تقديم المحور الثالث : المقدس و السياسي

تقديم المحور الثالث : المقدس و السياسي

من السهل، في أيامنا هذه، ملاحظة أن العلاقات التي تربط المقدس و السياسي يظهر في أساسها موقف المتكلم : من أي موقع سياسي ينطلق المتكلم لتأسيس خطاب عن إنشاء "الكينونة-معا" في مجتمع ذي ثقافة و تقاليد إسلامية؟

فانطلاقا من الموقع الذي يكون منه الكلام، يتعين المنهج و الإجراء و المـعرفـة (gnôsis) التي انطلاقا منها تقام الخطابات حول المقدس و السياسي و علاقتهما من داخل المقدس و من داخل السياسي أو، استثناء، من موضع آخر خارجهما من هذا الموضع الثالث تبين عن نفسها العلوم الإنسانية و العلوم الاجتماعية التي من بين مواضيعها، يوجد بالطبع موضوع الخطاب حول المقدس و حول السياسي، من داخل كل واحد من هذين الحقلين نفسهما.

منذ عصر النهضة و منذ عصر الأنوار (أو التنوير كما يحلو لنصر أبي زيد أن يسميه )، بدأت أوروبا بإزالة كنائسها عن السلطة السياسية و الدولة، مكسبة المجتمعات الإنسانية السيادة على نفسها، معتبرة أياها مصدرا لكل شرعية سياسية. إن هذه الوضعية هي التي مكنت من ظهور العلوم الاجتماعية و تطورها.

منذ نهاية القرن XIX، و العالم الإسلامي يحاول تأسيس حداثة مستلهمة و مفروضة بتطور الرأسمالية في أوروبا، متجنبًا إقحام سلطة رجال الدين و مؤسساتهم الدنيوية في مصادر الشرعية القانونية، والسلطة السياسة و الدولة. فباستثناء تركيا، و إلى حد ما العراق، يدرج أي مجتمع إسلامي بصورة كاملة مصدر سيادته و مؤسساته ضمن إطاره الخاص. و هذا ما يفسر ضعف التفكير الموضوعي في مصادر القانون و في أصل الدولة في المجتمع الإسلامي. و من المفارقات أنه منذ نصف قرن، و العلوم الإنسانية تدرس بشكل واسع، على الرغم من كثير من رجال الدين – في غالبية الجامعات في العالم الإسلامي، و هذا ما يفسر أيضا القضاء على أولئك الذين يحاولون بصورة نقدية، النظر إلى الخطاب الديني كما هو : (أي بوصفه) خطاب رجال دين و/ أو خطاب رجال سياسة.

تقوم "إنسانيات" بنشر 14 نصا تشترك في كونها اتخذت موضوعا لها الممارسات الاجتماعية للمتدينين، و التشكلات الخطابية المؤسسة لتوجهات و مواقف هؤلاء الآخرين، أو النصوص التأملية التي تعمل على توضيح استراتيجيتهم. إنه حدث، بالنسبة لتاريخ الجزائر الثقافي، بحكم أنه، منذ بداية القرن XX، تبني الجامعيون بصورة ضمنية سلوكا يكرس المراقبة الذاتية، متمثلة في السكوت عن التواطؤ بين رجال الدين و رجال السياسة في عملية إقرار الشرعية التي يتبادلونها حينما يرغبون في اعتلاء كرسي الحكم. إن هذا التبادل و هذا التواطؤ للسعي وراء السـلطة والحفاظ عليها، له تاريخ، ينبغي كتابته بسرعة، لأنه جزء لا يتجـزأ مـن المأسـاة الـمتجددة باسـتـمـرار، مأسـاة الطـلاق (Divortium) الذي لم يتحقق أبدا بين هذين العنصرين، و الذي يوجد في فعل الرابطة نفسه و في تاريخ المجتمعات الإسلامية، منذ وفاة النبي محمد (ص) و حادثة سقيفة بني ساعدة الطقوسية الوطن – عربية التي انتهت بتعيين أبي بكر الصديق كأول خليفة للمسلمين. و الحال أن المراقبة الذاتية بهذا الخصوص، قد تجلت في وظيفة الباحثين في الـعلوم الاجتماعية نفسها، بحكم أن الحركات الوطنية كانت تدمج الدين في المؤسسات المنتجة للخطاب حول الاختلاف و الهوية الوطنية، عازلة نفسها، من خلال جوهر مسعاها نفسه، عن المجتمعات الاستعمارية.

لقد أصبح الدين و المتدينون موضوعا طابوي التفكير فيه تماما – و من هنا فقد تحول ما لم يفكر فيه إلى ما ليس قابلا للتفكير فيه.

لقد بدأت القطيعة من رجال الدين أنفسهم، وذلك لأنهم لم يعودوا في حاجة إلى السياسيين، (…)، و استغلالاً لورطة الفراغ و الخسارات الكبرى التي تعني شيئا كثيرا بالنسبة للمجتمع، فإنهم سارعوا لملء الفراغ الذي ينخر جوانب النظم السياسية الديكتاتورية. إن الانتقال إلى العنف المتطرف، بعد التقنعات التعدد- حزبية و الانتخابية، قد بين للمجتمع بأن الديكـتاتورية المستبدة يمكن أن تحل محلها ديكتاتورية (أكالة للمجتمع) حيث تكون أفعالها الأولى بالطبع هي القضاء على أولئك الذين احترفوا البحث العلمي، أي أنهم جعلوا الشك مهنتهم. و الحال أنه لاشيء أخطر على و جود رجل الدين من التشكيك أي الربط بين خطابه و ممارسا ته الفعلية.

إن عملية التفكير فعل حر تماما من كل استعباد أو تبعية فعلية كانت أو محتملة. كما إن ممارسة هذه الحرية، ووضعها قيد التنفيذ اليوم، وإذن معرفة الخطر و مواجهته، هي التي جعلتنا نتجاوز المراقبة الذاتية. نعم، إن الخطاب و الممارسات، كل ممارسات رجل الدين و كل متدين هي ممارسات غيرية و ضعية، أي أنها مادة للشك المنهجي إذن مادة للتفكير.

أن تفكر في خلق الكون و الإنسان هو، في النصوص المقدسة، فعل كلام، كما نقرأ ذلك في كثير من آيات الكتب السماوية.

إن الخلق إذن قول، و لسنا نفعل شيئا آخر هنا غير أن نقول عن القول، أن نفصل، و نميز و نصنّفَ، و نفكر. و من هنا فإن العالم موضوعنا و نحن الذين نبتكره بجعله قولا و بجعله فعلا.

ما الذي يميزنا عن رجل الذين الذي يعيد القول؟ يميزنا عنه أننا نتبع المعنى بالمفهوم لا أن نتبع بالأمر المعنى. إن عملية إنتاج الأفكار محرمة على من يمتهنون تجميد الفعل، كونهم يقومون بتحجير اللغة و الكلام، و كونهم يتكلمون بطريقة هي دائما إرتكاسية، انطلاقا من قمة المقدس المحتكر الذي منحوه لأنفسهم. هكذا فإنهم يسيرون الـ "هو" ما نحين لأنفسهم "رسالة" جعل كلام الله واضحا. و على هذا الأساس فإن كلامه يصبح كلامهم، و حيد المعنى، لا ريب فيه، جازما مثل الوحي الذي ألقاه Pythie إلى Delphes . إنهم إذن الإله. فهم يفتون، و يحرمون من الانتساب إلى الأمة عن طريق التكفير. و هم يقتلون بفعل الكلام منطوقا في صورة حكم مقدس هو الفتوى، الواجبة التنفيذ بصورة مطلقة مثل فعل الكلام الذي بواسطته أمر لله إبراهيم أن يذبح إسماعيل / إسحاق قربانا لله وزلفى.

هناك كاريكاتور لـ " ديلام" يصور يوم عيد الأضحى كبشاً هاربا بأسرع ما يكون، و في أعقابه رجل يشهر خنجرا. يقول الكبش متطاير الزبد : لماذا يريدون ذبحي؟ رغم أنني لست امرأة و لست مثقفا ؟"

في النصوص المقدسة، فإن الله و هو يأمر بالتضحية، لا يقدم لذلك أي سبب. إنه السلطة المطلقة، الكينونة الأكيدة، الأحد، القوي، الأعلى الأكبر، ذو الاسم المعظم تسعا و تسعين مرة.

كذلك هو من يتكلم باسمه. كذلك هو من يقرر عن طريق الإعلان الذاتي أنه الناطق الرسمي باسم النص.

ولكن الله أو قف يد إبراهيم من فعل الذبح، و نجا إسحاق / إسماعيل و كانت أمتان عظيمتان. ولم ينطق أبدا بأية فتوى. يبين نصر أبو زيد منتقدا الخطاب الديني، كيف أن رجل الدين، و هو يؤول كلام الله، و يحوله إلى حق ديني، يستحوذ عليه و يجعل منه ملكه الخاص. بوصفهم محنطين للخطاب و سحرة، فإن رجال الذين يستوون على عرش السلطة، و يغلقون ما جعله النص القرآني مفتوحا قبل أن يرد عليه الغلق هو ذاته. إن السلطة الدينية إنما هي سلطة رجال الدين. إنها سلطة حياة و موت، سلطة تمكين من الحياة و تسليطا للموت. لقد قال معاوية، كأول حاكم وطني عربي للمسلمين، أثناء تنصيبه عام 651، (ما معناه) : الأرض ملك لله و أنا خليفة الله. و كل ما آخذه يعود إليّ، و كل ما أتركه للناس فإنه من فضلي".

إن المكر و الغصب هما اللذان يؤسسان قاعدة السلطة السياسية لرجل الدين الذي يعزف على وتر السلطة الرمزية و السلطة السياسية، غير أنه يريد أن يحكم و حده، منكرًا على رجال الدين كل إمكانية لجعله حاكمًا شرعيًا.

التفكير هو هنا، ربط ضمن علاقة، علاقة الخطاب الديني كفعل للكلام، الإنساني حصرًا. هو فصل الدين عن التفكير الديني، نص التفكير عن النص، النص عن النص المؤول. إن رجل الدين لا يملك أن يفكر، إنه يشرع، و يكرس التشريع، و يصدق على التشريع من مركزه كـإرادة مطلقة، من أعلى العرش المغتصب. في هذه الحالة، فإن كل تفكير، كل نقد، كل شـك منهجي يصبح "كفرا". و كل كفر، ردة. و كل ردّة عقابها الموت. وما القتل إن لم يكن اختزالا إلى صمت، و فسخاً للكلام، و إحالة على العدم، والفوضى، ودهشة الفتق الأول… هذه أربعة عشرة نصًا. إنها معاشة، و مصرح بها، و ممارسة للفصل لا ينبغي أن نضاعف ملخصاتها في تقديم أكاديمي، لأن أفضل ما يقال بشأنها، هو أنها تندرج كلها في إطار المأساة التي يتملص منها كل واحد استحياء. كما تند رج في نفس الوقت، في إطار الحقل الواسع البور، بجعل ما هو سياسي في أرض الإسلام مسألة دنيوية.

تتكرس هذه النصوص إلى مواجهة خطر التفكير في الوجود، على الأقل فيما بقي منه قابلا للتفكير فيه. فليتجنب التساؤل حول قيمتها، و لتجنب مساءلتها حول ملاءمتها. و لكن لنعرف أن عدم ملاءمتها الجذرية تكمن في كونها فتحت، للمرة الأولى في الجزائر، الأبواب المغلقة للتفكير في "الديني و السياسي". و لننبه إلى هذا التصريح الخارج عن زمنه تماما في مجتمع مسحوق بوطأة الاستعباد، متبوعا بانتفاضات دموية، منذ قرون : " (…)…" إصرارانا على إعمال منهجيات هذه العلوم و في مقدمتها التأويل " Herméneutique "أعظم بكثير من أن نخضع للعبة الإقصاء، و لا يمكن لأي جهة نزع حقنا في ممارستنا للتأويل فمهما حاول المظللون فعل ذلك سيجدون أنفسهم أمام منعرجات التطرف و التعصب المؤدي إلى الإرهاب بالضرورة."[2]

إن أهمية هذه النصوص ليست، إذن تلك التي يقدمها لنا الموضوع أو التحليل، و ليست في قولها بشكل جيد أو سَيّء ما لديها من قول عن المقدس و السياسي. غير أنه مطلوب قراءتها من حيث أنها، مهدت اليوم لحرية التفكير، في مواجهة الجريمة المطلقة المتمثلة في إزاحة الكلمة الحرة والضمير الحر، في مجتمع، أصبح فيه العنف، باسم الدين، وإعدام المعنى، عبادة تقام لوجه القوى الأكالة للإنسان. إن هذه العبادة تضرب بجذورها في الغموض و الفوضى السابقة لكل دين : أي الطاغوت. و ما الطاغوت إلا اسم لوثن معروف في الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، ثم إنه في الإسلام اسم لأحد الشياطين.

إلى أرواح : فراق فضه، و جيلالي اليابس، وامحمد بوخوبرة و عبد القادر علولة، و طاهر جاعوت، و محفوظ بوسبسي، ممارسو الفصل المفصولون، إلى الأئمة المغتالين في مساجدهم لأنهم رفضوا اللبس، إلى السيد كلافري أسقف وهران، إلى الرقود السبع (سبع رقود) بتبحرين، إلى الصحفيين، و إلى عشرات الآلاف من ضحايا الطاغوت، داخل الجزائر، و خارجها، إلى أرواحهم نقدم هذا العدد من مجلة "إنسانيات".



ترجمة :

الهوامش

[1]- "لقد وضع قسم علم الاجتماع بجامعة بير بينيان تحت تصرفي و سائله الاتصالية لتنسيق هذا العدد من مجلة إنسانيات". فليجد مسؤله هنا تشكراتي الخالصة. 

[2]- انظر بودومة، عبد القادر.- ملخص مشاركته أسفله.

Text

PDF

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال