مقدمة
يبدو الشّباب في الجزائر اليوم، وبحكم غالبيتهم الإحصائية مقارنة مع بقية فئات المجتمع، عنصرا اجتماعيا محوريا[1]. ولا تعود هذه المكانة إلى المعطى الديمغرافي فقط، وإنّما أيضا لدورهم الفاعل في التغيّر الاجتماعي خصوصا في شقه الدّيني. ويشهد على هذا المعطى التحاقهم الواسع بالجبهة الإسلامية للإنقاذ في تسعينات القرن الماضي، كما يتمضهر في مشاركتهم الواسعة وبفعالية في المظاهرات التي قادها هذا الحزب المحلّ وتجمعاته[2]. يتبيّن من مثل هذه الظواهر التي عرفتها الجزائر في الفترة السابقة من تاريخها بأنّ الشباب يُشكّلون فئة اجتماعية مهمّة يمكن أن يؤخذ سلوكها على أنّه مؤشر هام لتفكّك الحقل الدّيني وإعادة تشكّله في الجزائر.
إنّ محاولة فهم الحركيّة الدينيّة والتي تقودهم اليوم إلى منطق التماثل الهوياتيlogique identificatoire)) للشباب هو غاية هذه الدراسة التي أجريت خلال الفترة الممتدة ما بين 2007 و2009، والتي اتخذت من جامعات وهران، باعتبارها فضاء للتجمع الشبابي بامتياز[3]، مجالا لإنجاز هذا البحث الميداني. وقد تمّ استعمال ثلاثة تقنيات بحثية في هذه الدراسة هي: الاستمارة، المقابلة والملاحظة المباشرة.
أعدّت الاستمارة هذه الدراسة الميدانية بهدف تقييم مدى انتشار التديّن في الوسط الطلابي، وتمّ اختيار المكتبة البلدية بوهران لكونها مكانا لتردّد الطلبة بشكل كبير. ينتمي الطلبة المبحوثون والمتردّدون على المكتبة إلى تخصّصات علمية مختلفة، وبلغ عددهم 500 طالبًا جامعيًا. لقد كان الغرض من هذا التحقيق فهم المعاني الحميميّة المرتبطة بالمرجعيّة الدينيّة لدى الطلبة المستجوبين، وتمّ استكمال هذه المقاربة الكميّة وتعميقها بمقابلات أجريت على عينة فرعية مشكلّة من 30 طالب، كما استعملت تقنية الملاحظة لمقاربة وفهم أنماط التنظيم والفعل الدّيني السائدة في الأوساط الجامعيّة.
كشفت المعطيات المتحصّل عيها بفضل هذه الأدوات التقنية الثلاثة عن حقائق متعدّدة. فقد أشارت أولى النتائج إلى تمسّك قويّ وواسع للطلبة بالدّين، ثمّ بيّنت ثانيا بأنّ الانتماء الإيماني للطلبة لا يستقى من نموذج واحد ولكن يتوزّع وفق أنماط متعدّدة، ثم أنبأتنا في الأخير أنّ الإسلام السياسي لا يزال يتمتّع بنشاطه الأيديولوجي خاصة على مستوى الإقامات الجامعية رغم تراجعه السياسي في الجزائر.
الدّين، من حيث هو مطلب طلابي قوي
تختلف معايير قياس التديّن تبعا لاختلاف الأديان، أمّا المعيار الإمبريقي الذي وقع عليه الاختيار لقياس "تديّن الطلبة" في هذه الدراسة - بالنسبة لنا - فقد ارتكز على ممارسة الصلاة، أكثر من أي واجب ديني آخر، فممارستها تستلزم تفرغا شخصيّا والتزاما يوميّا (الالتزام خمس مرات بهذا الطقس الديني)، وهو ما يتيح لنا استعمالها كمؤشر مناسب لدراسة التديّن[4] في علم اجتماع.
لقد عبّر 94 بالمائة من الطلبة المستجوبين عن ممارستهم للصلاة بشكل منتظم، وإذا تبنينا الفرضيّة القائلة بأنّ العلاقة بالدّين تبنى اجتماعيا، فإنّ هذه النسبة تبدو لنا منطقية جدا لكونها تستمد مصداقيتها من السياق الديني العام الذي تأسس انطلاقا من سنوات 1990 والمتزامن مع صعود الاسلام السياسي، فكل شيء يشير هنا إلى أنّ حركية الأسلمة التي أطلقتها الجبهة الاسلامية للإنقاذ لم تختف مع زوالها السياسي، إذ يبدو أن الانفجار الإسلاموي الذي أحدثه هذا الحزب قد أطلق سيرورة لا تزال مستمرّة من جيل لآخر، وهذا ما أسهم في تقوية الالتزام الدّيني وأدى إلى إعادة إحياء المخيال الدّيني السائد في المجتمع (صرح 97% من الأولياء ممارستهم للشعائر الإسلامية).
إنّ هذه الفرضية، وبعد إعادة صياغتها بمفردات فيبيرية، تؤكد أنّ الحزب المحلّ، وبعدما كان حزبا كاريزميا قد انتهى به المطاف إلى التمظهر في صورة روتين اجتماعي، وخلّف ممارسة دينية أصبحت معهودة في الممارسات اليومية. إنّ دخول الممارسات الدّينيّة في "مجال المعهود والمتداول" قد انطبعت بتديّن يشمل كلّ أبعاد الحياة الخاصة والعامة على حد سواء، لذا يعرف "اللباس الإسلامي" انتشارا متزايدا عند النساء والرجال معا، كما لا نكاد نجد متجرا لا يستقبل زبائنه من دون أشرطة سمعية ترتل القرآن، أو دون لوحات جدارية عليها شواهد دينية[5].
إنّ التسيير السياسي للإسلام من طرف سلطة الدولة ليس غريبا عن هذا التديّن المنتشر في المجتمع، ذلك أنّه قد دخل في شكل من المزايدة مع الإسلاميين بحثا عن شرعية جديدة مستعيرا منهم المرجعيّات نفسها. وما انفكت السلطة السياسية، التي تستعمل السلطة الرمزيّة للديّن على شاكلة الإسلاميين، تضاعف من إشارات الولاء المؤسساتي للإسلام من خلال إدراج الآذان في الإعلام السمعي البصري الرسمي، والشروع في بناء أكبر مسجد في إفريقيا بالجزائر العاصمة. لقد اتخذت هذه الخطوات الرامية إلى إعادة إدماج الدّين في حقل الأنشطة العمومية بطريقة سلطوية شكل سياسة مضادة لحركة الدنيوة، وسارت في الاتجاه المعاكس لتلك سياسة المنتهجة من طرف النظام السياسي الحاكم بعد الاستقلال.
تمكنّنا المعطيات المرتبطة بسياقاتها الاجتماعية والثقافية من فهم التديّن القويّ للشباب المستجوب، فلا يمكن تفسير الالتزام الذي يبديه الشباب أمام شعيرة الصلاة إلا إذا أرجعناه لهذا المحيط المتأثر بشدة بالمرجعيّات الدينيّة التي تذكّر باستمرار كل واحد بإيمانه وتحثهُ على التمسّك بالواجبات الدينية. يمثل المسار الدراسي المتّبع من طرف الطلبة عامل تحفيز آخر للالتزام الديني، فالتنشئة الدّينية تشكل جزء من تنشئتهم القاعدية التي تصاحب مسارهم الدراسي، فهي تنحو بهم في اتجاه تأويل الواقع على أساس "قاعدة نمط واحد" مبني سلفا، بحيث يتكيف شباب الجيل الجديد طيلة مسارهم التكويني مع ذلك ليصبح فيه الدّين مستبطنا عندهم في الهابيتوس (التطبّع)، ومنتجا نسقا مهيمنا يحدّد نظرتهم للعالم، وبما أنّهم قد نشؤوا على قاعدة دينيّة فإنّ تصوّراتهم للمعايير لا يكون إلا من خلال تلك القاعدة.
يخفي الارتباط الوثيق للطلبة بالدّين، كما بينته لنا هذه الدراسة، حقيقة أخرى أكثر أهمية تتمثل في إحلال الجيل الجديد للمذهب الحنبلي بوصفه مرجعيّة مذهبيّة وفقهيّة مكان المذهب المالكى. ويعبّر هذا التحوّل المذهبي عن الهيمنة التي يمارسها الخطاب الإسلامي على الأجيال الجديدة، ولهذا فإنّ حصرنا لمعنى الإسلاموية على الاحتجاج السياسي فقط يؤدي بنا إلى إغفال مهمته الأولى التي تتجسّد في التطهُريّة الدينية[6].
يؤكّد الإسلام السياسي، ومن خلاله ميراث المذهب الحنبلي، بأنّ هدفه الأكبر والأهم هو استرجاع نقاء الإسلام الأصيل، ومن هنا فإنّه يقود حملة على أشكال العبادة التي يراها بدعيّة ولا يتوقّف عن إدانة وشجب التوسّل بالأولياء والطقوس الطرقية وكل الممارسات التي طالما تعايش معها المذهب المالكي. يمكننا القول، في هذا الصدد واستنادا على معطيات هذا التحقيق، بأنّ سيرورة نزع شرعية عن المذهب المالكي الذي ظل لقرون طويلة مذهب الانتماء الديني "الطبيعي" بالجزائر لم تبق من دون أثر، إذ أنّ 91% من الطلبة المستجوبين يعتبرونه مذهبا بِدعيا بدعوى أنّه يعطي الشرعية لطقوس انحرافيه، مثل التوسّل بالأولياء وإقامة الولائم والنذر عند أضرحتهم. ولا يتوقف التغيّر الديني الذي أتى به شباب الجيل الجديد عند انتقاد المذهب المالكي فقط وإنّما يتعداه إلى استحداث مقاربة جديدة للتديّن تتميّز بالتثمين الفرداني والمشخصن.
الدّين، مطلب طلابي نابع من شخصنة الإيمان
يتفق علماء الاجتماع في تعريفهم لمرحلة الشباب على أنّها مرحلة تأكيد الذات، وبعبارة أخرى السنّ الذي تنشأ فيه أهم المرجعيّات الهوياتية. ويمثل الطلبة الفئة الاجتماعية الأكثر ارتباطا بسنّ الشباب بسبب طول مدة الدراسة، والأكثر تعلقا في هذا الصدد بنمط التجريب[7].يجب أن نعي بأنّ بناء الهوية الدّينيّة لدى الكثير من هؤلاء الشباب يتمّ عن طريقة "التهجين" من أجل استحداث منظومة من المرجعيات الخاصة بهم - بحيث يحاول كل واحد منهم تبعا لمسار حياته وحسب المعالم التي يصيغها - أن يجد توافقات وتفاهمات بين هويّته الفرديّة وهويّته الجماعية، وهذا ما يكشف إمكانيات تطبيق نمط التجريب المذكور آنفا على الكثير من الطلبة المستجوبين.
يبدو أنّ تعلّق الكثير من الطلبة بالإيمان ناتج عن ضغط اجتماعي أكثر من كونه انتماء واعي والمفكر فيه حول العقيدة الدينيّة. وبعبارة أخرى، يحيل هذا التعلّق بالإيمان إلى انتماء جماعاتي أكثر من كونه انتماء ذو بعد إيماني، فأن يكون الفرد مسلما يعني بالنسبة لهم أولا وقبل كل شيء: الالتزام بالصلوات الخمس اليومية. أمّا بالنسبة للبقية منهم، فإنّ الالتزام الدّيني يبقى مسألة توافقات شخصية مع التعاليم الدينية.
لا يَحّرم الشباب، المنخرطون والمندمجون كليا في الثقافة الشبابية المعولمة، أنفسهم من استهلاك الرموز الأجنبية من قبيل تقليد لبس الشباب الأوروبي ومشاركتهم أذواقهم الموسيقية، وهذا يُظهر شكلا من التديّن المتسامح، بل وحتى المتساهل. وبعيدا عن كل طموح ثيولوجي، لا تحتوي معرفتهم الدّينيّة غير النسقية سوى بعض السّور القرآنية والأحاديث النبويّة وقصص السلف الصالح المتواترة شفهيا في مناسبات مختلفة (نقاشات مع الأقران، خطب الجمعة أو بعض البرامج الدينية المتابعة عرضا، على الراديو والتلفاز). وباختصار، يمكن القول أنّنا أمام مجموعة من الطلبة يتساوى عندهم احترام قواعد الحياة الدينية المفروضة مع تحقيق الذات بوصفهم شبابا. مثال آخر لهذه العلاقة بالإيمان المتحرّرة يقدمه لنا في هذا الصدد ذلك الشاب الذي يعتبر نفسه مسلما ملتزما ويعترف في الوقت نفسه بتخصيص بعض وقت فراغه في البحث عن علاقات عرضية، فعلى الرغم من النزعة الدينية التحريمية لمثل هذه الممارسات، يبقى هذا الشاب معتقدا بشدة أنّ سلوكه هذا لا يخالف القواعد والواجبات الدينية، كما يبقى مقتنعا بأنّ العبادة التي يخصّصها لله بالالتزام اليومي بالصلاة تشهد بشكل كاف على التزامه تجاه الدّين.
وعلى العكس من ذلك، تبدو الممارسة الفرديّة للدّين لدى قسم آخر من الشباب أكثر احتراما للقواعد الشكلية له، فهم وبحكم حرصهم على توافق سلوكياتهم مع التعاليم الدينية يرجعون لتلك الرموز الجديدة - التي تعرف إقبالا كبيرا في الجزائر - المتمثلة في بعض الدعاة مثل عمرو خالد، عمر عبد الكافي وطارق سويدان، لأنّها تتجنّب الخطاب النضالي وتؤكّد على الاحترام الفردي للمبادئ الدينيّة. يستشهد هؤلاء الدعاة بشكل كثيف بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وسيّر السلف الصالح المستندة على النصوص الإسلامية، إلا أنّهم يحدثون قطيعة مع نهج الإسلامين في إشعار أتباعهم بالذنب، فهم يعالجون في خطبهم المواضيع الدنيويّة، كما يعالجون المواضيع الدّينية العقائديّة، ومن أكثر المواضيع طرحا نجد الحياة الزوجيّة وطرق التخلّص من الحزن والوصول إلى السعادة والإيمان بحسن الطالع[8]، وهي مواضيع شديدة التعلّق بالنزعة الفردانية.
هل تعتبر سيرورة فردنة الحياة الدينية عند الشباب مؤشرا أوليا على ظهور الفرد بوصفه فاعلا مستقلا ومتحرّرا؟ وبعبارة أخرى هل تمثّل هذه السيرورة بداية لفردنة المجتمعات الإسلامية كما تحاول أن تثبته دراسات كثيرة[9]؟
في محاولة للإجابة على هذا السؤال، يجب أخذ بالاعتبار عينه طريقة اشتغال المجتمع الكلي المنتج لأطر الهيكلة (structuré et structurant) التي تعطي للسلوكيات الفرديّة معناها. يحافظ "الإسلام" أكثر من أي وقت مضى على خاصية الشمولية، وهو ما تبيّنه لنا هذه الدراسة التي أكّدت قدرته القوية جدا على الهيكلة الرمزيّة للحياة الفردية والاجتماعية. ويكشف عن تلك القدرة الطلبة المستجوبون، فبالإضافة لوضعهم الإيمان والدين في محور وجودهم وحياتهم، فهم لا يتصوّرون قواعد للحياة الاجتماعية غير تلك التي يقرّرها الدين[10]، فالإسلام يمثل بالنسبة للغالبية منهم الضامن لشرعية النظام الحاكم وأخلاقيات العلاقات الاجتماعية. وكمثال توضيحي لهذا الطرح، صرّح 71% من الطلبة المبحوثين أنّهم يرون في الدّين حلاّ للامعيارية (الأنوميا) المستشرية التي تصيب البلاد، كما عبّر78%منهم عن رأي يصبّ في اتجاه الدعوة إلى قوانين مستوحاة من الشريعة، وعليه نرى أنّه على الرغم من تعدّد الهويّات وتنوعها فإنّها تبقى مؤطرة بقوة بالدين[11].
الدين، مطلب طلابي متأثر بالإسلام السياسي
لا يعني إعادة تشكّل الأشكال الشبابية للديني، والتي تنحو اتجاه فردنة الممارسات، زوال أشكال الالتزام به والمتمحورة حول النضال السياسي، فقد ظلّ هذا الأخير متواجدا على هامش الجامعة ولاسيما في الإقامات الجامعيّة التي تحوّلت إلى فضاءات للتنشئة الإسلامويّة.
تتوفر وهران على خمسة عشر إقامة جامعية، يتصارع على زعامتها تنظيمان إسلاميان. يعود التأثير الأكبر فيها لحركة مجتمع السلم القريبة من تنظيم الإخوان المسلمين[12]، إذ تمتد قبضتها الايديولوجية تقريبا على كل الإقامات الجامعية، ولم يفلت من سيطرتها سوى حيّين جامعيين تمكّن السلفيّون من السيطرة عليهما في الآونة الأخيرة. ظل السلفيّون ولمدة طويلة ممنوعين من النشاط الطلابي بسبب تماهيهم مع الأيديولوجية "الجهادية"، ولكن، ومنذ أن ابتعدوا عنها وامتنعوا عن نقد النظام السياسي - مفضلين الدعوة الدينية[13] - أصبحوا يتمتّعون "بدعم ضمني" من السلطات العمومية خصوصا بعد أن استبعدوا السياسة من مجال نشاطهم[14].
تخوض كل من التنظيمات الطلابيّة القريبة من حركة الإخوان والسلفية صراع نفوذ لا هوادة فيه[15] في بعض الأحياء الجامعية بوهران، إذ اندلعت بينهما سنة 2003 معركة بأتمّ معنى الكلمة بالحي الجامعي زدور ابراهيم، وقد دار الخلاف بينهما حول السيطرة على قاعة للصلاة دشنت حديثا والتابعة للحيّ الجامعي، وكان كل من التنظيمين يريدان الاستباق في الاستحواذ على هذا المكان. لقد كان رهان هذه العملية بالنسبة للطرفين رمزيا بامتياز، فلم يكن يقتصر الأمر فقط على السيطرة على فضاء مقدّس وإنّما - وهو الأهم هنا - كانا يريدان التموضع من موقع القوة أمام الهيئة الإدارية للحيّ.
تعني السيطرة أولا على المصلى بالنسبة لكل من التنظيمين الطلابيين إظهارا للقوّة قبل كلّ شيء، وتعبيرا عن نفوذهما في الحيّ الجامعي الجديد[16]. لقد عملت هذه المقاربة المتمثلة في السيطرة على أماكن العبادة دور إثبات القدرة على الحشد في كل الأحياء الجامعية، بحيث سمحت لكل من "الإخوان" و"السلفيين" من فرض أنفسهم كشريك لأمر واقع في عملية تسيير المصليّات، وفي الوقت الذي كان فيه من المفترض الاهتمام بشكل خاص بالنشاطات الثقافية والعلمية نجحت هذه التنظيمات في تحويل الإقامات الجامعية إلى فضاءات مخصّصة حصريّا للتديّن، فكل الكتب التي تتضمّنها المكتبة وكل المحاضرات المنظّمة والملصقات الحائطية، ذات طابع ديني[17]. كل هذا للتدليل على أن الهيمنة التي يمارسها الطلبة - القريبون من "الإخوان" و"السلفيين" - على الأحياء الجامعية لا تعود إلى فعالية خطابهم الديني بقدر ما تعود إلى فعالية نشاطهم الميداني.
تتواجد التنظيمات الإسلامية في كل مكان من الحي الجامعي، فلا يكاد يفلت من سيطرتها شيء، ولا سيما الحياة الجماعية للطلبة التي أصبحت مجال نشاطها المفضّل. للتنشئة الطلابية في الجزائر خصوصيّة تجعلها تتمّ خارج إطار الفضاء الجامعي، فالطلبة لا ينشطون في الجامعة إلا بوصفهم مجرد مستهلكين للدروس فقط، كما لا تمتد الحياة الطلابية إلى المدينة بحيث تنعدم تقريبا كل الأنشطة الترفيهية والثقافية المناسبة لأعمارهم، وأكثر مكان تتركز فيه الحياة الطلابية هي الأحياء الجامعية بوصفها أماكن تجمّع طبيعية لهم.
استفاد "الإسلامويون" بشكل كبير من تلك المؤانسة sociabilité الطلابية عبر تطوير استراتيجية حقيقية للتجنيد. ومثلما تمت ملاحظته في هذه الدراسة، فإنّ أهدافهم تتجه نحو الطلبة الجدد الذين يدخلون الجامعة لأول مرة، فهؤلاء يواجهون الغربة بسبب حرمانهم من التأطير العائلي وبسبب مواجهتهم لمحيط جديد، بحيث يتمّ التقرّب منهم بمجرد رصدهم عارضين عليهم المساعدة، ويمكن لهذه المعونة القائمة على الصداقة القريبة أن تكون ماديّة، كما يمكن أن تكون معنويّة، ولكن هذه المعونة التي قد تساعد الطلبة على معالجة عزلتهم العاطفية والعلائقية وفي مقابل ذلك الإدماج في جماعة مبنية على الانخراط في المشروع الإسلامي[18]، وتطبّق هذه السيرورة بشكل منتظم ومنهجي في كل الإقامات الجامعية من طرف التنظيمين المتنافسين على حد سواء.
كلا التنظيمين المتواجدين على مستوى الأحياء الجامعية، وإن كانا يشتركان في الأصل الايديولوجي نفسه إلا أنّهما لا يستقيان من المرجعية العقائدية نفسها، فالفوارق بينهما تتمظهر بشكل خاص في خلافهما حول الالتزام السياسي. ففي الوقت الذي تتبنى فيه التنظيمات الطلابيّة القريبة من "الإخوان" موقفا يجعل من السياسة فريضة دينيّة على قاعدة مبدأ "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم"، يعتبر السلفيّون مقابل ذلك أنّه "من السياسة ترك السياسة"، وهو شعار يرى أنّ العمل على القضية الإسلامية يمكن أن يكون من خلال الدعوة فقط. وخلافا للسلفيين الذين يقدمون أنفسهم على أنّهم جماعة لا تنشد إلا الدعوة، ينهج "الإخوان"، الذين يدعون إلى الفعل السياسي باعتباره واجبا دينيا، نشاطا متعدّد الأشكال سواء كان حزبيا، نقابيا أو جمعويا[19]. ويهتمّ هذا التنظيم السياسي كثيرا ببسط سيطرته في كل الأوساط، ولهذا يتعامل ببراغماتية مبتعدا عن التشدّد العقائدي، فلا يمثل ارتداء اللباس الاسلامي بالنسبة لهم إلزاما دينيا، لذا يمتنع الطلبة المنتمون إليه عن التميّز في اللباس خلافا لنظرائهم السلفيين الذين يصرّون على إبداء ذلك علنا بإظهارهم للشارات الدّينيّة في الجسد واللباس تمكّن من التعرّف عليهم فورا بفضل لحاهم الطويلة وعباءاتهم القصيرة التي يرتدونها فوق الكعبين ويظهرون بذلك السروال.
خلاصة
كيف يمكن أن نفسّر أنّ الوسط الطلابي الذي ينبغي أن يكون مجالا لممارسة الفكر النقدي بامتياز والذي تمثل الجامعة فضاء له قد تحوّل إلى فضاء مناسب للتأثيرات الدينية؟ من الصعوبة أن لا يتمّ ربط ذلك مع حالة الارتياح الهوياتي الذي يعيشه الطلبة إزاء قابليتهم لتلقي النداءات
أو الدعوات الموجّهة لهم باسم العقيدة والإيمان. فهم يواجهون مسألة مستقبلهم في مجتمع غامض وغير مضمون، يعيشون بشكل استباقي تدني القيمة التشغيلية لشهاداتهم التي لا تضمن لهم بالضرورة الشغل، فعدم إيمانهم بمستقبل شهادتهم الجامعية يغذي لديهم شعورا منقوصا تجاه انتمائهم للجماعة الوطنية، ومن هنا تأتي راديكاليتهم وإحباطهم الذي يدفع الكثير منهم نحو الانكفاء على شكل من التديّن، بحيث يجدون فيه نسقا مستقرا من المعايير والتوجيهات للواقع، والمفارقة قد تمثّلها حالة نموذجية لذلك الطالب الذي اختار فجأة التخلي عن دراسة الكيمياء لاقتناعه بأنّ "العلم الحقيقي هو الاسلام."
بيبليوغرافيا
Ababou, M. (2001). Changement et socialisation de l’identité islamique. Fès, Imp. INFO-PRINT.
Bourqia, R., El Ayadi, M., El Harras, M., Rachik, H. (2000). Les jeunes et les valeurs religieuses. Casablanca, EDDIF-CODESRIA.
Burgat, F. (1995). L’islamisme en face. Paris : La Découverte.
Burgat, F. (1995). L’islamisme au Maghreb. Paris : La Découverte.
Chérif, H., Monchaux, P. (2007). Adolescence : quels projets de vie. Alger : CREA.
Cherqui, A., Hamman, P. (2009). Productions et revendications d’identités. Eléments d’analyse sociologique. Paris :L’Harmattan.
Dubard, C. (2000). La crise des identités. L’interprétation d’une mutation. Paris : PUF.
Galland, O. (1996). Les étudiants. Paris : La Découverte.
Galland, O. (2004). Sociologie de la jeunesse. Paris : Armand Colin.
Haenni, P. (2005). L’Islam de marché. L’autre révolution conservatrice. Paris : Seuil.
Hervieu-Leger, D. (1993). La religion pour mémoire. Paris : Éd. du Cerf.
Hervieu-Leger, D., Willaime, J.-P. (2001). Sociologies et religion. Approches classiques. Paris : PUF.
Kepel, G., Richard, Y. (1990). Intellectuels et militants de l’Islam contemporain. Paris : Seuil.
Lamchichi, A. (2001). Pour comprendre l’islamisme. Paris : L’Harmattan.
Merzouk,M. (2012). Religiosité et quête identitaire en milieu étudiant. Les Cahiers du CRASC, n° 24.
Merzouk, M. (1997). Quand les jeunes redoublent de férocité : l’islamisme comme phénomène de génération, Archives de Sciences Sociales des Religions, janvier-mars, n° 97.
Roy, O. (1992). L’échec de l’Islam politique. Paris : Seuil.
Roy, O. (1995). Généalogie de l’islamisme. Paris : Hachette.
Roy, O. (2002). L’Islam mondialisé. Paris : Seuil.
Weber, M. (1996). Sociologie des religions. Paris : Gallimard.
Willaime, J.-P. (1995). Sociologie des religions. Paris : PUF.
محمد مرزوق - Mohamed MERZOUK
ترجمة :
فريد مركاش - Farid MERKACH
فؤاد نوار - Fouad NOUAR
الهوامش
*مقال منشور في مجلة إنسانيات باللغة الفرنسية، عدد 55-56 | 2012، ص. 121-131. بعنوان: " Les nouvelles formes de religiosité juvénile : enquête en milieu étudiant "
[1] لقد ظهر الشباب منذ سنة 1996 كفئة عمرية غالبة في المجتمع. فقد كانوا يمثلون حينها 56 بالمــــــــائة من الســـــاكنة. (المصدر: الديوان الوطني للإحصائيات) وتعاظم هذا المعطى الديمغرافي مع مرور الزمن.
[2] Cf., Merzouk, M. (1997). « Quand les jeunes redoublent de férocité : l’islamisme comme phénomène de génération », in Archives de Sciences Sociales des Religions, janvier-mars, n° 97.
[3] أنجز هذا العمل الميداني ضمن مشاريع البحث المندمجة في مركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية. للاطلاع الكامل على هذه الدراسة، أنظر:
محمد مرزوق (تنسيق) (2012)، "التديّن والبحث عن الهويّة في الوسط الطلابي"، وهران، منشورات الكراسك.
[4] يتضمن الإسلام خمسة أركان: الشهادتان، الصلاة، الصوم، الزكاة والحج. إنّ الشهادة وإن كانت تمثل الفعل المؤسس للإيمان بالله، إلا أنّها تمثل التزاما شفهيا مقارنة مع الصلاة (الحفاظ على الجسد في حالة طهارة والاستجابة خمس مرات في اليوم لنداء المؤذن). أمّا صوم رمضان، فإنّه يحترم من طرف الكل الملتزمين منهم وغير الملتزمين، بسبب ارتباطه القوي بالبعد الثقافي. لا يمثل صوم شهر رمضان بالنسبة للكثير التزاما دينيا فقط فهو يمثل تأكيدا للرابطة الجماعاتية، وذلك ما يشهد عليه حتى مستهلكو الكحول الذين يمتنعون طواعية عن شربه طيلة شهر رمضان. حول هذا البعد الثقافي لرمضان أنظر الدراسة التي أجريت في فرنسا على الشباب المغاربة :
Ababou, M. (2001). Changement et socialisation de l’identité islamique. Fès, ImpInfoPrint
أما الزكاة فلا تخصّ إلا الميسورين، وفي الأخير يمثل الحج واجبا اختياريا مشروطا بالاستطاعة المادية.
[5] يوجد اليوم قرابة (المعطيات مرتبطة بتاريخ المشروع) 1500 مسجدا في ساكنة متكوّنة من 35 مليون نسمة.
Le Quotidien d’Oran, 02 août 2009. يظهر جليا بأن هذا العدد من المساجد لا يكفي، إذ تحتل كل جمعة الأزقة والساحات المجاورة للمساجد.
[6] وعليه فإن الفيس وكما تعنيه التسمية التي أطلقها على نفسه (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) يحب تقديم نفسه على أنّه حزب موكل من الله لإنقاذ الناس. فقد كان يعد الجزائريين في حالة تمكنه السياسي بتغيير عاداتهم في الملبس والمأكل، العادات المفترض منها أن تتوافق مع الإسلام الأصيل.
[7] أدرج كلود دوبارClaude Dubar (2010) مفهوم التجربة للدلالة على أنّ الهوية الفردية في المجتمعات العاصرة خاضعة لعمليات البناء أكثر مما هي موروث.
من بين العوامل التي تساعد على توسيع هذا النموذج التجريبي وتوسّع سيرورة فردنة الحياة الدّينيّة اندماجها في مجال مرجعي واسع مرتبط بتنمية سوق جديدة للسلع والخدمات الدّينيّة، فالعرض في هذه السوق تضاعف بفعل توسّع معروضاتها: الأشرطة السمعية والمرئية، المؤلفات الصغيرة، انتشار توزيع الكتب الدينية والهوائيات المقعّرة. فضمن 500 طالب مستجوب عن طريق الاستمارة 71.80% منهم يصرّحون أنهم يتعلّون أمور دينهم من القنوات الفضائية، وتأتي الكتب الدينية في المرتبة الثانية من حيث الأولويات (69.80%) والمواقع الافتراضية الاسلامية على الانترنت بنسبة تعادل 18.60%.
[8] تحيل هذه المواضيع لعناوين المطويات التي كان يعرضها الطلبة خلال إجراء هذه الدراسة.
[9] لاسيما دراسات أوليفييه رواOlivier Roy، على الرغم من أنّها لا تعنى مباشرة بالجزائر إلا أنّها تمس التطوّر العام للمجتمعات الاسلامية المعاصرة. فهذا الباحث يرى بأنّ ظهور الأشكال الخصوصية للحياة الدينية في البلدان الإسلامية تعلن عن نشوء الفرد بوصفه فاعلا مستقلا وسيدا على نفسه.
[10] أنظر" التديّن والبحث عن الهوية في الوسط الطلابي" المرجع مذكور أعلاه.
[11] لا يسمح سياق من هذا القبيل للفرد من التصرّف كفاعل حر في قيمه كما بينته جيدا حالة هؤلاء الشباب المحالين على المحاكمة بسبب عدم احترامهم الصوم في شهر رمضان، أو لأنّهم تحوّلوا إلى ديانات أخرى، فالمجتمع لا يعترف لهم بوضعية الفرد الحر والمستقل.
[12] حماس هو المختصر لـ"حركة المجتمع الإسلامي"، وقد أصبح سنة 1997 حمس "حركة مجتمع السلم" امتثالا للقانون الذي يحظر على الأحزاب السياسية الاستغلال السياسي للدين. فضلنا هنا استعمال تسمية حماس، على حمس لأنّها تدل بشكل أفضل على المشروع الإسلاموي الذي يحرك الحركة.
[13] تكرس التسمية التي أعطوها لأنفسهم : "السلفية العلمية" عوض "السلفية الجهادية" تخليهم عن الراديكالية الدينية، وتأكيد انتماءهم "لأهل السنّة والجماعة"، فهم يخصّصون جل خطبهم لإدانة "البدع" أي الممارسات غير الواردة صراحة في القرآن والسنّة، ويعدّ التديّن الشعبي والتصوّف والتشيّع أهدافهم المفضلة.
[14] يدعم السلفيون سياسة "المصالحة الوطنية" التي بادرت بها السلطة السياسية من خلال خطبهم الداعية إلى نبذ العنف.
[15] ينعت السلفيون أعضاء حماس بالخوارج وهي أشد تهمة بالنسبة لأي سني.
[16] تخضع المصليات في الإقامات الجامعية للمراقبة المستمرة لكيلا تسقط تحت سيطرة الخصم.
[17] تحتوي هذه الملصقات تعاليق دينيّة متعلّقة بكل تفاصيل حياة "المؤمن الحقيقي"، وتضمّ فضلا عن الفتاوى والأحاديث الأدعية الملائمة لكل مناسبة في الحياة اليومية.
[18] بالنسبة للطلبة الجدد المجندين في أحد التنظيمين يماثل هذا الانتقال من الصداقة إلى جماعة، تحوّلا هوياتيا حقيقيا. فبتبنيهم للقضية الاسلامية يستبطنون عالما رمزيا جديدا. ويتم هذا الاستبطان تدريجيا وفق مسار إدماجي يبدأ بقبول الانضمام إلى "الأسرة"، الخلية الأساسية التي تضم سبعة أعضاء تحت سلطة المربي ومهمته إمامة الصلوات الجماعية وبشكل أهم ينظم الحلقات دورية التي تمثّل جلسات لإعادة تعلّم الدين وتجري بشكل شبه سري في غرف الإقامات الجامعية.
[19] مارست "حمس" العمل الخيري من خلال "جمعية الإرشاد والإصلاح" والعمل النقابي الطلابي من خلال "الاتحاد العام الطلابي الحر" وقد أوكلت إليه تأطير المجتمع الطلابي.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم