في سنوات الستينيات، وفي الوقت الذي كانت فرنسا تتعرف فيه على جماعة مغاربية مسلمة تعيش في كنفها[1]، وفد إليها عدد كبير من اليهود، ومن بينهم يهود ذوي أصول شمال إفريقية، بعد أن شهدت وصول يهود أوروبيين، إيطاليين، وبولونيين، وإسبانيين في فترة ما بين الحربين العالميتين.
قبل الولوج إلى الحديث عن ظروف استقرار هؤلاء المهاجرين بفرنسا، لا بدّ من التذكير بوضعهم في شمال إفريقيا قبل رحيلهم عنها. فغداة الحرب العالمية الثانية كان 000450 إلى 500 000 يهوديا يعيش في شمال إفريقيا، وبعد تشتيت جماعات أوربا الوسطى والشرقية من طرف القوى النازية[2]، تشكل يهود المغاربيون مخزنا لقوات حية، وكانت المجموعة الأكثر عددا هي المجموعة المتواجدة بالمغرب، سنة 1951: الدار البيضاء 74738 يهوديا، مراكش 16382، فاس 12648، مكناس 12445، طنجة 12000 والرباط ـ 10239 يهوديا.
أمّا فيما يخص تونس فقد بلغت هذه المجموعة سنة 1946: 70971 يهوديا منهم 42200 بتونس (المدينة) وضواحيها، 6371 في الشمال، وفي الوسط 9505، وبأقاليم الجنوب 8980، و3915 في جزيرة جربة. أما في الجزائر فإن اليهود الذين تمّ منحهم الجنسية الفرنسية أو تطبيعهم بموجب مرسوم كريميو (Crémieux) المؤرخ في 24 أكتوبر 1870، لم يكن قد تمّ إحصاءهم. ففي 1953 بلغ عددهم 130000 أو 140000 شخص. ومن المدن التي عرفت تواجد أكبر عدد من اليهود مدينة الجزائر 30000 يهودي، وهران 30000، قسنطينة 14000 يهودي وبالتالي، فإن أكبر عدد من يهود الجزائر كانت تعيش في المدن الساحلية والمناطق الداخلية المجاورة لها مباشرة.
يهود الجزائر والاستعمار الفرنسي
لقد تأثر يهود شمال إفريقيا بالاستعمار الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين[3]، ففي 5 جويلية 1830 احتل الجيش الفرنسي مدينة الجزائر وأقاليم أخرى من بعدها، وبحضور الماريشال دي بورمون Bourmont) (De، وقّع الداي حسين على وثيقة الاستسلام التي أصبحت ميثاقا لكل أهالي الجزائر، حيث تنص المادة 5 منها على أنه "لن يتم المساس بحرية السكان بكل فئاتهم، ديانتهم، ممتلكاتهم، تجارتهم وصناعتهم"[4]. مع وجود هذه المعاهدة التي كان يفترض استخدامها بمثابة نموذج يحتذى به في مفاوضات أخرى، ومع ضمانها للحرية الدينية والاقتصادية لليهود (وضمانات أخرى)، وبهدف إعادة تنظيم اليهودية في الجزائر، فإن الحكومة الفرنسية أنشأت سنة 1839 لجنة وضعت مشروع هيكلة للعقيدة والتعليم. لكن هذه اللجنة قضت نهائيا على الآثار الأخيرة لاستقلالية يهود الجزائر، وقد حسم المرسوم المؤرخ في 9 نوفمبر 1845[5] التغيرات التي طرأت على الجهاز السياسي المتمثل في المجلس العِبْري، وتحوله إلى مؤسسة دينية، كما أنشأ مجلس كنيسي جزائري مقره مدينة الجزائر، ومجالس كنيسية إقليمية بوهران وقسنطينة، وهي لا تختلف كثيرا من حيث التنظيم عن المجالس الكنيسية المتواجدة بفرنسا-المتروبول. فقد صاحب التحرر التشريعي، القانوني والإداري ليهود الجزائر اندماجهم الثقافي والاجتماعي، فأصبح شباب اليهود يترددون أكثر فأكثر على مؤسسات التعليم الفرنسية ويتحدثون اللغة الفرنسية بطلاقة ابتداء من سنة 1860، ولم يتغير اللباس اليهودي كثيرا ولكن الشباب أصبحوا يرتدون الألوان التي تروق لهم.
يجدر التذكير أنه تحت سلطة المسلمين، فُرض على اليهود ارتداء زي معين حتّى يمكن التعرف عليهم، ومُنعوا من ارتداء ملابس لونها أخضر)لون خاص بسلالة النبي ]ص [) أو أحمر(لون العلم التركي) وأيضا مّنعوا من ارتداء الشاشية، العمامة البيضاء والبرنوس الأبيض. لم يترك لهم سوى خيار استعمال ملابس داكنة اللون بأكمام فضفاضة، كما كان الرجال يرتدون فوق الأقمصة سراويل واسعة، وكانت برانيسهم في الغالب زرقاء، حيث كتب الحاخام أبراهام كاهين (Abraham Cahen) أنها (البرانيس) كانت زرقاء داكنة في مدينة الجزائر في حين كانت في ضاحية تيطري رمادية داكنة، وفي ضاحية قسنطينة تمّ السماح لهم في فترة معيّنة بارتداء البرانيس، ونوع من العمامات والأحذية المشابهة لعمامات وأحذية المسلمين، و لكن كان ذلك ترخيصا هشّا تم سحبه منهم، لأنه كل شيء في الواقع كان مرتبطا بمزاج الباي، أمّا في سنوات 1860-1870، وخاصة في المدن الكبرى، فكان أطفالهم يرتدون تقريبا نفس زي الأطفال الأوربيين، وتناقصت أفراد الشباب والشابات الذين يرتدون الزي الشرقي أكثر فأكثر.
أما مستوى الحياة الاجتماعيّة لمعظم يهود الجزائر فلم يرتفع إلا بشكل تدريجي، إذ أنّ أغلبية يهود الجزائر استمروا في الاسترزاق من التجارة وبعض الحرف اليدوية بممارسة بعض المهن التقليدية مثل الخياطة، والطرز، وصناعة الساعات، وصناعة النحاس، والنسيج، والصياغة. بالمقابل، كانت العديد من العائلات اليهودية في الجزائر تجارة الصوف والقماش والنسيج المحلي احتكرت والقمح، والسكر ومواد أخرى استعمارية. أما المنحدرون من هذه العائلات اليهودية المقيمة في الجزائر فقد كانوا يشكلون إنتلجانسيا يهودية مندمجة بشكل كبير في الحضارة الفرنسية.
غيّر الاندماج التدريجي في التقاليد الفرنسية تماما حياة اليهود، ومع اختفاء "الملاح"Mellah (الحارة اليهودية التقليدية)، اختفت معه - شيئا فشيئا - الصّور العريقة والقديمة أيضا ،للحرفي اليهودي في مدن الجزائر. وبهذا تخلت التجارة اليهودية عن طابعها الشرقي المحض لتسلّم بالطرق والاستخدامات الفرنسية أما على المستوى القانوني فقد طالب يهود الجزائر بإدماجهم في الأمة الفرنسية، خاصة أثناء رحلات نابوليون الثاّلث إلى الجزائر سنة 1860 و1865. وخلال رحلته الأخيرة سنة 1865، وردا على كلمة الترحيب التي ألقاها الحاخام الأكبر لمدينة وهران "ماهر شارلوفيل" (Maher Charleville)، صرح الحاكم قائلا: "أرجو أن يصبح اليهود الجزائريون مواطنين فرنسيين قريبا "[6].
وقد تحقّق هذا الوعد في مجلس الشيوخ (Sénatus-consulte) بتاريخ 14 جويلية 1856، الذي سمح لليهود والمسلمين بطلب الجنسية الفرنسية فرديا ويتمثل نصه فيما يلي:
المادة 1 : الأنديجاني المسلم هو فرنسي، مع هذا يبقى خاضعا للقوانين الإسلامية ويمكن تجنيده للخدمة في الجيوش البرية أو البحرية. وكذلك يمكن دعوته لوظائف ومناصب عمل مدنية في الجزائر ويمكنه، تحت طلبه، الحصول على حقوق المواطن الفرنسي، وفي هذه الحالة يخضع للقوانين المدنية والسياسية لفرنسا.
المادة 2 : الأنديجاني الإسرائيلي هو فرنسي، مع هذا يبقى خاضعا لقانونه الشخصي ويمكن تجنيده للخدمة في الجيوش البرية أو البحرية. وكذلك يمكن دعوته لوظائف ومناصب عمل مدنية في الجزائر ويمكنه أيضا، تحت طلبه، الحصول على حقوق المواطن الفرنسي وفي هذه الحالة، يخضع للقوانين الفرنسية.
المادة 3 : الأجنبي الذي يبرر وجوده مدة ثلاث سنوات في الجزائر يمكنه الحصول على كافة حقوق المواطن الفرنسي.
المادة 4 : لا يمكن الحصول على صفة مواطن فرنسي، كما هو منصوص عليه في المواد 1، 2، 3، من مجلس الشيوخ قبل بلوغ سن الواحدة والعشرين، ويتم منحها عبر مرسوم إمبريالي يتم المصادقة عليه من قبل مجلس الدولة.
المادة 5 : يحدد نظام إداري عمومي:1) شروط الالتحاق بالخدمة وتقدم رتبة الأهالي المسلمين والأهالي الإسرائيليين في الجيوش البرية والبحرية، 2)، الوظائف ومناصب العمل المدنية التي يمكن للأهالي تقلدها، 3) الأشكال التي تتم عبرها معاينة الطلبات المبرمجة في المواد 1، 2، 3 لمجلس الشيوخ[7].
لقد كان التجنيس الجماعي من مهام أدولف كريميو(Adolphe Crémieux) وزير العدل، وذلك ابتداء من 24 أكتوبر 1870، بمرسوم يحمل اسمه صدر في 4 سبتمبر 1870، ومع سقوط الإمبراطورية، حصل أعضاء المعارضة على مقاعد في السلك التشريعي. ويضفي السياق التاريخي على ذلك نوعا من الصبغة التراجيدية التي كان لها وقعها على الاستقبال الذي خصص لمرسوم 24 أكتوبر 1870، والمسمى بمرسوم كريميو. وعلى وقع الإخفاق البلدي توجهت الحكومة إلى مدينة تور (Tours). واستقبل أدولف كريميو وزير العدل وفودا من الجزائر طالبته بالتعجيل في تطبيق الإصلاحات التي طال انتظارها.
قدم أدولف كريميو في يوم 24 من شهر أكتوبر لزملائه ثمانية مراسيم للمصادقة عليها والتي تؤسس للنظام المدني. أمّا فيما يخص العدالة، فقد حققوا إصلاحات عميقة من هذه المراسيم التّي حسب جول فيري(Jules Ferry) . "كتبت في تور(Tours) ، ولكن التفكير فيها كان في مدينة الجزائر"، والمرسوم السابع هو الذي طبع مرحلة جديدة وهامّة من مراحل إدماج يهود الجزائر في المجتمع الفرنسي. هذا المرسوم الصادر عن حكومة الدفاع الوطني الفرنسي مفاده ما يلي: "يعتبر الأهالي اليهود التابعين لمقاطعات الجزائر مواطنين فرنسيين، وعليه، فإن وضعهم المدني ووضعهم الشخصي سيحدّده، انطلاقا من الإعلان عن هذا المرسوم، القانون الفرنسي، مع الحفاظ على كل حقوقهم المكتسبة إلى غاية هذا اليوم، مع إلغاء كل التدابير التشريعية، والقوانين الصادرة عن مجلس الشيوخ وجميع المراسيم، والتنظيمات أو المقررات المضادة لهذا القرار"[8].
بالمقابل، فإنّ الوضع الذي كان سائدا في البلدان المجاورة للجزائر والمتمثلة في تونس والمغرب كان يشكل، حسب تصريحات السلطات الفرنسية، خطرا دائما "بالنسبة للاستعمار في الجزائر" وهو السبب الذي من أجله قامت فرنسا بفرض حماية على تونس، من خلال معاهدة باردو سنة 1881، وعلى المغرب، سنة 1912 بعد أزمة فاس، في حين أن الجزء الشمالي من المملكة الشريفية (l’empire Cherifien) كان من نصيب إسبانيا، وكانت فرنسا حاضرة لمدة مائة واثنتبن وثلاثين سنة في الجزائر، من 1830 إلى 1962، و[خمسة وسبعين] سنة في تونس من 1881 إلى 1956، و[أربعا و أربعين] سنة فقط في المغرب من 1912 إلى 1956.
لقد اخترق الجيش الفرنسي وكذلك الإدارة الفرنسية تدريجيا وبخطى ثابتة المناطق التي لم يكن قد سبق استكشافها بعد، والتي لقي فيها مقاومة من طرف الأهالي. يمكننا التمييز في البلدان الثلاثة في المغرب، بين ثلاث مناطق للتأثير الفرنسي غير المتعادل:
1-المناطق الساحلية التي تمت فرنستها بشكل كبير
2-المناطق الداخلية التي بقيت أكثر ارتباطا بالتقاليد القديمة
3-المناطق الجبلية والمناطق شبه الصحراوية أو الصحراوية للجنوب المجاور للصحراء، والتي لم تقتحمها فرنسا إلا في وقت متأخر من الاحتلال، من خلال غزوات عسكرية وإدارية.
وعلى عكس البربر والعرب، فإن اليهود استقبلوا الفرنسيين عموما بكثير من الحماس. وتبنوا سريعا الفكرة المثالية "الحرية، العدالة والأخوة" والتي كانت شعار الثورة الفرنسية. حيث استقبل يهود شمال إفريقيا فرنسا كقوة تمكنهم من الخروج من وضعية الأقلية المقبولة. وقد دعم الحكومة الفرنسية في عملها لصالح اليهود بتونس، وخاصة بالمغرب[9]، المدارس الأولى للتحالف العالمي الإسرائيلي الذي قام بتهيئة الأرضية، حيث أنشأت هذه المؤسسة سنة 1860 من طرف يهود فرنسيين من أجل "العمل في كل مكان على التقدم والتطور الأخلاقي للإسرائيليين"[10]. حيث فتحت أول مدرسة بالمغرب أبوابها بـ "تطوان" سنة 1862[11]، وأما بتونس فكان ذلك سنة 1878.
بالمقابل، فإنه ومن خلال تبني المبادئ الفرنسية، أعلن يهود المغرب القطيعة مع وسطهم الأصلي وهذا بعد أن أدار العديد من يهود بلدان المغرب ظهورهم للوسط الإسلامي، حتى أنه في بعض الحالات ابتعدوا عن الديانة اليهودية التقليدية، وهو ما يترجم عمق التغلغل والتأثير الفرنسيين. وكانت نتيجة التطبيع الجماعي ليهود الجزائر إلحاق يهود الجزائر بالقضاء الفرنسي، الحصول على الحق في الانتخاب وعدة إمكانيات للاندماج في الثقافة الغربية، والتي لم يتمكن اليهود التونسيون والمغربيون عامة من الحصول عليها. وقد أدى التواجد الفرنسي الطويل إلى التوجه التدريجي للديانة اليهودية في الجزائر نحو قيم الغرب، فالتمدرس كان يتم في مدارس لائكية فرنسية، تحت رقابة إدارة التعليم العمومي، ومع توسع الشبكة المدرسية شيئا فشيئا، تمكن يهود الجزائر من الوصول إلى الطور الثانوي والعالي، فقد كان شباب اليهود متمدرسين في سلك التعليم العمومي، مثلهم مثل الأهالي الفرنسيين في سنوات 1930، عدد الأميّين جدّ قليل فإن معظمهم يتواجدون في أقاليم الجنوب.
لم يصبح التعليم الثانوي مجانيا إلا سنة 1928، وفي سنوات 1930 تمكن الأطفال الذين لا ينتمون إلى عائلات ثرية من التردد على الثانويات. فالأطفال المنتمون إلى وسط متواضع أو فقير كانوا يوجهون، قبل ذلك، نحو التعليم الابتدائي العالي، وكانت المدارس العالية للمعلمين تستقطب أحسن تلاميذ هذا القطاع في مدينة الجزائر، كما أن المدارس العادية قامت بتكوين عدة معلمين يهود، وقد تواجد الطلبة اليهود بكثرة بجامعة الجزائر في معهد الطب، الحقوق والعلوم، في حين واصل آخرون دراستهم في المتروبول واستقروا في غالب الأحيان هناك. وقد تردد الجيل الذي ولد نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بشكل كبير، خلال بضع سنوات وكما ينص عليه القانون، على المدرسة الابتدائية حيث تتوج الدراسة بنيل شهادة التعليم الابتدائي. أما الجيل التالي، الذي ولد بين الحربين، فقد تمدرس بالنسبة للغالبية وتمكن من الوصول إلى التعليم الثانوي.
أثّر المرور عبر التعليم العمومي بشكل عميق على الديانة اليهودية في الجزائر. فالتقي على مقاعد المدارس الطفل اليهودي والمسيحي والمسلم، وأحياناً كانت تربط بينهم علاقات صداقة، وأحيانا أخرى كانت العنصرية تفرق بين الأطفال وبين المراهقين. بالمقابل تمكن التعليم حسب النموذج الفرنسي من إنجاز مهمّة الفَرنَسَة على أكمل وجه. وقد أبعدت هذه التربية اللائكية الشباب عن الممارسات الدينية المتبعة بشكل كبير في الوسط الأسري المحافظ في الجزائر على تأثيره. وبالرغم من أن التقاليد القديمة تغيرت تدريجياً، إلا أن النساء لعبن دوراً أساسيا في المحافظة على ذلك الإرث الذي يمتد بجذوره إلى الماضي. وبالموازاة مع المدرسة العمومية تبنّى المسؤولون على الجماعة اليهودية، الذين كان بعضهم ذوي أصول "ميتروبوليتانية"، مواقف غير واضحة، حتى لا يقال متناقضة. فبكل فخر لمس المسؤولون التقدم المنجز مع تخوفهم من البعد المتزايد عن الديانة اليهودية. وقد كان أشرف على التعليم الديني الحاخامات (rabbins) الذين كانوا يعلّمون القراءة العبرية وترتيل التوراة في قاعات متهالكة. ولكن لابّد من الإشارة إلى أن من مساوئ هذا التعليم إقتصاره على النحو العِبْري، الترجمة والتدريس الديني المحض بسبب ندرة الحاخامية التقليدية.
إضافة إلى ذلك ظهور فارق بين المعارف الجديدة التي تُدَّرس في المدرسة العمومية والمعرفة الحقيقية بالديانة اليهودية التي كان يقتصر تناقلها في الكثير من الأحيان على الطقوس، الكلمات، الإشارات واستخدامات معينة. كما أن هذا التناقل يتمّ دون شرح للمعنى الذي يجدر إعطاؤه لمختلف الطقوس والاستخدامات[12]. من جهة أخرى سمحت الخدمة الوطنية بتحقيق تقدم نحو قيم الغرب. وبالتالي، فإن التطوّر الثقافي للديانة اليهودية في الجزائر نحو القيم الفرنسية مرّ بعدة أجيال. كما ارتبطت هياكل جماعة الجزائر بشكل وثيق بهياكل الجماعة اليهودية الفرنسية في مؤسسة "المجلس الكنيسي المركزي ليهود فرنسا والجزائر" (le Consistoire).
خلال الحرب العالمية الثانية أظهر يهود الجزائر شعورهم الوطني تجاه فرنسا، وذلك بالاستجابة لنداء الوطن-الأم. هذا الحب تجاه فرنسا يترجمه مثال جودا بن بوراك
(Judah Ben Bourrak) جندي من الصف الثاني في الفوج الثالث من جيش "الزواف" (Zouaves) "حين رأى قائده الملازم في ميدان المعركة جريحاً ومهدداً من طرف ألمانييّن اثنين، سارع إلى إنقاذه ونجح في ذلك من خلال قتل العدوّين. وقد كاد جودا بن بوراك يفقد حياته، مما جعل الجنرال العام جوفر (Joffre) يمنحه الميدالية العسكرية يوم 27 فيفري 1915 قائلاً: "بالرغم من جرحه العميق في الصدر خلال الهجوم"، صرخ: "جسدي لا يساوي شيئاً، تحيا فرنسا" ليمنح بذلك أجمل مثال عن الوطنية والتضحية لزملائه الذين كانوا من حوله"[13].
ماذا عن الوضع في تونس ؟
كان تمدرس اليهود في تونس في بداياته من مهام المبشرين المسيحيين، ثم "التكتل الإسرائيلي العالمي" ابتداء من 1878[14] . وكان التأثير أكبر في المدن الساحلية، مثل مدينة تونس، سوس، صفاقس، من مدن الجنوب وفي جزيرة جربة حيث كان اليهود يرفضون ولفترة طويلة فتح مدرسة عصرية. وحسب بنود معاهدة الحماية، ظل اليهود تحت رعاية الباي، ورغب البعض في الحصول على تمديد لمرسوم كريمو، ولكن هذه الآمال بقيت دون جدوى. بالمقابل، وانطلاقاً من 1911، ظهرت حركة تجنيس (naturalisation) فرنسية أو إيطالية.
أثناء إحصاء حكومة فيشي لسنة 1941، كان هناك 68268 يهوديا من جنسية تونسية، 16496 من جنسية فرنسية، 3208 من جنسية إيطالية و668 من جنسية بريطانية[15]. وبعد الحرب العالمية الثانية عرفت المجموعة اليهودية التونسية في العموم تقدما فكريا، واقتصاديا واجتماعيا سريعا. لقد كانوا أكثر تمدرسا من المسلمين. ففي سنة 1946، كان 59% من يهود تونس يعيشون في مدينة تونس، وفي 1956 بلغت نسبتهم 67%[16].
تواجدت في مدينة تونس مجموعتان اثنتان:
المجموعة الأولى مكونة من سكان الحارة "Hara"، بمعنى هؤلاء الذين يعيشون في الأحياء التقليدية[17]. أما المجموعة الثانية فتتمثل في سكان الأحياء الأوروبية حيث كان استقر أثرياء البورجوازية والطبقة المتوسطة. إن المرور من الحارة إلى المدينة الأوروبية، هو مرحلة هامة في تطور الأسرة يرافقها في الكثير من الأحيان نوع من الانقطاع عن طرق الحياة التقليدية.
استقلت تونس سنة 1956[18] ونادى الدستور التونسي سنة 1959 بحرية الوعي وحرية الممارسة الدينية، ولكن في الوقت ذاته انخرطت تونس في طريق التعريب[19]. وبعد برنامج التَّوْنسة، تمّ حلّ المحكمة الحاخامية كغيرها من المحاكم الدينية. وهكذا لم يتبقى لليهود أية سلطة قضائية، خاصة فيما يتعلق بالأوضاع الشخصية، ولكنهم اضطروا التوّجه إلى محاكم مدنية تونسية. بعد أحداث بيزرت (Bizerte)، سنة 1961، كان هناك رحيل جماعي ليهود تونس[20]. كما كان للتوتر بين إسرائيل وجيرانها أيضاً تبعات على حركة الهجرة التي ارتبطت من جهة، بالتطور الاقتصادي لتونس، ومن جهة أخرى بتقلبات العلاقات الفرنكو-تونسية.
ماذا عن المغرب ؟
كان تغريب (occidentalisation) اليهودية المغربية أكثر سرعة وأقل عمقاً من تغريب اليهودية عند يهود الجزائر وتونس. فما هي أسباب ذلك؟ لم تدم الحماية الفرنسية سوى أربع وأربعين سنة في المغرب تميز خلالها خضوع القبائل بالبطء، كما أنّ الحربين العالميتين نقلتا النشاط الاستعماري لفرنسا. فالهجرات الداخلية والخارجية شكلتا عاملاً هاماً في تطور اليهودية المغربية، في سنة 1951، مثل السكان الريفيون 10 % فقط من السكان اليهود، وفي سنة 1960، بات يمثل هؤلاء السكان 5%. ومع الازدهار الاقتصادي للمغرب تحت الحماية الفرنسية تشكلت شيئاً فشيئا طبقة متوسطة ميسورة الحال لتتوسع بذلك فئة النبلاء التقليديين. مع الجيل الأول، ثم أكثر فأكثر مع الجيل الثاني، استفادت هذه البورجوازية بشكل كبير من الشبكة المدرسية و"التحالف الإسرائيلي العالمي" والمدارس المفتوحة من طرف إدارة الحماية.
ومع ذلك ظل تمدرس غالبية السكان بطيئا حيث بلغت سنة 1960 نسبة الأمية 43.2%، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار القدرة على قراءة العبرية، في حين أن 81.9% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة كانوا متعلمين، وكذلك 75.1%من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 19 سنة و62.6% من البالغين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة. أما فئة اليهود الذين تجاوزوا سن 60 سنة فنسبة 23.7% يعرفون لغة أخرى غير العبرية. شكّل تزايد أعداد المتمدرسين لدى اليهود، مقارنة بالسكان المسلمين، نوعاً من الازدهار الاقتصادي والاجتماعي للجماعة اليهودية في السنوات التي تلت استقلال المغرب، فبعد رحيل الموظفين الفرنسيين، شغل أغلب المناصب الشاغرة موظفون يهود. ورافق هذا الصعود في السُلّم الاجتماعي تفكك الأحياء اليهودية "الملاّحات" Mellahs. فقد مثل استقرار اليهود بالشقق التي بقيت فارغة في الأحياء الأوروبية، بعد رحيل الفرنسيين، خطوة هامة نحو الحداثة.
لم يعرف الوضع اليهودي المغربي، على مستوى الجنسية، أي تغيير في ظل الحماية الفرنسية. فقد طغى عليه مبدأ "الولاء المؤبد" للسلطان الذي حددته في 1880 اتفاقية مدريد، والذي أكدته معاهدة الجزيرة الخضراء (Algésiras) سنة 1906 عن طريق الإجراءات المتخذة من طرف الحماية سنة 1912، بمعنى أنه لا يمكن لأي مغربي تغيير جنسيته مادام يعيش على أرض مغربية. فإذا كان قد حصل على جنسية أخرى بالخارج، ثم عاد إلى المغرب، فإنه يصبح مغربياً بشكل آلي، وكما هو الحال في تونس، فإنّ الحرب الإسرائيلية- العربية في جوان 1967 سرعت من حركة رحيل يهود المغرب[21].
هكذا، فإن سيرورة تغريب اليهود المغاربة اعتمدت على مدّة الوجود الفرنسي ودرجة دخول عوامل الحداثة في الأقاليم الخاضعة للإدارة الفرنسية، فالتأثير الثقافي للاستعمار الفرنسي كان حساسا أكثر في الساحل وفي السهول الشمالية. تمثّلت الحياة على الطريقة الغربية بالنسبة ليهود شمال إفريقيا في التقدم التقني، الرفاهية، الثراء والمعرفة. كما أن الحضور الفرنسي في شمال إفريقيا مكّن اليهود من التحرر من وضعية "الذمي"، ومن جهة أخرى جعلهم يتحرّرون من بعض العادات والتقاليد الصارمة، ومن مظاهر الاندماج مع الغرب، وعليه بدأ اليهودي يسير على درب اللائكية، وهكذا طرأت تحولات على البنيات الأسرية، في حين أنه على المستوى الوجداني حافظت الأسرة اليهودية في شمال إفريقيا على اتّحادها.
لم يكن من الممكن حقاً الحديث في شمال إفريقيا عن تفتت الوسط الأسري، بالمقابل كان هناك توتر واصطدامات متكررة بين الأجيال. وفي حركة لا رجعة فيها للحداثة حرّرت الأجيال الشابة ليهود المغرب نفسها في سنوات 1960-1970 من عادات وتقاليد عائلية كانت تعتبرها جدّ مُقيَّدة، وبهذا كان للّقاء مع الثقافة الغربية نتيجة تمثلت في صدمة نفسانية ترجمها نوع من الاختلال والانشقاق والاجتثاث.
دوافع الهجرة والاندماج في فرنسا
سهّلت سيرورة التغريب الهجرة نحو فرنسا، إذ لا يمكن التفريق بين نزوح يهود شمال إفريقيا وبين اختفاء كل المجموعات اليهودية في العالم العربي، تتمثل أسباب رحيل يهود شمال إفريقيا في الدوامات الدرامية لفترة ما بعد الاستعمار والصراع الإسرائيلي-العربي،
فمن جهة -وفي تونس على سبيل المثال- كان هناك نهب لمحلات يهود تونس، وحرق الكنيس الأعظم (grande synagogue) سنة 1967، وأزمة بيزرت (Bizerte) سنة 1961، ومن جهة أخرى الصعوبات الاقتصادية والانشغالات حول المستقبل. ولكن أيضاً - خاصة في المغرب، كانت العائلات تتخوف من زواج بناتهن بمسلمين، فلابدّ من الاشارة إلى أنّه بعد استقلال المغرب تمّ اختطاف بعض الفتيات الشابات من طرف مسلمين. وللتذكير فإنّ الزواج بين المسلم واليهودية مقبول في الإسلام.
تساءل اليهود في الجزائر حول ما إذا كان عليهم الرحيل؟ وذلك ضمن مائدة مستديرة هامّة من تنظيم جريدة L’Arche في فيفري 1962، ومن بين الأسئلة المطروحة آنذاك: هل ستختار الجزائر المستقلة "اللائكية"؟ هل لهذا المفهوم دلالة في أرض الإسلام؟ هل سيحترم حق الاختيار بعد الاستقلال؟ بين التفاؤل الكبير لليسار القريب من جبهة التحرير الوطني (الذي كان يمثله بيار ستيب Pierre Stibbe)، وقلق التقدميين الإسرائيليين (مثل إيميل تواتي Emile Touati)، فإن الاختلاف لم يكن حول المبادئ، ولكن حول الضمانات الديمقراطية التي يمكن أن تمنحها الدولة الجديدة لليهود.
دفعت تصريحات جبهة التحرير الوطني، والتي كانت تعبر عن الأفكار السياسية لـ"الأمة العربية"، وتصاعد التوتر آنداك في منطقة الشرق الأوسط، بإميل تواتي لاختتام النقاش على النحو التالي :«المعيار الوحيد (سيكون) في القدرة على الرحيل، وحرية التنقل والهجرة، باعتباركم مواطنين، فإن لديكم ضمانات أقل من تلك التي كنتم ستحضون بها لو كنتم أجانبا لمغادرة بلد ما»[22]. لم تغيّر قرارات اتفاقيات إيفيان التي نصّت على حق الخيار، بعد ثلاث سنوات من إقرارها، أي شيء في هذه الوضعية، فقد كانت هجرة يهود الجزائر نحو فرنسا قوية، وتقريبا كلية " كفيضان في واد صحراوي" ففي غضون بضعة أشهر من نهاية ماي إلى غاية جويلية 1962 توافد فرنسيو الجزائر بكل مجموعاتهم، وبشكل كبير، على المطارات والموانئ متخلّين عن كل شيء للالتحاق بالضفة الأخرى للمتوسط. وعليه فقد أظهر هذا الذعر كيف أن الهجرة بدت لهم ملاذًا وحيدًا.
بعد أن تمّ الإعلان عن استقلال وسيادة الجمهورية الجزائرية بتاريخ 3 جويلية 1962، أدانت السلطات الجديدة - التي كانت تتشارك الحكم في الجزائر بعد انسحاب الحكم الفرنسي- نهب المنازل، السرقات، الاغتصاب، خطف الأشخاص والقتل. إلّا أنّ نداء "بن بلة "عندما وصل إلى الحكم: « ارجعوا، فمكانكم بيننا » بقي دون صدى، إذ لم يبق سوى 4000 يهودي من بين 160000 يهودي تواجدوا في الجزائر سنة 1960، أمّا في خريف 1971، فوصل عدد اليهود المتواجدين في الجزائر إلى 1000 شخص، سنة 1982 أقل من 200 شخص، وسنة 1992 أقل من 50 شخص، وفي سنة 2000 أقل من 30 شخص، وفي 2006 أقل من 20 شخص. بالمقابل، يوجد العديد من الأشخاص الذين ينحدرون من زواج مسلمين مع يهوديات، وبعضهم ينتمي إلى طبقة اجتماعية راقية.
هكذا، فإن اليهودية في الجزائر والتي يزيد عمرها عن ألفي سنة، كادت أن تختفي تماما في غضون بضعة أشهر فقط، ولأسباب سياسية ووجدانية، رحل اليهود عن الجزائر وهم يظنون أنه مع رحيل الإدارة الفرنسية سيحرمون من الوصيّ الذي ضمن لهم رقيا اجتماعيا سريعا بشكل باهر. أكثر من ذلك فقدت الأجيال الحديثة في الغالب استخدام اللغة العربية. اختارت الأغلبية الكبرى ليهود الجزائر - أي ما يعادل 135000 شخصا-فرنسا. هذا الخيار الجماعي الذي تسبب في خيبة كبيرة بإسرائيل، حيث أوّل بعضهم هذه الخطوة التي قام بها يهود الجزائر بوصفها فشلا للإيديولوجية الصهيونية[23]. إذ اختار فقط أكثر من 10000 شخص بقليل إسرائيل.
شعر يهود الجزائر أنهم فرنسيون لأنهم ضحوا بدمائهم في سبيل فرنسا خاصة خلال الحربين العالميتين لأنهم اندمجوا في الثقافة الفرنسية بسبب عاداتهم اليومية وفكرهم، لذلك لم يشعروا حقا بتغيير البلاد أثناء وصولهم لفرنسا التي كانت في سنوات 1960-1962 في عزّ التوسع الاقتصادي. وكان بإمكانها أن تمنح فرص العمل لليد العاملة المؤهّلة التي جاءت من الجزائر وتونس والمغرب. وما يعادل 10000 من يهود الجزائر الآخرين اختاروا إسبانيا، الأورغواي، الأرجنتين، كندا والولايات المتحدة الأمريكية...
من بين الفرنسيين الذين "عادوا" إلى فرنسا، احتلّت الجماعة اليهودية -حسب بعض الإحصائيات- أقل من %15 من العائدين إلى وطنهم، زد على ذلك أنّ هذا التقييم كان مبنيا على إحصاء جزئي لعدد الفرنسيين في الجزائر[24]. وعليه فقد تزعزعت البنيات اليهودية لفرنسا نتيجة تدفق وتوزيع يهود الجزائر، والذين كانوا أساسا من الحضر. فما يقارب نصف العدد تجمعوا في المنطقة الباريسية مقابل فقط 16,7 % من العائدين الآخرين، 25 % إلى 30 % استقروا في الجنوب الشرقي مقابل 23,5 % من مجموع اللاجئين، 10 إلى 15 % وجدوا أنفسهم في الجنوب الغربي ونسبة مماثلة استقروا في منطقة "رون ألب "(Rhône-Alpes) مقابل على التوالي 9,3 %و8,9% من العائدين. فإذا كان عدد هؤلاء العائدين الآخرين ما يقارب 40% منهم، متفرقين في كل أنحاء فرنسا فإن الإسرائيليين لم يكونوا كذلك إلا بنسبة جدّ قليلة، أي ما يقارب 10 إلى 15 %.
أنجزت دراسة في سبتمبر 1963 حول تموطن يهود الجزائر في فرنسا، حيث سجل آلان بيزونسون (Alain Besançon) « ترددا كبيرا على المكاتب وارتفاعا في عدد مرتادي "التلموذ التوراة" (المدرسة الأولية) واستهلاكا أكبر للحم الحرام (cachère) »، فاليهود العائدون تأقلموا مع أسلوب الحياة الجديد. وهكذا، في الهافر (Havre)، «العائدين إلى فرنسا من الجزائر، تأقلم معظمهم مع هذه الحياة الجديدة »، أما في أفينيون (Avignon)، وعلى العكس من ذلك، فقد دق الوافدون جرس الإنذار: «خاصة بالنسبة لأولادنا، الذين يحسّون أنفسهم أقل وقوعا تحت "تعرضًا لتمييزية"، وهم مهددون بالاحتواء كلية» من قبل الحياة الفرنسية اللائكية. كان المعبد اليهودي "صغيرا جدا " بمونبوليي Montpellier))، وبنيس (Nice)، فتمّ توكيل مصلى (un oratoire) شمال إفريقي للحاخام كورشيا (Rabbin Corchia)، غير أنّ موقعه كان "سيئا"، ولم يكن بوسع مدرسة "التلموذ التوراة" أن تتطور بسبب نقص الأماكن. في لونيفيل (Lunéville) تمّ إسكان اليهود القادمين من وهران، قصر البخاري، الأغواط، غرداية وأفلو بشكل مؤقت في ديار قديمة للمتقاعدين[25]، كما تعددت فروع جمعية اليهود ذوي الأصول الجزائرية التي أسسها الحاخام الأكبر رحميم (Rahmim)، ناوري (Naouri)، دفيد أسكينازي (David Askenazi)، وأيضا جاك لازاروس (Jacques Lazarus) ، حاييم شرقي (Haim Cherqui) وإيلان جيان (Ellen Djian) وانتشرت بشكل كبير.
تطور البنيات الأسرية ليهود شمال إفريقيا في فرنسا
أدت الأسرة بمفهومها الواسع دورا اجتماعيا مهما في يهودية شمال إفريقيا التقليدية، حيث تعد العلاقات الأسرية المتجذرة أساس العلاقات الاجتماعية، كما شكلت الحفلات الدينية التي ميزت السنة الليتورجية والمراسيم التي تطبع مراحل الحياة الكبرى مناسبة لاجتماع الأسر، فلقاءات اليهود كانت سهلة بسبب العيش في الفضاء ذاته، كما ساهمت الحفلات الراقية في خلق نوع من الأجواء البهيجة في مجتمع يعرف بعضه البعض، وكانت العلاقات بين أفراده محافظة على دفئها الإنساني.
في مجتمع مستقبِل، والذي غالبا ما كان معاديا ومحتقِرا، فإن هذه الحياة الاجتماعية القائمة على علاقات القرابة كانت مثلث ملجأ لهم. الأخ لا يخون أخاه، ويمكن للقريب أن يكون ناصحا أمينا. فضمن المجموعة الأسرية، كان هناك نوع من الإحساس بالأمان، فالتقيد الصارم بالواجبات الأسرية، والمبني على مبدأ «شّرف أباك وأمك»، كانت ميزة أساسية لصورة الرجل النزيه لدى يهود شمال إفريقيا. لقد تطورت البنيات التقليدية للأسرة اليهودية الشمال إفريقية بالاختلاط مع الفرنسيين وأدت عوامل مثل التمدرس، الهجرة الداخلية والتخلي التدريجي عن أحياء اليهود التقليدية إلى تغيرات ازدادت عمقا بزيادة امتداد التأثير الفرنسي.
غير أنه وبالرغم من هذه التحولات، بقيت الروابط الأسرية موجودة. فالتخلي عن بعض التقاليد، كسكن الزوجين الشابين مع عائلة الزوج، وتزاوج الأقارب الذين يقطنون المدن نفسها لم يؤدِّ إلى فقدان حس الانتماء الأسري. رغم تفكك الجماعات اليهودية لشمال إفريقيا وتفرق العائلات وانتشارها أحيانا في القارات الأربعة، وهكذا فإن تطور البنيات الأسرية الذي بدأ بشكل واسع في شمال إفريقيا، خاصة في الوسط الحضري، استمر بالخصوص في فرنسا. وقد ساد حديث متكرر عن أزمة سلطة الآباء على الأبناء، فلم يتقبل الشباب في أغلب الأحيان ملاحظات الأشخاص البالغين، ويعتقدون بأنهم على حق دائما، وعادة لم تكن الحرية التي تمنح للأولاد إلا نتيجة لنقص التأطير داخل الأسر التي يمارس فيها الأب والأم معا نشاطا مهنيا.
هكذا تعرضت جماعات يهود شمال إفريقيا، بشكل أقل أو أكثر عمقا، لتأثير المستعمرين الفرنسيين، وعرفوا كيف يستخدمون حضور المستعمر الفرنسي لمقاطعة طرق العيش التقليدية إلى حدّما، واكتساب قدرات سمحت لهم شيئا فشيئا بالاندماج في المجتمعات الحديثة. هذا الاختلاط مع الغرب خلق لدى الطبقات الواسعة من السكان اليهود حاجات جديدة وأيقظت لديهم آمال "الصعود" الاجتماعي والاندماج الثقافي في مجتمع المستعمِر. فأدّى توطين يهود شمال إفريقيا إلى تغيرات عميقة ذات صبغة نفسانية، أخلاقية، اقتصادية واجتماعية.
على المستوى السيكولوجي، من الملاحظ أن كل هجرة هي أولا اجتثاث، فالمهاجر يقتلع ذاته من عالم يعرفه ويغوص في محيطٍ حيث يبدو له كل شيء فيه غريبا للوهلة الأولى، وهكذا يضطر إلى التأقلم شيئا فشيئا مع هذا الوضع الجديد. بالنسبة للعديد من يهود شمال إفريقيا كان لابد من مواجهة هذا المجتمع المجتث من جذوره في عين المكان، أما على المستوى الأخلاقي، فقد اختلفت وضعية يهود شمال إفريقيا فلم يعودوا وسطاء بين المستعمِر والمستعمَر، متردّدين في أن يكونوا هذا أو ذاك، ولكنهم مواطنون أحرار في دولة تحترم فيها الحريات الفردية. على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، لابدّ من الإشارة إلى رغبتهم الكبيرة في تحسين ظروفهم، لقد غيّر يهودي الجزائر مع يهودي المغرب وتونس من واجهة الطرقات التقليدية اليهودية. في باريس، على سبيل المثال، تمشْرق التجار من خلال بيعهم الكسكس والنقانق، فقد كانت المحلات والمطاعم في أحياء مثل حيّ "مونت مارتر" Montmartre وحيّ "بواسونيار" Poissonnière تذكّر بتلك المحلات والمطاعم الموجودة في مدينة الجزائر ووهران وقسنطينة والدار البيضاء وطنجة وتونس.
ينتمي يهود شمال إفريقيا بشكل كبير إلى القطاع الخدماتي، ففي سنوات السبعينات كان 35% من اليهود ذوي الأصول الجزائرية تجارا، و20% موظفين و25% منهم عملوا في القطاع الخاص. بقي 20%منهم، حسب الإحصائيات، لا نعرف نشاطهم المهني، وسواء في القطاع الأول أو الثاني كان عدد يهود الجزائر قليلا.[26] من خلال «العودة » الجماعية القوية إلى الميتروبول، ارتبط يهود شمال إفريقيا دون تحفظ بمصير فرنسا ليدخل تاريخهم بذلك في مرحلة جديدة مرتبطة بالسيرورة الطويلة للتثاقف والتطبيع الأوروبي لحياتهم. بالإضافة إلى هذا، هناك أيضا الاجتثاث الجغرافي، الانفصال عن منطقة ووسط سوسيو-ثقافي تشكلت فيه تقاليد يهود الجزائر، المغرب وتونس خلال ألفي سنة من التاريخ. لقد احتمت التقاليد اليهودية بالخصوص في الفضاء المنزلي[27] أولا حول مائدة تحوّلت إلى معقل لثقافة مهددة، وأيضا في المطابخ المؤسسة على قدسيّة اللمسات التقليدية القديمة، ففي الوجبة اليومية تبحث ذاكرة وشخصية شعب مجتث من جذوره عن حوار منصف مع التاريخ[28].
اليوم وفي سنة 2006، يبدو أن اندماج يهود شمال إفريقيا في فرنسا، كما هو الأمر بالنسبة للفرنسيّين الآخرين من شمال إفريقيا، تمّ بشكل كامل تقريبا[29]. فقد قدّم يهود شمال إفريقيا لفرنسا، على سبيل المثال، العديد من الأساتذة الجامعيين، وشارك العديد من اليهود ذوي الأصول الشمال إفريقية في بناء الدولة، ومن بينهم جاك أتالي (Jacques Attali)، من خلال الحكومة المحلية، وكذلك من خلال النشاط القانوني، حيث نذكر الرئيس الأول لمحكمة النقض بيار دراي (Pierre Draï). وكان إسهامهم في المجتمع الوطني الفرنسي حقيقيا ويمتد بالأخص ضمن الجماعات اليهودية في فرنسا[30] التي، بعد أن حملتها رياح الاندماج، تمكنت من استعادة هويتها الدينية بشكل ما بفضل وصول يهود شمال إفريقيا[31].
ريتشارد أيون - Richard AYOUN
ترجمة :
سيدي محمد محمدي - Sidi Mohammed MOHAMMEDI
الهوامش :
[1] Stora, B. (1992). Ils venaient d'Algérie. L'immigration algérienne en France 1912-1992. Paris : Fayard, 492 p, p. 7.
[2] Hilberg, R. (1985), La destruction des Juifs d’Europe, Paris, Fayard, 1099 p.
[3] Gainage, Jean, Histoire contemporaine du Maghreb de 1830 à nos jours, Paris, Fayard, 1994, 822 p.
[4] Schwarzfuchs, S. (1981). Les Juifs d’Algérie et la France (1830-1855), Jérusalem, Institut Ben-Zvi, 400 p., p. 30.
[5] Halphen, A-E. (1851). Recueil des lois concernant les Israélites, Paris, Wittersheim, 1851, 511 p., pp. 137-142.
[6] Ayoun, R. (1993). Typologie d’une carrière rabbinique, l’exemple de Mahir Charleville, préface de Pierre Chaunu, Nancy, Presses Universitaires de Nancy, 2 vol., 1003 p., vol.1, p. 245.
[7] Bulletin des Lois nE 1315, Archives d’Outre-Mer, Aix-en-Provence, F80 20431.
[8] Cahen, L. (1866). Appel aux Israélites de l’Algérie au sujet de leur naturalisation. L’Univers Israélite, t. XXI, (10), juin, 480-481 ; et dans L=Akhbar, journal de l’Algérie, Alger, 28e année, (4 252), vendredi 18 mai 1866, p. 2.
[9] Chouraqui, A. (1965). L’alliance israélite universelle et la renaissance juive contemporaine. Paris : Presses Universitaires de France, 528 p., 151-160.
[10] Leven, N. (1911, 1920). Cinquante ans d’histoire, l’Alliance israélite universelle (1860-1910), Paris, Félix Alcan, 2 t. 552 p., 574 p., t. 1, p. 63-92.
[11] Laskier, M. M. The Alliance Israélite Universelle and the Jewish Communities of Morroco 1860-1962, Albany, State University of New York Press, 372 p., p. 37.
[12] Eisenbeth, M. (1931). Le Judaïsme nord-africain : études démographiques sur les Israélites du Département de Constantine. Paris : Arno-Natanson, 288 p., p. 44-52.
[13] Melia, J. (1981). L’Algérie et la Guerre (1914-1918). Paris : Plon, 1918, 283 p., p. 77. Voir Meynier, G. (1981). L’Algérie révélée. La guerre de 1914-1918 et le premier quart du XXe siècle, préface de Pierre Vidal-Naquet, Genève, Droz, 795 p.
[14] Rodrigue, A. (1989). De l’instruction à l’émancipation, les enseignants de l’Alliance Israélite Universelle et les Juifs d’Orient 1860-1939. Paris : Calmann-Lévy, 236 p., pp. 73-79.
[15] Décret beylical (D.b..) du 26 juin 1941, Journal Officiel de Tunisie (J.O.T.) du 28 juin 1941, et D.b. du 23 août 1941, J.O.T. du 26 août 1942.
[16] Attal, R. (1956). Répartition géographique et coefficient de diminution des Juifs tunisiens. Information Juive, (79), juillet [paru aussi sous forme de plaquette, Alger, 1956, 7 p.].
[17] Voir Sebag, P. et Attal, R. (1959). L’évolution d’un ghetto nord-africain, la Hara de Tunis. Paris : P.U.F., 101 p.
[18] Julien, Ch.-A. (1985). Et la Tunisie devint indépendante (1951-1957). Paris : Éd. JA, 215 p.
[19] Sebag, P. Histoire des Juifs de Tunisie, des origines à nos jours. Paris : L’Harmattan, 333 p., p. 295.
[20] Marcoux, A. (1971). La population étrangère de Tunisie (1956-1971). Revue Tunisienne de Sciences Sociales, (25), mai, pp. 225-233, p. 228.
[21] Bensimon-Donath, D. (1971). L’intégration des Juifs nord-africains en France. Paris : Mouton, 263 p., p. 33.
[22] La table ronde réunissait : Pierre Stibbe, Émile Touati, Michel Salomon, Pierre Nora, Gérard Israël, Raoul Girardet, Alain Peyrefitte, Philippe Rossillon, L’Arche, n° 61, février 1962, pp. 24-33, 61, 63, p. 63.
[23] Maariv (en hébreu), Tel-aviv, Israël, 31 août 1962.
[24] Baillet, P. (1976). Les Rapatriés d’Algérie en France, notes et études documentaires. Paris. la documentation française, 29 mars, (4275-4276), 80 p., p. 46.
[25] Haïk, G. L’intégration des Rapatriés Juifs en France. Information juive, Paris : septembre 1963, (139), 1-2.
[26] Voir Bensimon, Doris, Della Pergola, Sergio, La population juive en France: socio-démographie et identité, Jérusalem-Paris, The institute of contemporaryjewry, the Hebrewuniversity of Jerusalem, Centre National de la Recherche Scientifique, 1984, 436 p.
[27] Malaterre, Y. (1984). Existe-t-il une identité Pied-noire ? Diplôme d’Études approfondies, Paris VII, automne, 77 p.
[28] Bahloul, J. (1981). Le culte de la Table dressée : étude des pratiques alimentaires des Juifs d’origine algérienne vivant en France. Thèse de 3e cycle, Paris, École des Hautes études en sciences sociales, décembre, édité à Paris Par A.M. Métaillé, 1983, 304 p., p. 19.
[29] Artigau-Hureau, J. (1987). Du cheval de la place au cheval fondu : travaux d’approche pour une étude de la mémoire collective des Français d’Algérie. Diplôme d’Études Approfondies, Institut d’Études politiques de Paris, cycle supérieur d’histoire du XXe siècle, Paris, 276 p. Jean Noli, « Vingt-cinq ans après. La réussite des pieds-noirs », Le Point, Paris, 16 mars 1987, (756), p. 110-115. André Pautard, « vingt-cinq ans après : la revanche des pieds-noirs », L’express, Paris, 19-25 juin 1987, (1876), p. 38-41.
[30] Abitbol, M. (1998). « La cinquième République et l’accueil des Juifs d’Afrique du Nord », dans Les Juifs de France de la Révolution française à nos jours, (sous la direction de Jean-Jacques Becker et Annette Wieviorka), Paris, Liana Levi, 445 p., pp. 287-327, pp. 321-326.
[31] Zytnicki, C. (1998). « L’accueil des Juifs d’Afrique du Nord par les institutions communautaires (1961-1965) », Archives Juives, (31/2), 2e semestre, pp. 95-109, p. 107.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم