المقدس و العنف في التجربة الصوفية : حالة شمال شرق الصحراء الجزائرية

المقدس و العنف في التجربة الصوفية : حالة شمال شرق الصحراء الجزائرية

الأسطورة و البعد الرمزي المعرفي :

ارتبطت الممارسة الصوفية منذ نشأتها، كممارسة فردية تأملية، مرورا بتحولها إلى نظرية فلسفية اتخذت الشكل الحركي المنظم، بالجدال و النقاش حول مفهوم التصوف و تأويله، كمصطلح مشتق من الصوف الذي يرتديه الممارسون حتى صار علامة مميزة لهم، أو من الصفة، و هي مكان خاص أقيم خلف المسجد النبوي بالمدينة لفقراء المسلمين الذين لا مأوى لهم و لا دار يقيمون فيه، أو إلى الصفي من الصفاء الروحي و النفسي لرجال التصوف[1]…الخ.

وفي المرحلة التي تبلورت فيها الممارسة الصوفية وتحولت إلى ممارسة جماعية منظمة انخطرت فيها جميع فئات المجتمع و هيمن عليها الطابع العملي التطبيقي للتصوف متخذة الشكل المؤسساتي؛ عبر الزوايا الطرقية، كمؤسسة دينية متفتحة على المجتمع، من خلال إمتداداتها الاجتماعية و الثقافية و التربوية و الاقتصادية و السياسية، امتد النقاش و الجدل إلى النسب الشريف الذي أصبح خاصية جميع الأولياء المسلمين مؤسسي الطرق الصوفية، فما هو تأويل رمز ارتداء الصوف، وما مدلوله الأسطوري، وما علاقته بأسطورة النسب الشريف ؟ و ارتباط هذين الرمزين بالقداسة التي أصبح يتمتع بها الأولياء ؟

1. الرمز و التجربة الينبوعية :

يـبدو أن التصوف الإسلامي هو المرحلة الأخيرة في نظام تعبدي أسطوري مغرق في القدم، يقوم على احتفالات و طقوس متعلقة بالتضحية التي يقدمها المتعبد، فدية أو إرضاء، أو أملا بالوفرة و البركة. بدأ بتقديم أضحية بشرية، ثم تطور فصار البديل عن ذلك غنما "جمل – كبش"، وفي مرحلة أخيرة صار البديل و ضع شيء من الصوف رمز ذلك الحيوان على الرأس أو لبسه على البدن…إلخ. بعبارة أخرى صار الصوف بديلا عن الجمل، الذي كان بدوره بديلا للبشر. فوضع الصوف على الإنسان أو لبسه، هو في ذلك المعتقد عملية نقل أو تمثل، أو أخذ أسطوري لصفات الغنم لما يمثله هذا الحيوان من فداء و تضحية، ورمز للـحياة الخالصة من الذنوب، كما نجد هنا عملية ربط سحري بين الإنسان و الشاة، و الغفران أو التطهر و طلب الخلود، و من هنا نقول صار صوفيا.

فالصوفي هو جمل الله، و الصوفية هم ظأن الله و ملكه و الأضاحي المهداة له، إنه قربان بجسمه بذاته نفسها تقربا لله، أو عبر خدمة بيته و حراسة معبده؛ حيث عوضت الضحية البشرية في هذا النسق التعبدي بالحيوان "الغنم" ثم تحولت الضحية البشرية إلى نذر الله منقطعة إليه بتكريس العمر كله لخدمة معبده و زواره، فهو مرتبط بالحياة الميثولوجية و لا ينعزل عن التضحية بأشكالها المتعددة.

و في ضوء هذا النسق التعبدي الأسطوري، يمكن أن تفهم التقاليد التضحوية السامية جاهلية كانت أم إسلامية، فالتصوف كتضحية يستدعي توضيحه و ربطه بينابيعه التي هي في التحليل النهائي، المستمرة لما سبق وقام به ابراهيم عليه السلام" فديه لابنه البكر إسماعيل" في موسم الحج، و التي نجدها تتكرر في التضحية الجاهلية و الإسلامية عند الكعبة. فإذا كان المسلمون يكرورن في شعائر الحج التي رسمها لهم إبراهيم، الذي بنى الكعبة، و فدى ابنه بذبح. فان الصوفي في قفزة روحية يتسامى فوق المألوف، ليتناول عملية الفداء نفسها، فهو يقفز إلى ذلـك الزمن السحري و يندمج فيه، ليكون ذلك الفدي و ذلك الذبح، أي الكبش الذي لم يولد من رحم، و الذي رعي أربعين عاما في الجنة، إنه أساسا كبش هابيل الذي قبله الله وأصعده إلى السماء، فهو يتماهى في الكبش و من ثم يقدم ذاته ضحية كي يعيش الإنسان، تحدوه الرغبة في أن يكون كبش هابيل الذي يتقبله الله و يرفعه إليه، يرجع الصوفي أسطوريا إلى ذلك الزمان و الحال اللذين سبقا الحال و الزمان المعروفين.

فإنتساب الصوفي لإبراهيم، يتم عبر علاقة معنوية قوامها التضحية إلى أقصى حدودها بتقديم القرابين و منها الذات نفسها، ولعلى ارتباط الفتوة بإبراهيم دليل إضافي آخر، فالفتوة سلوك يقوم على إنكار الذات على كل مبدإ آخر، ذلك لأن تحقيق الذات يستدعي التضحية بالذات نفسها، فإبراهيم رمز التضحية قدم ابنه ليضحي به كما سبق أن أسلم نفسه للنيران و ماله للضيفان و قلبه للرحمان، ولذلك اتخذه الله خليلا، فهو تجربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري.فالصوفي الذي يكرر أعمال إبراهيم، ويتصل به و يهاجر مثله يسعى لأن يكون خليل الله، يوغل في ذلك بـجعل نفسه تلك الضحية ذاتها، فيتماهى بالكبش الذي قدم فداء لإسماعيل "في حـالة الأذى و الهلاك" أو بإسماعيل نفسه المتقدم طوعا للذبح قربانا لله و تحقيقا لنذر يقوم على التضحية بالإنسان "في النجاة". و بتقديم ذاته دبيحة يرى الصوفي أنه يخلد، و يصبح حالتئذ فـدية و ضحية و قداسة. وهكذا يكون عبارة عن الكبش الذي لولاه لما كان العرب و لكانت الكعبة و لكان الإسلام فالتصوف ممارسة رمزية لإنبجاس أول بئر ماء و لإقامة أول بيت، و لبناء أول مجتمع في مكة. فهو عبارة عن عملية خلق سحرية خارج الواقع و التاريخ للحياة نفسها؛ الحياة المباركة حول ماء مقدس "زمزم" و بيت مقدس" الكعبة" و مدينة مباركة " مكة. فالصوفي يتماهى في الإثنين جده إسماعيل و الكبش و يزيل ما بينه و بين طوطمه كل فرق و كل بعد، و بذلك فهو يعيد خلق الإسلام الذي بدأ مع إبراهيم، و يضحي بذاته لإعادة خلق الكون و المجتمع و الإنسان و البيت الحرام و الدين، و بذلك فهو اعتباريا شخص ضروري،لاستمرار الحياة و الدين ولبقاء الطقوس و تأكيدها و إظهار حقيقتها و حصولها التاريخي و الفعلي[2].

2. المعرفة و التجربة الروحية :

موضوع المعرفة في النظرية الصوفية هو الله، ومدارها صفاته و أسماؤه، لاستحالة معرفة ذاته. و منبع هذه الرؤية أن الوجود في نظرية المعرفة الصوفية هو الله و حده، أما الكون و الـمخلوقات بما فيها الإنسان الذي هو أرقاها، فما هي إلا تجليات لصفاته و أسمائه. و قد أدى هذا التصور للوجود، إلى هدم الأساس النظري لفكرة التوحيد المستمدة من الشريعة، و القـاضية بالفصل المطلق بين الله و الكون بما فيه الإنسان إلى الجمع بينهما، وهذا في الواقع رفـض للشريعة كواسطة بين الخالق و الإنسان؛ حيث يصبح مصدر المعرفة الله يستمدها منه العبد مباشرة عبر مقامات و أحوال يمر بها للوصول إلى تحقيق ذلك[3]. لقد نتج عن هذا التصور للوجود و المعرفة، عدم الاعتراف بالتأويل الرسمي للنص الديني "القرآن" و معناه رفض معرفي للأساس الأيديولوجي للسلطة باعتبارها المحتكر الوحيد له حسب النص الديـني، و المقرر بأن التأويل و معرفة أسرار القرآن هو الله و الرسول و أُولُو الأمر، بالاعتماد على نص ديني آخر من القرآن نفسه، يحصر التأويل في الله و الرسول و الراسخين في الـعلم، أي رفض النص الذي يمنح حق التأويل لأولي الأمر "السلطة" و يمنعهم منه باعتبارهم ليسوا أولي الأمر. و تبنوا النص الذي يفتح لهم باب ممارسته، باعتبار أنهم من الراسخين في الـعلم، العـارفين بأسرار القرآن. فأولياء الله المؤيدون بكرماته التي يظهرها الله على أيديهم تثبيتا لهم، و دليلا على بلوغهم درجة رفيعة في اكتساب المعرفة، و تدعيما لهم في مواجهة مناوئيهم من الشيعة "الخصم الآخر لهم بعد السلطة و حلفائها من الفقهاء و غيرهم" الذين يحصرون الولاية في آل البيت و بالتالي حصر حق ممارسة التأويل فيهم.

و انطلاقا من النصوص القرآنية التي تعالج مسألة ممارسة حق التأويل التي فتحت لهم باب و لوجه "كما بيّنا سلفا" توسعوا فيه ليشمل السنة "الحديث" و توصلوا في فهمهم للنصوص الدينية إلى أن لها معنيان ظاهري وباطني، و منهما أخذوا بالباطن الموجه للخاصة "النخبة" من أولياء الله العارفين و من مستواهم من العلماء الأتقياء، ورفضوا الظاهر الموجه للعامة "الجمهور"، ثم توغلوا في تأويل النصوص القرآن و السنة، للقضاء على أي امتياز ينفرد به غيرهم. عنهم، و خاصة الانتساب إلى آل البيت، أي الرسول برفضه و عدم الاعتراف به في البـداية، حيث كان الحلاج يقول دائما ردا على المنتسبين إليه "ما كان محمد أبا لأحد منكم" في سخط على هذا الامتياز الذي يحضون به[4]. ثم تأولوا معنى "البيت" الوارد في الحديث النبوي الشريف، الذي ينسب سلمان الفارسي إلى آل بيت "سلمان منا آل البيت "بـأن المقصود به هو بيت" الله بتوسيع معناه، ليشمل و يستوعب حتى من هو من غير العرب، ليتناسب و يتطابق مع النص الآخر، الذي ينسب فيه الرسول إليه الاتقياء حتى و لو كـانوا من الأحباش و يتبرأ من الأشقياء ولو كانوا من قريش " أنا جد كل تقي و لو كان عبدا حبشيا، وبريء من كل شقي ولو كان قريشيا"، و هو مافتح باب الانتساب إلى آل البيت الذي أصبح ظاهرة بارزة تستطيع أي جماعة أن تلجه بالانتماء، فيما صار يعرف ذلك بالنسب الشريف الذي هو سمة كل الأولياء[5].

و الخلاصة إذا كان الولي الصوفي قد انتسب إلى إبراهيم عبر عملية الفدي لابنه إسماعيل رمزيا بارتداء الصوف أو وضع جزءا منه على جسمه دلالة على الكبش الذي فدي به باعتباره تـجـربة ينبوعية و نمط أولي للطقس الصوفي التضحوي النذري. فإن التجربة المعرفية الروحية قد عمقت هذا الانتساب من خلال ربطه بالنبي صلى الله عليه وسلم حفيد إسماعيل دمـويا و روحيا. مما أهله لتلقي المعرفة من الله مباشرة، باعتباره وريث الوحي لانتسابه الدمـوي لشجرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، و معرفيا لوراثة الأنبياء لأن العلماء هم ورثة الأنـبياء، فقد ورد في الحديث " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" و في الأثر "العلماء ورثة الأنـبياء". و هذه الميزات أو الصفات هي التي مكنت الولي الصوفي من محاكات و تقليد الأنبياء، واستلهام سيرهم و تجاربهم التي فتحت الباب أمامهم لاكتساب القداسة، وبالتالي التسرب و التغلغل في بنى التركيبة الاجتماعية القبلية في المغرب العربي، فجل قبائل المنطقة تنسب لولي صالح يتصل نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكلها وصل أجدادها المؤسسون إلى منطقة إقامتهم الحالية قادما من المشرق مرورا بالساقية الحمراء. و هذا ما سنجد له أثرا في المعطيات الشفهية التي زودنا بها الميدان، و هو الأمر الذي سيظهر جليا في صيرورة القداسة و المقدس.

II .صيرورة المقدس و القداسة

المقدس محوره الإنسان، و مصدره الدين، خاصة في الديانات التوحيدية، فالإنسان يستلهمه من الدين و يقوم بتفعيله ليشمل بإشعاعه الفضاء بمختلف مكوناته. و في التجربة الإسلامية التي تعتبر صورة الله في الأرض فإن قداسة الإنسان تأتي في المقدمة، قبل أي شكل آخر من القداسة مـهما كانت درجتها، باعتبار أن هذه الأشكال من القداسة تم اكتسابها في الغالب من الإنسان و بواسطته.

فالقداسة مرتبطة بذات الإنسان بالدرجة الأولى و لهذا تأتي حرمته و عدم التسامح في انتهاكها في المقام الأول قبل حرمة الأماكن المقدسة نفسها، و في مقدمتها الكعبة بيت الله الأول، فهـدم الكعبة أهون من سفك الدماء ظلما بغير حق رغم ما لهذا المكان من قداسة تضعه في المرتبة الأولى من ثلاثة أماكن مقدسة في الديانة الإسلامية على الإطلاق و هي : البيت الحرام- الكعبة، المسجد الأقصى - بيت المقدس، المسجد النبوي.

لكن في المجال العملي نسجل بعض الاختلاف في منبع القداسة و سيرورتها التاريخية و في كل الأحوال فهي كامنة في ذات الإنسان، إلا أن تفعيلها قد يكون عبر الاكتساب بالوراثة أو بمجهود ذاتي إرادي كما يلي :

1.أشكال المقدس

  • المقدس في اللغة هو المطهر و المنـزه و المبارك، و من هذه المعاني فإن القداسة تكتسب بالوراثة، و هي بهذا الشكل تصبح غير ذاتية و لا تخضع لإرادة الإنسان بل هي قوة خارجة عنه و عن إرادته، و هو ما ينطبق على آل البيت المطهرين بصريح النص الديني الذي يؤكد ذلك و يثبته، فالقداسة بهذا المعنى و هذا الشكل مبنية على رابطة الدم و النسب العائلي، فالبركة النبوية تسري في عروق آل البيت بدون جهد ذاتي إرادي، و تمتد لتشمل الفضاء الاجتماعي و حتى الكون.
  • المقدس كفعل إرادي ذاتي يكتسبه الإنسان بمجهوده الخاص و هي طريق الأولياء في الاكتساب، الذين يمكنهم بفضل المجاهدة عبر الرياضة الدينية بعد المرور بالمقامات و الأحوال من الوصول إلى الحقيقة التي هي المعبر الموصل للقداسة، و ترتكز في ذلك على تفعيل البعد اللاهوتي في الإنسان ليطغى على البعد الناسوتي فيه، و هو ما قال به بعض المتصوفة في تأويل معنى (خلق الإنسان على صورته) كالحلاج و ابن عربي.

2. مجالات المقدس و فضاءاته :

انطلاقا من اعتبار القداسة نقطة الارتكاز في المؤسسة الطرقية، و لكون المعطيات التاريخية لا تشير إلى وجود المؤسسة الطرقية بمنطقة شمال شرق الصحراء الزاب، واد ريغ، ووادي سوف بل كل ما تشير إليه هو وجود بعض الممارسات الصوفية الفردية غير المنظمة في أي شكل محلي و إن كان بعض الممارسين ينتسبون إلى بعض الطرق التي كانت منتشرة خارج الـمنطقة في بداية العصر الحديث منذ القرن الخامس عشر، إلا أنه ابتداء من تلك الفترة حدث تطور هام باندماج المقدس الموروث بالمقدس المكتسب عبر اتحاد ابن الصلب مع ابن القلب أو بالتحام الطيني بالديني، مما أعطى دفعا قويا للمقدس و فعالية اجتماعية، بتحول المقدس من الفرد كميزة شخصية إلى المؤسسة كالولي المؤسس للقبيلة أو القطب مؤسس الـطريقة الصوفية، مما نتج عنه ارتباط المقدس بالظاهرة العمرانية بدوية كانت أم ريفية حضرية عبر التأسيس أو إعادة التأسيس أو المباركة لضمان الحماية و الاستمرارية.

لقد أدى هذا التحول إلى تركيز مجال فعالية المقدس داخل التشكيلات و البنى الاجتماعية للقبائل - بدوية كانت أم ريفية - حضرية، عبر الدور الفعاّل الذي لعبه في تأسيس القبائل البدوية المعروفة بالمنطقة، مثل سيدي أمحمد السايح الجد المؤسس لقبيلة أولاد السايح، و سيدي نائل الجد المؤسس لقبيلة أولاد نائل، عبر فرعها بالمنطقة عرش أولاد زكرى… إلخ.

أما في ما يتعلق بالعمران الحضري، فقد كانت للمقدس الدور المحوري في عملية التأسيس كما هو الشأن مع الولي سيدي أمطير مؤسس بلدة أولاد جلال القديمة التي كانت موقعها على الضفة الجنوبية لوادي جدي بجوار زاويته التي تضم الآن ضريحه و المقبرة المحيطة به. أو عملية إعادة التأسيس التي قام بها تلميذه سيدي أحمد بن سالم و التي بدأت ببناء دار الضيوف في الضفة الشمالية المقابلة، بناء على طلب من سيدي امطير و برغبة من الولي سيدي عيسى بن أمحمد، بعد أن منعه فيضان الوادي من العبور إليه لدى زيارته له، و انتهت بخراب الأولى، و عمران الثانية التي أصبحت نواة البلدة الحالية.

و أخيرا عبر ضمان الحماية و الاستمرارية بإضفاء البركة على العمران، كما هو الشأن مع مؤسسة مدينة توقرت الأميرة الأرملة تيقرت بعد نفيها من طرف أهالي غمّرة رعايا زوجها سلطان غمرة بعد وفاته، و طردها من طرف سكان بلدة الشمّاس الواقعة إلى الجنوب بجوار توقرت الحالية، بالدعاء لها بالخير و البركة من الوالي سيدي بوجملين والي المسيلة بالحضنة، نتيجة إساءة سكان الشمّاس معاملته عندما أتى لأخذ القفارة منهم، و الكرم و الحفاوة التي حظي بهما من طرف الأميرة. ثم الدور الذي قام به سيدي أمحمد بن يحي سلطان وادي ريغ الذي تولى الحكم لفترة انتقالية، في تأمين انتقال السلطة من الأميرة تيقرت التي لم تخلف من يرثها في الحكم بعد وفاتها، إلى الشيخ سليمان بن جلاب الذي أسس حكم أسرة بني جلاب بالمنطقة بعقد اتفاق بينه و بين السكان يتنازل بموجبه الشيخ بن جلاب عن الديون التي كانت له ذمّتهم مقابل اعترافهم بسلطته عليهم.

3. علاقة المقدس بالمجال :

لقد اختلفت هذا العلاقة و تنوعت بين المجتمعين البدوي و الريفي - الحضري في منطقي الزاب ووادي ريغ، و تشابهت في المجتمعين حسب الروايات المتداولة من :

  • العنف المادي الصريح، كما هو الحال لدى فروع عرش أولاد زكري أحد الفروع الرئيسية لعرش أولاد نائل، جنوب الأطلس الصحراوي، غرب ولاية بسكرة، باِستعمال قوة السلاح للسيطرة على المنطقة الممتدة من وادي جدي شمالا حتى وادي ريغ جنوبا، و امتلاكها بعد طرد ملاكها السابقين من عرش السلمية و رحمان جنوبا إلى حدود وادي ريغ الشمالية. فالمقدس هنا إضافة إلى مكانته في البنية الاجتماعية امتد تأثيره و توسع ليشمل الفضاء المادي.
  • العنف الرمزي : في منطقة وادي ريغ من خلال الصراع بين سيدي ناجي و سيدي أمحمد السايح حول المجال الحيوي، و انتهى بطرد سيدي ناجي من المنطقة إلى السفوح الجنوبية لجبال الأوراس بمنطقة الخنقة، التي صار يطلق عليها خنقة سيدي ناجي، حيث استوطن أولاد السايح منطقة وادي ريغ منذ تلك الحادثة التي وقعت بين الشيخين، و التي ترتكز حسب الرواية المتداولة على البعد الكرامي الذي يخفي العنف المادي، و ينتهي لصاحب الكرامة الأقوى، على حساب الكرامة الأقل قوة، و تفصح في النهاية عن مكانة الوليين في القوة مادية كانت أم روحية على أنه يجب تسجيل ملاحظة هامة تتمثل في أن الصراع في النموذج الأول الخاص بالعنف المادي بين أولاد زكري و السلمية رحمان كان بين قبائل بدوية، في حين أن الصراع في النموذج الثاني الخاص بالعنف الرمزي كان بين ريفيّي سيدي ناجي و بدو سيدي أمحمد السايح، و هو ما يوحي بان الصراع في النموذج الأول كان بين مجموعات بشرية في حين كان بين شخصيتين في النموذج الثاني.
  • السلم و هو ميزة مؤسسي العمران الريفي و الحضري، بل هم ضحايا العنف كما هو الحال مع الأميرة تيقرت المنفية أو الوالي سيدي أمحمد بن يحي الذي توصل إلى حل سلمي لمعضلة الديون بين سكان توقرت و الشيخ سليمان بن جلاب، و هي نفس الوضعية بالنسبة لمؤسس بلدة أولاد جـلال القديمة حول زاوية سيدي أمطير على الضفة الجنوبية لوادي جدي، الذي حاول في الـبداية الإقامة في بلدة سيدي خالد، و لكنه رفض من طرف السكان، و منع من الإقامة معهم، فعاد بعد طرده إلى الإقامة بجوار زاوية سيدي أمطير التي صارت نواة للبلدة. أما التحاق السكان للإقامة بالبلدة فقد كان يغلب عليه الطابع السلمي، حـيث يتم قدوم بعضهم بصفة لاجئين فارين من بطش أعدائهم، أو كنجدة بطلب من السكان الأصليين لمواجهة أعداء متربصين بهم، و أخيرا كمساعدين بصفتهم حرفيين، أو ناشري علم و معرفة… إلخ.

هذا في ما يخص المجال في بعده الحيوي، أما في بعده الإنساني البشري، فهو يتمايز من :

  • الاختلاف حول المؤسسين ذوي الأصول الدموية، حيث تصبح المعطيات نادرة حتى تكاد تكون منعدمة في المجتمع الريفي القروي، مثل عدم توفر معطيات كافية حول شخصية الـهامل الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد الهامل بأولاد جلال، مقابل وجود كمية نوعية من الـمعطيات حول زكري الجد المفترض كمؤسس لعرش أولاد زكري أحد فروع عرش أولاد نائل متمحورة حول شجرة النسب التي يحتفظون بها، امتدادا من الجيل الحالي مرورا بسيدي نائل، و إدريس الأكبر و انتـهاء بالرسول صلى الله عليه و سلم، عبر حفيده الحسين بن علي و فاطمة.
  • الانسجام و التشابه إلى حد التطابق في الجانب الروحي، حيث يتوفر النموذجان على معطيات نوعية حول هؤلاء المؤسسين متمحورة حول سيرهم، بما تحتوي من مناقب و كرامات منسوبة لهم، تبرز دورهم في تشكيل المجموعات البشرية في العمران بنوعيه البدوي و الحضري، كما هو الحال مع سيدي الحبشي الجد المؤسس لفرع الملالطية من عرش أولاد الهامل، و سيدي علي بن حركات الجد المؤسس لعشيرة أولاد قرين فرع أولاد حركات المتفرعة من عرش أولاد زكري.

إن هذا الاختلاف في الاستحواذ على المجال الحيوي و مكانته في بعده الإنساني البشري يؤدي بنا إلى نتيجة هامة جديرة بالتسجيل و هي : رغم أهمية المجال الحيوي في المجتمعين البدوي و الريفي الحضري كمعلم يحدد هويتهما، فإن القبائل البدوية تؤكد كذلك إضافة على هويتها من خلال شجرة النسب التي تحافظ عليها كصك يبرر وجودها و هذا قد يعود لعدم استقرارها و تنقلها الدائم الذي يفرضه نشاطها الاقتصادي المتمثل في حرفة الرعي، رغم امتلاكها لمجال حيوي محدد و معترف به. في حين أن القبائل الريفية لا تعطي أهمية كبيرة لشجرة النسب لاستقرارها في مجالها الحيوي، و هو وضع يلائم نشاطها الاقتصادي المرتكز أساسا على الفلاحة و الحرف[6].

أما في العصر الحديث فإن الصراعات الناتـجة عن التحولات الاجتماعية، أو بسبب محاولات السلطة المركزية ممثلة في بايليك الشرق بسط نفوذها و التحكم مباشرة في المنطقة منذ منتصف القرن 18، بنزع منصب شيخ العرب من أسرة بوعكاز الدواودة الذين كانوا يتوارثون هذا المنصب منذ العهد الحفصي، و تم إقراره في العهد العثماني عبر زرع عائلة غريبة عن المنطقة، من خلال تنصيب الشيخ الحاج بن قانة في منصب شيخ العرب، و محاولة توسيع نفوذ هذه الأسرة بنزع مشيخة توقرت من أسرة بني جلاب، الذين كانوا يتوارثون الحكم فيها منذ القرن 15 و تنصيب أحد أفراد أسرة بن قانة فيه. لقد أدت الصراعات الناتجة عن هذه السياسة إلى تحطم البنى الاجتماعية القديمة ذات النمط الإدماجي الهلالي و كل أشكال السلطة المحلية بالمنطقة في الثلث الأول من القرن 19[7] مما أدى بالنتيجة إلى توسيع مجال و مكانة المقدس ؛ حيث تجاوز مرحلة تأسيس القبيلة أو القرية، إلى تأسيس ما يشبه الفدرالية القبلية التي تضم مجموعات مختلفة من القبائل البدوية و الريفية الحضرية، و تشمل مناطق شاسعة من بوادي و أرياف و حضر في شكل طرق صوفية، و هو الوضع الذي يبدو أنه أثر على الأمير عبد القادر في اختيار خليفته بالمنطقة ؛ حيث عين في هذا المنصب الشيخ لحسن بن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية بها، رغم محاولات شيخ العرب بالمنطقة الشيخ فرحات بن اسعيد في الحصول على هذا المنصب مع الأمير، حيث أصبح للصراع مع أو بين الأولياء مؤسسي الطرق الصوفية أو فروعها بمنطقة شمال شرق الصحراء حضورا قويا.

ففي منطقة الزاب كان الصراع بين تلاميذ الشيخ سيدي محمد بن عزوز ناقل الطريقة الرحمانية إلى المنطقة و من بعده الشيخ سيدي علي بن عمر مؤسس فرعها بطولقة، ممثلا في كل من الشيخ المختار، و الشيخ علي الجروني، الذي انتهى بطرد الأول من بلدة سيدي خالد إلى أولاد جلال أين أسس الزاوية المختارية، أو طرده من أفراد عشيرته حسب رواية أخرى، و هو الصراع الذي تحول إلى صراع بين البلدتين.

أما في منطقة وادي ريغ فتمثل في الصراع بين الشيخ بن جلاب سلطان توقرت و سيدي الحاج علي التماسيني مؤسس الزاوية التجانية بتماسين بسبب تدخل سيدي الحاج علي في الصراع بين فرع أسرة بن جلاب الحكام في تماسين مع سلطان توقرت و انغماس قبائل المنطقة في الصراع، و بالأخص قبائل منطقة وادي سوف كأحلاف للمحورين المتصارعين[8].

إن هـذا المآل للمقدس بإنغماسه في ممارسة العنف يعطي لنا فكرة عن التغيرات التي عرفتها المنطقة حيث خضعت لنموذج الإدماج المرابطي الذي كان سائدا في غرب المغرب العربي منهيا بذلك نموذج الإدماج الهلالي الذي كان سائدا في شرقه[9]. و يفسر بصورة دقيقة و واضحة ارتباط العنف بالمقدس ؛ فتماسس المقدس أي تحوله إلى مؤسسة يؤدي إلى تحرك آلية العنف و يفتح المجال لممارسته، لأن الرهان عندئذ يصبح السيطرة على الفضاء.



الهوامش

[1]- لمزيد من التفاصيل يجب الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية للتصوف. كحلية الأولياء: لأبي نعيم الأصفهغاني؛ الرسالة القشيرية: لأبي القاسم القشيري ؛ كشف المحجوب: لأبي عثمان الـهجويري ؛ الإحياء: لأبي حامد الغزالي ؛ عوارف المعارف: اعمر السهروردي ؛ المقدمة: لإبن خلدون ؛ دائرة المعارف الإسلامية: الجزء الخامس: مادة تصوف ؛ تراث الإسلام تأليف شاخت، بوزورث، ترجمة حسين مِنس عالم المعرفة، الطبعة الثانية، الجزء الثاني، الكويت، 1988.- ص.ص 87 – 104… إلخ.

[2]- زيعور، علي.- العقلية الصوفية و نفسانية التصوف.- بيروت، دار الطلعية، الطبعة الأولى، 1979.- ص.ص. 12،13،27،28،29 ؛ الربيع، تركي علي.- العنف و المقدس في الميثولوجيا الإسلامية.- بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994.- ص.ص. 113 – 118.

[3]- لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى المصادر الكلاسيكية حول التصوف السـابـقـة الذكر في الهامش رقم "1".

[4]- يبدو أن هذا الرفض ذو خلفية سياسية، لعلاقته بممارسة السلطة التي كانت حكرا على بني هاشم، و بالتحديد آل البيت كامتياز خاص بهم؛ و هو ما يظهر بوضوح في ثورات ذلك العصر التي كانت في أغلبها بقيادتهم.

[5]- مروة، حسين.- النـزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية دار الفرابي الطبعة الخامسة بيروت لبنان 1985 الجزؤ الثاني ص ص 193 – 226.

[6]- الهراس، المختار.- التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية : حـصيلـة نـقدية - نحو علم اجتماع عربي : علم الاجتماع و المشكلات العربية الراهنة .- بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1986.- ص.ص. 273-275.

[7]- معاشي، جميلة.- الأسر المحلية الحاكمة في بايليك الشرق.- قسنطينة، رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة 1987.- ص.ص. 19-76 ؛ 271-289.

[8]- معاشي، جميلة.- الأسر المحلية.- مرجع سابق.- ص.ص. 305-313.

[9]- و هذا ينفي ما ذهب إليه عبد الله العروي حول هذا الموضوع.- لمزيد من التفاصيل أنظر :

Laraoui, A..- Histoire du Maghreb.- Tome 2, France, Maspero.- p.p. 18, 19, 21, 27.

Text

PDF

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال