نظرية الحركات الاجتماعية. هياكل، أفعال و تنظيمات : تحليل الاحتجاج الإستشرافي

نظرية الحركات الاجتماعية. هياكل، أفعال و تنظيمات : تحليل الاحتجاج الإستشرافي

لا يعني اقتراح أخذ " الحركات الاجتماعية " صنفا تحليليا الإحاطة بالموضوع في كل بساطة. فإذا كانت غاية مَفْهمات الظواهرِ الاحتجاجيةِ المختلفة التي تُقتَرح علينا عرضَ حال للظاهرة الواحدة إلا أنها تستعمل مفاهيم مختلفة. سوف نحاول في هذا المقال أن نجلي تفسيرات للعمليات الاحتجاجية في ما تقدمه من خصائص.

تقارب آخر النظريات التي تم تقعيدها الحركات الجماعية انطلاقا من فكرة الجماهير. يشكل كتاب غوستاف لوبون سيكولوجيا الجماهير (نشر في 1895) أول دراسة سسيلوجية للظواهر الجماعية، و قد جاء بعد انتشار ما كتبه بعض رجال القانون في أوربا. إنه لا يتصور الجماهير بالضرورة جانية.بل بالأحرى، يصفها في هذا المؤلَّف بغير المتجانسة؛ يشكلها أفراد عاديون، ليس لمستوى تفاهمهم أية أهمية. يهدف هذا إلى تبيان أنْ لا دخلَ للذكاء و بالتالي لتفكير الأفراد المكونين للجماهير، بصفتهما خاصتين أساسيتين، في العمليات الجماعية، لتبقى الأهمية للعواطف اللاواعية. يشكل هكذا اقتناع خطيب و المغالاة في بعض العواطف الخصائص المميزة للطابع البدائي للاقتراحات التي تصل الأفراد الذين سيشكلون جمهورا. يقول لنا غوستاف لوبون في هذا المعنى : "يتوقف كل شيء على طبيعة الحافز، و لا يتوقف، كما هو الحال عند الفرد المنعزل، على العلاقات الموجودة بين الفعل الموحى و كمية التفكير التي يمكن بها مواجهة تحقيقه".

ستصبح دراسة الجماهير مدمجة في دراسة "السلوك الجمعي". و سينشر هربير بلومر تحليلا يرجع إلى اقتراحات في مجالات الدراسة المستقبلية أكثر مما يرجع إلى تفسير ظروف تكوين و بزوغ و تطور هذه الظواهر ذاتها. يبقى أن علينا النظر إلى الأهمية الأساسية لهذه الأشغال بصفتها علامة لأول تحليل للحركات الجماعية يدمج العامل التنظيمي في تفسيراته. يمكننا إذن الاستخلاص، في هذه المرحلة لتطور السسيلوجيا، أن الأشغال حول "السلوك الجمعي" تتوصل إلى تشخيص مسألة أكثر منه إلى اقتراح تفسير حقيقي لهذه الظواهر.

من هذا المنظور، ستشكل دراسات أخرى، نشرت في الستينات، مرحلة جديدة. إذا نظر بعض الكتاب إلى تفسير الحركات الجمعية بالخصائص التي يرونها للبنية الاجتماعية على أنها تمس العمل الجمعي، إلا أن كتابا آخرين يتطرقون مباشرة إلى مسألة تفسير الثورات أو الانتفاضات بتركيز تحليلاتهم حول فكرة "الكبت النسبي". تفسر تحليلات الحركات الظاهرة الجمعية بالكبت الذي يشعر به الفاعلون. نظرية الثورات التي يقترحها جيمس ديفس مثال على ذلك. يسطر تد غور أهمية الفارق بين ما يأمل الفاعلون في الحصول عليه وما يحصلون عليه فعلا. مهما كانت الأشكال الملاحظة بين تطور الرغبات و مستوى التلبية، فإن الكبت قد يؤدي إلى العنف. تسجل السبعينات انتشارا قويا لتحليل الحركات الجمعية. و سيبرز، خلالها، نوعان كبيران من البحوث، كما سيتقايسان نظرا للكمية و تنوع الأشغال التي انجرت عنهما: مقاربة الحركات الاجتماعية الجديدة و مستقبل تعبئة الموارد.

تقودنا دراسة مستقبل "الحركات الاجتماعية الجديدة" إلى النظر بإمعان إلى أشغال ألان توران، مصدرِ انتشار لفظة " حركات اجتماعية جديدة " كما تقودنا إلى إمعان النظر في أشغال ألبرتو ميلوكشي. يرتبط بروز " حركات اجتماعية جديدة " – حسب هذين الكاتبين بتغييرات عميقة يمكن ملاحظتها في المجتمع. بينما كانت " الحركات الاجتماعية" تراقب الموارد المنتجة في المجتمعات الصناعية، فإنها تراقب، في المجتمعات "المتقدمة" أو "البعصناعية"، دائرة الخدمات و الاستهلاك و الروابط الاجتماعية (1). تبعا لهذه التغيرات التي تمس البنية الاجتماعية، فإن "الحركات الاجتماعية الجديدة" التي تظهر، لم تعد تناضل من أجل استرجاع الهيكل المادي للإنتاج كما قد تفعله "الحركة القديمة" نعنـي "الحركة العمالية"، بل تناضل من أجل إعادة امتلاك الزمن و الفضاء و الروابط ضمن الوجود اليومي الفردي"(2). تتسبب الأفعال الضرورية من أجل مراقبة النزاعات الهيكلية التي لا بد منها من أجل توازن المجتمع، في تناقضات مع عناصر أخرى من النظام عندما تصبح التغـيرات الناجمة معاكسة لها (3). إذا اعتبرت "الحركات الاجتماعية" "تعبيرا على نزاع طبقي في مجتمع سياسي ملموس و/ أو في تنظيم اجتماعي"(4)، إلا أن الكاتبين لا يلجآن من أجل هذا إلى تصور حتمي. يعارض ألان توران، في كتابه la voix et le regard (5) حيث يبسط إطارا مفهوماتيا لتحليل "الحركات الاجتماعية"، يعارض بالضبط الماركسية التي تضم تصورا لـ"الحركات الاجتماعية بصفتها مظهرا للتناقضات الموضوعية لنظام هيمنة و يعرفها بالأحرى سلوكاتٍ تصادمية اجتماعيا موجَّهة ثقافيا.

تعتبر "تعبئة الموارد" – و هي تقوم على التعبئة الاحتجاجية - إحدى أكبر المقاربات التي انتشرت في السبعينات. تكمن الفائدة الكبرى للدراسات التي أنتجت تحت هذه الزاوية، في التشديد على مكانة و ثقل التنظيمات لدى التعبئة الاحتجاجية. و يمكننا عموما عرض مسائل التخصص و التمهين، انطلاقا من التفرقة التي تقيمها. تتيح هذه العمليات للأفواج المعبئة اللجوء إلى تقسيم أفضل للمهام، إلى تنظيم داخلي أنجع، إلى التمتع بتجهيز تقني أفضل. يساهم أخذ المفاهيم التي تعتبرها هذه المقاربة ضرورية لدراسة الاحتجاجات، بعين الاعتبار، في إبراز الخاصية التي تكون، بمقتضاها، عمليات التنشيط المنجزة من طرف التنظيمات ضمن دورها التعبوي للموارد، ملازمةً لكلّ احتجاج.

ستأخذ تفسيرات أخرى الاستراتيجيات التي يوظفها الفاعلون في الحسبان، و هذا استنادا إلى تحليل التهيكل الاجتماعي. تؤكد هنا مقاربة "بنية الفرص السياسية" political Opportunities Structure أن البنيات السياسية تستطيع إما المساهمة في تطوير التعبئة ، إما الحدّ من انطلاقها. بالنسبة إلى هربرت كتشلت، فإن الإحتجاجات المناوئة للنووي التي يدرسها مشحونة يمطالب لم تدمج بعدُ من طرف الفاعلين المؤسساتيين. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عناصر كثيرة مكونة لهذا "الهيكل"(1). توفر الموارد مثل المال و الأخبار متغير هام، مثلما هي هامة القوانين المؤسساتية التي من شأنها تسهيل أو منع تأسس الجماعات الجديدة. بالطريقة نفسها، يمكن لنمط تعبوي سبقت تجربته، أن يكون له أثر جاذب لبروز أنماط جديدة من التعبئة. علينا اعتبار هيكلة "الفرص السياسية"، تبعا لاستراتيجيات الفاعلين الاحتجاجيين.

إلا أنه يبدو لنا أن أية نظرية حول الحركات الاجتماعية عاجزة بمفردها عن أن تغطي مجموع المسائل الخاصة بكل دراسة أمبريقية. تشكل المقاربات الجديدة التي يشتد عودها في الوقت الحاضر، المحاولات الأكثر جدية من حيث المسالك البحثية التي تفتحها و ليس من أجل النتائج التي توصلت إليها حتى اليوم. في هذا المعنى، نؤكد، خلاصة، أنه على تفسير النشاط العملي التصادمي أن ينطلق من اعتبار تشكيلات التنافس بين الجماعات، عوض الاعتقاد بقوة الأفكار حول الإلتزام الاحتجاجي للأفراد أو للهيكلة السياسية المفكر فيها بطريقة جامدة، على أنها " مفتوحة" أو " مغلقة". تسمح دراسة هذه التبادلات – حسب رأينا – بتفادي انزلاق إوالي ( (Mécanisteالذي تتضمنه فكرة فرض إطارات رمزية موجودة مسبقا على الجماعات الاحتجاجية. كما تُظهِر أن حسابات الفاعلين القائمة على قياس ما يمكن أن يكونه عمل الآخرين، عنصر مركزي للتفسير. إنها لا تتصور أشكال المنافسة على أنها ثابتة، لكنها تضع العمل التكتيكي للفاعلين في مركز التفسير. يبدو لنا إذن أنه يمكن تسيير معنى من طرف هذه التنظيمات على أنه عملية أساسية تسهم في تنظيم منافساتهم عينها. يبدو لنا مهما هنا أن ندرك أن الجماعات الاحتجاجية تعبئ ، منشغلةً بالظهور عموميا في مظهر الاحترام. يجلو شكل الظهور العمومي هذا في استعمال ربرتوار أعمال جماعية ، كما ترتكز على التأويلات التي يقوم بها الفاعلون. فإذا ارتكز العمل التفسيري للتعبئة الاحتجاجية على إبراز تنظيمات في شكل وكالات تعبئة و كذا على لعبة المنافسة و التبادلات بين الأفواج الاحتجاجية، إلا أن عليه كذلك – حسب رأينا –اعتبار الخاصية التي يشكل، بمقتضاها، تسيير المعنى عملية أساسية لتفسير التعبئة الاحتجاجية.

إلا أنه يبقى علينا بناء تحليل عميق يجمع بين البعد التاريخي و ثقل الحتميات الاجتماعية، و بين العمل التكتيكي المتواجد في كل محاولة تعبئة احتجاجية و ربما وسم هذا لسنين طويلة، استمرار البحوث حول الأطر النظرية لتحليل الحركات الاجتماعية.



نقله إلى العربية :

Text

PDF

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال