جميعا من عرش "آث وغليس" كما أنّ عقد الزّواج كان يتمّ دائما من طرف الأبوين. الإبن الأصغر، المولود سنة 1955 يعمل حاليّا بشركة الكهرباء والغاز Sonelgaz.

العائلة (2) : م. أ.

ولد م. أ. سنة 1924 بمنطقة القبائل وحلّ بقسنطينة عام 1931 في سنّ السّابعة من عمره. سكن مع والده (المقيم من قبل بالمدينة) واثنان من أبناء عمومته في حمّام يقع بـ"القصبة" (المدينة العتيقة)، عمل والده بشركة الكهرباءl'ex-EGA في سكيكدة لمدة 15 عاما قبل المجيء إلى قسنطينة. بدأ م. أ. العمل في شركة الكهرباء في سنّ 18 من عمره (1942) كما أنّه زاول تعليمه إلى غاية المستوى المتوسط بقسنطينة، حصل والده على سكن اجتماعيّ (HLM) سنة 1945 بتدخّل من أحد أبناء منطقة القبائل.

لدى م. أ. ثلاثة أولاد وبنتان. باستثناء الإبن البكر غير المتزوّج فإنّ جميع أولاده تزوّجوا من منطقة القبائل بتدخّل من الوالدين. فقد تزوّجت ابنته الكبرى من ابن عمّها الذي يعيش في قسنطينة. وحده الإبن البكر من واصل الدراسات العليا، أمّا الإبن الأصغر فقد اتّبع مسارا مهنيّا بشركة الكهرباء والغاز Sonelgaz.

العائلة (3) : م. م.

ولد م. م. سنة 1943 بقسنطينة. والده من مواليد 1900 بمنطقة القبائل، ذهب إلى فرنسا وأدّى الخدمة العسكريّة سنة 1918. أتى إلى قسنطينة في سنوات 1920- 1925.

استقرت عائلته (زوجته، أولاده الأربعة وبناته الثّلاث) في منزل لأحد السّكّان بالقرب من شركة الكهرباء l'ex-EGA.

كان الانتقال الأول إلى منزل خاصّ آخر بالاشتراك مع عائلة هـ. أ. التي تقيم في الطابق الأرضي (الزّوجة بنت أخ الوالد، وهي أيضا بنت عمّ الأم)، أمّا السّاحة الخارجيّة فقد تمّ التّنازل عنها لأخ الأم.

آخر تنقّل سكنيّ تمّ سنة 1951، تاريخ ميلاد البنت الصّغرى، حيث استقروا في سكن اجتماعيّ (HLM) لا زال يقيم به الأخ الثّالث حاليّا.

اتّبع م. م. مسارا مهنيّا في التّعليم وتزوّج فتاة من المدينة كان قد تعرّف عليها من قبل. زوجته حاليّا متقاعدة في سلك التّعليم ولديهما بنتان وولد. أنهى الأبناء الدراسات العليا والعائلة حاليا مستقرّة بفرنسا.

تزوّج الإبن البكر والإبن الثالث من نساء قبائليّات من عرش "آث وغليس"، حيث تزوّج هذا الأخير من ابنة عمّه. وتزوّجت البنت الكبرى، وهي أمّيّة، من ابن عمّها. أمّا بالنّسبة للشّقيقة الوسطى التي تشتغل قابلة، فقد تزوّجت من قبائلي من منطقتها ولكنّه مستقرّ بسكيكدة. أمّا الأخت الصّغرى فقد تزوّجت برجل سكيكديّ. وتزوّج الأخ الأوسط (أستاذ في الرياضة) من فتاة من قسنطينة. وقد تدخّل الوالدين في زواج أولادهم كلّما كان مرتبطا بمنطقة القبائل.

اتّبع الأخ الأكبر والثّالث مسارا مهنيّا في السّكك الحديديّة. كما يشتغل إبن الأخ الأكبر، الذي له ثلاث إخوة آخرين، والإبن الوحيد للأخ الثّالث أيضًا بالسّكك الحديديّة.

العائلة (4) : م. س.

ولد م. س. سنة 1914 في منطقة القبائل وانتقل إلى قسنطينة سنة 1932. وهو الأخ غير الشّقيق للمبحوث (2) وقد تبنّاه زوج أمّه الذي آواه وتدبّر له منصب شغل بشركة الكهرباء l'ex-EGA.

بدأ م. س. العمل في الـ 18 من عمره. إذ تقاسم الغرفة مع أخيه غير الشّقيق وزوج أمّه وسكن في المنزل العائليّ (HLM) في الطّابق الأرضيّ مع زوجته، أمّه، وزوج أمّه وأخيه غير الشّقيق المتزوّج أيضا. تزوّج مرّة ثانية في 1943 وتنقّلت كلّ العائلة إلى مبنى آخر بالقرب من الإقامة الأولى أين سكن في الطّابق الثالث.

سنة 1957، اشترى م. س. منزلا فرديّا في حيّ سكنيّ أين أقام مع زوجته وأولاده بينما بقيت أمّه مع أخيه غير الشّقيق. انعدم الأمن في الحيّ مع [انتشار العمليّات الاجراميّة للمنظّمة الخاصّة] l'OAS، فعاد م. س. إلى منزل أخيه غير الشّقيق وترك منزله مؤقّتا لابن عمّ هذا الأخير.

أقامت العائلة نهائيّا في منزله بعد الاستقلال وهي تتكوّن من ستّة أولاد وستّ بنات. زاول الأبناء دراسات عليا وأغلبهم يعملون كإطارات.

تزوّج أربعة من الأولاد بناتا من قسنطينة تعرفوا عليهنّ، وتزوّج الأخوان الكبيران من نساء قبائليّات تمّ اختيارهنّ من طرف الوالدين، أمّا البنتان الكبيرتان فقد تزوّجتا من عرش "آث وغليس" واستقرّتا خارج مدينة قسنطينة.

تزوّجت البنت الثّالثة ابن إحدى العائلات من "آث وغليس" مقيمةٍ بقسنطينة، لكن هذا الزّواج الذي تمّ ترتيبه من طرف العائلتين معًا سرعان ما انتهى بالطّلاق. ثمّ تزوّجت هذه البنت للمرّة الثّانية من رجل من قسنطينة تعرّفت عليه، مثلما حدث ذلك مع البنت الرّابعة [أي تزوّجت من رجل تعرّفت عليه]. أمّا البنت الخامسة فقد تزوّجت من رجل قبائليّ من منطقة أخرى وكان هذا الزّواج مرتّبا من طرف الوالدين.

العائلة (5) : ب. س.

ولد ب. س. سنة 1926 بـ "شميني" (آث وغليس) ودرس بها سنة 1932. تحصّل على الشّهادة الابتدائية في سنّ الـ 14، أي في سنة 1939 أو 1940، وما بين سنوات 1943- 1944 تحصّل على شهادة زراعيّة في شعبة التّشجير.

في سنوات 1943-1944 عمل ب. س. بالجزائر العاصمة كنادل في مطعم وذلك بمساعدة من بعض سكّان "آث وغليس". حيث سكن مع أفراد آخرين بغرفة في "باب الواد"، ثمّ تزوّج سنة 1944. عاد بعد ذلك إلى ""شميني" أين درّس عام 1944 وعام 1948 و سكن في قرية "تيسيرة" (آث وغليس). لكن غلق المدرسة كان سببا في تحويله إلى بجاية سنة 1955 لذا كان يتنقّل بين "تيسيرة" وبجاية كل سبت ثم يعود من جديد يوم الاثنين. مع نهاية عام 1955 استقرّت العائلة ببجاية في فيلا لأحد أبناء العمومة. وفي سنة 1957 تمّ تعيينه بـ "المشتة الكبيرة" (مقاطعة قسنطينة) كمدير مدرسة لتلتحق به عائلته في نفس السّنة. ثمّ نُقل من جديد إلى "فرجيوة " في مارس 1959 ثمّ إلى "سمندو" سنة 1962.

عيّن ب. س. بين 1963-1964 كمستشار بيداغوجيّ وحصل على سكن وظيفيّ إلى غاية 1970، لينتقل بعدها إلى سكن جماعيّ بتسهيل من مدير ديوان التّرقية والتّسيير العقّاري (l'OPGI) الذي ينتمي إلى منطقة القبائل.

ثمّ تمّ تحويله من جديد إلى ميلة في 1980 بعيدا بستّين كيلومترا عن قسنطينة، ولكن العائلة بقيت بقسنطينة. وفي نهاية مساره المهنيّ تم ّتعيينه كمفتّش سنة 1986 وأحيل على التّقاعد سنة 1987.

(بالنسبة لزواج الأبناء، يمكن عرضه كما يلي)

التقى ب. س. بنتا جميلة شقراء من منطقة القبائل في مركز للامتحان، فقدّمها لولده البكر الذي تزوّجها. كانت عائلة هذه البنت من "آث وغليس" لكنّها مقيمة بقسنطينة.

تزوّجت البنت الكبرى من أحد أبناء عائلة من "آث وغليس" مقيمة بقسنطينة أيضا. كان هذا الزّواج من ترتيب الوالدين إذ أنّ أب الولد صديق لأب البنت.

تزوّج الإبن الأوسط من بنت من قالمة تعرّف عليها في الجامعة، لكنّه كان قد خطب من قبل إحدى بنات العمومة.

تزوّجت البنت الثّانية من أخ زوجة الإبن البكر.

تزوّجت البنت الثّالثة من ابن عائلة من "تيسيرة" (نفس قرية الوالدين) مستقرّة بقسنطينة، وتزوّج أحد أبناء العمّ من البنت الخامسة.

تزوّجت البنت الرّابعة من رجل قبائليّ من منطقة أخرى، وهو صديق للابن الأوسط كان يزور العائلة، في حين أنّ عائلته كانت تسكن في منطقة القبائل.

في الأخير تزوّج الإبن الأصغر من فتاة من "آث وغليس" استقرّ والداها بقسنطينة، فأمّهات الزّوجين قريبتان والآباء من الأصدقاء القدامى.

العائلة (6) : عائشة

ولدت عائشة سنة 1924 وتزوّجت سنة 1940 من ابن خالها. زُوّجَتْ من طرف والدها وجدّها بشرط أن تتبع زوجها الموجود بـ "تاحمامت" [سطيف]. في اليوم التّالي لحفل الزّفاف التحقت عائشة بزوجها رفقة حماتها، ومنذ ذلك اليوم بدأت فترة طويلة من الهجرة لمبحوثتنا دامت 21 عاما عادت خلالها إلى "آث فراح" مرّتين: سنة 1943 لمدّة عامين لإيجار أشجار الزيتون بـ" الوطاية" [بسكرة]، وفي سنة 1946 لمدّة شهرين أو ثلاثة.

ثمّ كانت الإقامة النهائيّة بقسنطينة سنة 1960 مع استقرار الزّوج في عمله.

ولد الزّوج سنة 1912 وهو منحدر من عائلة تمتلك نوعا من المعرفة: معرفة قرآنيّة، معرفة دينيّة، إذ كان شقيق جدّه رجل دين مشهور في منطقة الأوراس. تزوّج ثلاث مرّات قبل أن يختار عائشة. تعلّم عند الشّيخ طالب محمد في المدرسة القرآنيّة وبالمدرسة [الفرنسيّة] أين تحصّل بين 1926- 1928 على شهادة التّعليم الابتدائي. بين سنتي 1928 و1930 ذهب إلى قسنطينة والتحق بإحدى مدارس جمعية العلماء المسلمين. وبعد مزاولته بعض الدّروس ذهب إلى تبسّة عند الشّيخ العربي التّبسيّ الشّهير بتعليمه آنذاك. لكن في سنة 1934 تخلّى عن الدّراسة نظرا لضعف الحال...

يبدو أنّ اختيار قسنطينة كان بسبب توفّر مجموعة من الحِرف تميّز بها أهل "آث فراح" : الحمّامات والمخابز. ومن هنا بدأت مغامرة [زوج عائشة] في العمل: سنة 1935 حاول الاشتغال في التّجارة لكن سرعان ما تخلّى عنها لنقص الإمكانيّات. شرع بعدها في العمل العموميّ: سكرتير بـ"المعذر" (باتنة) سنة 1942، [عامل بالسّكك الحديديّة] سنة 1944، قرّر الذّهاب إلى "الكويف" على الحدود التّونسيّة للعمل كحارس بالسّجن. ثمّ سنة 1945 تمّ نقله إلى سجن "لامباز" كموظف ليطرد منه بعد ذلك، حاول خوض تجربة العمل في الفلاحة لكنّه فشل فشلاً ذريعًا... فقد تخاصم مع والده. وفي سنة 1947 رجع إلى بسكرة أين أقام حتى نهاية 1957، وهناك اشتغل في مهن صغيرة قبل عمله كمترجم وكسكرتير في البلديّة.

بدأ [زوج عائشة] بتحقيق الاستقرار لمّا شرع في بناء منزل وكذلك من خلال انخراطه في مجال الأعمال. لكن مع اضراب 1957 انهار كلّ شيء وتمّ نفيه من بسكرة. في عام 1958 أخذ عائلته وذهب إلى باتنة للعمل في مصلحة الماليّة إلى غاية 1960 تاريخ آخر تنقّل بالنّسبة له حيث استقرّ نهائيّا بقسنطينة. وفي هذه المدينة كانت عائلة عائشة تشغل سكنات للكراء وسكنات وظيفيّة بـ "سيدي مبروك"، وأخرى في مركز المدينة بفضل عمل ابنها في البلديّة. في سنة 1963 قرّر [زوج عائشة] شراء شقّة في حيّ "كدية عاتي" والتي لا زالت تسكنها العائلة.

لمبحوثتنا خمسة أولاد وبنتان زاولوا دراسات ثانويّة وجامعيّة، فكلهم تقريبا إطارات، وقد تزوّج الأبناء من نساء خارج الجماعة.

العائلة (7) : فاطمة

ولدت فاطمة سنة 1933 من عائلة متواضعة بقرية "آث فراح" وتزوّجت سنة 1949 من أخ زوج المبحوثة عائشة (6). عمل أب فاطمة في حمّام عموميّ ببسكرة إلى جانب عمله بقطعة أرض صغيرة تمتلكها العائلة. أمّا زوجها فقد عمل في مصنع بفرنسا قبل التحاقه بجبهة القتال عند اندلاع حرب التّحرير الوطنيّ. بقيت فاطمة بقريتها مع أولادها إلى غاية الاستقلال ولم يخاطر زوجها المجاهد بالمجيء إلى القرية سوى مرّة واحدة، سنة 1954 أو1955. لكن كانت هناك أيضا مساعدات والدها الذي كان يزورها دائما.

تنقلت العائلة ما بين 1962 إلى غاية 1964 كثيرا بين سكيكدة، عنابة وسوق أهراس بسبب عمل الزّوج في الجيش الوطنيّ الشّعبيّ (ANP). ثمّ كان الاستقرار النّهائي بقسنطينة سنة 1964 بالإقامة في سكن وظيفي بحيّ "سيدي مبروك"، ثم بحي "المنظر الجميل" (Bellevue)، في إقامة عسكريّة، قبل الاستفادة من سكن في حي 20 أوت 1955.

تزوّج زوج فاطمة مرّة ثانية سنة 1965، أماّ هي فقد عادت مرتين أو ثلاث مرات إلى بسكرة لزيارة عائلتها. لديهم ثمانية أبناء ذوي مستوى ثانوي وجامعي وقد تزوّج اثنان منهم من الأقارب.

العائلة (8) : حليمة

ولدت حليمة سنة 1933 بـ "آث فراح". زُوّجت في المرّة الأولى لابن عمها، لكنّها تطلّقت وأعادت الزّواج في سنّ 24. التحقت رفقة أختها بزوجها الذي كان يقيم في قسنطينة. فسكنوا في حيّ شعبيّ مدّة تسعة أشهر ثمّ غادروه للاستقرار في سكن بوسط المدينة.

الزّوج من مواليد 1922 بـ "آث فراح". يحسن القراءة والكتابة بالفرنسيّة والعربيّة معا. أدّى الخدمة العسكريّة ثمّ التحق بالجيش الفرنسيّ سنة 1942 لمدة أربع سنوات. سُرّح من الجيش سنة 1946 ليعاود الالتحاق به عام 1947 لمدة أربع سنوات في المعتمديّة العسكريّة بقسنطينة أين عَيّن كعريف سنة 1949. تمّ تجديد انخراطه لمدّة سنتين في 1950 وعيّن عريفا أوّلا سنة 1951. أعاد الانخراط من جديد لمدة سنتين في ماي 1952 ثمّ حوّل إلى ورقلة سنة 1958. انسحب من الجيش سنة 1959 وزاول بعضًا من الأعمال قبل أن يشتغل بمذبح قسنطينة.

لدى حليمة وزوجها ثمانية أطفال لم يتابعوا مسارا دراسيّا طويلا، وتجدر الإشارة إلى أنّ والدهم لم يشجّعهم على ذلك. لذا كانت تعمل حليمة كلّ ما في وسعها حتّى لا تتخلّى البنات عن الدراسة.

العائلة (9) : زهرة

ولدت زهرة سنة 1919 بقرية "آث فراح" وتزوّجت سنة 1932. كان زوجها أمّيّا ويعمل في تسيير الحمّامات بباتنة ثم بقسنطينة. ومن أجل تمدرس ابنيْهما أقاما لفترة بباتنة مع الذّهاب إلى الدوّار والعودة منه. قُتل الولدان أثناء حرب التّحرير الوطنيّ، ولمّا مُنع الزّوج من الإقامة في المنطقة، اضطرّ إلى الذّهاب إلى قسنطينة أين حشد جميع معارفه في القرية لجلب زوجته التي كانت مفطورة القلب من الحزن، ثمّ قاموا بكراء غرفة في المدينة القديمة لدى أولى العائلات المستقرّة بقسنطينة (1900).

تركت زهرة القرية في 1957-1958 نهائيّا في سنّ 38 وقامت بتربية ابني أختها غير الشّقيقة اللّذين تزوّجا فيما بعد من داخل الجماعة. تحصّلت عائلة زهرة على سكن للمنكوبين في المدينة القديمة ثمّ باعته واشترت مسكنا في حيّ 20 أوت 55 أقامت فيه مع ابن أختها وزوجها.

العائلة (10) : مباركة

ولدت مباركة سنة 1918 في قرية "آث فراح". والدها أيضا مسيّر لحمام عموميّ بقسنطينة، وهران وفي تونس، لذا كانت في عهدة جدّها وجدّتها لغياب والدها، تزوّجت مباركة ثلاث مرّات، كان الزّواج الأوّل مع ابن عمها، لكنّها "هربت" ثمّ تطلّقت. أعادت الزّواج سريعا في 1957-1958 مع رجل من القرية، وبعد أربع سنوات التحقت بزوجها بقسنطينة حيث كان يتعلّم صناعة الحلويّات. سكن الزّوجان في غرفة بمنزل تقليديّ بالمدينة علمًا أنّ مباركة لا تتحدّث سوى الشّاوية. تطلّقت مباركة وأعادت الزّواج مرّة ثالثة في قسنطينة من أحد أفراد جماعتها يحسن القراءة والكتابة بالفرنسيّة. انضمّ هذا الأخير إلى الجيش الفرنسيّ وأصبح حارس سجن. سكنوا في منزل بالمدينة القديمة بالاشتراك مع عائلات أخرى قامت بإدخال مباركة شيئا فشيئا للحياة الحضريّة، وفيما بعد قاموا بكراء منزل لدى أحد الخواصّ. عادت مباركة مرّتين أو ثلاث مرات إلى القرية.

بعد وفاة زوجها وجدت مباركة نفسها معوزّة، ومن أجل تربية أطفالها عملت عند أشخاص من قريتها، ثمّ تحصّلت بفضل شبكة معارفها على وظيفة كعاملة نظافة بجامعة قسنطينة. لقد ترك أولادها المدرسة ومن بين سبعة أبناء، اثنان فقط تزوّجا من خارج الجماعة.

بيبليوغرافيا

Adel, F. (1996). Réseaux de solidarité et identification à la ville de Constantine. Compte rendu de recherche, CRASC, Avril.

Adel, Kh. (1996). Stratégies féminines d’adaptation à la ville de Constantine. Cas des femmes de la communauté des Ah Frah de l’Aurès. Compte rendu de recherche, CRASC, Avril.

Benidir, F. (1989). La revalorisation d’un tissu urbain ancien : la médina de Constantine. Thèse de magister, Université de Constantine.

Bourdieu, P. et Sayad, A. (1964). Le déracinement. La crise de l’agriculture traditionnelle en Algérie. Paris : Minuit.

Messaci, N. (1990). L’habitat des Ath Waghlis. Chaos spatial ou ordre caché. Thèse de magister, Université de Constantine.

Pagand, B. (1988). La médina de Constantine. De la cité traditionnelle au centre d’agglomération contemporaine. Thèse de doctorat de 3ème cycle, Université de Poitier.

Rosental, P.-A. (1990). Maintien/Rupture: un nouveau couple pour l’analyse des migrations. Annales ESC, n°6, Nov.-déc.

Sayad, A. (1977). Les trois âges de l’émigration algérienne. Actes de la Recherche en Sciences Sociales, n°15.

Gribaudi, M. : Introduzione alla sessionne « Movimenti migratorie mobilttà sociale », dans SIDES, Disuguaglianze, stratificazione mobilità sociale nelle popolazioni italiane (dal sec. XIV agli inizi del seolo XX), Bologne.



ترجمة :

مؤسّسة العائلة على محكّ المنفى في مخيّمات اللاّجئين الصّحراويّين

خلّف الإسبان عند مغادرتهم "إقليمهم الصّحراويّ" سنة 1975 إرثا ثقيلا لسكّان المنطقة : مجتمع من البدو الرّحّل فُرض عليه الاستقرار في مخيّمات هشّة ومؤقّتة، أبناء محاربين تحوّلوا إلى مناضلين في سبيل القضيّة التّحرريّة، مضطرّين بذلك إلى ترك نسائهم يتحمّلن عبء الحياة العامة، والمنفى للجميع، بدون استثناء، مكتسبين بذلك صفة "اللاّجئين". لقد استجمع الصّحراويّون قواهم منذ ذلك الحين ونظّموا كفاحهم وكان على الجميع المشاركة: رجالا، ونساء وأطفالا؛ ومن أجل ذلك، كان عليهم الافتراق. فكيف كانت إذن العائلة الصّحراوية خلال فترة البداوة، وكيف أضحت بعد مضيّ ثلاث وعشرين سنة من المقاومة النّشطة؟ هذه هي الأسئلة التي يمكن اليوم تقديم البعض من عناصر الإجابة عنها.

العائلة الممتدّة في الماضي

عُرِفت العائلة في الصحراء الكبرى منذ القدم بطابعها الممتد، وتربية الطفل وتنشئته لم تكن حكرا على الأب، والأم، والإخوة والأخوات، وإنّما تجاوزته لتشمل أطرافا أخرى: فقد أسهمت كل من الجدات، والخالات، والأخوات الكبريات وبنات العم في دور الأمومة، في حين اشترك كل من الأجداد، والأعمام والإخوة الكبار وأبناء العم في الدور الأبوي. هي الصورة التي كانت عليها العائلة الصحراوية، على الأقل، خلال فترة حكم القبائل[1]، أثناء مرحلة البداوة.

لم تشكل الأسرة النووية النموذج المتعارف عليه لدى الأبناء والأزواج على حد سواء، وعملية نقل المعارف والمهارات الشخصية عبر الأجيال، كانت تتم في كنف العائلة الممتدة. وبالتالي يجد الفرد نفسه دوما في وسط شبكة معقدة من الروابط العاطفية، والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، أين يتحمل تبعات الضغط الذي تخلفه، بنفس مقدار ما يكتسبه من المزايا. هذه المكانة، المكتسبة عادة منذ الولادة، كان بالإمكان أيضا التّفاوض بشأنها وذلك في حال رغبة الشخص، العائلة أو حتى الجماعة تغيير شبكة الروابط، أو الانتقال من قبيلة إلى أخرى، أو الاندماج في القرابة. لقد شكلت لغة القرابة في المجتمع الصحراوي، كما هي الحال دائما وفي مناطق أخرى أيضا، أسلوبا في تسمية العلاقات الاجتماعية حيث تشير إلى قواعد سلوكية، وممارسات وقيم تتيح للفرد بناء هويته والحصول على مكانته الصحيحة داخل الجماعة. تلك المكانة المُحدِّدة لسلسلة الأدوار التي يسعى الفرد جاهدا لتأديتها على الوجه الملائم طيلة حياته، والقيام بما يتوقّعه الآخرون منه، إلاّ في حالات قاهرة، لتجنب التقهقر إلى مرتبة اجتماعية أدنى. وبالتالي ينبغي عليه أولا الحفاظ على رأس المال الاجتماعي الذي ورثه، تعزيزه إن أمكنه ذلك والعمل على نقله لاحقا لأحفاده.

لقد حدّدت الأنثروبولوجيا من مجموع هذه الروابط صنفين اثنين من العلاقات الاجتماعية: النّسب والمصاهرة. يندرج الصّنف الأول ضمن البعد العمودي للزمن، حيث يضع الشخص ونسله داخل وحدة اجتماعية (الجماعة)؛ فهو عبارة عن رابطة النسيج الاجتماعي. أمّا الصّنف الثاني المندرج ضمن البعد الأفقي للفضاء الاجتماعيّ، فإنه يصل هذه الرّوابط بخيوط متعدّدة، مجسدا بذلك شبكة النسيج الاجتماعي. أخيرا، يمكن من خلال دراسة وفحص قواعد الإقامة استيعاب الأسلوب الذي يتجلّى فيه النّظام الاجتماعيّ فعليّا في البعد الزمني والفضائي، واستقراء مواضع وأزمنة إعادة الإنتاج الاجتماعي.

دور الذّاكرة الجينيالوجيّة في البناء الهويّاتيّ

تقوم قواعد النّسب في المجتمع الصحراوي، مثلها مثل نظيرتها السائدة في العالم العربي، على نظام الانتساب الأبوي، بمعنى أن كل فرد يرتبط بسلالة من الرجال يتقاسمون بصورة "طبيعية" السّمات والخصائص ذاتها، لوجود تصور بعدم نقل المرأة دمها لأبنائها2، وبأنه من خلال عامل الدم يتميز أفراد المجتمع. وكمحصلة لذلك تمّ بناء هوية الأفراد والجماعات، قبل بدء النضال لأجل التحرر الوطني، عن طريق رصد جميع الأشخاص الأحياء والأموات الذين تجمعهم رابطة الدم. لهذا السبب يعدّ الجدّ الأول، الذي يورث اسمه ومكانته الاجتماعية – نظرا لأهمية التّسلسل الهرميّ في التّمثّلات العربية للتاريخ الإنساني– ، عنصرا محددا لهوية كل شخص، انطلاقا من الصورة الذاتية. بطبيعة الحال، كل هذا لا يعدو أن يكون إلاّ خطابا إيديولوجيا، ولكن في مجتمع ذي قاعدة ماديّة ضعيفة جدّا، والوفرة فيه عابرة والملكية مؤقّتة – بفعل هشاشة الاقتصاد الرعوي وعدم إسهامه في تحويل الطبيعة –، لا يمكن للهويّة إلاّ أن تكون بناءً مخياليّا لافتقادها الأساس الملموس الذي يتيح التعلق به. الأرض ملك للمزارع، والقصر للإقطاعي، والمدينة للحضري، والدولة للمواطن؛ في حين لا يمتلك البدوي إلا جسده، ذاكرته وكلمته. أمّا "أرض" أجداده فهي منطقة ضبابيّة، متغيّرة ويجب العمل دائما على احتلالها؛ فلا شيء مضمون يمتلكه.

الرقابة على المصاهرة والعقد الاجتماعيّ

لم يكن بمقدور البدو الصمود دون تنظيم. فمنطقة الصحراء الغربية لم تشهد يوما حكم ملوك أو أمراء يسهرون على ضمان سلامة الأفراد وازدهار تربية المواشي. زيادة على ذلك، كانت الحاجة ماسّة لأن تكون أواصر القرابة بين الناس أكثر متانة وقوة مقارنة بغيرها من المناطق. كما شكّل التضامن، إلى جانب ذلك، الخيار الوحيد أمام المجموعات البدوية المنظمة تنظيما فائقا، وذلك بفعل المنافسة الدائمة بينها للحصول على الموارد الرعوية غير الكافية ووجوب انقسامها من أجل اتباع طرق منفصلة لرعي قطعانها. تميّز هذا التضامن باتساعه، وتشكله من دوائر أحادية المركز، تحوي الفرد ضمن العائلة، والعائلة ضمن العشيرة، والعشيرة ضمن القبيلة؛ وترتسم حدود هذا التضامن المتدرّج على أساس المرجعية المشتركة لأب العائلة (Paterfamilias)، للجدّ الأوّل في خطّ النّسب والجماعة. لقد اضطرّ الرّجال المشرفون على شؤون الحكم السياسي والاقتصادي، بفضل توليهم الدفاع عن الإقليم والإنتاج الرعوي، إلى التّضامن بغض النظر عن عداواتهم الشّخصيّة. ومن أجل ذلك كان على كل فرد الالتزام بمجموعة من الواجبات، إذ يُضاف تبادل النساء إلى احترام العقد الأخلاقي الذي يوجب مضاعفة وتبادل الهبات والقروض. وعلى الرغم من الخطاب الدّاعي إلى الزواج الداخلي من الأقارب المباشرين (الزواج من ابنة العم3)، بدأ في الانتشار الزواج الخارجي (الميل إلى الزواج من ابنة الخال المباشرة أو غير المباشرة)، الأمر الذي أدى إلى تأسيس حركية انتقال النساء بين العائلات والأنساب، من أسفل إلى أعلى التسلسل الهرمي الداخلي للجماعة (الموجود رغم ضعفه). كما لاقى الزواج الفوقي (ارتباط المرأة برجل من نفس طبقة والدها أو يفوقها) رواجا واسعا إن لم نقل بأنه شكّل القاعدة، فقد عززت هذه الحركة المستمرة للنساء بين السلسلة الذكورية تماسك الجماعات من جيل إلى جيل، مع إبرازها الأولويات الواجب احترامها. وبهذا احتلت المرأة الصحراوية مكانة مركزية في قلب العقد الاجتماعي للمجتمع البدوي، حيث اعتبرت ضامنة له في الماضي، وفي الحاضر وفي المستقبل.

المرأة بين الإقامة والتّنقّل

نتساءل، كيف أسهمت المرأة الصحراوية في إنتاج وإعادة إنتاج هذه الشبكة الاجتماعية الأفقية الضرورية لتنظيم الرجال؟ الإجابة: كان ذلك عن طريق حركيتها. إنّ المتعارف عليه في منطقة الصحراء الغربية وكباقي دول العالم العربي، اعتماد الإقامة في الرابطة الزوجية على مبدأ السكن مع عائلة الزوج (Patrilocalité)، بمعنى أن العروس تنصب الخيمة الزوجية بمكان إقامة الزوج مستفتحة بذلك حركة متواصلة لتنقل الممتلكات والأشخاص بين مكان إقامة والدها وإقامة زوجها، عن طريق الزيارات كلما سنحت الفرصة بذلك، كما توجّه المرأة الحامل لوضع مولودها عند أبويها، أما الصهر، فعلى الرغم من منع قواعد الاحتشام المعمول بها حضوره الفعلي أمام أنسبائه، فهو ملزم بإرسال الهدايا لأهل زوجته بشكل منتظم ومساعدتهم كذلك. كما يسهم الأبناء بشكل قوي في تفعيل الروابط بين عشيرتي الأب والخال الأقرب إليهم، والذي أصبح بفعل العلاقة بين الأخ والأخت أكثر ارتباطا بهم. وعندما تتكرر الزيجات، وتنتقل العديد من النساء من جيل لآخر بالاتجاه نفسه، يتعزز التواطؤ بينهن بفعل روابط الدم التي تجمعهن من جهة، وبفعل العيش في مكان واحد من جهة أخرى، في حين يكتسب جميع الرجال المانحين مرتبة "الأخوال" بالنسبة لأعضاء مجموعة الآخذين؛ الأمر الذي يرسخ فعليا رابطة النّسب بين العشيرتين ويقوّي وحدة المجموعة.

مخيمات اللاّجئين وتفكّك العائلة

ما هو واقع الصحراء الغربية اليوم بعد مضي أربعين سنة على الاحتلال وثلاث وعشرين عاما على الحرب؟ لقد أسهمت مواجهة الصحراويين للعدو الإسباني والمغربي خلال هذه الفترة في اتساع العقد الاجتماعي الداخلي لكل مجموعة ليشمل بذلك جميع السكان الذين أصبحوا يلقبون بـ "الشعب" الصحراوي: ففي نوفمبر من عام 1975، بمنطقة "ڤلتة زمّور"، وقّع ممثلون عن شيوخ الجماعة (التجمع الإقليمي الإسباني) ومسؤولون عن جبهة البوليزاريو اتفاق "الوحدة الوطنية". في السنة الموالية وإثر الاجتياح المغربي للأراضي الصحراوية وفرار المدنيين باتجاه الجزائر، الوجهة الوحيدة الممكنة للّجوء، تقرّر تأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية والإعلان عن عقد اجتماعي جديد يسمو على الروابط الجماعاتية التي تربط الأشخاص بمختلف مجموعات انتمائهم وحرّرهم بذلك من الالتزامات المترتبة عنها. بالتالي، كيف أضحت العائلة الصحراوية، نووية كانت أم ممتدة، في كنف ديمقراطية المنفى، في الوقت الذي يتواجد فيه الرجال في جبهات القتال، ويزاول الأبناء دراستهم خارج الوطن، وتتحمل فيه النساء المحتشِدات على حمادة تندوف عبء تنظيم المخيمات؟

النّسب أو قانون الصّمت

إثر هذه التّطوّرات، أصبحت "القبليّة" من منظور مسؤولي جبهة البوليزاريو مرادفا للانقسام، ففي الواقع ما نطلق على تسميته اليوم بالشّعب الصحراوي هو في الأساس التحام جماعات مرتحلة في منطقة الصحراء الغربية، والتي تولّد عن ماضيها المضطرب، مثل كل تاريخ صحراوي، روابط متناقضة تشكّلت في الحرب والسلام ومن الهيمنة والخضوع. لكن السؤال الذي يطرح، كيف نصبح "واحدا" (أو نتوحّد) في مواجهة العدوّ وعلى وجه الخصوص في مواجهة المنظمات الدولية التي لا تعترف إلاّ "للشعوب" بحق تقرير المصير، في حين أنّنا متعدّدون، أو كنّا كذلك في الماضي؟ كيف يمكن تجاوز هذه الوضعية؟ وكيف يمكن تحويل التّضامن القبليّ إلى تضامن وطنيّ دون أن يفقد شيئا من قوّته؟ تلك هي المعضلة التي واجهها الجميع دون استثناء –وليس فقط المسؤولين-، والتي تمّ الإجابة عليها دون شكّ بشكل بسيط جدّا، وذلك بالتزام الصّمت. لقد تمّ رفع شعارٍ على الجدران معلنا: "القبليّة جريمة ضدّ الأمّة"، في حين خيّم الصّمت داخل العائلات الصحراوية، ومُنِع سرد تاريخ الأجداد للأطفال؛ إذ أنّ بناء الهوية لم يعد على أساس النّسب، وإنما عن طريق الأمّة وداخل الأمّة. لقد تمّ الاعتقاد بأن وسيلة إنماء الشعور والحسّ الوطني يتأتّى عن طريق إخفاء الانتماءات القبلية، فالجيل الذي "يعلم"، ولد جيلا "لا يعلم"، ظاهريا على الأقل، إذ كان من الصّعب الحيلولة دون إفشاء السّرّ هنا أو هناك. ومهما كان الأمر، أدّى مرور عشرين سنة من الرقابة الذاتية إلى إنتاج جيل لا يمتلك إلا النّزر اليسير من المعرفة حول الأسماء والتوزيع الجغرافي والاجتماعي لجماعات البدو الرّعاة التي تنتمي إليها وتنحدر منها الأجيال السّابقة.

حرية المصاهرة كأساس لعقد اجتماعي جديد

لم يكتف المجتمع الصّحراوي المتواجد في المنفى من إطباق الصّمت على الذاكرة الجماعية، وإنّما لجأ أيضا، قصد تحقيق مشروعه الديمقراطي، إلى تبنّي ثورة قائمة على أساس من التفكير– مقاربة نقدية لنماذج المجتمعات القائمة-، من النقاشات ومن التّفاوض. فماذا عن مؤسسة الزّواج ضمن هذا التنظيم الجديد؟ لقد تقرّر في ظلّ الوضعيّة الحرجة التي يواجهها المجتمع الصحراوي تشجيع الإنجاب كنتيجة لقلة عدد السكان، وكذا الحاجة المستمرّة لقوى جديدة تدعم الكفاح المسلّح الذي يمكن أن يدوم طويلا. دعمت الدولة بالتالي الارتباطات الزواجية، ولكن كنتيجة لعدم معرفة حركيّة النّساء بين الأنساب إلاّ محليّا (أو عدم الرغبة في الإفصاح عن ذلك)، لم يعد بمقدور أيّ شخص قياس آثار الزّيجات الجديدة. وبالرغم من ذلك، رافق الرغبة في إلغاء القبليّة أيضا الرغبة في إلغاء آليات الاقتران الداخلي المحفّزة لها، ولكن هنا أيضا لم يستطع أحد أو لم يأخذ فعليا الوقت الكافي لإجراء تحليل للمنظومة الجديدة، بل وجب التركيز على معالجة المشاكل الأكثر إلحاحا. وفي نفس السّياق السّريع الذي قاد إلى اعتماد الصمت أملاً في القضاء على آليات إعادة الإنتاج الاجتماعي القديم، تمّ الإسراع في إدانة خِفاض البنات، إلغاء المهر، أو تزويج الفتاة دون موافقتها، كما منح للمرأة حق المشاركة والإدلاء برأيها في المجالس.

من هنا يجدر بنا التّساؤل حول الوظيفة الجديدة المنوطة بالمرأة الصحراويّة حاليا؟ فحسب المتعارف عليه سابقا، تمثّل دورها في الإنجاب لضمان استمرارية الأجيال. ولكن الصعوبات التي أفرزتها الحرب والمنفى أرست قواعد جديدة لدور المرأة من أجل مساندة الرّجال المحاربين الذين لم يعد باستطاعتهم التّكفل بجميع الأمور: بعبارة أخرى إنّهم بحاجة ماسّة إليها. لقد كان للمرأة في مجتمع الرّعاة منذ القدم دور محوري وذلك بسبب التّواجد الدّائم للرجل خارج تجمعات الإقامة. ولكن خلال السبعينات، فقدت العديد من النساء هذا الدور نتيجة انتقال الرعاة للعيش في المدينة بفعل الجفاف، الأمر الذي أدى إلى تحول عميق في دور المرأة داخل المخيمات، وأصبحت مكانتهن ووضعيتهن تختلف كل الاختلاف عن حياتهن السابقة. فلقد أذهل الجميعَ العملُ الهائلُ المنجزُ من طرف المرأة الصحراوية، وفي مقدمتهم الرجال الصحراويين أنفسهم. إذ حملن على عاتقهن القيام بجميع النشاطات داخل المخيمات: الصحة، والتربية، والحرف اليدوية، وتوزيع المواد الغذائية، والنظافة، والزراعة، وتنظيم أوقات الحياة الاجتماعية، والتفاوض لحل النزاعات، ورعاية الشيوخ والأطفال، بل وحتّى إنجاز البنايات العامة والخاصة بالطوب الجافّ. وفي الوقت ذاته، شاركن في الحوار الوطني، وأبدين برأيهن، وقمن بعملية التصويت، وأسمعن صوتهن في كل مكان. لقد أسّسن لاحقا "منظّمة النّساء الصّحراويات" التي عنيت بالدّفاع عن مصالح الفئات المعوزّة، وفتح المجال للتفكير في وضعية المرأة الآنية والمستقبلية، علاوة على ذلك المشاركة في اللقاءات الدولية المنظمة من طرف الجمعيات النسوية العالمية، والمطالبة بالمساعدة الدولية وحشد الرأي العام، والسعي للوصول إلى المعلومة والعمل على نشرها، وأخيرا الكتابة حول القضية. فمن خلال العقد الضمني الجديد بينها وبين الرجل، وإلى جانب حقّ اختيار الزّوج، نجحت المرأة الصحراوية في اكتساب الحقّ في الصّحة، والتّعليم وإبداء الرّأي.

الإقامة والتحايل على القواعد

أتاح تعزيز مكانة المرأة في المجتمع الصّحراوي، إلى جانب مكوث الرّجال في مقتبل العمر خارج المخيّمات، إلى قلب قاعدة الإقامة المعمول بها حتى ذلك الحين، إذ فضّلت التّحوّل من الإقامة في بيت الزوج (Patrilocalité) إلى الإقامة في بيت الأم (Matrilocalité). ورغم كون الظّاهرة غير معمّمة ولا يمكن قياس حجمها، ولكنها تشهد انتشارا في المجتمع الصحراويّ، إذ أصبحت مطمحا يمكن تحقيقه بلجوء الشّابّات إلى نصب خيامهنّ إلى جانب خيام أمهاتهنّ. لقد أدّى غياب الآباء، والإخوة والأزواج إلى جعل الأمر ميسورا، فالأولاد (والبنات على حد سواء) ينتسبون منذ السّنّ الثّانية عشر إلى مدارس داخليّة، ثم يعيّنون بمجرد انتهاء تكوينهم في النواحي العسكرية، وفي الوظائف الحكومية أو في البعثات الخارجية. ومنذ وقف إطلاق النار سنة 1991، لوحظ وجود بعض الرجال المقيمين مع النساء بالمخيمات (مثل الممرضين، والمعلمين، والموظفين بالإدارة المحلية، وجرحى الحرب أو المقاتلين المرخّص لهم)، ويعتبر عددهم في المجمل كبيرا. أمّا الإجازات والعطل فهي لا تمنح إلا نادرا، إذ لا يعود المقيمون بالخارج إلاّ مرة أو اثنتين خلال السّنة، وكان للمحاربين الحقّ في الزيارة لبضعة أيام فقط في الشهر ويتمّ قضاؤها عادة بعيدا عن أسرهم، فهم يعيشون سويّا محصورين في النواحي العسكرية بمنطقة الصّحراء المحرّرة (المناطق الكائنة شرق جدار الدّفاع المنجز من قبل المغاربة). ويستثنى من هذا النظام موظفو الإدارة المركزية، الذين بمقدورهم العودة إلى المخيمات مع نهاية كل أسبوع، ولكن هؤلاء أيضا كانوا يفضّلون قضاءها بعيدا عن أسرهم نتيجة أزمة النّقل التي كانت تعيق حركة الجميع.

عندما يتمّ الاتفاق على الزواج والحصول على موافقة أولياء الزوجين (اللذين يبقى ترخيصهما ضروريا)، تزوّد حكومة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية (R.A.S.D) الزوجين، زيادة على المواد الغذائية الضّرورية لإقامة الحفل، اللّوازم الأساسيّة لتجهيز البيت والمتضمّنة أساسا قماش الخيمة الذي يجب خياطته وجهاز عروس بسيط (أفرشة، حصائر، أدوات المطبخ، إلخ)، حيث توهب هذه اللوازم في واقع الأمر للمرأة بالنظر إلى كون الخيمة مِلكا لها حسب التّقاليد المعمول بها في المجتمع البدويّ.

من هنا أصبح الانشغال يدور حول: كيف يفرض على المرأة، في ظلّ الوضع غير المستقرّ وفي الوقت الذي تؤدي فيه النّساء أغلب المهامّ الضّروريّة لضمان استمرارية الحياة في المخيّمات، التّوجّه للإقامة مع الحماة في غياب الزوج؟ كيف لا نعتبر رجاء الأمّ العجوز التي ترغب في الاحتفاظ بابنتها أمرا شرعيّا؟ وخاصّة أصغر بناتها سنّا؟ إذ يصبح بقاء البنت الصغرى برفقتها من المُسلّمات، خاصة بعد ذهاب بقيّة بناتها للعيش في مكان آخر. ومع ذلك كانت هناك إرادة قويّة للحفاظ على ذلك الجانب من ميثاق الشّرف الذي يمنع هذا النوع من التّقارب: إذ أنّ العلاقة بين الصّهر والحمو مثقلة جدّا بالحياء المتعارف عليه لدرجة أن ليس لديهم الحقّ في تبادل النّظرات مباشرة أو التّلفّظ باسم الصّهر أمام الحمو، على الأقلّ إذا كان هذا الأخير مسنّا. ولكن مع غياب الرجال عن المخيّمات، لم تعد تلك الإكراهات المفروضة تزعج أحدا. إنّ الأب المسنّ المقيم مع عائلته وزوجته لا يمكنه التقاء زوج ابنته بشكل دائم رغم أنّ خيمة هذا الأخير منصوبة بالقرب منه، فالحرج يوجد حيث يوجد شخصان اثنان. أمّا غالبية النساء فيتواجدن بمفردهن مع أبنائهن الصغار وهن يتهيّأن، زيادة على غياب الزوج، لفراق أكثر ألما، عن فلذات أكبادهن بمجرد بلوغهم سنّ الثانية عشر، فما أكثر لحظات الفرقة في حياة المرأة الصّحراوية. وبالتالي، عند إقامة الأمّ بعيدا عن حماتها، يصبح مفهوما بل ومن المُسلّم به أن لا تلتحق الكنّة بهذه الأخيرة، خصوصا عند تواجد بناتها بالقرب منها لرعايتها.

يماثل مخيم اللاّجئين في يوميّاته قرية مغلقة، ففي حين سمح الاستقرار بإنتاج وإعادة إنتاج روابط جديدة بين العائلات المنحدرة من جميع القبائل القديمة، كان في المقابل لضيق الفضاء الاجتماعي والتواجد الدّائم تحت أنظار الآخرين آثارا عكسيّة: فالجميع يتبادل أطراف الحديث، يتناقش ويثرثر، ولكن عند عودة الرجال، تنفث النّساء سمومهنّ عليهم بسحر المرأة المعروف عبر العالم كلّه. فطول مدّة الفراق، والحاجة الملحّة لسماع الكلام الطيّب والسيّء على حدّ سواء، جعل العلاقات الزّواجية هشّة وأسهم في ارتفاع معدّلات الطّلاق. لقد عرفت الوضعيّة الحاليّة اختلافا كبيرا مقارنة بالسّابق، إذ أنّ امتلاك المرأة للخيمة وإقامتها بالقرب من والدتها وأخواتها مكّنها من خلال مؤسّسة الزّواج (والطّلاق التّابع له) الاستقرار في مكانها، في حين أنّ الرّجال هم من يتحرّكون بين الأنساب والخيم.

خلاصات وآفاق

أوفدت منظّمة الأمم المتّحدة، عند إعلان وقف إطلاق النّار سنة 1991، بعثة أمميّة تعنى بتحديد هويّة السّكّان الذين يحقّ لهم التّصويت خلال استفتاء تقرير المصير. وقد شهدت المعايير المعتمدة لتحديد الناخبين نقاشا واسعا، ثمّ كانت موضوع تفاوض، وفي الأخير محلّ خلاف بين الطرفين الصّحراوي والمغربي. لكن هذه مسألة تتجاوز الهدف من هذا المقال. ننوّه على الأقل هنا بأن بدء عملية تحديد هوية الأفراد صاحَبها كسر حاجز الصّمت نتيجة الكشف العلنيّ للإحصاء الذي قام به الإسبان سنة 1974 في "إقليمهم الصحراوي" قبيل مغادرتهم بأشهر قليلة. وبحكم ضبط قائمة الأشخاص حسب أسماء العائلات، والأنساب، "القبائل"... أصبح من الضروري عثور لجان الضّبط على شيوخ القبائل للإدلاء بشهاداتهم، في الوقت الذي قامت فيه الإذاعة الصحراوية بالإعلان عن الأشخاص الواردة أسماؤهم في الوثيقة الإسبانية لإشعارهم بأنّهم مدعوّون إلى الانتخاب. ووسط دهشة الجميع، تعرّف البعض منهم - بعد انقضاء خمسة عشر سنة من العيش معا - على القبيلة البدوية التي ينتمي إليها جيرانهم، والنّسب الذي ينحدر منه أصدقاؤهم، بل حتى أعضاء الحكومة أنفسهم فقد تمّ تسجيل الجميع بدون استثناء.

في مقابل ذلك، سقط ذكر أسماء بعض الأشخاص من القوائم، برغم أنهم كانوا حقيقة هنا، مناضلين منذ البداية، وفقدوا في الغالب أباً أو أخاً في المعركة. كما اكتشف الشّباب المصدومون من جانبهم نظاما خاصا لتحديد الهوّية (أصوّت أو لا أصوّت؟ أكون أو لا أكون؟) والذي يعكس في جوهره صعوبة تحديد الموقف. لقد فهموا أيضا بأنّه قد تمّ الكذب عليهم، أو على الأقلّ تمّ إخفاء بعض الحقائق عنهم. فهل كانت هذه الحقائق خطيرة؟ ولكن كيف يمكن قياس درجة خطورتها في ظلّ جهلهم بها؟

لم يذكّر إعلان وقف إطلاق النّار سنة 1991 كل فرد بمجموعة انتمائه فقط، بل سمح أيضا بحرية تنقّل الأشخاص عن طريق فتح الحدود والتّخفيف من حدّة التوترات. وعلى النّقيض من ذلك، خلّفت الخيبة، التي أعقبت الأمل الذي أثارته إمكانية إجراء الاستفتاء، الشّعور بالرغبة في التّخليّ عن الوطن، أو على الأقلّ الهروب لبعض الوقت. لقد أعقبت الرغبة المتواضعة في السعي لتحقيق الخلاص الفردي الأملَ الخائبَ لتحقيق خلاص جماعي، وبادر كل شخص إلى البحث في ذاكرته عمّن يمكنه مساعدته. قام البعض بزيارة أقارب له بالخارج – في موريتانيا، والجزائر، وإفريقيا أو أوروبا – ؛ أما البعض الآخر فآثر معالجة قضاياه العالقة، خاصة بإسبانيا التي أعلنت سلطاتها الموافقة على تسديد المعاشات المتأخرة والأجور. جلب البعض منهم قسطا من المال، وجاء البعض الآخر محمّلا بالبضائع، لتشهد إثر ذلك المخيمات، شيئا فشيئا، ظهور اقتصاد نقدي صغير. لقد أسهم ذلك، إلى جانب ارتفاع حالات الطّلاق، في عودة فرض المهور في بعض المناطق.

إذا كان من المبكّر إعطاء تفسير لجميع هذه الظّواهر، يبدو على الأقلّ بأنّها تشير إلى تراخي تنظيم المخيّمات، والصّعوبة التي يواجهها الجيل الأوّل في نقل آليّات تجاوز الذّات للجيل الثّاني، فالشّابات اللّواتي يعدن من الجزائر، كوبا أو مناطق أخرى، يماثلن غيرهنّ من فتيات العالم كله: فبالإضافة إلى حب الوطن، هنّ يحببن شرب الكوكا كولا وقصص الحبّ. كما أنّهنّ بعد اطّلاعهنّ على وضعيّة المرأة الجزائريّة بعد الثّورة، أصبحن ينظرن إلى عالم الرجال بعين الرّيبة، علما أنّ الجيل الجديد للذكور، الذي يزاول تعليمه أيضا خارج المجتمع الصحراويّ، يعود بدوره بأفكار لا تبشّر بخير. وحسبهنّ يرجع سبب طلبهن فرض دفع المهر مجددا إلى الرّغبة في توعية الشّباب بقيمة المرأة، وبأهميّة الزّواج وبمدى خطورة الطّلاق؛ مع العلم أنّ مكانة المرأة المطلّقة في المجتمع الصّحراوي، على غرار المجتمعات الموريتانية الأخرى (sociétés maures)، لا تتقهقر عكس بقية مناطق شمال المغرب العربيّ.

أمام الشكوك الكثيرة، وأمام الصّعوبات الطّارئة على النّساء، وحالة القلق، وسوء الفهم أحيانا بين جيل المنفى والأجيال المولودة على الأراضي الصحراوية، بالإضافة إلى التّوتّرات النّاجمة عن المسائل الماليّة، وحركة الذّهاب والإياب، والنموّ الدّيمغرافيّ والوضعيّة المبهمة بين حالة الحرب والسّلم، - أمام كلّ هذا بادرت الحكومة الصحراويّة سنة 1995 إلى إجراء انتخابات سمحت بتأسيس المجلس الوطني الصحراوي (الهيئة التشريعية)، الذي أوكلت له مهامّ سنّ التشريعات والقوانين المعتمدة في جميع الدّول الحديثة، وتم الاتفاق على تضمين المدونة القانونية فصلا خاصا بالأسرة.

لقد شارك اتّحاد النّساء الصّحراويّات في المناقشات وسعين، قلقات، إلى تدوين مكتسبات المرأة على الواقع ضمن القانون الجديد. وتبقى إلى غاية الساعة المعلومات ضئيلة بشأن الأشغال الجارية، باستثناء معرفتنا بأنّ قانون الأسرة الجزائريّ ليس مرجعا لقانون الأسرة الصحراويّ، بل يبدو بالأحرى نموذجا معاكسا له، وأنّ الغاية منه توضيح موقف حكومة الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الديمقراطيّة وممثّلي الشّعب، بخصوص التّشريع الإسلاميّ حول قضيّة الأسرة.

 يتعلق الأمر إذن بالتّوصّل إلى عقد اجتماعي جديد. في انتظار ذلك، وبغض النّظر عن شروط العقد، يحق لنا التّساؤل حول مستقبل العائلة الصّحراويّة، في الوقت الذي تقيم فيه معظم النّساء بمفردهن في مخيّمات اللّجوء – سواء المتزوّجات منهنّ أو المطلّقات- برفقة أعداد كبيرة من الأطفال المولودين غالبا لآباء مختلفين.



ترجمة :

الهوامش : 

[1] قبيلة جمعها قبائل، تم ترجمتها تاريخيا من قبل المستشرقين– وبشكل مخالف للصواب - إلى " Tribu" بالفرنسية و"Tribe" بالانجليزية. وقد أصبح من الصعب التخلص من هذا المصطلح (رغم محاولات الباحثين الماركسيين خلال سنوات 1970-1980) لشيوع استخدامه لدى الناطقين باللغة الفرنسية الأفارقة والمشارقة على حد سواء. فالصحراويون على سبيل المثال لا الحصر، يستخدمون في كتاباتهم الصادرة باللغة الفرنسية عبارات محاربة النزعة "القبلية" (La lutte contre le tribalisme)، "الظاهرة القبلية" (Le phénomène tribal)، "القبائل" (Les tribus).

2 Cf. CARATINI, S., « Le rôle de la femme au Sahara occidental », La pensée, (308), 115-124.

3 كما تم توضيحه في مكان آخر (CARATINI, S. Les Rgaybat 1610-1934. L’Harmattan, 1989)، فإن الزواج من ابنة الخالة أو الخال لا يتنافى مع الخطاب الداعي إلى الزواج الداخلي، باعتبار أن نظام القبيلة يجعل الجميع يرتبط بعلاقة قرابة موازية وغير مباشرة من ناحية الأب.

هجرة يهود شمال إفريقيا في الفترة المعاصرة

في سنوات الستينيات، وفي الوقت الذي كانت فرنسا تتعرف فيه على جماعة مغاربية مسلمة تعيش في كنفها[1]، وفد إليها عدد كبير من اليهود، ومن بينهم يهود ذوي أصول شمال إفريقية، بعد أن شهدت وصول يهود أوروبيين، إيطاليين، وبولونيين، وإسبانيين في فترة ما بين الحربين العالميتين.

قبل الولوج إلى الحديث عن ظروف استقرار هؤلاء المهاجرين بفرنسا، لا بدّ من التذكير بوضعهم في شمال إفريقيا قبل رحيلهم عنها. فغداة الحرب العالمية الثانية كان 000450 إلى 500 000 يهوديا يعيش في شمال إفريقيا، وبعد تشتيت جماعات أوربا الوسطى والشرقية من طرف القوى النازية[2]، تشكل يهود المغاربيون مخزنا لقوات حية، وكانت المجموعة الأكثر عددا هي المجموعة المتواجدة بالمغرب، سنة 1951: الدار البيضاء 74738 يهوديا، مراكش 16382، فاس 12648، مكناس 12445، طنجة 12000 والرباط ـ 10239 يهوديا.

أمّا فيما يخص تونس فقد بلغت هذه المجموعة سنة 1946: 70971 يهوديا منهم 42200 بتونس (المدينة) وضواحيها، 6371 في الشمال، وفي الوسط 9505، وبأقاليم الجنوب 8980، و3915 في جزيرة جربة. أما في الجزائر فإن اليهود الذين تمّ منحهم الجنسية الفرنسية أو تطبيعهم بموجب مرسوم كريميو (Crémieux) المؤرخ في 24 أكتوبر 1870، لم يكن قد تمّ إحصاءهم. ففي 1953 بلغ عددهم 130000 أو 140000 شخص. ومن المدن التي عرفت تواجد أكبر عدد من اليهود مدينة الجزائر 30000 يهودي، وهران 30000، قسنطينة 14000 يهودي وبالتالي، فإن أكبر عدد من يهود الجزائر كانت تعيش في المدن الساحلية والمناطق الداخلية المجاورة لها مباشرة.

يهود الجزائر والاستعمار الفرنسي

لقد تأثر يهود شمال إفريقيا بالاستعمار الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين[3]، ففي 5 جويلية 1830 احتل الجيش الفرنسي مدينة الجزائر وأقاليم أخرى من بعدها، وبحضور الماريشال دي بورمون Bourmont) (De، وقّع الداي حسين على وثيقة الاستسلام التي أصبحت ميثاقا لكل أهالي الجزائر، حيث تنص المادة 5 منها على أنه "لن يتم المساس بحرية السكان بكل فئاتهم، ديانتهم، ممتلكاتهم، تجارتهم وصناعتهم"[4]. مع وجود هذه المعاهدة التي كان يفترض استخدامها بمثابة نموذج يحتذى به في مفاوضات أخرى، ومع ضمانها للحرية الدينية والاقتصادية لليهود (وضمانات أخرى)، وبهدف إعادة تنظيم اليهودية في الجزائر، فإن الحكومة الفرنسية أنشأت سنة 1839 لجنة وضعت مشروع هيكلة للعقيدة والتعليم. لكن هذه اللجنة قضت نهائيا على الآثار الأخيرة لاستقلالية يهود الجزائر، وقد حسم المرسوم المؤرخ في 9 نوفمبر 1845[5] التغيرات التي طرأت على الجهاز السياسي المتمثل في المجلس العِبْري، وتحوله إلى مؤسسة دينية، كما أنشأ مجلس كنيسي جزائري مقره مدينة الجزائر، ومجالس كنيسية إقليمية بوهران وقسنطينة، وهي لا تختلف كثيرا من حيث التنظيم عن المجالس الكنيسية المتواجدة بفرنسا-المتروبول. فقد صاحب التحرر التشريعي، القانوني والإداري ليهود الجزائر اندماجهم الثقافي والاجتماعي، فأصبح شباب اليهود يترددون أكثر فأكثر على مؤسسات التعليم الفرنسية ويتحدثون اللغة الفرنسية بطلاقة ابتداء من سنة 1860، ولم يتغير اللباس اليهودي كثيرا ولكن الشباب أصبحوا يرتدون الألوان التي تروق لهم.

يجدر التذكير أنه تحت سلطة المسلمين، فُرض على اليهود ارتداء زي معين حتّى يمكن التعرف عليهم، ومُنعوا من ارتداء ملابس لونها أخضر)لون خاص بسلالة النبي ]ص [) أو أحمر(لون العلم التركي) وأيضا مّنعوا من ارتداء الشاشية، العمامة البيضاء والبرنوس الأبيض. لم يترك لهم سوى خيار استعمال ملابس داكنة اللون بأكمام فضفاضة، كما كان الرجال يرتدون فوق الأقمصة سراويل واسعة، وكانت برانيسهم في الغالب زرقاء، حيث كتب الحاخام أبراهام كاهين (Abraham Cahen) أنها (البرانيس) كانت زرقاء داكنة في مدينة الجزائر في حين كانت في ضاحية تيطري رمادية داكنة، وفي ضاحية قسنطينة تمّ السماح لهم في فترة معيّنة بارتداء البرانيس، ونوع من العمامات والأحذية المشابهة لعمامات وأحذية المسلمين، و لكن كان ذلك ترخيصا هشّا تم سحبه منهم، لأنه كل شيء في الواقع كان مرتبطا بمزاج الباي، أمّا في سنوات 1860-1870، وخاصة في المدن الكبرى، فكان أطفالهم يرتدون تقريبا نفس زي الأطفال الأوربيين، وتناقصت أفراد الشباب والشابات الذين يرتدون الزي الشرقي أكثر فأكثر.

أما مستوى الحياة الاجتماعيّة لمعظم يهود الجزائر فلم يرتفع إلا بشكل تدريجي، إذ أنّ أغلبية يهود الجزائر استمروا في الاسترزاق من التجارة وبعض الحرف اليدوية بممارسة بعض المهن التقليدية مثل الخياطة، والطرز، وصناعة الساعات، وصناعة النحاس، والنسيج، والصياغة. بالمقابل، كانت العديد من العائلات اليهودية في الجزائر تجارة الصوف والقماش والنسيج المحلي احتكرت والقمح، والسكر ومواد أخرى استعمارية. أما المنحدرون من هذه العائلات اليهودية المقيمة في الجزائر فقد كانوا يشكلون إنتلجانسيا يهودية مندمجة بشكل كبير في الحضارة الفرنسية.

غيّر الاندماج التدريجي في التقاليد الفرنسية تماما حياة اليهود، ومع اختفاء "الملاح"Mellah (الحارة اليهودية التقليدية)، اختفت معه - شيئا فشيئا - الصّور العريقة والقديمة أيضا ،للحرفي اليهودي في مدن الجزائر. وبهذا تخلت التجارة اليهودية عن طابعها الشرقي المحض لتسلّم بالطرق والاستخدامات الفرنسية أما على المستوى القانوني فقد طالب يهود الجزائر بإدماجهم في الأمة الفرنسية، خاصة أثناء رحلات نابوليون الثاّلث إلى الجزائر سنة 1860 و1865. وخلال رحلته الأخيرة سنة 1865، وردا على كلمة الترحيب التي ألقاها الحاخام الأكبر لمدينة وهران "ماهر شارلوفيل" (Maher Charleville)، صرح الحاكم قائلا: "أرجو أن يصبح اليهود الجزائريون مواطنين فرنسيين قريبا "[6].

وقد تحقّق هذا الوعد في مجلس الشيوخ (Sénatus-consulte) بتاريخ 14 جويلية 1856، الذي سمح لليهود والمسلمين بطلب الجنسية الفرنسية فرديا ويتمثل نصه فيما يلي:

المادة 1 : الأنديجاني المسلم هو فرنسي، مع هذا يبقى خاضعا للقوانين الإسلامية ويمكن تجنيده للخدمة في الجيوش البرية أو البحرية. وكذلك يمكن دعوته لوظائف ومناصب عمل مدنية في الجزائر ويمكنه، تحت طلبه، الحصول على حقوق المواطن الفرنسي، وفي هذه الحالة يخضع للقوانين المدنية والسياسية لفرنسا.

المادة 2 : الأنديجاني الإسرائيلي هو فرنسي، مع هذا يبقى خاضعا لقانونه الشخصي ويمكن تجنيده للخدمة في الجيوش البرية أو البحرية. وكذلك يمكن دعوته لوظائف ومناصب عمل مدنية في الجزائر ويمكنه أيضا، تحت طلبه، الحصول على حقوق المواطن الفرنسي وفي هذه الحالة، يخضع للقوانين الفرنسية.

المادة 3 : الأجنبي الذي يبرر وجوده مدة ثلاث سنوات في الجزائر يمكنه الحصول على كافة حقوق المواطن الفرنسي.

المادة 4 : لا يمكن الحصول على صفة مواطن فرنسي، كما هو منصوص عليه في المواد 1، 2، 3، من مجلس الشيوخ قبل بلوغ سن الواحدة والعشرين، ويتم منحها عبر مرسوم إمبريالي يتم المصادقة عليه من قبل مجلس الدولة.

المادة 5 : يحدد نظام إداري عمومي:1) شروط الالتحاق بالخدمة وتقدم رتبة الأهالي المسلمين والأهالي الإسرائيليين في الجيوش البرية والبحرية، 2)، الوظائف ومناصب العمل المدنية التي يمكن للأهالي تقلدها، 3) الأشكال التي تتم عبرها معاينة الطلبات المبرمجة في المواد 1، 2، 3 لمجلس الشيوخ[7].

لقد كان التجنيس الجماعي من مهام أدولف كريميو(Adolphe Crémieux) وزير العدل، وذلك ابتداء من 24 أكتوبر 1870، بمرسوم يحمل اسمه صدر في 4 سبتمبر 1870، ومع سقوط الإمبراطورية، حصل أعضاء المعارضة على مقاعد في السلك التشريعي. ويضفي السياق التاريخي على ذلك نوعا من الصبغة التراجيدية التي كان لها وقعها على الاستقبال الذي خصص لمرسوم 24 أكتوبر 1870، والمسمى بمرسوم كريميو. وعلى وقع الإخفاق البلدي توجهت الحكومة إلى مدينة تور (Tours). واستقبل أدولف كريميو وزير العدل وفودا من الجزائر طالبته بالتعجيل في تطبيق الإصلاحات التي طال انتظارها.

قدم أدولف كريميو في يوم 24 من شهر أكتوبر لزملائه ثمانية مراسيم للمصادقة عليها والتي تؤسس للنظام المدني. أمّا فيما يخص العدالة، فقد حققوا إصلاحات عميقة من هذه المراسيم التّي حسب جول فيري(Jules Ferry) . "كتبت في تور(Tours) ، ولكن التفكير فيها كان في مدينة الجزائر"، والمرسوم السابع هو الذي طبع مرحلة جديدة وهامّة من مراحل إدماج يهود الجزائر في المجتمع الفرنسي. هذا المرسوم الصادر عن حكومة الدفاع الوطني الفرنسي مفاده ما يلي: "يعتبر الأهالي اليهود التابعين لمقاطعات الجزائر مواطنين فرنسيين، وعليه، فإن وضعهم المدني ووضعهم الشخصي سيحدّده، انطلاقا من الإعلان عن هذا المرسوم، القانون الفرنسي، مع الحفاظ على كل حقوقهم المكتسبة إلى غاية هذا اليوم، مع إلغاء كل التدابير التشريعية، والقوانين الصادرة عن مجلس الشيوخ وجميع المراسيم، والتنظيمات أو المقررات المضادة لهذا القرار"[8].

بالمقابل، فإنّ الوضع الذي كان سائدا في البلدان المجاورة للجزائر والمتمثلة في تونس والمغرب كان يشكل، حسب تصريحات السلطات الفرنسية، خطرا دائما "بالنسبة للاستعمار في الجزائر" وهو السبب الذي من أجله قامت فرنسا بفرض حماية على تونس، من خلال معاهدة باردو سنة 1881، وعلى المغرب، سنة 1912 بعد أزمة فاس، في حين أن الجزء الشمالي من المملكة الشريفية (l’empire Cherifien) كان من نصيب إسبانيا، وكانت فرنسا حاضرة لمدة مائة واثنتبن وثلاثين سنة في الجزائر، من 1830 إلى 1962، و[خمسة وسبعين] سنة في تونس من 1881 إلى 1956، و[أربعا و أربعين] سنة فقط في المغرب من 1912 إلى 1956.

لقد اخترق الجيش الفرنسي وكذلك الإدارة الفرنسية تدريجيا وبخطى ثابتة المناطق التي لم يكن قد سبق استكشافها بعد، والتي لقي فيها مقاومة من طرف الأهالي. يمكننا التمييز في البلدان الثلاثة في المغرب، بين ثلاث مناطق للتأثير الفرنسي غير المتعادل:

1-المناطق الساحلية التي تمت فرنستها بشكل كبير

2-المناطق الداخلية التي بقيت أكثر ارتباطا بالتقاليد القديمة

3-المناطق الجبلية والمناطق شبه الصحراوية أو الصحراوية للجنوب المجاور للصحراء، والتي لم تقتحمها فرنسا إلا في وقت متأخر من الاحتلال، من خلال غزوات عسكرية وإدارية.

وعلى عكس البربر والعرب، فإن اليهود استقبلوا الفرنسيين عموما بكثير من الحماس. وتبنوا سريعا الفكرة المثالية "الحرية، العدالة والأخوة" والتي كانت شعار الثورة الفرنسية. حيث استقبل يهود شمال إفريقيا فرنسا كقوة تمكنهم من الخروج من وضعية الأقلية المقبولة. وقد دعم الحكومة الفرنسية في عملها لصالح اليهود بتونس، وخاصة بالمغرب[9]، المدارس الأولى للتحالف العالمي الإسرائيلي الذي قام بتهيئة الأرضية، حيث أنشأت هذه المؤسسة سنة 1860 من طرف يهود فرنسيين من أجل "العمل في كل مكان على التقدم والتطور الأخلاقي للإسرائيليين"[10]. حيث فتحت أول مدرسة بالمغرب أبوابها بـ "تطوان" سنة 1862[11]، وأما بتونس فكان ذلك سنة 1878.

بالمقابل، فإنه ومن خلال تبني المبادئ الفرنسية، أعلن يهود المغرب القطيعة مع وسطهم الأصلي وهذا بعد أن أدار العديد من يهود بلدان المغرب ظهورهم للوسط الإسلامي، حتى أنه في بعض الحالات ابتعدوا عن الديانة اليهودية التقليدية، وهو ما يترجم عمق التغلغل والتأثير الفرنسيين. وكانت نتيجة التطبيع الجماعي ليهود الجزائر إلحاق يهود الجزائر بالقضاء الفرنسي، الحصول على الحق في الانتخاب وعدة إمكانيات للاندماج في الثقافة الغربية، والتي لم يتمكن اليهود التونسيون والمغربيون عامة من الحصول عليها. وقد أدى التواجد الفرنسي الطويل إلى التوجه التدريجي للديانة اليهودية في الجزائر نحو قيم الغرب، فالتمدرس كان يتم في مدارس لائكية فرنسية، تحت رقابة إدارة التعليم العمومي، ومع توسع الشبكة المدرسية شيئا فشيئا، تمكن يهود الجزائر من الوصول إلى الطور الثانوي والعالي، فقد كان شباب اليهود متمدرسين في سلك التعليم العمومي، مثلهم مثل الأهالي الفرنسيين في سنوات 1930، عدد الأميّين جدّ قليل فإن معظمهم يتواجدون في أقاليم الجنوب.

لم يصبح التعليم الثانوي مجانيا إلا سنة 1928، وفي سنوات 1930 تمكن الأطفال الذين لا ينتمون إلى عائلات ثرية من التردد على الثانويات. فالأطفال المنتمون إلى وسط متواضع أو فقير كانوا يوجهون، قبل ذلك، نحو التعليم الابتدائي العالي، وكانت المدارس العالية للمعلمين تستقطب أحسن تلاميذ هذا القطاع في مدينة الجزائر، كما أن المدارس العادية قامت بتكوين عدة معلمين يهود، وقد تواجد الطلبة اليهود بكثرة بجامعة الجزائر في معهد الطب، الحقوق والعلوم، في حين واصل آخرون دراستهم في المتروبول واستقروا في غالب الأحيان هناك. وقد تردد الجيل الذي ولد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بشكل كبير، خلال بضع سنوات وكما ينص عليه القانون، على المدرسة الابتدائية حيث تتوج الدراسة بنيل شهادة التعليم الابتدائي. أما الجيل التالي، الذي ولد بين الحربين، فقد تمدرس بالنسبة للغالبية وتمكن من الوصول إلى التعليم الثانوي.

أثّر المرور عبر التعليم العمومي بشكل عميق على الديانة اليهودية في الجزائر. فالتقي على مقاعد المدارس الطفل اليهودي والمسيحي والمسلم، وأحياناً كانت تربط بينهم علاقات صداقة، وأحيانا أخرى كانت العنصرية تفرق بين الأطفال وبين المراهقين. بالمقابل تمكن التعليم حسب النموذج الفرنسي من إنجاز مهمّة الفَرنَسَة على أكمل وجه. وقد أبعدت هذه التربية اللائكية الشباب عن الممارسات الدينية المتبعة بشكل كبير في الوسط الأسري المحافظ في الجزائر على تأثيره. وبالرغم من أن التقاليد القديمة تغيرت تدريجياً، إلا أن النساء لعبن دوراً أساسيا في المحافظة على ذلك الإرث الذي يمتد بجذوره إلى الماضي. وبالموازاة مع المدرسة العمومية تبنّى المسؤولون على الجماعة اليهودية، الذين كان بعضهم ذوي أصول "ميتروبوليتانية"، مواقف غير واضحة، حتى لا يقال متناقضة. فبكل فخر لمس المسؤولون التقدم المنجز مع تخوفهم من البعد المتزايد عن الديانة اليهودية. وقد كان أشرف على التعليم الديني الحاخامات (rabbins) الذين كانوا يعلّمون القراءة العبرية وترتيل التوراة في قاعات متهالكة. ولكن لابّد من الإشارة إلى أن من مساوئ هذا التعليم إقتصاره على النحو العِبْري، الترجمة والتدريس الديني المحض بسبب ندرة الحاخامية التقليدية.

إضافة إلى ذلك ظهور فارق بين المعارف الجديدة التي تُدَّرس في المدرسة العمومية والمعرفة الحقيقية بالديانة اليهودية التي كان يقتصر تناقلها في الكثير من الأحيان على الطقوس، الكلمات، الإشارات واستخدامات معينة. كما أن هذا التناقل يتمّ دون شرح للمعنى الذي يجدر إعطاؤه لمختلف الطقوس والاستخدامات[12]. من جهة أخرى سمحت الخدمة الوطنية بتحقيق تقدم نحو قيم الغرب. وبالتالي، فإن التطوّر الثقافي للديانة اليهودية في الجزائر نحو القيم الفرنسية مرّ بعدة أجيال. كما ارتبطت هياكل جماعة الجزائر بشكل وثيق بهياكل الجماعة اليهودية الفرنسية في مؤسسة "المجلس الكنيسي المركزي ليهود فرنسا والجزائر" (le Consistoire).

خلال الحرب العالمية الثانية أظهر يهود الجزائر شعورهم الوطني تجاه فرنسا، وذلك بالاستجابة لنداء الوطن-الأم. هذا الحب تجاه فرنسا يترجمه مثال جودا بن بوراك
(Judah Ben Bourrak) جندي من الصف الثاني في الفوج الثالث من جيش "الزواف" (Zouaves) "حين رأى قائده الملازم في ميدان المعركة جريحاً ومهدداً من طرف ألمانييّن اثنين، سارع إلى إنقاذه ونجح في ذلك من خلال قتل العدوّين. وقد كاد جودا بن بوراك يفقد حياته، مما جعل الجنرال العام جوفر (Joffre) يمنحه الميدالية العسكرية يوم 27 فيفري 1915 قائلاً: "بالرغم من جرحه العميق في الصدر خلال الهجوم"، صرخ: "جسدي لا يساوي شيئاً، تحيا فرنسا" ليمنح بذلك أجمل مثال عن الوطنية والتضحية لزملائه الذين كانوا من حوله"[13].

ماذا عن الوضع في تونس ؟

كان تمدرس اليهود في تونس في بداياته من مهام المبشرين المسيحيين، ثم "التكتل الإسرائيلي العالمي" ابتداء من 1878[14] . وكان التأثير أكبر في المدن الساحلية، مثل مدينة تونس، سوس، صفاقس، من مدن الجنوب وفي جزيرة جربة حيث كان اليهود يرفضون ولفترة طويلة فتح مدرسة عصرية. وحسب بنود معاهدة الحماية، ظل اليهود تحت رعاية الباي، ورغب البعض في الحصول على تمديد لمرسوم كريمو، ولكن هذه الآمال بقيت دون جدوى. بالمقابل، وانطلاقاً من 1911، ظهرت حركة تجنيس (naturalisation) فرنسية أو إيطالية.

أثناء إحصاء حكومة فيشي لسنة 1941، كان هناك 68268 يهوديا من جنسية تونسية، 16496 من جنسية فرنسية، 3208 من جنسية إيطالية و668 من جنسية بريطانية[15]. وبعد الحرب العالمية الثانية عرفت المجموعة اليهودية التونسية في العموم تقدما فكريا، واقتصاديا واجتماعيا سريعا. لقد كانوا أكثر تمدرسا من المسلمين. ففي سنة 1946، كان 59% من يهود تونس يعيشون في مدينة تونس، وفي 1956 بلغت نسبتهم 67%[16].

تواجدت في مدينة تونس مجموعتان اثنتان:

المجموعة الأولى مكونة من سكان الحارة "Hara"، بمعنى هؤلاء الذين يعيشون في الأحياء التقليدية[17]. أما المجموعة الثانية فتتمثل في سكان الأحياء الأوروبية حيث كان استقر أثرياء البورجوازية والطبقة المتوسطة. إن المرور من الحارة إلى المدينة الأوروبية، هو مرحلة هامة في تطور الأسرة يرافقها في الكثير من الأحيان نوع من الانقطاع عن طرق الحياة التقليدية.

استقلت تونس سنة 1956[18] ونادى الدستور التونسي سنة 1959 بحرية الوعي وحرية الممارسة الدينية، ولكن في الوقت ذاته انخرطت تونس في طريق التعريب[19]. وبعد برنامج التَّوْنسة، تمّ حلّ المحكمة الحاخامية كغيرها من المحاكم الدينية. وهكذا لم يتبقى لليهود أية سلطة قضائية، خاصة فيما يتعلق بالأوضاع الشخصية، ولكنهم اضطروا التوّجه إلى محاكم مدنية تونسية. بعد أحداث بيزرت (Bizerte)، سنة 1961، كان هناك رحيل جماعي ليهود تونس[20]. كما كان للتوتر بين إسرائيل وجيرانها أيضاً تبعات على حركة الهجرة التي ارتبطت من جهة، بالتطور الاقتصادي لتونس، ومن جهة أخرى بتقلبات العلاقات الفرنكو-تونسية.

ماذا عن المغرب ؟

كان تغريب (occidentalisation) اليهودية المغربية أكثر سرعة وأقل عمقاً من تغريب اليهودية عند يهود الجزائر وتونس. فما هي أسباب ذلك؟ لم تدم الحماية الفرنسية سوى أربع وأربعين سنة في المغرب تميز خلالها خضوع القبائل بالبطء، كما أنّ الحربين العالميتين نقلتا النشاط الاستعماري لفرنسا. فالهجرات الداخلية والخارجية شكلتا عاملاً هاماً في تطور اليهودية المغربية، في سنة 1951، مثل السكان الريفيون 10 % فقط من السكان اليهود، وفي سنة 1960، بات يمثل هؤلاء السكان 5%. ومع الازدهار الاقتصادي للمغرب تحت الحماية الفرنسية تشكلت شيئاً فشيئا طبقة متوسطة ميسورة الحال لتتوسع بذلك فئة النبلاء التقليديين. مع الجيل الأول، ثم أكثر فأكثر مع الجيل الثاني، استفادت هذه البورجوازية بشكل كبير من الشبكة المدرسية و"التحالف الإسرائيلي العالمي" والمدارس المفتوحة من طرف إدارة الحماية.

ومع ذلك ظل تمدرس غالبية السكان بطيئا حيث بلغت سنة 1960 نسبة الأمية 43.2%، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار القدرة على قراءة العبرية، في حين أن 81.9% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة كانوا متعلمين، وكذلك 75.1%من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 19 سنة و62.6% من البالغين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة. أما فئة اليهود الذين تجاوزوا سن 60 سنة فنسبة 23.7% يعرفون لغة أخرى غير العبرية. شكّل تزايد أعداد المتمدرسين لدى اليهود، مقارنة بالسكان المسلمين، نوعاً من الازدهار الاقتصادي والاجتماعي للجماعة اليهودية في السنوات التي تلت استقلال المغرب، فبعد رحيل الموظفين الفرنسيين، شغل أغلب المناصب الشاغرة موظفون يهود. ورافق هذا الصعود في السُلّم الاجتماعي تفكك الأحياء اليهودية "الملاّحات" Mellahs. فقد مثل استقرار اليهود بالشقق التي بقيت فارغة في الأحياء الأوروبية، بعد رحيل الفرنسيين، خطوة هامة نحو الحداثة.  

لم يعرف الوضع اليهودي المغربي، على مستوى الجنسية، أي تغيير في ظل الحماية الفرنسية. فقد طغى عليه مبدأ "الولاء المؤبد" للسلطان الذي حددته في 1880 اتفاقية مدريد، والذي أكدته معاهدة الجزيرة الخضراء (Algésiras) سنة 1906 عن طريق الإجراءات المتخذة من طرف الحماية سنة 1912، بمعنى أنه لا يمكن لأي مغربي تغيير جنسيته مادام يعيش على أرض مغربية. فإذا كان قد حصل على جنسية أخرى بالخارج، ثم عاد إلى المغرب، فإنه يصبح مغربياً بشكل آلي، وكما هو الحال في تونس، فإنّ الحرب الإسرائيلية- العربية في جوان 1967 سرعت من حركة رحيل يهود المغرب[21].

هكذا، فإن سيرورة تغريب اليهود المغاربة اعتمدت على مدّة الوجود الفرنسي ودرجة دخول عوامل الحداثة في الأقاليم الخاضعة للإدارة الفرنسية، فالتأثير الثقافي للاستعمار الفرنسي كان حساسا أكثر في الساحل وفي السهول الشمالية. تمثّلت الحياة على الطريقة الغربية بالنسبة ليهود شمال إفريقيا في التقدم التقني، الرفاهية، الثراء والمعرفة. كما أن الحضور الفرنسي في شمال إفريقيا مكّن اليهود من التحرر من وضعية "الذمي"، ومن جهة أخرى جعلهم يتحرّرون من بعض العادات والتقاليد الصارمة، ومن مظاهر الاندماج مع الغرب، وعليه بدأ اليهودي يسير على درب اللائكية، وهكذا طرأت تحولات على البنيات الأسرية، في حين أنه على المستوى الوجداني حافظت الأسرة اليهودية في شمال إفريقيا على اتّحادها.

لم يكن من الممكن حقاً الحديث في شمال إفريقيا عن تفتت الوسط الأسري، بالمقابل كان هناك توتر واصطدامات متكررة بين الأجيال. وفي حركة لا رجعة فيها للحداثة حرّرت الأجيال الشابة ليهود المغرب نفسها في سنوات 1960-1970 من عادات وتقاليد عائلية كانت تعتبرها جدّ مُقيَّدة، وبهذا كان للّقاء مع الثقافة الغربية نتيجة تمثلت في صدمة نفسانية ترجمها نوع من الاختلال والانشقاق والاجتثاث.

دوافع الهجرة والاندماج في فرنسا

سهّلت سيرورة التغريب الهجرة نحو فرنسا، إذ لا يمكن التفريق بين نزوح يهود شمال إفريقيا وبين اختفاء كل المجموعات اليهودية في العالم العربي، تتمثل أسباب رحيل يهود شمال إفريقيا في الدوامات الدرامية لفترة ما بعد الاستعمار والصراع الإسرائيلي-العربي،
فمن جهة -وفي تونس على سبيل المثال- كان هناك نهب لمحلات يهود تونس، وحرق الكنيس الأعظم (grande synagogue) سنة 1967، وأزمة بيزرت (Bizerte) سنة 1961، ومن جهة أخرى الصعوبات الاقتصادية والانشغالات حول المستقبل. ولكن أيضاً - خاصة في المغرب، كانت العائلات تتخوف من زواج بناتهن بمسلمين، فلابدّ من الاشارة إلى أنّه بعد استقلال المغرب تمّ اختطاف بعض الفتيات الشابات من طرف مسلمين. وللتذكير فإنّ الزواج بين المسلم واليهودية مقبول في الإسلام.

تساءل اليهود في الجزائر حول ما إذا كان عليهم الرحيل؟ وذلك ضمن مائدة مستديرة هامّة من تنظيم جريدة L’Arche في فيفري 1962، ومن بين الأسئلة المطروحة آنذاك: هل ستختار الجزائر المستقلة "اللائكية"؟ هل لهذا المفهوم دلالة في أرض الإسلام؟ هل سيحترم حق الاختيار بعد الاستقلال؟ بين التفاؤل الكبير لليسار القريب من جبهة التحرير الوطني (الذي كان يمثله بيار ستيب Pierre Stibbe)، وقلق التقدميين الإسرائيليين (مثل إيميل تواتي Emile Touati)، فإن الاختلاف لم يكن حول المبادئ، ولكن حول الضمانات الديمقراطية التي يمكن أن تمنحها الدولة الجديدة لليهود.

دفعت تصريحات جبهة التحرير الوطني، والتي كانت تعبر عن الأفكار السياسية لـ"الأمة العربية"، وتصاعد التوتر آنداك في منطقة الشرق الأوسط، بإميل تواتي لاختتام النقاش على النحو التالي :«المعيار الوحيد (سيكون) في القدرة على الرحيل، وحرية التنقل والهجرة، باعتباركم مواطنين، فإن لديكم ضمانات أقل من تلك التي كنتم ستحضون بها لو كنتم أجانبا لمغادرة بلد ما»[22]. لم تغيّر قرارات اتفاقيات إيفيان التي نصّت على حق الخيار، بعد ثلاث سنوات من إقرارها، أي شيء في هذه الوضعية، فقد كانت هجرة يهود الجزائر نحو فرنسا قوية، وتقريبا كلية " كفيضان في واد صحراوي" ففي غضون بضعة أشهر من نهاية ماي إلى غاية جويلية 1962 توافد فرنسيو الجزائر بكل مجموعاتهم، وبشكل كبير، على المطارات والموانئ متخلّين عن كل شيء للالتحاق بالضفة الأخرى للمتوسط. وعليه فقد أظهر هذا الذعر كيف أن الهجرة بدت لهم ملاذًا وحيدًا.

بعد أن تمّ الإعلان عن استقلال وسيادة الجمهورية الجزائرية بتاريخ 3 جويلية 1962، أدانت السلطات الجديدة - التي كانت تتشارك الحكم في الجزائر بعد انسحاب الحكم الفرنسي- نهب المنازل، السرقات، الاغتصاب، خطف الأشخاص والقتل. إلّا أنّ نداء "بن بلة "عندما وصل إلى الحكم: « ارجعوا، فمكانكم بيننا » بقي دون صدى، إذ لم يبق سوى 4000 يهودي من بين 160000 يهودي تواجدوا في الجزائر سنة 1960، أمّا في خريف 1971، فوصل عدد اليهود المتواجدين في الجزائر إلى 1000 شخص، سنة 1982 أقل من 200 شخص، وسنة 1992 أقل من 50 شخص، وفي سنة 2000 أقل من 30 شخص، وفي 2006 أقل من 20 شخص. بالمقابل، يوجد العديد من الأشخاص الذين ينحدرون من زواج مسلمين مع يهوديات، وبعضهم ينتمي إلى طبقة اجتماعية راقية.

هكذا، فإن اليهودية في الجزائر والتي يزيد عمرها عن ألفي سنة، كادت أن تختفي تماما في غضون بضعة أشهر فقط، ولأسباب سياسية ووجدانية، رحل اليهود عن الجزائر وهم يظنون أنه مع رحيل الإدارة الفرنسية سيحرمون من الوصيّ الذي ضمن لهم رقيا اجتماعيا سريعا بشكل باهر. أكثر من ذلك فقدت الأجيال الحديثة في الغالب استخدام اللغة العربية. اختارت الأغلبية الكبرى ليهود الجزائر - أي ما يعادل 135000 شخصا-فرنسا. هذا الخيار الجماعي الذي تسبب في خيبة كبيرة بإسرائيل، حيث أوّل بعضهم هذه الخطوة التي قام بها يهود الجزائر بوصفها فشلا للإيديولوجية الصهيونية[23]. إذ اختار فقط أكثر من 10000 شخص بقليل إسرائيل.

شعر يهود الجزائر أنهم فرنسيون لأنهم ضحوا بدمائهم في سبيل فرنسا خاصة خلال الحربين العالميتين لأنهم اندمجوا في الثقافة الفرنسية بسبب عاداتهم اليومية وفكرهم، لذلك لم يشعروا حقا بتغيير البلاد أثناء وصولهم لفرنسا التي كانت في سنوات 1960-1962 في عزّ التوسع الاقتصادي. وكان بإمكانها أن تمنح فرص العمل لليد العاملة المؤهّلة التي جاءت من الجزائر وتونس والمغرب. وما يعادل 10000 من يهود الجزائر الآخرين اختاروا إسبانيا، الأورغواي، الأرجنتين، كندا والولايات المتحدة الأمريكية...

من بين الفرنسيين الذين "عادوا" إلى فرنسا، احتلّت الجماعة اليهودية -حسب بعض الإحصائيات- أقل من %15 من العائدين إلى وطنهم، زد على ذلك أنّ هذا التقييم كان مبنيا على إحصاء جزئي لعدد الفرنسيين في الجزائر[24]. وعليه فقد تزعزعت البنيات اليهودية لفرنسا نتيجة تدفق وتوزيع يهود الجزائر، والذين كانوا أساسا من الحضر. فما يقارب نصف العدد تجمعوا في المنطقة الباريسية مقابل فقط 16,7 % من العائدين الآخرين، 25 % إلى 30 % استقروا في الجنوب الشرقي مقابل 23,5 % من مجموع اللاجئين، 10 إلى 15 % وجدوا أنفسهم في الجنوب الغربي ونسبة مماثلة استقروا في منطقة "رون ألب "(Rhône-Alpes) مقابل على التوالي 9,3 %و8,9% من العائدين. فإذا كان عدد هؤلاء العائدين الآخرين ما يقارب 40% منهم، متفرقين في كل أنحاء فرنسا فإن الإسرائيليين لم يكونوا كذلك إلا بنسبة جدّ قليلة، أي ما يقارب 10 إلى 15 %.

أنجزت دراسة في سبتمبر 1963 حول تموطن يهود الجزائر في فرنسا، حيث سجل آلان بيزونسون (Alain Besançon) « ترددا كبيرا على المكاتب وارتفاعا في عدد مرتادي "التلموذ التوراة" (المدرسة الأولية) واستهلاكا أكبر للحم الحرام (cachère) »، فاليهود العائدون تأقلموا مع أسلوب الحياة الجديد. وهكذا، في الهافر (Havre)، «العائدين إلى فرنسا من الجزائر، تأقلم معظمهم مع هذه الحياة الجديدة »، أما في أفينيون (Avignon)، وعلى العكس من ذلك، فقد دق الوافدون جرس الإنذار: «خاصة بالنسبة لأولادنا، الذين يحسّون أنفسهم أقل وقوعا تحت "تعرضًا لتمييزية"، وهم مهددون بالاحتواء كلية» من قبل الحياة الفرنسية اللائكية. كان المعبد اليهودي "صغيرا جدا " بمونبوليي Montpellier))، وبنيس (Nice)، فتمّ توكيل مصلى (un oratoire) شمال إفريقي للحاخام كورشيا (Rabbin Corchia)، غير أنّ موقعه كان "سيئا"، ولم يكن بوسع مدرسة "التلموذ التوراة" أن تتطور بسبب نقص الأماكن. في لونيفيل (Lunéville) تمّ إسكان اليهود القادمين من وهران، قصر البخاري، الأغواط، غرداية وأفلو بشكل مؤقت في ديار قديمة للمتقاعدين[25]، كما تعددت فروع جمعية اليهود ذوي الأصول الجزائرية التي أسسها الحاخام الأكبر رحميم (Rahmim)، ناوري (Naouri)، دفيد أسكينازي (David Askenazi)، وأيضا جاك لازاروس (Jacques Lazarus) ، حاييم شرقي (Haim Cherqui) وإيلان جيان (Ellen Djian) وانتشرت بشكل كبير.

تطور البنيات الأسرية ليهود شمال إفريقيا في فرنسا

أدت الأسرة بمفهومها الواسع دورا اجتماعيا مهما في يهودية شمال إفريقيا التقليدية، حيث تعد العلاقات الأسرية المتجذرة أساس العلاقات الاجتماعية، كما شكلت الحفلات الدينية التي ميزت السنة الليتورجية والمراسيم التي تطبع مراحل الحياة الكبرى مناسبة لاجتماع الأسر، فلقاءات اليهود كانت سهلة بسبب العيش في الفضاء ذاته، كما ساهمت الحفلات الراقية في خلق نوع من الأجواء البهيجة في مجتمع يعرف بعضه البعض، وكانت العلاقات بين أفراده محافظة على دفئها الإنساني.

في مجتمع مستقبِل، والذي غالبا ما كان معاديا ومحتقِرا، فإن هذه الحياة الاجتماعية القائمة على علاقات القرابة كانت مثلث ملجأ لهم. الأخ لا يخون أخاه، ويمكن للقريب أن يكون ناصحا أمينا. فضمن المجموعة الأسرية، كان هناك نوع من الإحساس بالأمان، فالتقيد الصارم بالواجبات الأسرية، والمبني على مبدأ «شّرف أباك وأمك»، كانت ميزة أساسية لصورة الرجل النزيه لدى يهود شمال إفريقيا. لقد تطورت البنيات التقليدية للأسرة اليهودية الشمال إفريقية بالاختلاط مع الفرنسيين وأدت عوامل مثل التمدرس، الهجرة الداخلية والتخلي التدريجي عن أحياء اليهود التقليدية إلى تغيرات ازدادت عمقا بزيادة امتداد التأثير الفرنسي.

غير أنه وبالرغم من هذه التحولات، بقيت الروابط الأسرية موجودة. فالتخلي عن بعض التقاليد، كسكن الزوجين الشابين مع عائلة الزوج، وتزاوج الأقارب الذين يقطنون المدن نفسها لم يؤدِّ إلى فقدان حس الانتماء الأسري. رغم تفكك الجماعات اليهودية لشمال إفريقيا وتفرق العائلات وانتشارها أحيانا في القارات الأربعة، وهكذا فإن تطور البنيات الأسرية الذي بدأ بشكل واسع في شمال إفريقيا، خاصة في الوسط الحضري، استمر بالخصوص في فرنسا. وقد ساد حديث متكرر عن أزمة سلطة الآباء على الأبناء، فلم يتقبل الشباب في أغلب الأحيان ملاحظات الأشخاص البالغين، ويعتقدون بأنهم على حق دائما، وعادة لم تكن الحرية التي تمنح للأولاد إلا نتيجة لنقص التأطير داخل الأسر التي يمارس فيها الأب والأم معا نشاطا مهنيا.

هكذا تعرضت جماعات يهود شمال إفريقيا، بشكل أقل أو أكثر عمقا، لتأثير المستعمرين الفرنسيين، وعرفوا كيف يستخدمون حضور المستعمر الفرنسي لمقاطعة طرق العيش التقليدية إلى حدّما، واكتساب قدرات سمحت لهم شيئا فشيئا بالاندماج في المجتمعات الحديثة. هذا الاختلاط مع الغرب خلق لدى الطبقات الواسعة من السكان اليهود حاجات جديدة وأيقظت لديهم آمال "الصعود" الاجتماعي والاندماج الثقافي في مجتمع المستعمِر. فأدّى توطين يهود شمال إفريقيا إلى تغيرات عميقة ذات صبغة نفسانية، أخلاقية، اقتصادية واجتماعية.

على المستوى السيكولوجي، من الملاحظ أن كل هجرة هي أولا اجتثاث، فالمهاجر يقتلع ذاته من عالم يعرفه ويغوص في محيطٍ حيث يبدو له كل شيء فيه غريبا للوهلة الأولى، وهكذا يضطر إلى التأقلم شيئا فشيئا مع هذا الوضع الجديد. بالنسبة للعديد من يهود شمال إفريقيا كان لابد من مواجهة هذا المجتمع المجتث من جذوره في عين المكان، أما على المستوى الأخلاقي، فقد اختلفت وضعية يهود شمال إفريقيا فلم يعودوا وسطاء بين المستعمِر والمستعمَر، متردّدين في أن يكونوا هذا أو ذاك، ولكنهم مواطنون أحرار في دولة تحترم فيها الحريات الفردية. على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، لابدّ من الإشارة إلى رغبتهم الكبيرة في تحسين ظروفهم، لقد غيّر يهودي الجزائر مع يهودي المغرب وتونس من واجهة الطرقات التقليدية اليهودية. في باريس، على سبيل المثال، تمشْرق التجار من خلال بيعهم الكسكس والنقانق، فقد كانت المحلات والمطاعم في أحياء مثل حيّ "مونت مارتر" Montmartre وحيّ "بواسونيار" Poissonnière تذكّر بتلك المحلات والمطاعم الموجودة في مدينة الجزائر ووهران وقسنطينة والدار البيضاء وطنجة وتونس.

ينتمي يهود شمال إفريقيا بشكل كبير إلى القطاع الخدماتي، ففي سنوات السبعينات كان 35% من اليهود ذوي الأصول الجزائرية تجارا، و20% موظفين و25% منهم عملوا في القطاع الخاص. بقي 20%منهم، حسب الإحصائيات، لا نعرف نشاطهم المهني، وسواء في القطاع الأول أو الثاني كان عدد يهود الجزائر قليلا.[26] من خلال «العودة » الجماعية القوية إلى الميتروبول، ارتبط يهود شمال إفريقيا دون تحفظ بمصير فرنسا ليدخل تاريخهم بذلك في مرحلة جديدة مرتبطة بالسيرورة الطويلة للتثاقف والتطبيع الأوروبي لحياتهم. بالإضافة إلى هذا، هناك أيضا الاجتثاث الجغرافي، الانفصال عن منطقة ووسط سوسيو-ثقافي تشكلت فيه تقاليد يهود الجزائر، المغرب وتونس خلال ألفي سنة من التاريخ. لقد احتمت التقاليد اليهودية بالخصوص في الفضاء المنزلي[27] أولا حول مائدة تحوّلت إلى معقل لثقافة مهددة، وأيضا في المطابخ المؤسسة على قدسيّة اللمسات التقليدية القديمة، ففي الوجبة اليومية تبحث ذاكرة وشخصية شعب مجتث من جذوره عن حوار منصف مع التاريخ[28].

اليوم وفي سنة 2006، يبدو أن اندماج يهود شمال إفريقيا في فرنسا، كما هو الأمر بالنسبة للفرنسيّين الآخرين من شمال إفريقيا، تمّ بشكل كامل تقريبا[29]. فقد قدّم يهود شمال إفريقيا لفرنسا، على سبيل المثال، العديد من الأساتذة الجامعيين، وشارك العديد من اليهود ذوي الأصول الشمال إفريقية في بناء الدولة، ومن بينهم جاك أتالي (Jacques Attali)، من خلال الحكومة المحلية، وكذلك من خلال النشاط القانوني، حيث نذكر الرئيس الأول لمحكمة النقض بيار دراي (Pierre Draï). وكان إسهامهم في المجتمع الوطني الفرنسي حقيقيا ويمتد بالأخص ضمن الجماعات اليهودية في فرنسا[30] التي، بعد أن حملتها رياح الاندماج، تمكنت من استعادة هويتها الدينية بشكل ما بفضل وصول يهود شمال إفريقيا[31].



ترجمة :

 الهوامش :

[1] Stora, B. (1992). Ils venaient d'Algérie. L'immigration algérienne en France 1912-1992. Paris : Fayard, 492 p, p. 7.

[2] Hilberg, R. (1985), La destruction des Juifs d’Europe, Paris, Fayard, 1099 p.

[3] Gainage, Jean, Histoire contemporaine du Maghreb de 1830 à nos jours, Paris, Fayard, 1994, 822 p.

[4] Schwarzfuchs, S. (1981). Les Juifs d’Algérie et la France (1830-1855), Jérusalem, Institut Ben-Zvi, 400 p., p. 30.

[5] Halphen, A-E. (1851). Recueil des lois concernant les Israélites, Paris, Wittersheim, 1851, 511 p., pp. 137-142.

[6] Ayoun, R. (1993). Typologie d’une carrière rabbinique, l’exemple de Mahir Charleville, préface de Pierre Chaunu, Nancy, Presses Universitaires de Nancy, 2 vol., 1003 p., vol.1, p. 245.

[7] Bulletin des Lois nE 1315, Archives d’Outre-Mer, Aix-en-Provence, F80 20431.

[8] Cahen, L. (1866). Appel aux Israélites de l’Algérie au sujet de leur naturalisation. L’Univers Israélite, t. XXI, (10), juin, 480-481 ; et dans L=Akhbar, journal de l’Algérie, Alger, 28e année, (4 252), vendredi 18 mai 1866, p. 2.

[9] Chouraqui, A. (1965). L’alliance israélite universelle et la renaissance juive contemporaine. Paris : Presses Universitaires de France, 528 p., 151-160.

[10] Leven, N. (1911, 1920). Cinquante ans d’histoire, l’Alliance israélite universelle (1860-1910), Paris, Félix Alcan, 2 t. 552 p., 574 p., t. 1, p. 63-92.

[11] Laskier, M. M. The Alliance Israélite Universelle and the Jewish Communities of Morroco 1860-1962, Albany, State University of New York Press, 372 p., p. 37.

[12] Eisenbeth, M. (1931). Le Judaïsme nord-africain : études démographiques sur les Israélites du Département de Constantine. Paris : Arno-Natanson, 288 p., p. 44-52.

[13] Melia, J. (1981). L’Algérie et la Guerre (1914-1918). Paris : Plon, 1918, 283 p., p. 77. Voir Meynier, G. (1981). L’Algérie révélée. La guerre de 1914-1918 et le premier quart du XXe siècle, préface de Pierre Vidal-Naquet, Genève, Droz, 795 p.

[14] Rodrigue, A. (1989). De l’instruction à l’émancipation, les enseignants de l’Alliance Israélite Universelle et les Juifs d’Orient 1860-1939. Paris : Calmann-Lévy, 236 p., pp. 73-79.

[15] Décret beylical (D.b..) du 26 juin 1941, Journal Officiel de Tunisie (J.O.T.) du 28 juin 1941, et D.b. du 23 août 1941, J.O.T. du 26 août 1942.

[16] Attal, R. (1956). Répartition géographique et coefficient de diminution des Juifs tunisiens. Information Juive, (79), juillet [paru aussi sous forme de plaquette, Alger, 1956, 7 p.].

[17] Voir Sebag, P. et Attal, R. (1959). L’évolution d’un ghetto nord-africain, la Hara de Tunis. Paris : P.U.F., 101 p.

[18] Julien, Ch.-A. (1985). Et la Tunisie devint indépendante (1951-1957). Paris : Éd. JA, 215 p.

[19] Sebag, P. Histoire des Juifs de Tunisie, des origines à nos jours. Paris : L’Harmattan, 333 p., p. 295.

[20] Marcoux, A. (1971). La population étrangère de Tunisie (1956-1971). Revue Tunisienne de Sciences Sociales, (25), mai, pp. 225-233, p. 228.

[21] Bensimon-Donath, D. (1971). L’intégration des Juifs nord-africains en France. Paris : Mouton, 263 p., p. 33.

[22] La table ronde réunissait : Pierre Stibbe, Émile Touati, Michel Salomon, Pierre Nora, Gérard Israël, Raoul Girardet, Alain Peyrefitte, Philippe Rossillon, L’Arche, n° 61, février 1962, pp. 24-33, 61, 63, p. 63.

[23] Maariv (en hébreu), Tel-aviv, Israël, 31 août 1962.

[24] Baillet, P. (1976). Les Rapatriés d’Algérie en France, notes et études documentaires. Paris. la documentation française, 29 mars, (4275-4276), 80 p., p. 46.

[25] Haïk, G. L’intégration des Rapatriés Juifs en France. Information juive, Paris : septembre 1963, (139), 1-2.

[26] Voir Bensimon, Doris, Della Pergola, Sergio, La population juive en France: socio-démographie et identité, Jérusalem-Paris, The institute of contemporaryjewry, the Hebrewuniversity of Jerusalem, Centre National de la Recherche Scientifique, 1984, 436 p.

[27] Malaterre, Y. (1984). Existe-t-il une identité Pied-noire ? Diplôme d’Études approfondies, Paris VII, automne, 77 p.

[28] Bahloul, J. (1981). Le culte de la Table dressée : étude des pratiques alimentaires des Juifs d’origine algérienne vivant en France. Thèse de 3e cycle, Paris, École des Hautes études en sciences sociales, décembre, édité à Paris Par A.M. Métaillé, 1983, 304 p., p. 19.

[29] Artigau-Hureau, J. (1987). Du cheval de la place au cheval fondu : travaux d’approche pour une étude de la mémoire collective des Français d’Algérie. Diplôme d’Études Approfondies, Institut d’Études politiques de Paris, cycle supérieur d’histoire du XXe siècle, Paris, 276 p. Jean Noli, « Vingt-cinq ans après. La réussite des pieds-noirs », Le Point, Paris, 16 mars 1987, (756), p. 110-115. André Pautard, « vingt-cinq ans après : la revanche des pieds-noirs », L’express, Paris, 19-25 juin 1987, (1876), p. 38-41.

[30] Abitbol, M. (1998). « La cinquième République et l’accueil des Juifs d’Afrique du Nord », dans Les Juifs de France de la Révolution française à nos jours, (sous la direction de Jean-Jacques Becker et Annette Wieviorka), Paris, Liana Levi, 445 p., pp. 287-327, pp. 321-326.

[31] Zytnicki, C. (1998). « L’accueil des Juifs d’Afrique du Nord par les institutions communautaires (1961-1965) », Archives Juives, (31/2), 2e semestre, pp. 95-109, p. 107.

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال