تفيئة أحياء مدينة الجزائر / اللغات المستعملة : أيّ تداخلات سوسيولسانية ؟

تفيئة أحياء مدينة الجزائر / اللغات المستعملة : أيّ تداخلات سوسيولسانية ؟

إن علم الاجتماع اللغوي الحضري لا يخص فقط دراسة الممارسات اللغوية للمتحدثين المنحدرين من مناطق حضرية، بل يخص كذلك الخطابات اللاواعية (discours épilinguistiques)[1] التي تمت صياغتها حول اللغات، وبالتالي مجال دراسة هذا التخصص متنوع، يشمل ما يلي:

  • تحليل التغيرات التي لوحظت في توزيع اللغات.
  • آثار المدينة على الأشكال اللغوية.
  • دراسة كيف تكون التمثلات اللغوية ومختلف تعبيراتها اللفظية إقليمية من قبل فئات اجتماعية مختلفة، وكيف تسهم في "تطبيق الهوية الحضرية "(Bulot et Tsekos, 1999).
  • الظواهر المنضوية تحت يافطة مختزلة "ضاحية" (مراهقون ورسومات وغيرهم) .(M. Guasquet-Cyrus, 2002, 55).

بالنسبة لنا، فقد أدركنا أنه لا توجد حالياً أية دراسة تربط بين تمثلات الفضاء والخطابات اللاواعية في الوسط الحضري بالعاصمة، وبالتالي، قررنا إجراء بحثنا لرسالة الماجستير حول هذا المركز الحضري أي الجزائر العاصمة، المدينة التي تتعايش فيها عدة لغات: العامية والعربية الفصحى والأمازيغية والفرنسية. نعالج بشكل أدق التمثلات التي تدور حول اللغات لاثنين وستين )62( مبحوثاً، في حيّين مختلفين بالجزائر العاصمة، بلكور وحيدرة. اهتمامنا الدائم هو البحث في المدينة لكن ليس فقط كمكان للتحقيق، بل سنسعى لاعتبارها مجالًا له خصوصياته من خلال اعتماد مقاربة كيفية تخص هذه الإشكالية التي تدور حول سؤالين:

كيف يتم تنظيم مدينة الجزائر العاصمة؟ هل يوجد فرق بين الأحياء "الإقامية" والأحياء "الشعبية"؟ وكيف تتجسد؟

هل يُقرن المتحدث العاصمي استخدام اللغات بالأحياء التي تُمارس فيها هذه اللغات؟ بعبارة أخرى، هل هناك هيكلة للتمثلات اللغوية وفقاً لتمثلات الفضاء.

الجانب المنهجي

البحث الميداني الذي أجريناه ناتج عن رغبة في الإجابة عن إشكالية تنبثق من الميدان، وانطلاقا من التمثلات المُلاحظة يومياً عند العاصميين بربط الممارسات اللغوية مع المكان الذي يُنتجون فيه هذه اللغة. كانت رغبتنا في تحقيق دراسة بهذا المعنى. وقد اعتمدنا على المنهج الإمبريقي بالخصوص، واعتبرنا التحليل الكيفي التفسيري هدف هذه الدراسة. اختيارنا للمنهج الإمبريقي الاستقرائي يرجع لاعتماده بالدرجة الأولى على تحليل الممارسات اللغوية. كما يُعتبر البحث الميداني محور الاهتمام الرئيس بالنسبة للباحث في اللسانيات الاجتماعية، وتأتي البنيات الفكرية والنظرية في المرتبة الثانية، إذ لا يمكن إدخال المفاهيم النظرية لشرح الظواهر التي يتم البحث فيها وتفسيرها إلا عند الانتهاء من استخلاص الحقائق وجمع المعطيات لأن "البحث النظري والاستقرائي يقتضي أن يحاول فيه الباحثون إيجاد فهم الظواهر من خلال مجموعة بيانات، بدلاً من جمع معطيات لتقييم نموذج نظري مسبق أو فرضيات مسبقة". (فيليب بلانشي، 2000، ص. 30).

واكبت هذه الدراسة فرضية أساسية، مفادها أنّ "اعتماد المنهج الاستقرائي في البحت يعتبر صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، لأنه عندما يستخلص الباحث استنتاجات من دراسة حالة ما، فإنه يُسقط -عن قصد أو غير قصد- هذه الفرضيات المنهجية والنظرية على حالات أخرى، وخاصة عند مواصلة العمل في مجال البحث نفسه" (فيليب بلانشي، 2000، ص. 32). غير أننا لم نُباشر في التحليل المقترح أدناه، إلاّ بعد الاعتماد على تصريحات المخبرون - التي تمّ جمعها بعد توزيع الاستبيانات ( أسئلة مغلقة وأسئلة مفتوحة ) -إضافة إلى إجراء مقابلات نصف موجهة، شارك فيها أشخاص من مختلف الأعمار والأجناس. وعلى الرغم من أن هذه الدراسة لا تهدف إلى أن تكون شاملة، لأنه ليس الهدف -في حد ذاته- في المقاربة النوعية، ومع ذلك، حاولنا إحداث توازن في العيّنة من خلال إجراء مقابلات بين عدد الرجال والنساء في كل من الحيين، إضافة إلى الاعتماد على أشخاص من فئات عمرية مختلفة. وفي الأخير، أجرينا مقابلات مع اثنين وستين (62) مبحوثاً، منهم اثنان وثلاثون (32) مبحوثاً ينحدرون من حي حيدرة وثلاثون (30) مبحوثاُ ينحدرون من حي بلكور. تمّ ملء الاستمارة من قبَل جميع المبحوثين ثم واصلنا بمقابلات نصف موجهة مع ستة عشر (16) مبحوثاً من حي بلكور وسبعة عشر (17) مبحوثاً من حي حيدرة، حيث مكننا ملء الاستمارة في البداية من بدء التواصل وجعل المقابلة نصف الموجهة أسهل.

التمييز المكاني

قبل محاولة الإجابة على هذه الإشكالية، سوف نحدد أولاً مفهوم «المدينة"، "الحي" و"التمييز بالمدينة". المدينة كما يصفها تييري بولو (Thierry Bulot) هي "كيان معقد ومتعدد الأوجه تحتك فيه المجتمعات المتنوعة للغاية، ولكنها تنتج ثقافة حضرية خاصة ونموذجا حضريا، أين يكون للعلاقة بالموقع (المدينة، الضفة، الحي) ومن ثمّ التحرك، معنى"(تييري بولوت، 2000، ص. 49). يمكن أن يكشف لنا اهتمامنا بالحركة داخل مدينة الجزائر عن بعض الاختلافات بين الفئات الاجتماعية في المدينة، وفي هذه الدراسة، عن الخطابات المتعلقة بالفئات التي تسكن في الأحياء المسماة "الشعبية" مقابل المسماة "الأحياء الإقامية " (Cité résidentielle).

نبدأ من الافتراض بأنه "لا يوجد مجتمع حضري بدون فوارق اجتماعية تكون عواقبه الانقسام الاجتماعي للفضاء" (جارفي لامبوني، 1995، ص. 34)، وفيما يتعلق بدراسة الحي نهتم بالذي -في نظر ميديريك ﭬاسكي- "يمكن أن يُوفر معلومات قابلة للتعميم للمدينة ككل" (ميديريك ﭬاسكي، 2001، ص. 48). ويرى ﭬرافماي Grafmeyer أن خصائص مدينة بأكملها تتمثل في وصف الحي، حيث "يمكن أن يتكون الحي من وحدات للملاحظة أين تتشابك مختلف الفئات السكانية وأين تندمج عمليات متعددة... ويمكننا أيضا التركيز على تحديد الوحدات التي تعتبر ممثّلة بما فيه الكفاية لتخدم دراسة الجزء إلى حد كبير دراسة الكل" (ميديريك ﭬاسكي، 2001، ص. 49). وبالتالي، لن يكون تقسم المدينة إلى أحياء دون عواقب على ساكنيها. الحي "ينتج قواعد قابلة للتشارك ومتشاركة ومواقف مشتركة" (ميديريك ﭬاسكي، 2001، ص 49) دون أن يُشكل "مجموعة ثابتة وموّحدة" (ميديريك ﭬاسكي، 2001، ص 49). وبالتالي، يمكنه أن يؤثر تماماً على تمثلات ساكنيه، ويُشكّل مجموعات ذات تمثلات اجتماعية لغوية متقاربة أحياناً، وأحياناً أخرى تمثلات اجتماعية لغوية متباعدة.

سيؤدي عدم تجانس هذه المجموعات داخل مدينة الجزائر وأحيائها إلى عدم تجانس المواقف اتجاه الفضاءات التي تبني المدينة وفي هذه الحالة اتجاه الأحياء التي تُشكّل هذه المدينة. و" نقترح أن لا نستخلص الخصوصية الحضرية من التعريف البسيط للمدينة المبني على معالم الكثافة السكانية وحدها، وإنما من المواقف اتجاه مختلف المعالم السوسيو-جغرافية واللسانية التي يطوّرها المتكلّمون في المجتمع الحضري" ( تييري بولو ونيكولاوس تسيكوس، 1999، ص. 21) . ومن بين هذه المواقف سنفرق بين مفهومي التمييز والتفرقة.

يقترب مفهوم التفرقة من مفهوم التمييز إلى حد كبير، إذ إن كليهما يُعبر عن فكرة الانفصال، و"يتقارب مفهوما التمييز والتفرقة في لغة الخطاب اليومي، ويستعملان ـ-أحيانا- بمعنى الترادف، والأفكار الرئيسية المشتركة بين كلا المصطلحين هي الانفصال والاختلاف" ( دي رودر، 1995، ص. 11). بالنسبة لنا، سنتكلم من خلال تحليلنا عن التمييز أكثر من التفرقة بما أننا نستشف الانفصال من خلال تمثلات الخطاب للفضاء. ونعتبر المنطقة التي يتصور فيها السكان أنفسهم مهمشين منعزلة، وهنا لا يُعد هذا دنواً في الأمر وإنما هي مسألة تمثلات (دي رودر، 1995، ص. 12 ). الانفصال التمييزي بين فضاءين هو تباعد في التمثلات أكثر منه تباعد في الفضاءات. "التمييز هو تهميش، لكن دون إبعاد كبير للمكان، وهنا يكمن التناقض وتكمن أوجه قوة هذه الظاهرة، والتمييز يسمح بالتباعد الاجتماعي أكثر من التباعد المكاني، كما يُعطي للتباين بُعداً آخراً في شكل يمكن أن يخدم المصالح الاقتصادية" (جارفي لامبوني، 1995، ص. 34). نعتقد بالفعل أن الخطاب المُصرح به في الحيين، بلكور وحيدرة فيما يتعلق بتسميات "شعبي" و"إقامي" سيحمل معنى التمييز أكثر من بعض الكيلومترات التي تفصل هذين الحيين عن العاصمة الجزائرية. وهو خطاب نعتقد أنه سيكون له جدوى التوضيح لفهم التصنيفات المكانية المختلفة وحتى اللغوية. وقبل أن نتوقف عند الخطاب المؤدى حول التنظيم المكاني واللغوي لأحياء الجزائر العاصمة اليوم، تساءلنا عما إذا كانت الجزائر العاصمة قد عرفت تفريقاً بين أحيائها:

التوسع الحضري لمدينة الجزائر

شهدت مدينة الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية تفاضلاً بين أحيائها ذا طابع إثني إلى حد ما، "في أثناء الاستعمار كان التمييز في المدينة غالباً اثنيا، الأحياء المسلمة والأحياء الأوروبية هي مناطق متجاورة وبالتالي فردية بشكل كبير في المدينة الاستعمارية. ومع ذلك، كانت بعض العناصر موجودة من بنية اجتماعية مختلطة يندرج معظمها من الطبقات الفقيرة" (سيد أحمد سويح، 1995، ص. 253). إذا كان التمييز بين أحياء العاصمة في الحقبة الاستعمارية يُعد عرقياً أكثر، فإنه اليوم يُعتبر -عموماً، في نظر سكان الحيين المختارين للدراسة- ذا طابع اجتماعي اقتصادي. ويُعتبر في رأينا نعت الحيين بـ "الإقامي" و"الشعبي" علامة تمييز مكاني في حد ذاته، بما أن هناك خلفية مسبقة للتفريق والفصل بين فضاءين. يعتبر بيار جورج في علم الاجتماع الحي "الإقامي" "أساس الحياة الفردية" (بيار جورج، 1966، ص. 35)، كما يعتبر أنه "في المدن السكنية الفاخرة، نشعر حقًا أننا نبدأ نمط حياة جديد، وأنّ موقعها جميل في قطاع مجهز تجهيزاً جيدا" (بيار جورج، 1966، ص. 35). والنعت "شعبي" مشتق من اللاتينية « popularis » من « populus » المنتسبة لحي، الذي يعني ما يخص الشعب.

نعتقد أن نقطة انطلاقة الدراسة حول التمثلات يجب أن تكون خطاباً لأولئك الذين نستهدفهم في الدراسة، لهذا فضّلنا أن نتعرف عن تمثل حي " شعبي" مقابل حي "إقامي" بالنسبة للمشاركين، فقد سألناهم حول تمثلاتهم المختلفة للمكان فيما يخص تسميات "شعبي" مقابل " إقامي " وتوصلنا إلى النتائج التالية:

ماذا يعني الحي المسمى "شعبي" بالنسبة للإخباريين الذين شملتهم الدراسة ؟

ما يعتقده المخبرون بـ " حيدرة "

ما يعتقده المخبرون بـ " بلكور "

على الرغم من أن النسب المئوية تختلف (%34) بالنسبة لحيدرة و(%64) بالنسبة لبلكور، إلا أننا نلاحظ في كلا الحيين أن أغلب المخبرون أثاروا العلاقة بين معرفة الجميع بعضهم بعضا وبين نعت الحي المتمثل في " شعبي". تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ المخبرون بحيدرة (38%) أشاروا إلى اعتبارات غير مقترحة في الاستبيان لوصف الحي بـ "شعبي"، ونذكر على سبيل المثال، أولئك الذين يرون أن الحي الشعبي هو الحي "المكتظ".

ماذا يعني الحي الذي يحوي إقامات سكنية المسمى " إقامي " بالنسبة للإخباريين الذين شملتهم الدراسة

ما يعتقده المخبرون بـ "حيدرة "

ما يعتقده المخبرون بـ " بلكور "

نلاحظ أن المجموعة الغالبة في كلا الشكلين والتي حدد المخبرون إجابتها فيما يخص الأحياء ذات الطابع " الإقامي "، تتعلق بالمستوى المعيشي للسكان ونوع العمران بالحي، حيث إنّ أغلب المبحوثين بحيدرة يُركزون على نوع العمران، في حين يُركز أغلبهم ببلكور على المستوى المعيشي للسكان لتحديد طابع الحي إن كان "إقامياً" أم لا.

بمجرد الانتهاء من تسجيل التمثلات العامة المرتبطة بالتسميتين: "شعبي" و"إقامي"، سألنا المبحوثين عن العلاقة التي يربطونها بين هاته التسميات وأحيائهم الخاصة.

هل يُنظر إلى بلكور بصفة الحي "الشعبي" أم لا ؟

ما يعتقده المخبرون بـ " حيدرة "

ما يعتقده المخبرون بـ " بلكور "

بعد طرح مجموعة من الأسئلة تهدف إلى تحديد كيفية انطباع المخبرين عن حي بلكور، توصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ حي بلكور يُوسم بالحي "الشعبي" لدى إخباريي بلكور وحيدرة المتفقين بالإجماع تقريباً على هذه التسمية ( 88 %ببلكور و97% بحيدرة ).

هل يُنظر إلى حيدرة بصفة الحي " الإقامي" أم لا ؟

  • الذين يعتقدون أن حيدرة حي " إقامي "

يبدو أن أكثر إخباريي حيدرة يصفون حيهم بـ: "إقامي"، نظرا للتهيئة ونوع عمرانه، وأمّا إخباريو بلكور، فقد انقسموا: (26 %) منهم يعتقدون أن تسمية حي حيدرة بـ" إقامي " تعود إلى تهيئته )عمران وطرقات( و(20%) الأخرى تعتقد أن المستوى المعيشي للسكان الذي يرونه مرتفعاً، هو ما يجعله حياً "إقامياً". فنلاحظ أن معايير التصنيف: "شعبي/ إقامي" تختلف لدى المخبرون بالحيين.

ما يعتقده المخبرون بـ " حيدرة "

ما يعتقده المخبرون بـ " بلكور "

  • الذين يعتقدون أن حيدرة ليست حياً " إقامياً"

يعتقد 34% من سكان حيدرة و27% من سكان بلكور أن حي حيدرة ليس بحي "إقامي"، وفيما يلي الأسباب التي جُمعت:

ما يعتقده المخبرون بحيدرة

ما يعتقده المخبرون ببلكور

يُسند أغلب المخبرون بنسبة (63% في كل من الحيين) تسمية "إقامي" إلى حي حيدرة، ومع ذلك نوَدُ أن نوضح أنه لم يتم الإجماع على هذه التمثلات مثل الإجماع على التمثلات التي تُحدد بلكور حياً "شعبياً"، وهذا ما لمسناه أكثر لدى إخباريي حيدرة حيث لا يرى(34%)منهم أنّ حيهم "إقامي". كما لاحظنا أن إخباريي بلكور يستندون أكثر في تمثلاتهم إلى الحي " الإقامي" على معيار المستوى المعيشي، في حين أنّ إخباريي حيدرة يُركزون على معيار التهيئة العمرانية للحي. وبعد تسجيل مختلف التمثلات المكانية (تصنيفات وتسميات) التي يربطها إخباريو بلكور وحيدرة بأحيائهم، وملاحظة فوارق مكانية بالفعل فيما يخص تسمية "إقامي" و"شعبي"، سنحاول أن نتحقق إذا كان هذا التصنيف للتمثلات يشمل المجال اللغوي أم لا.

من التمييز المكاني إلى التمييز اللغوي : عدول عن التمثلات المكانية إلى التمثلات اللغوية

وفقاً لتحليل تضمن مقارنة التمثلات اللغوية والتمثلات المكانية للمخبرين: حددنا مجموعتين:

مجموعة تمثل أغلبية المخبرين، حيث التمثلات المكانية تُشكل التمثلات اللغوية، فقد ربط المخبرون استعمال اللغة العربية[2] بسكان بلكور، واستعمال اللغة الفرنسية بسكان حيدرة. ومجموعة ثانية تمثل الأقلية والتي تفصل التمثلات المكانية عن التمثلات اللغوية، وتعتقد هذه المجموعة أن استخدام اللغة الفرنسية لا يخص سكان حيدرة فقط، وأنّ سكان بلكور لا يُعبرون فقط باللغة العربية. 

المجموعة التي تقيم العلاقة بين حي/لغة

أيُ لغة يعتقد المخبرون أنها أكثر ممارسة من قبل سكان بلكور؟ ( مُوجه للإخباريين بالحيين)

ما يعتقده سكان حيدرة

ما يعتقده سكان بلكور

بلكور

طُرح السؤال الآتي في بلكور: أي لغة يستخدمها سكان بلكور أكثر؟ فأجاب ثلاثة إخباريين فقط [3] (إ.ب.1، م.ب.5، م.ب.14) بـ: "العربية والأمازيغية"، ومُشارك واحد أجاب بـ: "العربية والأمازيغية والفرنسية"، أمّا بقية المبحوثون الآخرين ببلكور فقد أجابوا بالإجماع بنسبة (%90) بـ: "العربية"، وعللوا هذه الإجابة بالأسباب التالية:

بعض المخبرين تحدثوا عن "لغة الجزائريين" أو لغة "العاصميين"، وبالتالي أثاروا من ناحية، الاستخدام المحلي للهجة، مثل: المُشارك إ.ب.5 الذي يعتقد أن "العربية هي لغة الشارع للجزائريين كافة"، بالإضافة إلى المُشارك م.ب.10 الذي صرح بـ: "العربية لأنها اللّغة المستعملة من قبل الجزائريين"، ومن ناحية أخرى يعتبرونها لغة المدنيين: مثل المُشارك م.ب.10 الذي أجاب بـ: "العربية: اللّغة المستخدمة في العاصمة". ويُعد نظام اللّغة العربية في نظر المخبرين عاملاً كافياً لإضفاء الشرعية على استخدامه داخل حي بلكور.

يرى إخباريون آخرون أنّ هناك علاقة بين استخدام اللّغة العربية وبين أصل نسبة كبيرة من سكان بلكور، ويعتقدون أن سكان الشرق الجزائري وبالتحديد الذين ينحدرون من جيجل وسطيف يتحدثون باللّغة العربية، والشاهد على ذلك إجابة المخبر م.ب.2 الذي يقول: "العربية: لغة السكان المنحدرين من الشرق الجزائري (جيجل وسطيف)"، والمخبر م.ب.13 الذي أجاب بـ: "العربية: لأن سكان بلكور هم في الغالب من جيجل". هؤلاء المخبرين يعتقدون إذن أن المتحدثين الذين ليسوا من العاصمة لا يُتقنون اللغة الفرنسية، وبالتالي هناك -مرة أخرى- رابط بين هذه اللغة وبين "مدينة" الجزائر.

وترى نسبة أخرى من المبحوثين أن هناك علاقة بين استخدام اللغة العربية وبين حيهم الذي يعتبرونه حياً "شعبياً"، مثل: المخبر إ.ب.12 الذي أجاب بـ: "العربية: إنه حي شعبي" وبالتالي ربط بين استخدام اللغة العربية وبين شعبية حي بلكور. الشيء نفسه بالنسبة إلى المخبر م.ب. 11 الذي أجاب بـ: "العربية: لأنه حي شعبي". إذن بالنسبة إلى هؤلاء المخبرين توجد علاقة بين استعمال اللغة العربية وبين السكن في حي "شعبي"، وهي العلاقة التي يبرزونها ولكن لا يُقدّمون لها تفسيراً بالضرورة.

وكثير من المخبرين الآخرين أجابوا عن السؤال الذي يهدف إلى معرفة اللغة المرتبطة بسكان بلكور بـ: "العربية"، لكن عللّوا هذه الإجابة بتمثلات خاصة لا يتشاركون فيها مع المبحوثين الآخرين، ونذكر إجابة بعضهم:

المخبرة إ.ب.14 أجابت بـ: "العربية: هم أناس بسطاء" والصفة "بسيط" يمكن أن تتضمن عدة معاني في آن واحد، نشير إلى اثنين منها:

  • يُتقن سكان بلكور لغات أخرى، مثل: الفرنسية، لكن لا يستعملونها، وهذا راجع إلى "التواضع" و"البساطة"، لأنها ستكون اللغة التي نسعى إلى التميز من خلال استعمالها.
  • يُعتبر سكان بلكور من قبل هذه المخبرة الأخيرة أناساً ذوي ظروف معيشية بسيطة، وبالتالي تجعلهم غير قادرين على استعمال لغة تعتبر في نظرها غير متاحة للجميع.

والمعنى المقصود من "أناس بسطاء" سيتضح مع الإجابات التي تعطيها هذه المخبرة عن الأسئلة التي تخص اللغات المستعملة من قبل سكان حيدرة، مثل: السؤال 19 الذي يهدف إلى معرفة اللغة الأكثر استعمالاً من قبل سكان هذا الحي، وأسندت لهم استعمال الفرنسية، لعلّة "التكبر" مع عدم التمكن منها وأضافت "إنها المظاهر"، ويتكلمون بها "ليتميزوا عن الآخرين". وإجابة المبحوثة التي تقول: "إنهم أناس بسطاء" تُحيل إذن إلى عدم تباهي البلكوريين.

وتُجيب المخبرة إ.ب.15 أيضاً على السؤال رقم 15 بـ: "العربية: هي العملية أكثر"، والصفة "عملية" تُحيل هنا إلى الاستعمال اليومي للعربية الجزائرية، وتنضم إجابتها إذن إلى إجابة المخبر م.ب.7 الذي أجاب بـ: "العربية: يفهمون العربية أحسن". يُؤكد هذان المخبران أن التحدث هو التواصل أولاً، ويعتقدان أن اللغة العربية يُتقنها الجميع ببلكور، وبالتالي هي التي تسمح بتواصل أفضل.

حيدرة

يقول عدد معتبر من إخباريي حيدرة (%16) إنّ سكان بلكور يُزاوجون بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، ويشير (%19) أحياناً إلى استعمال البلكوريين للّغات الثلاث )العربية والأمازيغية والفرنسية( وأحياناً أخرى إلى استعمال العربية والأمازيغية فقط، ويعتقد أغلب المبحوثين المستجوبين بحيدرة (%65) أن اللغة العربية هي الأكثر استعمالاً ببلكور، ونذكر على سبيل المثال: المخبرة م.ح.1 التي تظن أن اللغات التي يستعملها العاصميون تعود إلى الأحياء التي يسكنونها ببلكور أو بالحراش قائلة "لا أظن أنهم يستعملون الفرنسية". إذا كانت هذه المخبرة ترى أن سكان بلكور لا يتكلمون الفرنسية، فإنها تعتقد حتماً أن استعمال العامية أو الأمازيغية هو السائد في هذا الحي.

تعتقد المخبرة م.ح.2 أن سكان بلكور يُعبرون بالعربية مجيبة بقولها: "مرة أخرى، فإنّ العامل البيئي هو المؤثر بالحي الشعبي، وهنا أتحدث خاصة عن الشباب الذين يتكلمون بالفرنسية، سيكون هذا مرة أخرى غير مقبول، فوراً سيثيرون السخرية أو شيء من هذا !". تُشير هذه المخبرة إلى العلاقة بين اللغات المستعملة ببلكور وبين السكن وسط هذا الأخير، معتقدة أن سكان بلكور -خاصة الشباب- يشعرون بنوع من الضغوطات الاجتماعية الممارسة من قبل محيطهم.

ونذكر كذلك المخبرة م.ح.8 التي تقول: "مثلاً؛ حين تذهبون إلى باب الواد ستجدون فئة قليلة تتحدث بالفرنسية، لماذا؟ لأن اللغة العربية هي الأكثر استعمالاً هناك، ثم إنه حي مكتظ بالسكان". تقيم هذه المبحوثة علاقة وثيقة بين شعبية بعض أحياء الجزائر العاصمة )تذكر بالمناسبة باب الواد الذي تراه شعبياً(، و بين اللغة العربية كونها الأكثر استعمالاً.

الشيء نفسه بالنسبة للمبحوث م.ح.14 الذي وُجه إليه السؤال الثالث من المقابلة "هل اللغات التي نستخدمها تعود إلى الأحياء التي نسكنها " فأجاب بـ: "نعم، طبعاً هذا راجع إلى الأحياء، مثلاً حيدرة هو حي نجد به أناساً كثيرين عاشوا بالخارج، وهناك أناس أثرياء. وفي المقابل إذا ذهبنا إلى باب الواد أو إلى الأحياء الشعبية لن تجدوا ذلك إلّا نادراً". يربط هذا المخبر استعمال اللغة العربية بالأحياء التي يسميها "شعبية" لا سيما ببلكور. ويقصد هذا المبحوث بـ: "شعبي" الحي الذي لا يكون سكانه أثرياء. وبالتالي يقيم تقارباً بين المستوى المعيشي للسكان بالعاصمة وبين لغاتهم.

نلاحظ أن المتحدثين بالحيين يعتقدون أن اللغة الدّارجة هي الأكثر استعمالاً وسط بلكور، ولكن الربط بين "حي شعبي وبين استعمال اللغة العربية" هو أكثر ما أشير إليه.

ما اللّغة التي يعتقد المخبرون أنها أكثر استعمالاً من قبل سكان حيدرة؟ (مُوجّه للمبحوثين بالحيين)

ما يعتقده سكان بلكور

ما يعتقده سكان حيدرة

حيدرة

يظن أغلب مبحوثي حيدرة (%41) أن سكان حيهم يستعملون لغتين على حد سواء، العربية والفرنسية، ويذكرون أدلة متنوعة، مثلاً: يربطون اللغة بالتواصل، حيث يقول المخبر إ.ح.15: "من أجل التسوق" وهذا ما يُؤكده المخبر إ.ح.11 بقوله: "اللهجة العربية حتى نُفهم" وصرح المخبر إ.ح. 15 بعبارة "اللّغة الفرنسية مع الأولاد".

استبيان: يوجد عدد قليل من المبحوثين بحيدرة مقارنة ببلكور الذين يعتقدون أن اللغة الأكثر استعمالاً في حيهم هي الفرنسية (%25)، والذين يرون ذلك يستشهدون بالمبررات التالية: "لأنها حيدرة !" وهذا ما قاله المخبر إ.ح.1، ويُؤكد ذلك المخبر إ.ح.4 بعبارة "لا تشي-تشي"[4] أو عبارة "ثقافة، تطور، مستوى تعليمي". وتدل العديد من الإجابات على أنّ انطباع أغلب المخبرون متمثل في فئة معينة من سكان حيهم تستعمل اللغة الفرنسية، ويُرجعون استعمالها إلى الأشخاص الذين يرى فيهم المخبرون أنهم يرتقون إلى مستوى استخدام هذه اللّغة، أي: أولئك الذين يتمتعون بمكانة معينة.

وهناك عدد لا يُستهان به من المخبرين (%25) الذين يعتقدون أن اللغة العربية هي الأكثر استعمالاً بحيدرة لظنهم إما لأنّها اللغة "الأم" لسكانها، وهذا ما قاله المخبر م.ح.12، أو لأنها اللغة الأكثر استعمالاً من قبل الشباب، وهذا ما أكده المخبر م.ح.2 بقوله: "أغلب الشباب يستعملون العربية". أما المخبرون الآخرون فلم يُعللوا تمثلاتهم.

بدت لنا إحدى إجابات المبحوثين بالغة الأهمية فاستدعت التحليل، ويتعلق الأمر بالمخبر إ.ح. 12 الذي أجاب عن السؤال الذي يهدف إلى الكشف عن اللغة المرتبطة بالمتحدثين المُنحدرين من حيدرة بـ: "العربية: شعبية، لأنني قد أتناقض مع نفسي". من خلال إدراج إجابة هذا المخبر في مجمل خطابه، تبين لنا أنّه يربط استعمال اللغات بالمتحدثين وفق الحي الذي يسكنونه، وبما أنه يعتبر حيه "شعبياً"، فإنه يظن أن تحديد استعمال اللغة الفرنسية داخل هذا الأخير سيؤدي بخطابه إلى التناقض من خلال النعت "شعبي" الذي سبق إسناده إلى حيه. ويبدو واضحاً أن هذا المخبر يُشكل تمثلاته اللغوية وفق تمثلاته للمكان.

مقابلات: من خلال مقابلات موجزة مع مبحوثي حيدرة، لاحظنا أن ربط استعمال اللّغة الفرنسية مع سكان حيهم كان لافتاً للنظر، وهذا من خلال الإجابة عن السؤال رقم 4 من المقابلة ونصه "هل تعتقدون أنّ بالعاصمة أحياء حيث اللّغة الفرنسية هي الأكثر استعمالاً بالمقارنة مع أحياء أخرى؟"، فكان هذا الربط هو البارز أكثر، ونذكر على سبيل المثال المخبرة م.ح.2 التي تجيب بـ: "نعم، آه ه ه ! صحيح أنها نوعا ما تشي-تشي بين قوسين، لكن حيدرة وﭬولف وبن عكنون والأبيار، هي الأحياء الأكثر استعمالا للّغة الفرنسية بشكل واضح". إذن هي تشير إلى بعض الأحياء التي تقع في مرتفعات العاصمة وتُسند لسكانها استعمال اللّغة الفرنسية أكثر. وحين سألناها عن سبب استعمال سكان هذه الأحياء اللغة الفرنسية أكثر من الأحياء الأخرى بالعاصمة، ردت بـ: "دعنا نقول إنّها أحياء مسماة إقامية، هذا ما أعنيه! أحياء مسماة إقامية بمستوى معيشي معين في الغالب، إذن هذا كل شيء ! هذه خاصية من يستعملون اللّغة الفرنسية". نعتقد أن هذه المخبرة تقيم علاقة مباشرة بين النعت "إقامي" وبين استعمال اللغة الفرنسية، وبالتالي تُعتبر جزءاً من هؤلاء المبحوثين الذين يتصورون تمثلاتهم اللغوية وفق تمثلاتهم للمكان.

ويعتقد المخبر م.ح.8 أن اللغات التي نستعملها تعود إلى الأحياء التي نسكنها، ويظن أنّ سكان حيدرة يتكلمون الفرنسية أكثر من العربية، لأنها حي مسمى "إقامي"، وهذا من خلال قوله "آه ه، نعم، نعم، في الغالب نعم، هذا يعني أنكم ستذهبون الآن إلى حي إقامي مثل: حيدرة... صحيح أن الناس يتكلمون بالفرنسية أكثر من العربية".

مقارنة بين إجابات الاستبيانات والمقابلات: يربط عدد كبير من مبحوثي حيدرة بين سكنهم بالحي الموصوف بـ " إقامي " وبين استعمال اللغة الفرنسية وهذا من خلال ما لاحظناه في إجابات المقابلات أكثر من إجابات الاستبيانات. كما أنهم يعتقدون أن سكان حيهم يستعملون بشكل منتظم اللغة الفرنسية، لأنّ حيهم مسمى " إقامي".

بلكور

الذين أجابوا بأن سكان حيدرة بالفرنسية لإتقانهم لها : سنحاول بشكل دقيق معاينة الردود الواردة من قبل أحد المخبرين المُنتمين إلى هذه الفئة، ويتعلق الأمر بالمخبر م.ب.6 الذي يعتبر من خلال الاستبيان أنّ حيه مكان "شعبي" لكن لا يرى أن العربية مستعملة بشكل منتظم وإنما المستعمل هو اللغات الثلاث )العربية والأمازيغية والفرنسية(. وفيما يخص اللّغة الفرنسية، فهي مُخصصة لسكان حيدرة الذين يُتقنونها ويتكلمونها، لأنّ الأمر يتعلق باللّغة التي يشعرون بالارتياح عند استعمالها، ولكن أيضاً "رغبة منهم بالتميز عن الآخرين". يرى هذا المخبر أن حيدرة حي يسكنه أناس منحدرون من بيئات اجتماعية مختلفة بقوله: "هو خليط".

وأثناء المقابلة التي أجريناها مع هذا المبحوث أجاب: "في الأغلب، لا نتكلم الفرنسية في الأحياء الشعبية" وأجاب عن السؤال رقم 4 من المقابلة بقوله "هناك أحياء سكنية مثل: حيدرة، بن عكنون، شراﭬة" وشرح كذلك بقوله: "لأن لديهم إمكانات أكثر من سكان بلكور، وهم أناس مثقفون... مستواهم المعيشي أحسن منا". ويمكن أن تؤخذ "مناّ" بمعنى المجموعة التي لها انتماء اجتماعي. وختم هذا المخبر كلامه بقوله أنّ السكان الذين يتكلمون الفرنسية: "يرتدون ملابس أنيقة، إنهم يرتدون ملابس أنيقة، لأن فرنسا تعتبر حضارة على كل حال !" نلاحظ أن هذا المخبرة قدّم صورة جد إيجابية عن فرنسا فتصورها "حضارة" من ناحية أولى، ومن ناحية أخرى خلط بين استعمال اللغة الفرنسية وبين من يستعملونها، حيث بدأ يعرض صورة إيجابية عن المتحدثين الفرنكوفونيين في عبارته "إنهم يرتدون ملابس أنيقة" كما قال.

الذين أجابوا بأن سكان حيدرة يستعملون اللغة الفرنسية دون اتقانها : يُبدي المخبرون الذين سنعرض تمثلاتهم عن اللغة والمكان رفضاً اتجاه سكان حيدرة، وقد عبرّ المخبرون بالشكل الآتي:

نذكر خطاب المخبرة م.ب.4 التي تتصور أن حيها موقع "شعبي"، "لأن الجميع يعرف بعضهم بعضا" وتعتبر حيدرة حياً "إقامياً"؛ لأن "هناك سفارات وقنصليات محمية". ويتجلى مرة أخرى الانقسام اللغوي والمكاني )العربية لسكان بلكور والفرنسية لسكان حيدرة، حيث تقول هذه المخبرة إنها تتفادى التكلم بالفرنسية في حيها لدرء نظرة التعالي، وترى أن سكان حيدرة يُعبرون بالفرنسية حتى يتميزوا عن الآخرين، وأنهم يتكلمون الفرنسية ولا يتقنونها إلاّ مشافهة لا كتابة بقولها: "يتكلمونها نعم لكن لا يكتبونها". كما أنها لا ترى أي اختلاف بين سكان بلكور وبين سكان حيدرة من حيث مستوى إتقان اللغة الفرنسية. وتدّعي كذلك أنها تتحدث بالعربية والفرنسية في الحي المسمى "إقامي". ونشعر بعدم الأمان اللغوي عندما تقول هذه المخبرة أن سكان حيدرة لا يُتقنون اللغة الفرنسية، في حين أنّها تتقن الفرنسية شفهياً وكتابياً وهي تسكن حياً "شعبياً".

وتشير هذه المبحوثة أيضاً إلى شكل من أشكال التوتر الاجتماعي الذي يتعرض إليه بعض سكان حيدرة، وتعتقد أن الفئة الاجتماعية المهيمنة هي: فئة "الأثرياء"، ولغتها الفرنسية، وأن سكان حيدرة الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية "متوسطة" سيضطرون إلى التعبير بالفرنسية بقولها: "إذا ذهبتم إلى الأبيار أو حيدرة، كل ذلك! ستجدون أن السكان حتى وإن كانوا يستعملون العربية في منازلهم، فإنهم يتكلمون الفرنسية في الخارج ابتغاء المكانة". نخلص من خلال هذه التصريحات إلى أنّ اللغة الفرنسية هي لغة مكانة في تمثلات هذه المخبرة ، بما أنها ترجع إلى مفهوم العُقدة وتقول: "إنّ بعض ممن يلجأ إلى الكلام بالفرنسية، إنمّا يفعل ذلك حتى لا يكون أقل شأنا ممن يتكلمها... أي هي العُقدة، حتى لا يكونوا مُعقدين..." ثم أتبعت كلامها بـ: "الأطفال، لا أدري، يمكن أن يكون جار أبوه لا أدري، مدير عام أو وزير يتكلم بالفرنسية وكان بمدرسة خاصة تعتمد الفرنسية، كل هذا وتجده يتكلم العربية، فلن يُعطوه المكانة الاجتماعية نفسها! حتى وإن كانت عائلته من الطبقة المتوسطة أو الطبقة الدُنيا سيكون مضطراً إلى الكلام بالفرنسية ليرقى أمام الآخرين". تتحدث المخبرة عن ضرورة الالتزام باستعمال معين للغة الفرنسية من أجل تفادي كل شعور بالدونية التي تصفها بـ "العُقدة" اتجاه المتحدثين الفرانكوفونيين الذين يُنظر إليهم أنهم من مكانة اجتماعية عالية.

ويظهر لنا بوضوح أن مبحوثي بلكور يُميزون ساكنة حيهم عن ساكنة حيدرة، وأنّ تمثلاتهم منقسمة: فنجد من يظنون أن سكان حيدرة يُتقنون اللغة الفرنسية، ومن يظنون أنهم لا يُتقنونها. وعلى الرغم من اختلاف أجوبة هؤلاء المبحوثين إلاّ أنّ أغلبهم يرى أن اللغة الفرنسية هي الأكثر استعمالاً بحيدرة، وبالتالي تُعد من التمثلات التي نعتبرها متكررة وراسخة. ونلاحظ في الأخير، أنّ أغلبية المخبرين سواء المنحدرون من حي بلكور أو حي حيدرة يتشاركون في التمثل التالي: "حيدرة هو حي مسمى "إقامي" يستدعي استعمال اللغة الفرنسية إمّا اختياراً وإمّا اضطراراً"، إذن نعتقد أن التمثلات اللغوية تتشكل وفق تمثلات المكان (الأحياء).

المجموعة التي لا تُقيم علاقة بين الأحياء واللغات

يتعلق الأمر بمجموعة المخبرين ، حيث تمثلات المكان لا تُشكّل التمثلات اللغوية:

  • بلكور

يقول سكان بلكور في أغلب الأحيان بعدم وجود علاقة بين اللغات التي يستعملها السكان وبين الأحياء التي يسكنونها، إلاّ أنّهم يعدلون عن هذه الفكرة في كثير من الأحيان بالإجماع، مستشهدين بأمثلة عن أحياء بالعاصمة يعتبرون فيها اللغة الفرنسية اللغة الأكثر استعمالاً. ومن ثمّ فقد اتفق المستجوبون ببلكور على أنّ التمثلات اللغوية تتشكل وفق التمثلات المكانية.

  • حيدرة

تُفيد المخبرة م.ح.4 بأنها نشأت في بيئة تستعمل اللغة الفرنسية، وهي ترفض كل ربط بين اللغات التي يستعملها المتحدثون والأحياء التي يسكنونها، ومتشبثة برأيها إلى غاية انتهاء المقابلة، والرأي نفسه عندما استجوبناها عن أحياء العاصمة واللغات التي يتكلمها العاصميون الذين ينتمون إلى أحياء مختلفة. وتعتقد بالأخص "أنها مسألة تربية ونشأة، الأمر مثل الطفل الذي أبواه أمازيغيان، فحين ينشأ، سيجد أبواه يتكلمان الأمازيغية، فسيكتسبها تلقائياً، فالأمر لا علاقة له بالأحياء! ". وتعتقد هذه المخبرة أيضاً أن سكان حيدرة لا يُتقنون على الإطلاق اللغة الفرنسية أحسن من سكان بلكور بما أن "سكان بلكور قد شهدوا فترة الاستعمار" على حد قولها.

ونلاحظ أن المبحوثة م.ح.4 تنفي كل ربط بين استعمال اللغة الفرنسية وبين الحي الذي يقطنه المتحدث، ناهيك عن رفضها إرجاع استعمال اللغة الفرنسية إلى النُعوت إقامي وشعبي، حيث قالت: "عدم تكلم سكان بلكور بالفرنسية ليس راجعاً لكونه حياً شعبياً، وكذلك تكلم سكان حيدرة بالفرنسية ليس راجعاً لكونه كما يُدعى حياً إقامياً". وسألنا المخبرة: ما الذي تعنيه بـ "يُدعى إقامي " ، فقالت "يُدعى، لأنني لا أظن أن حيدرة لها مكانة "الحي الإقامي "، لأنّه ليس حياً إقامياً، أليس كذلك؟ صحيح أنه يوجد عمارات قليلة بحيدرة مقارنة ببلكور أو باب الواد، هنا أنا موافقة، ولا يوجد سكنات فاخرة ببلكور وكل ما يتبعها من مرافق إنمّا جاء عرضاً أو مناسبة لظرف ما. هذا كل شيء...وإذا ذهبتم إلى الوحدة الإقامية "سالج" فستجدونها كبيرة ! مع أنّها ليست حيّا إقامياً وإنما تنتمي لحيدرة ! لهذا السبب أقول ما يُدعى إقامي!".

ومن البديهي أن هذه المتحدثة لا تتشارك على حد سواء في تمثلاتها للمكان مع أغلبية المبحوثين الآخرين )الذين قالوا حيدرة حي إقامي (، ولا تتشارك كذلك في وجود العلاقة بين اللغات وبين الأحياء. وبالتالي تُعد من المبحوثين النادرين الذين التمسنا مقابلتهم والذين يفصلون في خطابهم بين تمثلاتهم اللغوية وبين تمثلاتهم للمكان. ومثل ذلك مشاركان اثنان فصَلا بين تمثلاتهم اللغوية وبين تمثلاتهم المكانية.

خاتمة

توصلنا إلى الإجابة بنعم عن التساؤل الأولي لدراستنا، وخلصنا إلى أنّ التفرقة بين أحياء مسماة " إقامية" وأحياء مسماة "شعبية" معتبرة، وأنّ بعض أحياء العاصمة مثل: حيدرة حي "إقامي " وبلكور حي "شعبي" تمثل هذا التصنيف.

وفيما يخص التساؤل الثاني، فإننا نقول: إنّ هناك علاقة لغوية أقيمت مع تمثلات المكان، حيث تحظى اللغة الفرنسية بصفة المكانة من قبل المخبرين بالشكل نفسه الذي يتصف به الحي المسمى " إقامي"، حيث ترتب عن تحول في التمثلات اندماج التمثلات اللغوية والمكانية، فأصبح استعمال اللّغة الفرنسية مخصصاً لسكان ما يسمى الأحياء " الإقامية " في الجزائر العاصمة على غرار حيدرة. كما أصبحت اللّغة الدّارجة هي اللّغة المشتركة والشعبية بالعاصمة، وبالتالي نُسبت إلى حي بلكور الذي يتصور أنّه حي شعبي.

بيبليوغرافيا

Blanchet, P. (2000). La linguistique de terrain, méthodes et théories une approche éthno sociolinguistique. Rennes, Presses universitaire de Rennes.

Bulot, T. (2000). Langues en ville : une signalisation sociale des territoires. Dans Bauvois, C. ; Blanchet, P. et Bulot, T. (dir.), Sociolinguistique urbaine, variations linguistiques, images urbaine et sociales, cahiers de sociolinguistique , (6).

Bulot, T. et Tsekos, N. (1999). L’urbanisation linguistique et mise en mots des identités urbaines. In Langue urbaine et identité, Paris, L’Harmattan.

De Rudder, V. (1995). La ségrégation est-elle discriminante dans l’espace. In Gallisot, R. et Moulin, B. (dir.), Les quartiers de la ségrégation : Tiers monde ou quart monde ?, Khartala-institut Maghreb-Europe.

Gasquet-Cyrus, M. (2000). Sociolinguistique urbaine ou urbanisation de la sociolinguistique ? Regards critiques et historiques sur la sociolinguistique, Université de Provence (France), Marges linguistiques, (3), p. 55. Gasquet-Cyrus, M., « langues en ville : une signalisation sociale des territoires » in Bauvois, C., Blanchet, P., Bulot, T., Sociolinguistique urbaine, variations linguistiques, images urbaines et sociales. cahiers de sociolinguistique (6).

George, P. (1966). Le sociologue, Presses Universitaires de France.

Gervais-Lambony, M.- A. (1995). Les très grandes villes. In Galissot, R., Moulin, B., Les quartiers de la ségrégation : Tiers-Monde ou Quart-Monde, Paris, éd. Karthala/ institut Maghreb- Europe, p. 34.

Souiah, S. A. (1995). Le bâti populaire dans les villes algériennes : les nouvelles formes de ségrégation urbaine. In Gallisot, R., Moulin, B., Les quartiers de la ségrégation : Tiers monde ou quart monde ? Khartala- Institut Maghreb-Europe.



ترجمة :

تدقيق لغوي :

الهوامش :

[1] تسمى عملية تحوير الوحدات اللغوية التي تتم خارج التحكم الواعي للموضوع بـ: « épilinguistique »، وبالتالي نستعمل هذا المصطلح للإشارة للحركة اللغوية اللاوعية. (Gombert, 1990, p. 22) -المترجم-

[2] يتعلق الأمر هنا بالعامية الجزائرية التي تعد ممارسات متنوعة من قبل كافة الجزائريين، وهذا على الرغم من بعض الاختلافات الموجودة من خلال استخدامها في جميع أنحاء البلاد.

[3] إ: استبيان، م: مقابلة، ب: بلكور، ح: حيدرة.

[4] اللفظة "تشي-تشي" تشير إلى مجموعة من الناس متميزة اجتماعيًا في الجزائر العاصمة (الأثرياء).

Text

PDF

العنوان

ص.ب 1955 المنور ، القطب التكنولوجي إيسطو - بئر الجير 31000 وهران، الجزائر

هاتف

95 06 62 41 213 +
03 07 62 41 213 +
05 07 62 41 213 +
1 1 07 62 41 213 +

فاكس

98 06 62 41 213 +
04 07 62 41 213 +

دعم تقني

اتصال