من قطب مُهيكِل إلى وسط مدينة متشظي
نشأت المدينة بفعل ضغوطات دائمة بين الحركية والثبات، وبين العيش مع جميع الجنسيات المختلفة وأخرى متجذرة محليّاً، وبين المركزية والحياة المعيشية بالأحياء، وحسب بن غربي محمد[1] فإنّ المدينة في الفترة الاستعمارية كانت قائمة على "التمييز العنصري"؛ لأنّ الساكنة التي كانت تقطنها من "الأهالي" لم تشارك في دينامكيتها الحضرية.
اليوم تغيرّت المدينة؛ ويمكن أن يكون التّمييز العنصري قد اختفى؛ لأنّ سكان المدن كلهم جزائريون، وتغيرّت الوظائف التي تمثل جوهر المدن بعمق -إن لم نقل اختفت-؛ لأن المدينة ماهي إلاّ احتواء للمساكن وإنّ السكن لا يُشكّل المدينة بالمعنى الأنثروبولوجي، "فالمنازل تشكل المدينة ويشكل المواطنون الأحياء"(جون جاك روسو)[2].
وعمومًا تُعرف اليوم المدينة العصرية ووسطها بشكل خاص بمحددها الاقتصادي الذي يمكن أن يكون معيارها الوحيد؛ لأنّ قطاع الأعمال المركزي هو الذي يفرض نفسه، في حين يفقد وسط المدينة خاصيته كفضاء متعدّد الوظائف: إقامة، نشاط، تبادلات وإبداع.
يتم تناول مفهوم وسط المدينة في المدن الجزائرية وفقاً للجغرافيا، وبالأخص التّاريخ الخاص بكل مدينة. والحقيقة أنّ معظم مدننا يتطابق فيها وسط المدينة مع المدينة الاستعمارية، ماعدا بعض المدن الأقّل أهميّة مثل ندرومة أو مازونة؛ حيث استطاع المركز التقليدي أن يكون وسطاً للمدينة.
يسمى وسط المدينة في بشار إلى يومنا هذا "فيلاج" الذي استمد من تسميته الأصلية: "القرية الأوروبية"، على عكس القصر وباقي الأحياء المسماة "بأحياء الأهالي" مثل دبدابة وشعابة. هذا الوسط قد تجاوزه الزمن وفقد تعريف الحي بالمعنى الاجتماعي.
مفهوم "الأزمة الحضرية" المتعدّدة الأشكال للمدينة الجزائرية التي تطرّق إليها المختصون ويتجلى في مدينة مثل بشار. وإلى غاية بداية القرن الماضي ارتقت المدينة فجأة -في أقل من نصف قرن- من مجرد قصر إلى مصاف مقر منطقة عسكرية؛ حيث لم يتوقف تطور العديد من الوظائف.
صورة عن مساحة لوتود، ساحة الجمال سابقا نهاية سنوات 1960
ظهرت في بداية سنوات الثمانينات أولى نتائج عمليات التّجديد التي عرفها وسط مدينة بشار ممثلة في هجرة السّكان الذين ورثوا هذا المجال السكني غداة الاستقلال باتجاه الأحياء الأخرى، بحيث تشهد على ذلك حصيلة الهجرة في فترة (1987-1977) حيث بلغت (4.94-). وقد وصلت قيمة هذا المؤشر بالنسبة لكل من المدينة ودبدابة على التوالي 1.11+ وأكثر من 3%، كما بلغ معدل النمو بوسط المدينة في نفس الفترة (1.62-)، وبلغ بالمدينة 3.94% وبدبدابة 3.69%.
إنّ ما أفقد المدينة جاذبيتها هو بطء عملية التجديد لقرابة 15 سنة، وغلق قاعات السينما الوحيدة في بداية سنوات التسعينات، إضافة إلى بناء حيّين عسكرّين بـ:"عمارات محاطة بالأسوار" وواجهات "محصنة" تطل على الطريقين الرئيسيين لوسط المدينة. "بحيث أصبحت المدينة اليوم تظهر وكأنها فقدت وحدتها المجالية... فبعد مدينة ما قبل الاستعمار أحادية المركز (القصر)، و"المدينة الاستعمارية الثنائية "(القصر والقرية الأوروبية)" نتج تشظي المدينة، فهل يعكس ذلك مجتمعاً فقد وحدته؟ "[3].
وعلى أية حال، يبدو أن هذه الأزمة الحضرية تتأكد وتتطور مع الزمن، ممّا أدّى إلى بروز مراكز تنشيط جديدة، هذا البروز الذي كان مقصودا من قبل وسائل التهيئة والعمران ببشار مثل: مخطط التهيئة للولاية (م. ت. و) والمخطط التوجيهي للتهيئة والعمران (م. ت. ت. ع).
الرحالة يُنشؤون المدينة !
قادت الأعمال التي تولاها الجيش الاستعماري عند وصوله بشار سنة 1903 نحو ديناميكية حضرية تميزت بتوافد الساكنة وإنشاء "عشوائي" لحيّين الأول: القرية الأوروبية واليهودية في شمال القصر؛ حيث كان يتجمع التّجار مع القوات المسلحة، والثاني: حي "الأهالي" في الغرب، ويعرف "بالشعابة" الذي آوى العمال الوافدين من التل والقصور المجاورة بحثاً عن العمل في مواقع لمشاريع خطوط السكك الحديدية والطريق العابر للصحراء.
إنّ تواجد القوات العسكرية ببشار والتي أصبحت المقر العام لقوات جيش الاستعمار في الجنوب الغربي كان لها الأثر الكبير في تطوّر السكن والتجهيزات. ففي حوالي سنة 1940 كانت مدينة بشار لا تزال أقرب إلى مخيم عسكري كبير غير متجانس، ثمّ بالكاد بدأت تركيبته الحضرية تنتظم على طول المحور الرئيسي انطلاقا من محطّة سكة الحديد إلى نقطة الخروج جنوبا. كما كانت الأحياء المشكلّة لهذه المدينة الناشئة لا تزال في مرحلتها الجنينية مثل: القصر القديم الذي كان يسكنه المسلمون الفلاحون والعمال الذين كانوا يعيشون على ضفاف وادي بشار. في حين بدأ يتشكل في الجنوب حي من الأكواخ يأوي ساكنة فقيرة تعود أصولها إلى مختلف القصور بالمنطقة والهضاب العليا السهبية الشمالية.
وخلال سنوات الخمسينات أصبحت مدينة بشار مركزاً إدارياً وعسكرياً رسمياً بعد ظهور أحياء جديدة، وعلى هذا الأساس شُيّد حي سكني لضباط الجيش الفرنسي في غرب المدينة أطلق عليه اسم "برقة" نسبة إلى قمة الجبل. وفي أيامنا هذه أصبحت هذه الحاضرة حيّا يهيمن عليه العسكر ويحتضن أيضا أحياء مدنية أخرى.
وغداة الحرب العالمية الثانية تدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسكان الجزائريين، وتفكك الاقتصاد التقليدي، وبدأ نزوح الرحالة والقصوريين نحو مدينة بشار بحثا عن العمل، فانعدام فرص العمل أسفر عن ضغط سكاني وارتفاع نسبة الفقر، مما أدى إلى نشأة حي جديد بالضفة الشرقية لواد بشار.
الاستقرار أو كيف تمدّن الرحل ؟
بلغ عدد سكان دبدابة في عام 1954 حوالي1615 ليقارب 13185 سنة 1966. هذا التطور السريع قد يُفسر عملية الاستقرار المفروضة على الرحّل بعد صدور قانون 1958 الذي يمنع الترحال. وهو ما واجهته قبيلة "أولاد جرير" التي كانت ترتحل منذ أزيد من قرن بوادي "زوزفانة" في الشمال الشرقي لبشار والتي اضطرت إلى الاستقرار. وأقام أغلبهم في مزارعهم على الضفة اليسرى لواد بشار في المكان المسمى "دبدابة" الذي ظلّ مأهولاً إلى غاية تلك الفترة من طرف الساكنة الوافدة من القصور المجاورة والتي لها دراية ومعرفة بطرق العناية بالنخيل.
واصل سكان آخرون الالتحاق "بأولاد جرير" بحثا عن العمل، ولم يتمكنوا من الحصول على سكن في أحياء أخرى من المدينة آنذاك، فالقصر كان مكتظاً ومراقباً من قبل الإدارة الاستعمارية، أمّا باقي المدينة المسمى بـ: "فيلاج" فكان محتلاً كلياً من لدن الأوروبيين واليهود (2002A. Hanni,)، فاستوطن هؤلاء السكان دبدابة وشعابة وفيما بعد بشار الجديد، ذلك الحي الشعبي الذي كان مأهولاً من قبل "رحّل ذوي منيع" المنحدرين من "عبادلة" في منتصف سنوات الأربعينيات الذين اغتنموا فرصة انخفاض أسعار السكن. استقر الأهالي من قصور الساورة والضيعات الصغرى في الشمال والجنوب مؤقتاً في سكنات بدبدابة في انتظار إيجاد عمل في أحد مواقع المشاريع بالمدينة يضمن لهم استقراراً بالوسط الحضري نهائياً: "ليصبح السكن في المدينة احتمالاً للاستقرار النهائي شرط الحصول على شغل"[4].
تحول الحديقة إلى قطعة أرضية مخصّصة للسكن
"غالباً ما تتطور المدن في الدول المتخلّفة من دون مخطط "(سانتوس، م، 1984)[5]، رغم أنّ "هذا المخطط يُعد بمثابة الملخص لتاريخ المدينة بشكل أو بآخر... وغالباً ما يكون للأحياء في تلك الدول مخططات مختلفة حسب فترات البناء"[6].
ويرى جان بيسون أنّ "النمو السريع لأحياء الرحّل يرجع إلى بناء عمراني عشوائي يُخففه بالكاد احترام الطرق"[7]. وفي الواقع لم يُخالف تاريخ إنشاء حي دبدابة هذه القاعدة؛ حيث أنّ مالكي الحدائق الذين سخروا حدائقهم لإقامة أولى السكنات كانوا "أولاد جرير" القبيلة المرتحلة بشمال بشار؛ أين أنشأوا فيها مساكن من الطوب.
وقد تهيكلت قطع الأراضي المخصّصة للسكن حسب التنظيم المجالي للرحّل؛ "بما أنّ كل وافد جديد يبني مسكنه بالقرب من أخيه، ابن عمه أو عمه..."[8] وذلك مماثلة بشكل القصر، فنتجت تجمعات سكنية ومجال مشترك جدّ محدود في "روعة التجانس". وفي الواقع بنيت السكنات الأولى على هذه القطع من الحدائق الواقعة على ضفة وادي بشار، والمستغلة في ذلك الوقت من قبل "القصوريين" لمصلحة هؤلاء "الرحّل" الذين استغلوا أكثر من خُمس المحاصيل. وكانت تمثل هذه الحدائق نقطة الارتكاز من أجل الاستقرار، والانطلاقة نحو أولى أشكال تنظيم المجال الحضري"[9]، وتشكّل هذا المجال باتباع نمط زراعي حيث تصب مسالكه في الوادي من ناحية، ومن ناحية أخرى تصب في الطريق الأول المحدد من طرف الإدارة الاستعمارية (شارع سعادلي بلخير، شارع النخيل سابقا). ونتج عن ذلك قطاع سكني جديد من نفس النمط التقليدي الذي هيكلته عناصر تتمثل في: شارع الأمير عبد القادر وساحة أول مسجد بدبدابة التي تُعد همزة وصل بالحي بأكمله بما أنها أول ساحة وأكثرها نشاطًا، وهذا بحكم قربها من الجسر المركزي الممتد فوق الوادي باتجاه وسط مدينة بشار.
وعلى الرغم من الجهود المكثفة من أجل هيكلة مساحات التوسيع الخاصة بالأحياء من خلال برمجة المعدات، والمجمعات السكنية التي أخذت الشكل المتعامد بإعادة نفس خصائص الشكل القديم؛ إلا أنّ ما يُميز الحي اليوم الكثافة العالية للسكان وتصنيفهم المحصور بين عشوائية مخيمات الرحل وبين تناسق مجمع القصوريين السكني. ولم تتدخل الإدارة الاستعمارية في هذا الشكل العمراني إلا من أجل تعيين مسار الطرقات الرئيسيّة، وبذلك لم يتم فرض أية قاعدة تخص العمران بالمعنى التقني للمصطلح.
يرجع الإسكان المكثف بالمجمعات الحدائقية إلى :
- تعيين الطرقات الرئيسية الذي لم يمس المجمعات السكنية الكبرى.
- تحويل أراضي المالكين السابقين أو أراضي زاوية قنادسة إلى الوافدين الجدد.
- توسع العائلات بفعل النمو الديموغرافي.
- تقليص الممرات الضرورية للتنقلات الداخلية بين المنازل إلى الحد الأقصى.
أمّا الواجهات المطلّة على الشارع فقد مكنّت فيما بعد من:
- فتح محلات تجارية ومرائب.
- بداية بروز نوافذ وشرفات كبيرة.
وهنا نسجل أنّ الساكنين بهذه المساكن المطلّة على الشارع هم القصوريون المختلطون الذين يشكلون الأغلبية الملتحمة والكثيفة من السكان، سواء كانت أصولهم من قصور بشار أو وافدين من تندوف، أدرار، بني عباس، أو من واحات أخرى لوادي الساورة. وأصبحت الواجهة التي لم يكن مرغوب فيها من قبل الرحّل رهانا اقتصاديا رئيسيًّا.
الأرض التي هيمن عليها السكن التقليدي
يُعد إنشاء وتصميم السّكن وتقسيمه من الداخل، بالإضافة إلى المعدات المستعملة نتيجة مباشرة لتصور ثقافي ناتج عن تطور اجتماعي اقتصادي وتاريخي. ومن أهّم الأسباب التي تصدرت عملية إنشاء حي "دبدابة" -كما رأينا سابقا- استقرار الرحّل وتهميش الساكنة المحلية المسماة بـ: "الأهالي" من قبل الإدارة الاستعمارية.
وعلى هذا الأساس تمّ تعمير الموقع من خلال "ملء" القطع الأرضية، بدءً بإعمار أكبر مساحة قدر الإمكان حسب نفوذ العائلة أو مرتبتها الاجتماعيّة، وهذا بغية تمكين الأعضاء الآخرين من الالتحاق بالمكان الأول من أجل المساهمة في زيادة الكثافة وذلك بالإعمار الأفقي. وحرصت كل عائلة على البقاء مع بعضها البعض كما يقول المثل الشعبي "اختر جارك قبل اختيار منزلك"[10]، ولكن ترتب عن هذا الجوار...التصاق الأحواش... وصارت حيوية الحي -التي لا نشك في مدى قوتها- واضحة داخل المجمع السكني"[11]. وتكون الطرقات المحددة للمجمعات الكبرى متعامدة على شاكلة النمط الزراعي التي تتراوح مساحة قطعها الأرضية الصغيرة بين 100م2 و200م2، فالتجزئة غير منتظمة وتتسم بالتقسيمات الفرعية للأجزاء الأصلية.
أمّا فيما يتعلق بالتوسيعات الحديثة فإنّ تصنيفها مختلف تماما؛ بما أنها مشكلّة من تجمعات كبرى شبه جماعية أو أحياء تبدو هندستها المعمارية مستوحاة من القصر القديم لبشار، حيث شُرع في بنائها بدعم من قبل الدولة فوق أراضي ملك لها -في نهاية سنوات السبعينيات- والتي تُحدد "دبدابة القديمة "، ويندرج ذلك ضمن سياسة ما بعد الاستعمار التي تزعم مقاطعة الممارسات القديمة؛ إلاّ أنّها تُواصل -بكل بساطة- في نفس القواعد التنظيمية الفرنسية التي تخص العمران (أمر 31 ديسمبر 1962). ويشمل المخطط ممرات بها أماكن مخصصة للمساكن والمساحات المشتركة تمّ إنشاءها داخل هذا النسيج.
إنّ تصميم المسكن ليس له أية علاقة بمنازل القصر التي تتكون من طوابق، وتُعد متداخلة، وبدون فناء داخلي، بالإضافة إلى قلة الفتحات التي تُقلل الإضاءة الكافية للغرف وهذا ما يفسّر التحّولات التي طرأت على هذه المساكن منذ البداية من خلال توسيع المنافذ.
تفتقر هذه المساكن بالقصور إلى راحة السكن الملائمة للحياة بمناطق الصحراء، والتخفيف من تعرضها إلى الشمس غير ممكن كون كل مسكن له واجهتين على الأقل، عكس منازل القصر. ومن جهة أخرى، فإن شكل هذه المجمعات لا يلائم محيطها. وقد عرفت تحولات هامة بعد التنازل عنها لصالح السكان (القانون 1981 المتعلق بالتنازل عن أملاك الدولة) تهدف إلى تكييفهم مع نمط الحياة في هذه الأحياء الشعبية: "إنّ تحرير مجموعة العقارات في سنوات الثمانينيات الذي كان يهدف إلى إشراك الساكنين في صيانة الفضاء المبني قد حرّر مقترحات الساكنين الذين أعادوا تشكيل وتهيئة سكناتهم بشكل شامل وذلك لتكيف أفضل"[12]. وأصبحت البناءات تعكس البنية الاجتماعية والاقتصادية للسكان من خلال هندستها المعمارية ومواد بنائها وتركيبتها.
لا شك أن الفعل "سكن" من منظور أنثروبولوجي ليس الفعل الوحيد للمأوى، بل إنّ السكن هو الركيزة التي بدونها تصبح وظيفته موقوفة أو مؤجلة.
إنّ سكنات "دبدابة" هي سكنات ذات نمط تقليدي؛ حيث نجد في ضواحي المجمعات السكنية منازل بطابقين، على عكس التي نجدها في الداخل عادة بطابق واحد، والتي لها غالبا فتحات باتجاه الداخل. كما نجد بعض المنازل التي ما زالت مبنية من الطوب شاهدة على أولى عمليات إعمار الموقع وأولى أساليب البناء في الحي. وسلكت التجزئة مسار شبكات الري القديمة للنسيج الزراعي.
تحولات في حي الرحّالة
أوجبت هشاشة السكن التقليدي المسمى بــــ:"حوش" بعض التحّولات ذات الطابع البنيوي، والذي مسّ أساسًا المعدات دون تغيير في التصميم أو التقسيم الداخلي، وذلك راجع لمحافظة المنزل التقليدي بدبدابة على خصائصه الأصلية، ومع ذلك نجد بشكل متزايد بنايات أخرى من نمط "الحوش المعاصر" )بناية بعدة طوابق( على طول الشوارع التجارية.
ولدّت التحّولات الاجتماعية مثلها كمثل التحولات المجاليّة التي عرفها الحي مع مرور الزمن مفهوما جديدا لمجال "السكن"، وبالأخص إعادة بنائه. "ونتيجة هذه السيرورة هي المسكن الذي يشكل السكان من خلاله فضاءهم وفق تصورهم للتمدن"[13]؛ حيث مزجوا بين التقاليد وبين الحداثة باتباع النموذج القصوري "الحوش"، والانفتاح على الخارج (الشرفات، المرآب، أو التجارة في الطابق الأرضي). كما استبدلت المادة التقليدية أي "الطوب" بمواد أخرى المسماة
بـ: "الصلبة". وعلى الرغم من إثبات كل مزايا المواد المسماة بالتقليدية والتي تتميّز بتكيفها مع الحرارة، وعدم تكلفتها، ووزنها الملائم، وتوفرها... إلاّ أنّ السكان اختاروا المواد الجديدة وذلك للأسباب التالية:
- تُعد هذه المواد أكثر مقاومة من الطوب للتقلبات المناخية (خاصة الأمطار).
- لم يعد السكان مستعدون لتنظيم "التويزات" مثل السابق بهدف الصيانة المنتظمة لمنازلهم التقليدية، وذلك راجع لنمط حياتهم الجديد ونشاطاتهم.
- أوجبت صعوبة التمرير عبر قنوات متعددة إعادة تهيئة السكنات القديمة ما أدى إلى بنائها بطرق ومواد عصريّة.
التجديد أو التحولات المورفولوجية بحثا عن فضاءات جديدة
أصبحت المنازل الجديدة -قيد الإنجاز- تتميز بخصائص المنازل التقليدية ولكن طرأ عليها نوع من التحول: فبدلاً من الطوب، صار الإسمنت يُستعمل للبناء وأصبحت للغرف الداخلية خصوصية معينة مقارنة بغرفة الضيوف... وعادة ما يترتب عن هذا التّحول الذي عرفته السكنات التقليدية بإمكانيات مالية متواضعة للأسرة فوارق واضحة؛ حيث شهدت بعض البنايات تحولات كبرى بسرعة أكبر من غيرها. "ففي كثير من الأحيان يتناقض المظهر الخارجي للبنايات مع تقاليد المجتمع، والإمكانيات الماليّة للسكان، والعوامل المناخية المحلية، وما يثير الاستغراب أن هذا الأمر ينطبق على الطبقات المتوسطة التي لا تفتقر لحس المسؤولية. إضافة إلى ذلك يمكننا رؤية الشرفات غير المستعملة في كل مكان. ونوافذ وأبواب مغلقة بشكل دائم مع أنّ المناخ البارد لا يدوم إلا قرابة ثلاثة أشهر من أصل اثنى عشر…"[14]. ويُعد تزايد الأفراد في العائلة عاملا من العوامل الأساسيّة التي تساعد على مضاعفة الغرف "، ويجيب عن تساؤل حقيقي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، كما يخص جميع طبقات البنية الحضرية الجزائرية"[15] أيا كانت طبيعة المسكن.
تمّ اتخاذ إجراءين هامين هما كالآتي
- التوسع العمراني عمودياً باعتماد الطوابق.
- زيادة غرف إضافية من خلال إعادة التهيئة الداخلية للمنزل.
- لا يقتصر المخطط المصمم من قبل المهندس المعماري إلاّ على الحصول على رخصة البناء.
نحو مركز جديد
تعكس درجة تجهيز مدينة أو حي –دون شك- درجة جاذبيتهما، ففي الواقع كل ما زُودت المدينة بمرافق ضرورية لتسيير الحياة الحضرية كلما جذبت السكان والعكس صحيح، فلا يمكننا فصل المرافق عن وظيفة السكن التي تقترن بالمنزل في كل دراسة للفضاء الحضري." والسكن ليس الإيواء فقط؛ وإنّما هو أيضًا إنتاج متناسق لفضاءات حيوية (مناصب عمل، خدمات عمومية، تعايش اجتماعي). وهو إطار الاندماج والاستقرار الفزيائي والاقتصادي والاجتماعي للمدن"[16].
وفي ظل عدم توفر العقار بدبدابة، قامت السلطات العموميّة ببناء مجموعة من المرافق على قطاع أراضي الدولة الوحيد المتاح آنذاك، والممتد من الشمال إلى الجنوب الغربي على حدود النسيج العمراني القديم. وبالتالي فرض هذا الموقع نفسه بطبيعة الحال على أصحاب القرار آنذاك؛ بما أنّ كل القطع الأرضية كانت مشغولة داخل النسيج العمراني القديم، وبالتالي لم تكن الرغبة في الحصول على هذا الموقع وراء هذا الخيار. وتمّ تزويد دبدابة بكل المرافق الضرورية "للسير الحسن" لحيوية الحي.
تنامي المرافق والمحلات التجارية
تكمن أهميّة المرافق التجارية في تغطية حاجيات سكان حي "دبدابة" دون اضطرارهم إلى التنقل نحو أحياء أخرى؛ حيث يوجد بدبدابة سوقين: يقع الأول (وهو الأقدم) في وسط الحي، ويقع الثاني على الحدود الشرقية للنسيج الحضري القديم بالقرب من مقبرة الحي، ويعود إلى سنة 1980 ويحتوي على تسع محلات تجاريّة؛ إلاّ أنّ نشاطه التجاري ظل محتشماً إلى غاية بداية سنوات 2000، وذلك راجع لتفضيل السكان للسوق القديم بوسط المدينة لاعتبارات متعلقة بوفرة السلع من ناحية، ومن ناحية أخرى قربه من وسائل النقل التي لم تصبح متوفرة إلا في الآونة الأخيرة.
ومنذ حوالي سنتين كسب هذا السوق أهميّة بالغة من جديد، وذلك بفضل التوزيع الجديد لأسواق الحي بمبادرة من السلطات المحلية. ويبدو أن ما أنتج ديناميكية جديدة في الحياة اليوميّة هو تدشين وكالة جديدة للشركة الوطنية للكهرباء والغاز، وملحقة إدارية للبلدية، بالإضافة إلى وكالة للبريد والمواصلات اللاسلكية، وإعادة استعمال المحلات السابقة مثل محلات الأروقة الجزائرية الكائنة بالقرب من مستشفى "بوضياف" والتي تمّ غلقها بعد البناء ثمّ استغلالها لإقامة المعارض. ورغم نشأة هذا القطب التجاري الجديد في حي دبدابة، فقد اعتاد الكثير من سكان دبدابة قصد الأسواق الأخرى أين يبدو التنوع والجودة والأسعار المنخفضة مكفول. وهذا ما يبين تبعية هذا الحي بالمقارنة مع وسط المدينة الذي يستمر في ممارسة جاذبيته على سكان دبدابة بتوفير المنتوجات الغذائية.
ويقع جزءً كبيراً من المتاجر على المحاور الرئيسية لوسط دبدابة أو دبدابة القديمة. حيث بلغ عددها سنة 1972 ما يقارب 372 محلا تجاريا موزعة على المحاور المذكورة أعلاه، والمتمركزة في الجزء الأوسط من الحي القديم حول "الساحة" وبالقرب من أول مسجد والسوق القديم. وحسب تقديراتنا واستنادا إلى عمل ميداني يعود إلى سنة 2008، فقد وصل هذا العدد إلى 628 متجرًا على الأقل مع نفس التوزيع والتركيز تقريبا. وبعيدا عن الأرقام فإنّ ما يبدو لنا جديراً بالذكر هو التنوع والتباين المجالي لهذه المحلات التجاريّة. ويمكننا في هذا الشأن تسجيل ثلاث
ملاحظات على الأقل :
- فضلا عن عدم وجود شبه كامل للتجارة بالجملة، يمكننا القول أنّ جميع المحلات التجاريّة تقريبًا موجودة في دبدابة.
- تتمركز المحلات التجارية في وسط الحي القديم، ونجد متاجر عادة ما تكون في المراكز مثل المتاجر الفاخرة: (محلات المجوهرات، التجميل، المكتبات...).
ساهمت الفضاءات الحضرية بالضواحي في ظهور تجارة الجملة وورشات التصليح، بالإضافة إلى العديد من مرائب التخزين: "وقد نتج عن توسع المدن نسيج عمراني غير متناسق بضواحي المدينة من خلال خصائصه الوظيفية، ما أعطى صورة رتيبة للمشهد الحضري الذي تميز بمضاعفة فتح المحلات التجارية، فلم يبق سكن بالطابق الأرضي يطل على الشارع إلاّ وتحول إلى محل تجاري"[17]. كما شجعت مواقع المشاريع "اللامتناهية" التجار الجدد الوافدين من "التل" على الاستقرار والاستثمار في هذه التوسعات الجديدة.
خلاصة
ولّد "الانفجار" الديموغرافي تحولات بنيويّة على مستوى السكنات، وتحولات وظائفية على مستوى التركيبة الحضرية لمدينة بشار بشكل عام وحي دبدابة بشكل خاص. وفيما يخص وسط المدينة المسمى إلى حد اليوم "فيلاج" والذي استمد من تسميته الأصلية: "القرية الأوروبية" village européen، على عكس القصر وباقي الأحياء المسماة "بأحياء الأهالي" مثل دبدابة وشعابة؛ فقد تجاوزه الزمن اليوم وفقد تعريف الحي بالمعنى الاجتماعي. وحسب مخطط التهيئة للولاية، فإنه يتوجب بذل الجهود في إعادة تركيبة هذا الفضاء من أجل خلق "فضاءات مركزية بمستوى متوسط قصد منح الحي تنظيمًا حضريًا"[18].
وكشفت الدراسة الاجتماعية والاقتصادية لحي دبدابة عن ميول هذا الأخير للسوق، وتشير زيادة معدل البطالة من جهة، وتجليات التحسن الواضح للمستوى المعيشي للسكان من جهة أخرى إلى تناقض يثير تساؤلات حول بشار التي تُعد في مرحلة نمو حضري بوسط المدينة، الضفة اليمنى-الضفة اليسرى، على غرار المدن الأخرى الأكبر مقاما ؟
المراجع
Beaujeu-Garnier, J. (1983). Géographie urbaine. Paris : éd. Armand Colin, collection U, p. 89.
Bendjelid, A. (1997). Anthropologie d’un nouvel espace habité : enjeux fonciers et spatialités des classes moyennes à Oran et sa banlieue (Algérie). Insaniyat, (2), Oran : CRASC.
Bendjelid, A. (2005). Les modalités d’intégration sociale dans le processus de régulation urbaine au Maghreb. Le cas d’Oran. (Algérie). Villes maghrébines en fabrication. Sous la direction de Boumaza, N. Paris : Maisonneuve et Larose.
Bengherbi, M. (2005). Architecte, urbaniste, expert en patrimoine cité par Nabila Sadki, Dossier : Aïn naâdja, Garidi, Badjarah, Bab ezzouar… Des cités dortoirs, symbole d’une « crise urbaine. Quotidien national Horizons, 29/ 01/ 2005.
Bisson, J. (1986). De la zaouia à la ville : El Biodh Sidi Cheikh, ou la naissance d’une ville nomade. Petites villes et villes moyennes dans le monde arabe, URBAMA, (16-17), 145, Université de Tours. France.
Côte, M. (1993). L’Algérie ou l’espace retourné. Constantine : éd. Media plus, p. 267.
Santos, M. (1984). Pour une géographie nouvelle. Paris : éd. Publisud, p. 188.
Tahraoui, F. (2001). L’habitat en Algérie : conception et usage ». Paysages, peuplement et habitat / Modes de peuplement et habitat, Congrès national des sociétés historiques et scientifiques, 126e congrès, Toulouse : Terres et hommes du Sud. (Document Internet).
عبد القادر حميدي - Abdelkader HAMIDI
ترجمة :
محمد بن يوب - Mohamed BENYOUB
صليحة سنوسي - Saliha SENOUCI
الهوامش
[1] Bengherbi, Mohamed, Architecte, urbaniste, expert en patrimoine cité parNabila Sadki, « Dossier : Aïn naâdja, Garidi, Badjarah, Bab ezzouar… Des cités dortoirs, symbole d’une « crise urbaine ». Quotidien national « Horizons » du 29/ 01/ 2005
[2] Cité par Bendjelid, A., Les modalités d’intégration sociale dans le processus de régulation urbaine au Maghreb. Le cas d’Oran. (Algérie), Villes maghrébines en fabrication, Sous la direction de Boumaza. N., Paris, Maisonneuve et Larose, 2005.
[3] Côte, M. (1993). L’Algérie ou l’espace retourné. Algérie : éd. Media, Plus, p. 228.
[4] Bisson, J. (1986). De la zaouia à la ville : El Biodh Sidi Cheikh, ou la naissance d’une ville nomade. Petites villes et villes moyennes dans le monde arabe, URBAMA, 16-17, p. 145, France : Université de Tours.
[5] Santos, M. (1984). Pour une géographie nouvelle. Paris : éd. Publisud, p. 188.
[6] Beaujeu-Garnier, J. (1983). Géographie urbaine. Paris : éd. Armand Colin, collection U., p. 89.
[7] Op., cit.
[8] Idem.
[9] Idem.
[10] Dicton populaire usité en Algérie, pour insister et montrer l’importance du voisinage.
[11] Bisson, J., op., cit.
[12] Tahraoui, F. (2001). L’habitat en Algérie : conception et usage.Paysages, peuplement et habitat /Modes de peuplement et habitat. Congrès / national des sociétés historiques et scientifiques, 126e congrès, Toulouse : Terres et hommes du Sud. (document Internet).
[13] Côte, M. (1993). L’Algérie ou l’espace retourné. Constantine : éd. Media plus, p. 267
[14]. Bendjelid, A. (1997). Anthropologie d’un nouvel espace habité : enjeux fonciers et spatialités des classes moyennes à Oran et sa banlieue (Algérie ». Insaniyat, (2), Oran : CRASC.
[15] Bendjelid, A., idem.
[16] Ministère de l’habitat et de l’urbanisme : Rapport sur les stratégies nationales de l’habitat. Document HTM (internet).
[17] Bendjelid, A., op., cit.
[18] URBAT (Bechar), P.D.A.U. 1996 de la commune de Bechar.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم