المقدس و السياسي حيثيات

المقدس و السياسي حيثيات

يتمفصل التاريخ القديم و الحديث للمؤسسات و الممارسات السياسية الأساسية في المجتمعات ذات التقليد الإبراهيمي، و حتى في المجتمع الهندي كذلك، حول نواة خلافية تضع الدين و السياسية وجها لوجه.

و على أية حال، يدل وجود هنا أو هناك بعض القوى الاجتماعية المطالبة بالعودة إلى الأصول أو إلى الصفاء الأولي، و أخرى في المقابل تنزع على الأقل لتحديد مكانة الدين داخل المجتمع، دلالة واضحة على أن مسألة التمييز بين النظامين مسجلة بشكل ضمني أو صريح ضمن الإنشغالات و في صلب ثقافة المجتمع.

و قد أثبت التاريخ السياسي للعالم الإسلامي ذاته بما فيه الكفاية، أي منذ وفاة الرسول (ص) أن هذه العلاقة تؤسس الذات-الكلية، كما توجه أشكال الحكم و الإدارة.

و يمكن الإستدلال على صحة ما نذهب إليه، بالإشارة إلى تجربة الخلفاء الراشدين الأربعة من خلال استلامهم للسلطة الدينية و السلطة السياسية معا، و كذا الخلط بين السلطتين في ممارسة الحكم و التي انتهت إلى اغتيال ثلاثة منهم (عمر، عثمان و على و هكذا طرحت مسألة صلاحية السياسي في الدين و كذلك الديني في السياسة، عبر كامل تاريخ المسلمين.

و قد برهن، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، على ذلك بقوة العلامة ابن خلدون على الأخص، حيث ذكر أن السلطة السياسية لا تكتسب من طرف سلالة معينة في المغرب العربي أو في الأندلس و لا تقام إلا على عصبية قوية و لا يعترف بها شرعا إلا على أساس عقائدي أو بموجب دعوة دينية تنادي بإصلاح أخلاق السلطة و المجتمع.

و هكذا ترافق الأزمات السياسية دائما أزمات ذات طابع ديني تطهيري : و سبب ذلك أن الأيديولوجية المطالبة بالعدالة الاجتماعية التي تتأسس جوهريا على القيم الدينية، بإمكانها حشد أقوى الحركات السياسية التي تتوصل إلى قلب العائلات الحاكمة و إلى إقامة الأنظمة الجديدة. إن هذا المنطق في حركيته الأكثر بساطة و المعبر عنه هنا، لم يتغير ؛ غير أنه لم يعد ممكنا، في أيامنا الحالية، التوصل إلى الانقلابات الكبرى كالتي عرفت في الأزمنة الماضية. و يعود ذلك إلى أن الحملات الاستعمارية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية من أندونيسيا إلى المغرب الأقصى مرورا بأفريقيا الساحلية في القرن التاسع عشر و في القرن العشرين قد طبعت بصفة عميقة، في ذات الوقت و مع مرور الزمن، هذه المجتمعات.

فتسيير الحكم، لم يعد ممكنا، سواء في ظل الأنظمة الملكية أو في ظل الجمهوريات اللائكية، دون بناء دولة أو مؤسسات تشتغل قليلا أو كثيرا بعيدا عن العلاقات لشخصية و تبعا لقوانين مصادق عليها من طرف هيئات تمثيلية وطنية.

و منذ تراجع الظاهرة الإستعمارية ، أصبح الولوج إلى الحداثة يمر عبر إعتماد الدستور كقانون مؤسس، و عبر مجالس مستقلة و بعيدة عن أي نوع من الوفاء للأفراد و الجماعات. على أية حال، فهو توجه قد برز منذ 1924 بتركيا و استمر العمل به إلى الآن في بلدان أخرى.

عندئذ تطرح مسألة صلاحية الديني في السياسي ضمن مصطلحي التمييز أو الفصل بين النظامين، و بعبارة أخرى، فإن صلاحية السياسي و إستقلاليته عن الديني أصبحا اليوم مذكورين بوضوح داخل السياسي بالذات و إنطلاقا منه، بشكل مرخص به قليلا أو كثيرا في كامل العالم الإسلامي. فالحركات التي تقلق البلدان الإسلامية، و التي تعتمد في عملها على المقدس، تلجأ إلى الديني مثلما يحدث في كل أزمة يتعرض لها السياسي. و لا يمكن إعتبار هذه الحركات أنها حاليا غير قابلة للإرتدار أو للإنتشار القوي، لأن مظهرها الذي أعطته وسائل الإعلام الحديثة مشهدية و تأثرا لدى الجماهير، يخفي طبيعتها الإرتكاسية.

فالحركات الدينية التي تكتسح السياسي حاليا، هي استجابات دفاعية لما يحدث من تطور عام للشمولية الاقتصادية و الثقافية، التي نتجت عن زوال الإتحاد السوفياتي و الإشتراكية المسماة بالإشتراكية الحقة، هذا من جهة، و هي من جهة أخرى، فعل جماهيرية لمجموعة كبيرة من الناس ضد التفقير العام، و ضد العنف السياسي و الظلم الذي يتعرضون له و لا يمكن في ظل هذه الظروف، إعداد مشروع سياسي مبنى على نظرية للدولة و للمجتمع، ذات آفاق مستقبلية. و حينئذ ندرك و بصفة جيدة لماذا تستند هذه الحركات على الجانب الكاريزماتي للشخصيات، ذات الوظائف المقدسة و يعكس غياب البرنامج السياسي لهذه الحركات طابعها التمردي المحض و رفضها للسياسي بصفته هذه، ذلك بالنسبة لأولئك الأكثر جذرية منهم على الأقل.

ويدرج تداخل النظامين أشكالا من التراتبية و كذا أشكالا من الخطاب الديني في حقل صياغة و تنفيذ القرار السياسي، حيث تطمس التوصية و الفتوة الدينية إستقلالية اللعبة السياسية كفن للممكن و للنسبي، و كذلك كإمكانية للتفاوض و للتسوية. و يعوض تسيير و تنظيم العنف المدني، بإستحالة النزاع الاجتماعي نفسه، لأنه لا يمكن أن تكون هناك معارضة في ظل الدولة الربانية) مادام قد تقرر تكفير الديمقراطية. و تعتبر الدولة الربانية إسقاط إرتدادي للحاضر في الماضي، بمعنى ما هو موجود فيما لم يعد موجودا، مادام الحاضر قد أعتبر ناقصا من ناحية العمق الأونطولوجي و الحضور الإلهي. و تعبر إيديولوجية العودة إلى الأصول عن رفض جذري لكل تغيير و نفي للتاريخ و لسيرورته، و تتجلى كذلك بتحريم كل إمكانية للتخمين، و للشك بالتالي لكل ما من شأنه أن يذكر بالتفكير، فإن تأكيد الذات الأزلية، تزدوج بفقدان دلالة الإختلاف كمقولة فكرية و كشكل للكائن الاجتماعي، و لكل كائن ممكن. و هكذا تنتهي هذه الأيديولوجية في الذوبان في عملية إصدار الفتاوي للإنهائية حول الحلال و الحرام، الطاهر و الناجس، إلخ…

و في نفس الوقت، يزيل الإستعمال المبالغ فيه للنشاط الإنساني الأنظمة الرمزية الحية. إذ تتحول الطقوس إلى قيمة في حد ذاته، هي غاية ذاتها. فالإحساسات الحركية تدجن الأجساد بتقديس أوضاعها في جميع المجالات. هذا بالإضافة إلى أن خارج الزمن يوطد السياسي في خارج المعنى، و النتيجة القصوى لهذا، هي تقييد الذات خارج المجتمع، أي مجتمع بالتضحية، ضمن حركة منقذة حيث تكون الحياة ذريعة لإعطاء الموت أو تلقيها.

و لعل ما هو مطروح كرهان في التقديس المفرط للجسد -و بخاصة جسد النساء- هو مراقبة "الأرواح" و في نهاية المطاف السيطرة على كامل المجتمع. و ضمن هذا الأفق، لا يمكن لأي نظام رمزي متقدم أن يستمر في البقاء. و كم من مذابح تمت انطلاقا من هذا المنطق الذي لا يقهر. كيف السبيل إلى إدراك الأسباب العميقة لكل الاضطرابات الرمزية المؤدية إلى الأزمات، إلى المجازر، إلى الإنتحارات الجماعية، التي تمت فيه التوصية و التنفيذ باسم الله ؟

و المعروف أنه في النصوص الدينية المؤسسة للأشكال الثلاثة لديانة إبراهيم الخليل، أن خلق الكون هو في ذات الوقت، إحداث الذات -الكل البشري : فقد خلق الله الكون بالفصل بين السماء و الأرض، الليل و النهار، الفضاء و الزمن. و هكذا تتجه المؤسسة النبوية و بنفس الطريقة، إلى التمييز بين الوظيفة السياسية حيث تؤكد استقلاليتها المطلقة عن هذه الأخيرة.

و يمكن إعتبار العلاقة بين إبراهيم الخليل و النمرور ملك بابل هي النموذج للعلاقات الآتية : موسى/فرعون، عيسى/بيلاطس، محمد (ص)/ أبو سفيان و لكن هناك استثنائين برزا إلى الوجود هما : العهدة الملكية للنبي داود و العهدة الملكية للنبي سليمان اللتين كانتا في ذات الوقت وظائف نبوية. و في هذا الصدد يقول الطبري المؤرخ المسلم لحياة الأنبياء؛ "أنه لا يوجد أحد قد جمع بين الملك و النبوة" و يقول أيضا: "لقد طالب سليمان بالملك، و لكن النبي داود توصل إليه دون المطالبة به، لأن من يرتبط بالدنيا، تبتلعه الدنيا بإذن الله"[1].

و يؤكد القرآن الكريم بشدة هذا الإسثتناء على لسان سيدنا سليمان عندما يترجى الله : "قال رب إغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهاب" حينئذ تطرح أسئلة القراءة، و البت و التلقي و بكله واحدة، تفسير النصوص الأساسية للديانات الإبراهيمية. و من المألوف جدا أن نسجل أن التغيرية ذاتها التي تمس أشكال العلاقة بين الديني و السياسي في المجتمعات اليهودية، المسيحية، و المسلمة تشير إلى التنوع في العلاقة التي تقيمها النصوص حسب الثقافات و الفترات التاريخية للمجتمعات. تطرح أيضا مسألة الحق و سلطة إصدار القوانين، و كذا شرعية السلطة و مصدر التشريع، عندما نعلم أنه من بين أمثلة لا متناهية فإن رجم النساء الزانيات غير موجود في القرآن الكريم، كما أن قضايا الملكية و الخلافة و أي شكل من أشكال الحكم القادمة لم تطرح أبدا.

إن طرح مثل هذه الأسئلة، يؤدي بالضرورة إلى الشروط التاريخية و السياسية لإمكانية التفكير و كذا حريته، و من الخارج، في الديني، و في السياسي و في العلاقة بينهما.

أما المجال الذي ننطلق منه للحديث عن هذه العلاقة هو مجال علوم الإنسان و المجتمع. و مما لا شك أن هذه الشروط هي موجودة الآن بالمجتمعات الإسلامية و بخاصة في الجزائر و يتعلق الأمر بتدعيمها.



ترجمة :

الهوامش

[1]- تاريخ الطبري.

Text

PDF

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال