"يقول شبّاح المكي الأوراسي : بسم الله الرحمن الرحيم، و الصلاة على سيدنا محمد...". هكذا يبدأ و هو يملي في بداية الثمانينات حياته على عبد الحميد بن زين، هذا المناضل الشيوعي، عضو نجم شمال إفريقيا في بداية نشاطه، و كذلك جمعية العلماء. ولد بن زين سنة 1894 و توفي سنة 1988، و هو شخصية نهلت من مشارب متعدّدة، كاتب مسرحي عصامي، صديق رضا حوحو، حفظ القرآن في كتاتيب الأوراس وعلى ما يبدو فإن كاتب السيرة لم يرغب في ذكر هذه الكلمات التي وردت في هذه المقدمة.
أودّ في هذه المساهمة أن أعرض بعض الانطباعات و الفرضيات والنتائج التي توصلت إليها فيما يتعلق بمكانة الدين، و بشكل خاص الإسلام، في المجتمع الجزائري غير الحضري، كما كان يقال قبل 1954، و ذلك من خلال العمل الميداني الذي قمت به بين سنتي 1973 و 1995 و ما توصّلت إليه من نتائج ما يزال قائما، في قورارة ثم في الأوراس، بل و حتى في شنوا. و مؤدَى كلامي في الأساس يتعلّق باللّقاء الذي جمع بين سنوات 1930 و 1950 "هذا" الدّين الذي لا يرتبط "بالمدن"، أي أنه لا يرتبط بالدعوة الإصلاحية التي نادى بها ابن باديس ، و التي كان منبعها من المدن، حتى و إن كان روّادها من تقليد محلّي. و سأتعرض فيما بعد إلى ما نتج عن هذا اللّقاء، من آثار ما زالت باقية حتى سنوات ما بعد الاستقلال، بل و إلى غاية اليوم، حتى و إن بدا الأمر يحوي تناقضا.
و قد يبدو كلامي هنا غير مطابق تماما لمحور العنوان المقترح: الدين، السياسة و الثقافة، و السبب في ذلك بسيط، و هو أن إشكالية الأمة خلال ربع القرن هذا، حتّى و إن كانت حاضرة لدى بعض الفاعلين الاستثنائيين مثل شبَاح المكي، فإنها ما تزال في طور التشكَل في المناطق غير الحضرية. فعلا، لقد أسرع الإصلاحيون في عملهم هنا و هناك، و صحيح أنّه كانت هناك خلايا للحزب الشيوعي الجزائري، و أعضاء من فدرالية المنتخبين و الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، في كثير من الضواحي الصغيرة المحاذية للمناطق الجبلية ومناطق الهضاب. و أخيرا، لا أحد يمكنه أن يتجاهل حضور "أجانب" في بعض القرى، والذين كانوا ببساطة مناضلين في حزب الشعب الجزائري، مجبرين على الإقامة بعيدا عن مقرّ سكناهم. و إضافة إلى ذلك، هناك اليد العاملة الفلاحية و المناجم ، إضافة إلى بداية الهجرة إلى أوروبا. و تكمن أطروحتي في أنّ هذا التعدد يفسر في حدّ ذاته الحضور الدائم للإطار الإصلاحي، ويمكن الحديث هنا عن الدين من أجل التفكير في العالم. والسؤال يطرح أيضاً بشأن ما إذا كان الأمر ما يزال على حاله اليوم. خلال سنوات عملي الميداني، قال لي والي ولاية باتنة: "الشيء الجيّد هنا هو أن كلَ شيء يبدأ باسم اللّه".
و وجب القول أيضا أن هدفي في سنوات السّبعينات لم يكن إشكالية الأمة، ولكنَه الاجتثاث (déracinement) الذي أحدث ضجّات كبيرة لدى الأنتلجينسيا في فترة ما بعد الاستقلال، إضافة إلى بيروقراطية الدولة، سواء أكان ذلك على المستوى المركزي أو المحلي، وهو ما أثَر حتى في المواثيق الوطنية من 1964 إلى 1977.و من وجهات نظر متعدّدة، تدفعنا هذه الرؤية إلى أن نحاول فهم تلك الوسائل التي من خلالها تعامل الناس مع ما حدث، وليس فقط كيف تمَ انتزاع ملكيتهم
1. الدين و المجتمع
نعرض هنا بعض المعالم من أجل وصف مختصر لجهة في داخل البلاد.
وفي كل حال، بدت مناطق واسعة مهمة من التراب الوطني، في الشرق خاصة، خلال ربع قرن (1930-1954) على النحو التالي:
- ماضي غير بعيد يتميّز بالانتفاضات، مع كل ما تحمله من عواقب وخيمة، اضافة إلى مصادرة مئات الهكتارات من الأراضي الجماعية.
- قانون الأهالي) الأنديجانا (التمييزي.
- تنظيم إداري يقوم على "الدّوار" بهدف القضاء على القبائل، ولكن من دون بلوغ ذلك.
- نظام البلديات المختلط.
- الحضور المحلي للكتابة، الكتاتيب و الطرق الصوفية المتواجدة بشكل مكثَف نسبيا.
- في المقابل، كان هناك حضور ضعيف للتمدرس في المدارس الجمهورية الفرنسية.
- محاولات للتبشير المسيحي، لم تكلّل بالنجاح إلاَ في منطقة القبائل.
- توطين أوروبي ضعيف، 3% في الشرق، مختلط جدّا، يرتكز في القرى وعلى جانب الطرقات التي يمكن العبور منها، إضافة إلى مدينة أو اثنتين للحماية العسكرية هنا و هناك.
- نتج عن ذلك اتصالات "فردية" محلّية قليلة مع "الغيرية الثقافية"، و من ثمّ فإن النماذج التي يقدّمها الإطار الإداري الذي تمّ وضعه مع كل ما تمّ فقده (مئات من الأرواح، الكرامة) لم يكن إلاّ أن يقابل بالرفض. و لكن ماذا بشأن التجنيد؟ فهذا أمر لم يطرح إلاّ في فترة الحرب، ومن ثمّ فهو من باب التضحية و ماذا بشأن الهجرة العمّالية إلى أوروبا والتي كانت نادرة في هذه الفترة؟ مع ذلك، فهناك فردانيات قوية ستنبثق عن ذلك، و هي استثناءات ستعطي نتائج ما. و كل هذه العوامل كان لها أثر مباشر على التديّن وعلى التأطير الديني نفسه. ويمكن تلخيص تلك الآثار بالقول أنه وابتداء من 1880، تحوّلت ردّة الفعل الديني و اللغوي إلى استراتيجية مسيطرة[1]، مثَلت فيها الأرض، وكذلك الدين، قوّة هذه المقاومة[2]، وكان مفتاح النظام هنا هو الكُّتاب، و هو يمثَل ظاهرة لم تلق الاهتمام الذي تستحق. و فيما يتعلق ببلاد الأوراس، يمكن أن نضيف أنَ رقابة العلماء- و الذين كانوا أنفسهم موضع رقابة الاستعمار- ما كانت لتُرى، و مع ذلك فقد كانت مسيطرة بشكل كلي، بحيث أنها، وحسب شهادات الآباء البيض كانت تحبط كل محاولة لاعتناق المسيحية[3]. سمحت معرفة اللغة العربية و العلاقات مع الزوايا، في الصحراء و جنوب تونس، بالحركة نحو الشرق أي طريق الحجّ، و كانت أيضا بداية العلاقات مع الشمال، و خاصة مدينة قسنطينة.
2. مشهد و تأريخ التغير الديني
إذا كان الكُتّاب، من حيث كونه "إعادة للإنتاج المبسّط"، يمثل هيكل البناء فيما يتعلق بالشأن الديني، فإن الأبواب و النوافذ، إذا ما استعرنا المجاز الذي استخدمه غيلنر، ترتكز، كما هو التقليد في الإسلام، على أسس أخرى. و إذا أخذنا الانتفاضة الدينية الأخيرة في الأوراس (تلك التي حدثت سنة 1879)، يمكننا أن نلاحظ على الأقل أربع صيغ (متزامنة أو متعاقبة) لإنتاج المتعلمين و كذا الشرعية الدينية:
- الرّحلة التي تمتد لفترة بعيدة تصل إلى 20 سنة. و هي تمتد على مناطق واسعة جدّا تضمّ مكّة و القاهرة و أحيانا إسطنبول، و هي تقنية مستمرة أبد الدّهر.
- الطقوس الكبرى ذات الطابع الجهوي: كانت تتميز بالنشاط في سنوات الثلاثينات، ثم انقطعت في الخمسينات، لتتحول إلى السرية في السبعينات[4]. و نجد نماذج لذلك مثلا، حسب الشهادات الشفوية، في منطقة مستغانم وفي منطقة رغراقة بالمغرب أيضا. و ثمّة عدّة وظائف وجب أداؤها مثل صيانة الأماكن التي تشترك فيها القبائل، وحدة الدين كما هو، العمق التاريخي للثقافة المحلية، التي تضمّ أيضا فترة ما قبل الإسلام، و ذلك بمراعاة الروابط التي تتّصل بالهوية البربرية، و لكن من دون تفاخر خاص، وأخيرا البعد المهرجاني والحسي للدين، و هو ما يفسّر أن الناس يطلقون على أنفسهم تسمية أبناء الأوراس.
- هنا يحدث الاتصال و تُختصر الهوية، و مهما يقال بهذا الشأن فإن ذلك كلّه إسلامي بجدارة، ديني وغير سحري، ويقال هذا باللغة العربية، اللغة الحقيقية للثقافة.
- انفتحت كوكبة مركزية للمسارات التربوية نحو الشمال والمدن ذات الطابع الأوربي، بل نحو أوروبا نفسها. في بداية القرن العشرين أنتج زملاء ابن باديس و التلامذة الأوائل الذي تخرَجوا من "المدرسة" و أشخاص من أمثال عمّار نزّال[5] و الشيخ زردوني و مالك بن نبي. أنتجت هذه الكوكبة حداثة مهمّة، و لكنها في نفس الوقت باهتة، توفيقية و دفاعية.
و بشكل سريع برز رد معاكس في اتجاه المركز، نحو الداخل، وهو من النوع التبشيري، يمثلَه تلامذة و أتباع ابن باديس في سنوات 1930-1940. هنا حدث التّحوَل، إذ لم يكن رفض الثقافة المحلَية الذي عبّروا عنه أحيانا بشكل صارم، كما هو الحال في الأوراس أمرا محتوما. و يمكن أن نلاحظ ذلك بإجراء مقارنة مع المغرب، فمثلا كان مختار السويسي[6] و سي عمّور دردور، معاصره في الأوراس، و كلاهما عالمين "أرستقراطيين"، متعلّمين في مجتمع ينطق بالبربرية، الأول تطغى عليه ثقافة بربرية عالية وشعبية، والثاني إصلاحي، بل رقيب، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، على ثقافته الأم.
و إذا ما تأمّلنا بشكل دقيق المسارات الفردية للأشخاص الحاضرين في الميدان[7] و الذين يحق تسميتهم بـ » الأشخاص « بدلا من مصطلح » فاعلين« الذي يفتقد للإنسانية، فسيتبيّن لنا مثلا اختلاف وتعقّد مجالات التفكير وأنساقه والتي يمكن أن تتواجد مجتمعة في فضاء ضيّق ومعزول نسبيّا: استمرار أبدي للنظام الطرقي، وبالخصوص في اختلافاته المتكاملة فيما بينها، بقاء الطقوس القبلية،بقاء المتعلمين السلفيين الذي يراعون المعتقد الشعبي على الهامش، تلامذة المدرسة العقلانيون، و لكنهم أيضا شغوفين باللغة والثقافة المحليتين[8]. و تعد مدينة بسكرة مركزا ثقافيا حيّا، ارتبط مباشرة بالشرق. و فيها ظهر علماء متميّزون مثل الشيخ العقبي، رضا حوحو، أو الشيخ زردوني. كان هؤلاء المدرسيَون أبعد ما يكونوا عن التوافق مع ما كان يريده النظام منهم آنذاك، مثل عمّار نزال المُخبر النّبيه لباسي (Basset) والمتميَز عن معاصريه.
و بغض النّظر عـن كلَ ذلك، و بعيدا عن دائرة الدين، بل و خارج دائرة المدرسة الجمهورية، حتـى و إن كانت هذه المدرسة لا تتدخل إلا قليلا (و لكنها مع ذلك تتدخّل) برز ابتداء من 1934 نضال شيوعي لـ "مؤمنين" هم في اتصال ليس فقط مع العمل المأجور والهجرة، و لكن مع حضور معلّمين، بل و أطباء أوروبيين شيوعيين أيضا.
يعطي اينودي[9](Einaudi) في كتابه حول موريس لابان مختصرا قيّما حول بسكرة و المنطقة بشأن هذا الموضوع. و بالاستناد إلا شهادات موريس لابان، شباح مكي وعمّار أوزقان، فإنه يصف المناضلين المحليين للحزب الشيوعي الجزائري، بأنهم مرتادون للمساجد و مصلّون. و هو يتحدث أيضا عن مجموعة من الشيوعيين بالقرب من تغرت، يقودها إمام، و عن خلايا تبدأ اجتماعاتها بالصلاة، و بالصلاة أيضا تنهيها. وأعتقد أن مثل ذلك وجد أيضا فيما بعد في حزب الشعب الجزائري، بدءا من 1937-1947 حيث نسجل انبثاق الخلايا الأولى لحزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج، و خاصة من لدن المناضلين و المهاجرين. و أخيرا، و من المخبرين على اختلاف مشاربهم، نعلم أن بن بولعيد الذي كان هو نفسه من حزب الشعب، كان يخطب كثيرا في المسجد. و لكن و في المقابل، و هذا مالم يمنع حصول ذلك، فإنه من المؤكد أنه طلب مرّتين من موريس لا بان (Maurice Laban) و هو شيوعي و قائد سابق للفرق الدولية للحرب في إسبانيا، أن يكون الرجل الثاني بعده في حرب التحرير، وهذا ما يكون الحزب الشيوعي الجزائري قد رفضه. توفّي لابان في الميدان إلى جانب مايو (Maillot) في الونشريس سنة 1956 ، بعيدا عن الأوراس مسقط رأسه.
و خلاصة القول، أن المناخ السياسي كان معقّدا للغاية، وأحيانا تنافسيا، ولكن مع ذلك كان مبنيا على الحوار في أغلب الأحيان.
3. عودة تحليلية للقاء بين "ممارستين للدين". الخلفية الإيديولوجية - الدينية و المعرفية
و مع ذلك، فإن النموذج الباديسي هو الذي انتصر في الشأن الديني، في منطقة الأوراس كما في غير ذلك من المناطق. و يشهد على ذلك مقال رائع جدَا حول الاستراتيجية الثقافية و الدينية للباديسيين[10] الذي يشرح بوضوح الاستراتيجية الخاصة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتشكيل، بل كجمعية سياسية في الواقع. و لتبسيط الأمور للغاية، يمكن القول أن الباديسيين اختاروا الميدان الثقافي و الديني كـ"مجال تدخَل" ، بشكل غير منفصل ومن خلال إدماج الأول في الثاني، فقد كانوا يعتبرون أن الاهتـمام بالشأن الثقـافي لا يمكن فصله عن الشأنين الاجتماعي و السياسي"، و من ثمّ قرّروا أن "يصنعوا الجديد انطلاقا من القديم" و هذا هو مبدأ السلفية. لقد أدرجوا كثيرا من "التعديلات" في الجهاز التّقليدي : ترقية النوادي من خلال جعلها "فضاء تكون اللغة العربية فيه غير أجنبية"، و أيضا من خلال نشر مواضيع دينية تكرس الروابط بين الاثنين، "إخضاع المسجد للمدرسة" بحيث يصبح عاملا رئيسا من خلال إدخال برامج وطنية ومتدرجة ")على النموذج التعليمي الجمهوري) وذلك بتحويل، متى كان ذلك ممكنا، "العائلات والجمعيات الدينية ذات التوجه الطّرقي من خلال إنتاج صحافة خاصة" تتفق مع توجّهاتها كان هدف الباديسيين هو تكييف المشهد الثقافي كليّة من خلال التأثير في كل أجهزة العمل وكل التشكيلات السياسية. يتعلّق الأمر إذن بالإبداع وبعمل كبير جدّا ومنتشر بطريقة مستمرة في نفس الوقت.
و ليس هذا كلّه بالأمر الجديد، بحيث أنّنا نعيشه مع تغيير ما يجب تغييره بشكل ما. يكمن إسهام محمد القورصو في توضيحه للطريقة التي تمّ بها ذلك فعلا من خلال استراتيجية مدروسة أظهرت نجاحها.
4. بروز شرعية جديدة
في هذه النقطة من مقالنا، ينبغي العودة الآن إلى مثال الأوراس، و الذي يعدّ في الواقع قابلا للانتقال، لأن ظهور شرعية دينية محليّة، و من ثمّ سياسية، على المستوى المحلي هي ظاهرة جسّدها التيار الإصلاحي. و حتى نختصر القول، فقد حدث بطرق عديدة و مختلفة. و الواقع أن تضخيم المحلّي سمح بتوضيح الإمكانات التي لم تتم، و كذلك التعقيد الموضّح أعلاه، إضافة إلى ثمن التغيير، بمعنى أن ما تمّ تحطيمه تمّ بشكل مؤقت.
لقد حصلت إذن في الأوراس مقاومات للتغيير الذي قدّمه الإصلاحيون، و لكنها تبقى فردية : مقاومة الشيخ زردومي، و أخرى لأحد أفراد عائلة دردور الذي أنجز زاوية في لامبيز، و الذي كان صديقا وحاميا لبعض الأوروبيين[11]. و من المهم هنا التساؤل بشأن هذه الرّاديكالية .
لقد كان مجيء الإصلاحية في سنتي 1936-1937 بشكل انفجاري و نشط من خلال أعمال مثيرة للدهشة، كتجنيد فرق للتوعية الأخلاقية للشباب المسلّحين، بدءًا من الوادي الأكثر غنى و هو وادي عبدي.
و كان القادة في ذلك هم أبناء ينتسبون للمرابطين الذي تلقوا تعليمهم على يد ابن باديس نفسه في قسنطينة، كما وضّحنا ذلك أعلاه. لقد بدأوا في الظهور على الملأ في الساحة، إذ لم يكن الأمر يتعلّق بعمل سرّي، كما كان الشأن بالنسبة لحزب الشعب الجزائري لاحقا. و هكذا فإنّهم كانوا من خلال عملهم الذي قام على الجديد انطلاقا من القديم، حسب التعاليم، يستندون إلى "وسائل الاتصال" أي "النوادي، المدارس و عائلات المرابطين" على المستوى المحلي. و هناك أيضا و على الخصوص تقليد جهوي يقوم على ممارسة لا تناقش للمراقبة التي يمارسها العلماء على المستويين الديني و السياسي[12]. و قد انتهى الأمر ليصبح الإصلاح مجالا متغيّرا للرقابة التقليدية للعلماء، والواقع أن الأمر أكثر من ذلك، ذلك أنه يتعلّق بإبداع مثير للدهشة يتمثل في:
- ردع الممارسات الدينية والعائلية بشأن طقوس الدفن والزّواج ومواسم زيارة الأولياء والموسيقى أيضا، وكلّ ما يميز الحياة اليومية والتدين المحليّين، أي كل ما كان مسموحا به من طرف هيئة العلماء التقليدية، التي كانت مرتبطة بتلك الممارسات أشد الارتباط[13]. وفي عملهم ذلك، فقد أقرّوا، كما يقول القورصو حتى "من يكون مسلما و من لا يكون، من ينتمي للإسلام و من لا ينتمي إليه"، وهي العبارة التي تشير حسبهم إلى الثقافة المحلية، وكان ذلك كلّه يتّم تحت غطاء "مكافحة الجهل". و يمثّل ذلك استراتيجية مجازفة إزاء ثقافة متحمسة بشكل واسع، حيث تتمتّع النساء بحرية أكبر مقارنة بمناطق أخرى، حيث كانت مكانة "الخليلات"، مثلا ،معترفا بها.
- استراتيجية تجعل جوانب كبيرة من الهوية البربرية المحلية موقع اتهام، وخاصة "اللّغة". وبشكل فضولي، يمكن القول لشخص أتى من الخارج مثلي أن يقول بعد سنوات عديدة من ذلك، أن الهوية المحلية لم يتم التعرضّ إليها، و كذلك الأمر بالنسبة لممارسة و حيوية اللّغة الدارجة. لم يكن ثمّة مشكل مع الجانب المسيطر للغة العربية، كما كان الحال بالنسبة لمنطقة القبائل لأنّه و لأكثر من قرن من الزمن، فإن العربية أصبحت لغة الثقافة و الكتابة و الاتصال الخارجي للمنطقة، تقريبا على شاكلة اللغة الفرنسية في منطقة القبائل منذ أكثر من قرن من الزمن الآن. ليس الأمر كذلك، "إذ أن العلاقة مع المعيار هي التي تغيّرت. نبقى على ما نحن عليه، بشكل عنيد أو مثير للجدل، و لكن بشكل مخجل خاصة، مع العلم أن ذلك ليس أمرا مشروعاً كليّة". يجسد الإصلاح منذ ذاك هذا المعيار، و بشكل خاص "مركزيتّه"، و لكن ذلك لم يتم إلا بعد أن دفعت المنطقة ثمنا باهضا.
- الواقع، أن أحد الآثار غير المنتظرة للروابط التي تمّت من خلال الكتابات الدينية أثناء فترة حرب التحرير مع رجال الثورة، تمت في إقرار "دين الدولة" و "علماء الدولة" في الوسط، كما في المناطق الأخرى. أي رفض التقليد القرآني و الفصل المطالب به بين الدين و السلطة، و من ثمّ فقدان الوضع الخارجي الاجتماعي المستحق للعلماء، من التيه و الحاجة اللذان يسمحان بقول الخير والشرّ في هذا العالم و في العالم الآخر، تاركين بذلك فراغا وجدت فيه الإسلاموية مكانا للانبعاث.
- و من ناحية أخرى، أنتج هذا التاريخ الثقافي الجهوي المتميّز مناخا ثقافيا ذا طبع خاص لا شبيه له، وهو مستمر إلى اليوم. ومع ذلك فإن هذه المنطقة لها كل ما يلزم من أجل إنتاج أحسن المتخصّصين الذي يتحدثّون لغتين أو ثلاثة في الجزائر. والواقع أن الأعمال التي أنجزت فيها باللغات المحلية قليلة، و الطبعات الجهوية قليلة جدّا أيضا، والتعريف بكبار الشخصيات يقتصر على الأنترنت، و التاريخ الديني المحلي يكاد لا يجد أثرا (كما أتيح لي أن ألاحظ ذلك في ملتقى الفكر الإسلامي في باتنة سنة 1980). كما أنّه ليس ثمّة أي بحث معروف حول شعر يمكن أن يكون صدر لكتّاب سواء أكان هذا الشعر قديما أو حديثا، باللغة العربية أو البربرية، ولا أثر أيضا لأي شيء ازدهر في منطقة القبائل منذ قرن من الزمن. كل الإبداع الموجود يظهر في أوروبا أو على هامش الجامعة: لا يوجد في جامعة باتنة أو في غيرها أقسام للغات أو الثقافات البربرية، رغم الإعلانات التي تتكرّر كل عام، أو بمعنى آخر على هامش الهوية الوطنية أوهوية الدولة. من أجل إخراج هذه الظاهرة من العزلة، التي لا تخصّ الأوراس فقط، بل تخص أكبر عدد من المناطق الأقل تعميرا في البلاد، ينبغي توفر إرادة قوية وشفافة للدولة. أما ما يوجد الآن فهو أمر يقتصر على الأمة التي تسمح بها الدولة، مع الرّغبة في أن تكون الأمور على الشكل الذي تريده الدولة.
- صحيح أنه يمكن أن نتوفر على بٌعد أو عدّة أبعاد وعلى ألفاظ جديدة و على معنى جديد لكلمات مثل "الوطن، الجنسية، القومية"، وهي كلمات يبدو أنها دخيلة، وقد تجسّدت في صياغتها العربية، من خلال حلم تحقق، هو الاستقلال ونهاية الخضوع الذي لم يحصل إلا بعد دفع ثمن باهض هنا. ولكن هل كان ذلك كلّه ليكفي حتى تصبح فكرة الأمّة "مثيرة للحساسية"؟ احتمالا، ذلك ما كان يعتقده غيلنر، و لكن ما هو موضوع هذا الكيان وما حدوده ؟
5. من 1962 إلى اليوم، من أجل الخروج من الفكر الأحادي
يمكننا بالطبع أن نعطي بعداً متباعدا و إيجابيا لهذا التاريخ الخاص بالدين، كما فعل ذلك غيلنر في كتابة "الأمم و النزعة القومية"[14]، عندما بيّن أن الإسلام في الجزائر (البلد الذي زاره في عدّة مناسبات و الذي اهتم به بشكل مباشر)، قد سمح بشكل تدريجي بفكرة الأمّة كهدف لكل الذين انتزعت ملكيتهم و الذي ينتمون إلى نفس العقيدة، ثمّ من أجل التأكيد على الدور الذي يساعد على تمييز مفهوم هذه الأمّة: "التحوّل كليّة ". عرفت الأماكن المقدّسة القبائل و حدودها، أما الكتابة الدينية فيمكنها أن تعرف الأمّة، و قد فعلت ذلك فعلا ".و لكن "هذا كلّه يجعلنا في وسط الجسر" (ذلك أن من ينصح ليس هو من يدفع الثمن). ما الذي حدث بعد ذلك؟ كل الكتابات الدينية لا تتشابه (وهنا يتوجه فكر غيلنر إلى البروستانتية الأوروبية التي تُعدّ بالنسبة إليه أحد الأمم الأوروبية، و هو هنا متأثر بماكس فيبر بشكل كبير، و إن كان دوركايميا بتبنيه لفكرة الانقسامية(. والواقع، أنّ المذهب الإصلاحي الجزائري المتميّز و الأصولي قد اقترن بالتيّار المناهض للثقافوية الشعبوية التي ميّزت التقليد البروليتاري لنجم شمال إفريقيا وحزب الشعب الجزائري/جبهة التحرير الوطني.
و من دون الوقوف كثيرا عند "الهاجس الثيولوجي للوحدة" في البناء الثقافي للمنظَرين الجزائريين[15]، حيث كانت العلامة المميزة حينذاك هي إبعاد الفقه[16] (ليس فيما يتعلّق بالحكم على كل ما يمكنه أن يثير "الاختلاف و التقسيم"، أي مختلف المدارس في الفكر الديني)، فإنه يجب التأكيد خصوصا على "تهميش الخاص و المحلي" الذي أرجع، و لمدّة طويلة، الثقافة و الجامعة ما بعد الاستقلال عقيمتين، حيث رهن بذلك و بشكل خطير و دائم (على الأقل إلى غاية 1981) تطوّر العلوم الاجتماعية. لم يكن هناك فقط تاريخ رسمي و لكن أيضا علوم اجتماعية مرخّص بها.
يمكننا إذن القول أن هناك صلة وثيقة بين هاجس الوحدة هذا، المتصل في الواقع بالانتظام، واستحالة وجود مثقّف نافذ في المجتمع الجزائري لفترة ما بعد الاستقلال. ويعود سبب ذلك أوّلا إلى نكران الاختلاف الديني ثمّ الثقافي والاجتماعي والجغرافي والأنثروبولوجي للبلاد الذي يرجع إلى اعتبار أن الأنثروبولوجيا خارجة عن القانون. يكمن المشكل أنه عندما رفع الحظر عن هذا الممنوع، تبيّن أنّ الطلبة غير قادرين على التفكير في الاختلاف. كان التهذيب شاقا واستمر لفترة من الزّمن.
وكان من المهم جدّا، حسب ما يبدو لي، أن نجعل من تنمية نزعة الإجماع والفكر الأحادي تاريخانية، بحيث تبدو أنها غير حتمية: وذلك بالنظر إلى التعقيد الاجتماعي و السياسي لسنوات الثلاثينات، و أبعد من ذلك إلى القرن التاسع عشر. و هو ما يعدّ أيضا طريقة للإشارة إلى المسالك الضيّقة لما لم يتم تحقيقه، واقتراح أن تكون الأسماء (و ذلك على عكس ما تقوله به الوضعية بشأن المقاربة الماكرو اجتماعية) موضوعة على سبل غير مسلوكة، وفي ذلك إشارة إلى أهمية "الفاعلين"، و خاصة في فترة الحرب حيث ينبغي التفكير بسرعة.
و هل وجب هنا ألاّ نتحدث عمّا كان ينبغي أن يحدث و عما حدث أحيانا؟ أي أن لا نقول مثلا أن النسّق الاجتماعي الديني – المحلّي لم يكن قادرا على أن يبقى وأن يجنّد في الوقت نفسه الناس ضدّ المحتل، مع قبول الاختلاف الديني، الذي يتعلّق بالمتحمسين دينيا و الذين يعتبرون منقسمين أيضا، الأمر الذي يجعلهم في تعارض مع السّلفيين؟ ألم يكن بمقدور هذا أن يجعل الناس قادرين على قبول الاختلاف الانساني في مظهره الخارجي، و لم لا على الإرادة الحسنة من خلال فتح الباب لغير المسلمين للانتماء إلى أمّتهم، مادام أن ذلك قد سبق و أن حصل من قبل؟
يدفعني ذلك إلى أن أجد نفسي أمام تساؤل خاص و محيّر، من أجل رفع لبس تاريخي و أن أتقاسم فكرة غيلنر، والتي مؤدّاها أن القومية ليست هي مصير الجنس الإنساني "مصير سياسي طبيعي" و شرط ازدهاره، بل هي أمر يرتبط بفترة تاريخية معيّنة من نضج الإنسانية: "ما هو موجود، حسب غيلنر، هو ثقافات، غالبا ما تكون مُجمّعة بطريقة متميزة، تندمج الواحدة في الأخرى، تتشابك و تختلط، و يوجد غالبا، و ليس دائما، وحدات سياسية من كلّ الأحجام و الأشكال"[17].
البيبليوغرافيا المستخدمة حسب ترتيب ورودها في نص المقال
Chebah, M. (1982), Mudakirat monadil Awrassi, Mtba’at al-Katib, Alger.
Nouschi, A. (1962), La naissance du nationalisme algérien, 1914-1954, Paris, Minuit.
Colonna, F. (1995), Les versets de l’invincibilité, Paris, Presses de Sciences Po.
Colonna, F. (1992), « Invisibles défenses » in Pratiques et résistance culturelles au Maghreb sd de N. Sraieb, Paris/ Marseille, Editions du CNRS, p. 29-53.
Colonna, F. (2010), Le meunier, les moines et le bandit, Arles, Actes Sud- Sindbad.
Basset, A. (1961), Textes berbères de l’Aurès, Paris, Adrien Maisonneuve.
Boukous, A. (1998), « Mohammed Mokhtar Soussi, Figure emblématique de la différence », in Naqd, Revue d’études et de critique sociale (intellectuels et pouvoirs au Maghreb. Itinéraires pluriels), N° 11, Printemps.
Lacheraf, M. (1999), Des noms et des lieux, Alger, Éditions Casbah, 1998 ; Einaudi Jean-Luc, Un Algérien, Maurice Laban, Paris, Le Cherche- Midi.
El Korso, M. (1988), « Structures islahistes et dynamique culturelle dans le mouvement national algérien, 1931-1954 » in Lettrés, intellectuels et militants, Carlier, Colonna, Djeghloul et El Korso, (Sous la direction de) Oran, URASC.
Gellner, E. (1981), Muslim society, Cambridge, Cambridge University Press.
Gellner, E. (1989), Nations et nationalisme, Paris, Payot.
Benkheira, M-H. (1988), « La pensée divise : à propos de Bachir Ibrahimi et de la censure dans l’islam » in Revue maghrébine d’études politiques et religieuses, Alger, 22-59.
Merad, A. (1967), Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 à 1940, Paris, La Haye, Mouton.
فاني كولونا - Fanny Colonna
ترجمة :
بلقاسم بن زنين - Belkacem BENZENINE
الهوامش
*صدر هذا المقال باللغة الفرنسية في مجلة إنسانيات، العدد 47-48، جانفي-جوان 2010 ، [و هو خلاصة مداخلة قدّمت في ملتقى جريدة الوطن يوم الخميس 28 ماي 2009، الذي شارك فيه أيضا المؤرخ البريطاني جيمس ماك دوغال.]، بعنوان :
« Religion, politique et culture (s), quelle problématique de la Nation ».
**مديرة بحث، بالمركز الوطني للبحث العلمي، باريس، فرنسا.
[1] Nouschi, A. (1962), La naissance du nationalisme algérien, 1914-1954, Paris, Minuit.
[2] Colonna, F. (1995), Les versets de l’invincibilité, Paris, Presses de Sciences Po.
[3] Colonna, F. (2010), Le meunier, les moines et le bandit, Arles, Actes Sud- Sindbad.
[4] Colonna, F., Les versets de l’invincibilité, op.cit.
[5] Basset, A. (1961), Textes berbères de l’Aurès, Paris, Adrien Maisonneuve.
[6] Boukous, A. (1998), « Mohammed Mokhtar Soussi, Figure emblématique de la différence », in Naqd, Revue d’études et de critique sociale (intellectuels et pouvoirs au Maghreb. Itinéraires pluriels), N° 11.
[7] Colonna, F., Les versets de l’invincibilité, op.cit.
[8] Lacheraf, M. (1998), Des noms et des lieux, Alger, Éditions Casbah.
[9] Einaudi J-L. (1999), Un Algérien, Maurice Laban, Paris, Le Cherche- Midi.
[10] El Korso, M. (1988), « Structures islahistes et dynamique culturelle dans le mouvement national algérien, 1931-1954 » in Lettrés, intellectuels et militants, Carlier, Colonna, Djeghloul et El Korso, (Sous la direction de) Oran, URASC.
[11] Colonna, F., Le meunier, les moines et le bandit, op.cit.
[12] Ibid.
[13] Gellner, E. (1981), Muslim society, Cambridge, Cambridge University Press.
[14] Gellner, E. (1989), Nations et nationalisme, Paris, Payot, p.100-199.
[15] Benkheira, M-H. (1988), « La pensée divise : à propos de Bachir Ibrahimi et de la censure dans l’islam », Revue maghrébine d’études politiques et religieuses, Alger, p. 22-59.
[16] Merad, A. (1967), Le Réformisme musulman en Algérie de 1925 à 1940, Paris, La Haye, Mouton.
[17] Gellner, Ernest., Nations et nationalisme, op.cit.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم