من أرشيف الإدارة الاستعمارية في الجزائر : الوثائق الفرنسية والهجرة إلى الديار الإسلامية

من أرشيف الإدارة الاستعمارية في الجزائر : الوثائق الفرنسية والهجرة إلى الديار الإسلامية

تقول القاعدة التاريخية الكلاسيكية "لا تاريخ دون وثائق"[1] ويذهب المؤرخ المغربي : عبد الله العروي أبعد من ذلك حين يؤكد "يتغير نوع الوثيقة - أي الرمز الشاهد - فيتغير مفهوم الحدث وبالتالي يتغيّر النقد والتأليف، أي تتغير ذهنية المؤرخ"[2].

عموما، كل خطاب تاريخي تتحكم فيه جملة من العوامل هي المصادر أولا، ثم الاختيارات المنهجية الصريحة أو الضمنية فالتصورات حول الإنسان والمجتمع، بين هذه العوامل علاقة عضوية واضحة.

إن ما يميز الأسطوغرافيا الاستعمارية التي عالجت تاريخ الجزائر المعاصر (1830–1954) هو ارتباطها بأرشيف الإدارة الاستعمارية، ارتباطا يجعلها تعيد إنتاج تحاليلها المختلفة وخلاصاتها العامة، هذه النتيجة نلمسها بوضوح عند قراءة الوثائق التي تتناول هجرة الجزائريين إلى الديار الإسلامية خلال الفترة 1898–1912. تشتمل هذه الوثائق على مجموعة هامة من التقارير والتحقيقات التي وضعها موظفون – على مختلف المستويات – واستخدمها المؤرخون الفرنسيون بكيفيات قررت مضمون أبحاثهم ووجهت نتائجهم.

لا شك أن التأليف التاريخي الاستعماري مليء بالأحكام المسبقة السلبية المبنية على مفاهيم لا ترتبط، ارتباطا عضويا، بالوقائع التاريخية الجزائرية، حقيقة دامغة لكن لا ينبغي أن نعتبرها حكما مطلقا نركن دائما إليه في المساجلات الفكرية مع المؤرخين الاستعماريين، مثل هذا الموقف المتخلف أخطر على مستقبل التاريخ والفكر التاريخي في بلادنا.

لا يجوز أن نستقر في موقع السجال العقيم، ننقد التاريخ الاستعماري وأحكامه، نلغيه بسبب نقائصه ونغفل ذكر رصيده المعرفي والمنهجي. ننسى أن المؤرخين الاستعماريين قد كتبوا تاريخ الجزائر بوسائل فكرية وأدوات منهجية ارتبطت بوضعية العلوم الإنسانية والتاريخ في عصرهم. إنهم – مثل المؤرخين في العالم – قد تأثروا بأصولهم الاجتماعية وبالبيئة السياسية المحيطة وبالمناخ الفكري الثقافي السائد.

ندعو إلى تجديد كتابة التاريخ وتخليصه من المسحة الاستعمارية، غير أن هذه الدعوة لا تتحقق إلا بالتنقيب عن مصادر بديلة – غير المصادر الفرنسية- وبإعادة تحليل الوقائع التاريخية اعتمادا على المناهج العلمية الحديثة.

الوثائق الفرنسية الخاصة بالهجرة إلى الديار الإسلامية

شغلت حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية، التي شهدتها الجزائر خلال الفترة 1890–1911 شـغل الإدارة الاستعمارية. ويعود ذلك إلى اعتبارات ترتبط بما أسمته هذه الإدارة "أمن المستعمرة"، لقد خشيت السلطات الفرنسية أن تكون هجرة الجزائريين سببا في انتشار الاضطرابات الثورية. "بمجرد أن تتجه الأنظار إلى الهجرة، تفقد الإدارة ثقة الأهالي وتنتشر موجات القلق،… وقد يتحول هذا القلق في بعض المقاطعات إلى حركات ثورية لا تحمد عقباها…"[3].

لذا كانت الإدارة الاستعمارية تهب، كلما ظهر خطر الهجرة، إلى اتخاذ الإجراءات الإدارية والعسكرية لتوقيفها. وتتمثل هذه الإجراءات في عدم تسليم جوازات السفر ومراقبة الحدود وتجنيد الفرق العسكرية لمتابعة من يغادرون البلاد سرا.

إلى جانب هذا العامل، كانت الدوائر الحكومية في الجزائر وفرنسا، تخشى على سمعتها لأن حركات الهجرة إلى البلاد الإسلامية كانت تترك انطباعا سيئا على الرأي العام في فرنسا والعالم الإسلامي. فهي توحي بأن "أهالي المستعمرة يئنون تحت نير الظلم والاستعباد " وبالـتالي "يجب العمل على إيقافها " وإلا "تحول المهاجرون الجزائريون – عند وصولهم – إلى دعاة معادين لفرنسا وأعداء ناقمين عليها"[4].

ولم تنظر الإدارة – وحدها – بعين القلق إلى حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية، فالمعمرون – أو أوساط واسعة منهم، - كانوا يعلنون عن غضبهم كلما انتشرت الهجرة في مدينة أو مقاطعة ما. ولنا أمثلة واضحة عن هذا الموقف، في الصحف التي كانت تصدر في المستعمرة وفي المجالس المختلفة التي كان المعمرون يشرفون عليها.

وترتبط أسباب غضب المعمرين، عموما، بمصالحهم الاقتصادية، إذْ كانت حركات الهجرة، تسبب لهم نقصا خطيرا في اليد العاملة الضرورية لتسيير مزارعهم ومؤسساتهم الاقتصادية الأخرى.

هذه العوامل كلها، هي التي دفعت السلطات الفرنسية إلى الاهتمام بظاهرة الهجرة. فخصصتها بمجموعة من التقارير والدراسات يعتبرها المؤرخون الفرنسيون مصدرا تاريخيا رئيسيا. واعتمد جل هؤلاء المؤرخين عليها في بناء تحاليلهم لحركة الهجرة إلى الديار الإسلامية.

نريد في هذه المقالة أن نركز اهتمامنا على مجموعة من التقارير التي وضعتها الإدارة الاستعمارية لدراسة ثلاث هجرات هي هجرة سكان "الشلف" سنتي 1898 و1899 وهجرة سكان "بوعريرج" سنتي 1909 و1910 ثم هجرة "تلمسان" في أواخر سنة 1911. وتوجد هذه الوثائق – حاليا – بمركز "أرشيف ما وراء البحر " بمدينة أكس الفرنسية، في علب تحمل الأرقام التالية: (3H 63 و9H 61 و9H03 و9H 04 و9H 05 و9H 106).

لاشك أن هذه التقارير تحتوي على معلومات هامة لا يمكن أن يستغني عنها الباحث، لأن أصحابها كتبوها من مواقع رسمية وانتقلوا إلى المناطق التي وقعت بها الهجرة وعاينوا أوضاع سكانها… إلا أن النتائج التي توصلوا إليها كانت في الواقع، غير سليمة.

وقد قسمنا هذه التقارير، من حيث نتائجها إلى قسمين:

أولا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي

ثانيا : التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الجديد.

التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري التقليدي :

لأصحاب هذا التقارير قاسم مشترك، فانهم يرجعون الهجرة إلى الديار الإسلامية، إلى عوامل وأسباب لا ترتبط بواقع النظام الاستعماري كما أنهم ينفون مسؤولية الإدارة الاستعمارية – وهم أطراف فيها – في وقوع حركات الهجرة. وتنقسم هذه التقارير بدورها إلى ثلاثة أصناف :

التقارير التي تعزو الهجرة إلى "الدعاية العثمانية"

نجد هذه الأطروحة في عدد من التقارير والدراسات أهمها التقرير الذي كتبه مدير مصلحه "شؤون الأهالي" (LUCIANI) عقب الهجرة التي عمت الجالية الجزائرية في تونس ثم انتـشرت إلى مقاطعتي "المدية والشلف"[5] سنتي 1898 –1899. يعتبر السيد "لوسياني" ما أسماه بـ "الدعاية العثمانية" تارة و"التحريض الأجنبي" تارة أخرى، السبب الرئيسي في هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام، إذ يقول: "هدفت هذه الدعاية العثمانية إلى إثارة الشعور الديني لدى مسلمي المستعمرات وخاصة المستعمرات الفرنسية"[6] وفي نظره، فعلت هذه الدعاية فعلها لأنها انتقلت عبر قنوات مختلفة هي :

* الصحف التي تصدر في الأقاليم العثمانية مثل "المعلومات" (الإستانة) و"ثمرة الفنون" (بيروت) و"الإسلام " (الإسكندرية) ويؤكد أن هذه الصحف كانت تصل إلى الجزائر بسهولة إذ أنه "حصل على عدد كبير منها دون صعوبة تذكر" [7].

وعلى حد زعمه، دعت هذه الصحف مسلمي الجزائر والمستعمرات الأخرى إلى مغادرة أوطـانهم والتوجه إلى الأقاليم العثمانية في الشرق الأدنى بهدف الاستقرار فيها.كما أنها نشـرت "رسائل بعض المغاربة المقيمين بالشام يناشدون فيها إخوانهم في الجزائر إلى الهجرة قصد التخلص من الحكم الأروبي المسيحي والإقامة في ظل الحكم العثماني الإسلامي".

* وإلى جانب الصحف انتشرت الدعاية العثمانية على يد تجار وجواسيس كانوا يعملون لصالح الدولة العثمانية. وعند إقامتهم بالجزائر، تحدث هؤلاء التجار والجواسيس كثيرا عن "الحـفاوة والمساعدات المختلفة التي كان يتلقاها المهاجرون من قبل المصالح الإدارية العثمانية: أراضي، مساكن وأموال"[8].

وفي الأخير، يخلص مدير "الشؤون الأهلية" إلى النتيجة التي توقعها منذ البداية وهي "أن الـدعاية العثمانية وحدها – تكفي لتفسير حركات الهجرة التي تشهدها الجزائر من حين لآخر. "فلا يجوز، في اعتقاده، أن نبحث عن أسباب أخرى ولا يعقل أن نحمّل الإدارة الاستعمارية مسؤولية وقوعها."

في الواقع، يضخم السيد "لوسياني" دور الدعاية العثمانية، فالمؤرخ الموضوعي، يعلم أن العوامل الخارجية – مهما كانت أهميتها – لا تؤثر إلا إذا استندت على العوامل الداخلية التي تشكل الأرضية الفعالة في حركة الأحداث التاريخية.

إنه يرتكب خطأ كبيرا حين يفصل بين عامل "الدعاية" والواقع الاستعماري الذي يشكل مصدر غضب الجزائريين عامة والمهاجرين على الخصوص. أضف إلى ذلك، أن التجار والجواسيس الذين شغلوا عقل السيد لوسياني، لم تعثر الإدارة على أحد منهم.

لا يعني قولنا هذا، أننا ننفي وجود شعور قوي يدفع الجزائريين خلال هذه الفترة، إلى التـطلع إلى الدولة العثمانية. وقد يعود هذا الشعور على حد تعبير "لوسياني" إلى العامل الديني "الذي يجمع بين المسلمين في المشرق والمغرب، غير أننا لا نشاطره الرأي حين "يعتبر الشعور الإسلامي مجرد عامل نفسي لا يحتوي على أبعاد سياسية واضحة"[9].

وفي الحقيقة، اتجه الرأي العام الجزائري خلال الفترة 1880 – 1918 نحو الدولة العثمانية لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى هي :

* كانت الدولة العثمانية الدولة "الإسلامية" الوحيدة التي وقفت في وجه الدول الأوروبية وتصدت لنواياها الاستعمارية وإن كانت على حالة خطيرة من الضعف.

* كان النظام العثماني، باعتباره نظاما "إسلاميا" مستقلا، يرمز في الحقيقة إلى النقيض للنظام الرأسمالي الاستعماري الذي كان يخضع له الجزائريون. وهذا الواقع، نستشفه من دراسة الأدب الشعبي (الشعر الملحون) الذي ازدهر خلال هذه الفترة. فكان الشعراء يكتبون القصائد للتغني بأمجاد السلطان العثماني. ولمقاومة ظاهرة اليأس التي عمت قطاعا كبيرا من الرأي العام الجزائري بسبب فشل المقومات الشعبية المسلحة، أنتج الشعر الملحون صورة "خلافة عثمانية جبارة" تعد العدّة لتحرير المستعمرات.

التقارير التي تعزوا الهجرة إلى أسباب عرقية

في 28 أكتوبر 1911، كتب "السيد صاباتيي" (SABATIER): العضو في المجلس العام لعمالة وهران، تقريرا عن هجرة تلمسان[10] أخلص فيه إلى أن غالبية العائلات التي هاجرت، كانت تنتمي إلى "الطائفة الكرغلية". فيقول: " تمكنت مصالح البلدية من وضع قائمة بأسماء المهاجرين. إن ما يلفت الانتباه في هذه القائمة هي أنها تتكون من 508 اسما من أصل تركي"[11].

وفي اعتقاده، أن السبب الذي دفع الأقلية الكرغلية إلى الهجرة، هو اعتزازها بأصلها التركي ومكانتها الاجتماعية الخاصة. فهي تعيش في أحياء خاصة بها، لا تريد الاختلاط بـ "الحضر" الذين ينتمون إلى الأصل العربي أو الأصل البربري. إنها تتفاخر بتقاليدها التركية وعاداتها التي تميزها عن باقي سكان المدينة.

ويخلص السيد "صاباتيي" إلى النتيجة التالية: "أن الكراغلة يعتبرون تركيا وطنهم الحقيقي… أما الجزائر فهي – في نظرهم – أرض هجرة لا غير"[12] و يتابع قائلا :"تقيم العائلات الكرغلية في تلمسان علاقات مستمرة مع الوطن الأم. فهي تتابع عن كثب أحداث تركيا السياسية والاجتماعية وتتأثر لها. فحين قامت الحرب بين الباب العالي واليونان، اهتزت قلوب الكراغلة وقوى اعتزازهم وزاد اهتمامهم[13] لا ينكر السيد "صاباتي" أن الهجرة قد مست الفئات الأخرى التي تسكن المدينة أو ضواحيها، لكنه يؤكد أن "الهجرة كانت في الحقيقة هجرة الكراغلة بالدرجة الأولى" أما انتشارها إلى بقية السكان فيعود -أساسا- إلى قرار الحكومة الفرنسية الخاص بتطبيق قانون الخدمة العسكرية الإجبارية على الشبان الجزائريين.

وفي نفس السياق، نشير إلى أن اللجنة التي عينتها الولاية العامة للتحقيق في أسباب هجرة سنة 1911، تعتبر هي كذلك، قرار التجنيد "الإجباري سببا رئيسيا للهجرة، فهي تنفي وجود علاقة سببية بين النظام الإستعماري والهجرة. "لا يمكن أن يكون قانون الأهالي وقانون الغابات والمنافسة التجارية والصناعية وحالة الفقر وتصرفات الموظفين أسبابا لحركة الهجرة"[14].

من السهل على الباحث أن يفكك مواطن الضعف والتشويه التي يتضمنها التحليل العرقي، أو حسبنا أن نشير، بإيجاز، إلى أهمها :

* لم يتجه مهاجرو سنة 1911 إلى تركيا بالذات، لكنهم اتجهوا إلى بلاد الشام باعتبارها إقليما عثمانيا لا تركيا، وفي دمشق، استقر المهاجرون في "حارة المغاربة" إلى جانب من سبقهم من المهاجرين الجزائريين الآخرين.

* عرفت مدينة تلمسان هجرات سابقة (سنة 1891، سنة 1901 وسنة 1904) مست هي كذلك العائلات الكرغلية. واختار المهاجرون خلال هذه الفترة، المغرب الأقصى ومصر وليبيا باعتبارها أقاليم إسلامية مستقلة، للاستقرار فيها.

* لا يستند السيد "صاباتي" إلى أدلة تاريخية قاطعة تثبت أن الكراغلة كانوا يعتبرون أنفسهم أتراكا، لا جزائريين.

الهجرة : ثورة الماضي على الحاضر

يحتوي التقرير الذي تقدم به "و.مارسيه" (W.MARCAIS) المدير السابق لمدرسة تلمسان العربية-الفرنسية، إلى لجنة التحقيق، على أطروحة تهدف إلى "توضيح الأبعاد الرئيسية للهجرة".

يرى "مارسي" في تقريره أن الهجرة: "حركة تميّز المجتمعات الحضرية التقليدية" فالمهاجرون، في نظره هم "من أشد الناس تمسكا بالماضي وأكثرهم محافظة على تقاليد الحياة التي تعود إلى القرن الخامس عشر : عصر ازدهار المدنية التلمسانية"[15].

إن التغني بالسلف والحنين إلى الماضي "خلق في نفوس سكان المدينة ومسلمي شمال إفريقيا عامة روحا تتميز بالعداء الشديد للتقدم والتجديد" ويتابع قوله "إن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الحقيقة سعي يائس وراء الماضي" بل ردة على الحاضر والمستقبل.

ويعزو السيد "مارسي" هذه النزعة الماضوية" إلى "العقلية الإسلامية" والتي تعتبر كل جديد بدعة ضالة غريبة في جسم المجتمع الإسلامي الفاضل، ويأتي عامل التعصب الديني في المرتبة الثانية إذ من أصل 637 مهاجر، كان 526 منهم ينتمون إلى الطريقة الدرقاوية التي تشرف عليها عائلة الشيخ ابن يلس [16] ما من شك، أن هذا التقرير يحتوي على معلومات قيمة لا يجوز اغفالها، لكن نتائجه في مجملها خاطئة.

يعتبر "مارسيه" الهجرة ثورة الماضي، الذي ترمز له الحضارة العربية الإسلامية، على الحاضر الذي يرمز له النظام الاستعماري في الجزائر. وأبعد من ذلك، فإن "مارسيه" يعتقد أن الهجرة إلى الديار الإسلامية هي في الواقع ردة يائسة ضد زحف التقدم والحضارة الغربية.

وفي الواقع، لا يمكن أن نساند "التفسير الماضوي" لأن صاحبه أغفل إدراج حقائق هامة كانت تميز المجتمع الجزائري خلال الفترة 1900-1918 وقد أشار إليها شهود عيان ومؤرخون.

لقد كان المجتمع الجزائري –في المدن خاصة- يشهد ابتداء من مطلع القرن العشرين تحولا هاما يدل دلالة قاطعة على أن سكان المدن، لم يكونوا ينفرون من التقدم والتجديد، بل من الواقع الاستعمارى المرير. ففي هذا الصدد، كتب المثقف الجزائري "ابن علي فخار" الذي عاصر الأحداث، مقالا سنة 1908 يصف فيه هذا التحول قائلا : "منذ عشرين سنة خلت، والـوسط الجزائري بمدينة تلمسان يتأثر بحياة العصر. فهو ينتقل تدريجيا من النمط الاجتماعي التقلـيدي إلى نمط حياة معاصرة.."[17] وترسم صحيفة "الحق الوهراني" التي كانت تصدر سنتي 1911-1912 صورة تختلف عن الصورة التي جاء بها "مارسي" في تقريره إذ تقول: "يعتبر المثقف التلمساني نموذجا حيا لحركة النهضة التي يشهدها الوسط الجزائري في المستعمرة. وإذا كان الشباب يضطر إلى الهجرة ومغادرة الوطن، فذلك بفعل القوانين الاستعمارية الجائرة"[18].

لا يتسع المجال لذكر شهادات أخرى، بل نكتفي بالإشارة إلى رأي المؤرخ "آجرون" تضم مدينة تلمسان عددا هاما من الشباب المتطور يقرأون ويكتبون بلغتنا الفرنسية ومنهم من يحمل شهادات عليا"[19].

وأخيرا، إذا كان المهاجرون يتوجهون نحو بلاد الشام، فلم يكن ذلك، بدافع الهروب من التقدم والحضارة لأن المدن السورية كانت خلال هذه الفترة، تشهد نهضة ثقافية واقتصادية ترمز إلى الدعوة إلى التمدن والأخذ بأسباب التطور والإصلاح.

التقارير التي تعتمد التفسير الاستعماري الحديث

تعزو هذه الوثائق الهجرة إلى عامل الفقر الذي كانت تعانيه الجماهير الجزائرية في المدن والأرياف. وقد تبنى غالبية المؤرخين الفرنسيين المعاصرين هذا التفسير، فكانت مؤلفاتهم نقدا عنيفا لأعمال الإدارة الفرنسية في الجزائر.

وحمل هؤلاء على الإدارة الاستعمارية لأنها كانت – في نظرهم – ترفض العمل على تخفيف وطأة الفقر وإزالة أسباب الحرمان الاقتصادي في المستعمرة. فلو انتهجت هذه الإدارة سيـاسة إصلاح اقتصادي لما ظهر الغضب في أوساط " الأهالي" لأن هؤلاء لا يقاومون الوجود الفرنسي بل تصرفات الموظفين وكبار المعمرين الذين يستغلونهم توجد بوادر هذه "الأطروحة الاقتصادوية" في التقرير الذي كتبه الأمين العام للولاية العامة. "فارنيي (Varnier) سنة 1910، على أثر هجرة سكان مقاطعة "بوعريرج" بناحية سطيف. يقول "فارنيي": "إن هجرة الأهالي تعود، جملة وتفصيلا ، إلى الأزمة الاقتصادية التي شهدتها مقاطعة سطيف"[20] ثم يذكر عواملها.

- اجتياح الجراد الذي أتلف المحصول الزراعي خلال الفترة 1908-1910.

- الضرائب الثقيلة التي كان يدفعها السكان للإدارة.

- تنازل الفلاحين عن أملاكهم، وماشيتهم لصالح المعمرين وبعض التجار الجشعين.

- إلى جانب هذه العوامل، يعتبر "فارنيي" قانون التجنيد الإجباري بمثابة "قطرة الماء التي أطفحت الإناء" فساد القرى جو من اليأس دفع سكانها إلى مغادرة أراضيهم والهجرة إلى الشام.

- في دراسته لحركات الهجرة، يعتمد الأستاذ "آجرون" على نفس التحليل مستندا في ذلك، على الشهادات التي وردت في بعض الوثائق مثل تقرير "فارنيي" وتقرير "باربودات" وفي بعض المقالات التي صدرت عن الصحف مثل "لاديباس دي كنستنتين" و"ايكو دوران" وغيرهما.

لا يستطيع الباحث أن ينفي، في تحليله للمقاومة المناهضة للاستعمار، أثر العوامل الاقتصادية، لكن، لا يجوز له أن يوقف هذا التحليل عليها لأن دعاة "التفسير الاقتصادوي" يهدفون من وراء ذلك، إلى إنكار الطابع الوطني لهذه المقاومة.

فالأسباب الاقتصادية هي، في الواقع، جزء من كل والكل هو الوجود الفرنسي باعتباره وجودا استعماريا ينفي للشعب الجزائري حقه في تأسيس دولته الوطنية. إن هذه الفكرة هي التي كانت أساس "التفسير الاقتصادوي" " لا توجد هناك، ثوابت تاريخية تدفع الأهالي إلى تـأسيس دولة وطنية… أبدا، لم تكن الجزائر أرضا تكونت فيها شخصية وطنية ولغة مشتركة وثقافة جماعية… فقد كانت دائما بلدا معرضا للغزو والفتوحات، يخضع لمختلف التيارات الفكرية والحضارية… فهي – حتما – أرض مهيأة لأن تكون ملكا لفرنسا"[21].

في الختام، نريد الوصول إلى النتائج التالية :

أولا

إن عددا من الباحثين الفرنسيين الذين درسوا حركات الهجرة إلى الديار الإسلامية قد بنوا تحاليلهم المختلفة على أساس النتائج التي وردت في وثائق الإدارة الاستعمارية.

فالباحث ج ج"راجي" يبني تفسيره للهجرة على "العامل النفسي". وقد تأثر في كتابه "المسـلمون الجزائريون في فرنسا والبلاد الإسلامية"[22] بالوثائق الإدارية التي تعزو الهجرة إلى "الدعاية العثمانية".

أما الباحث ب "باردين" فإنه أرجع سبب الهجرة إلى العامل العرقي. وهو يستشهد في كتابه "الجزائريون والتونسيون في الإمبراطورية العثمانية" [23] بفقرات مطولة من تقرير "صاباتي".

ويعزو المؤرخ "آجرون" الهجرة إلى الفقر، إذ يستشهد بالوثائق الإدارية التي تتضمن هذا التفسير كتقرير "فارنيي".

ثانيا

نكتفي بذكر هذه الأسماء، لأن القائمة قد تطول، غير أنه لا يجوز أن نعتبر كل المؤرخين الفرنسيين ينتمون إلى المدرسة الاستعمارية بوجهيها القديم والحديث. بل فيهم من يبحث في تاريخ بلدنا بروح موضوعية ومناهج علمية (رونيه قاليسو، ج.ب. فاتين، أ.نوشي وغيرهم…)

أشير، على الخصوص، إلى الأستاذ "ج. مينيه" الذي كتب أطروحة هامة عنوانها "الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين" [24] انتقد فيها نتائج المدرسة الاستعمارية الحديثة.

ثالثا

لا يتم تجديد الدراسات التاريخية في بلادنا إلا إذا اعتمدنا على مصادر محلية غير المصادر الفرنسية. وبشأن الهجرة إلى الديار الإسلامية، يجب أن تتجه أنظارنا إلى أرشيف الإدارة العثمانية والقضاء الشرعي في الشام وأرشيف مصر الخاص بالمهاجرين المغاربة. كما يجب أن نجمع شهادات العائلات الجزائرية التي هاجرت ثم عادت إلى أرض الوطن قبل أو بعد الاستقلال.

يساعدنا هذا الصنف من الوثائق على دراسة الهجرة دراسة علمية قائمة على إشكالية وطنية بعيدة عن الإشكالية الاستعمارية التي تميّز قسما من المدرسة التاريخية الفرنسية.

بيبليوغرافيا

Archives

Aix En Provence : archives d’Outre-mer

9h60 : Recensements des indigènes (textes - circulaires : 1901 – 1909)

9h61 : Etudes sur le recrutement des indigènes : 1907 – 1911.

9h63 : Recrutement des indigènes : 1911 – 1912.

9h98 : Emigration des tribus et des familles : 1864 – 1874.

9h99 : Emigration en Tunisie : 1899 – 1900.

9h103 : Emigration en Proche-Orient : 1882 – 1897.

9h104 : Rapport Varnier : 1900 – 1910.

9h105 : Emigration en Syrie : 1911 – 1918.

9h106 : Emigration en Syrie : 1910.

Archives de la wilaya d’Oran

Conseil Général d’Oran : 1911 : Rapport Sabatier

Presse : Echo d’Oran – El Hack-Oranais -

Gouvernement général d’Algérie

Exode de Tlemcen : rapport de la commission Barbedette – Alger, 1914.

Ouvrages

Ageron, C.-A. (1968). Les algériens musulmans et la France .T1 et T2. PUF.

Bardin, B. (1979). Algériens et Tunisiens dans l’empire ottoman : 1848 – 1914. Paris.

Melia, J. (1919). La France et l’Algérie. Paris.

Meynier, G. (1979). L’Algérie relevée. Thèse d’état.- Nice.

Rager, J.-J. (1950). Les musulmans algériens en France et dans les pays islamiques. Paris.

Vatin, J.-C. (1974). L’Algérie politique : histoire et société. Paris.

Revues

Fekar, B. (1908). La société musulmane de Tlemcen. Revue du Monde musulman. Paris.

Marchand, H. (1912). L’exode des musulmans algériens. Questions diplomatiques et coloniales. Paris.

ابن شنب س، (1971). الخدمة العسكرية الاجبارية والرفض الأخير. مجلة الثقافة. الجزائر.

العروي عبد الله، (1994). مجمل تاريخ المغرب. بيروت.

العروي عبد الله، (1992). مفهوم التاريخ. بيروت.



الهوامش : 

[1] لا تاريخ دون وثائق "قاعدة المدرسة المنهجية الألمانية رددها المؤرخان الفرنسيان "لانقلوا" و"سينبوس" في كتابهما" مدخل إلى العلوم التاريخية" باريس 1898 (بالفرنسية)، إن هذه القاعدة المنهجية صحيحة لكن لا يجوز أن نحصر" الوثيقة التاريخية" في المصادر الرسمية على نحو ما يتصوره المؤرخون الوضعانـيون. إن مفهوم "الوثيقة" في علم التاريخ أشمل من ذلك إذ يؤكد مؤسس مدرسة "الحوليات": لوسيان فيبر "لاشك أن التاريخ يكتب إعتمادا على الوثائق المكتوبة إن وجدت، لكن يمكن بل يجب أن يكتب على ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه، أن يستنبطه من أي مصدر: من المفردات والرموز، من المناظر الطبيعية ومن تركيب الأجر، من أشكال المزارع ومن الأعشاب الطفيلية، من خسوفات القمر ومن مقارن الثيران، من فحوص العالم الجيولوجي للاحجار ومن تحـليلات الكيميائي للسيوف الحديدية "(نقلا عن : ع، العروى : مفهوم التاريخ ص. 428) تستغل هذه المقولة لغرضين: أولا لتفنيد نظرية أنصار التاريخ التقليدي الذين يقرون باستمرار أن لا تاريخ دون وثائق مكتوبة" وثانيا للدفاع عن "التناهج" : أي التعاون العضوي بين التخصصات المختلفة.

[2] العروى، عبد الله.- مفهوم التاريخ. – ج 1.- ص. 8.

[3] أكس: أرشيف ما وراء البحر: علبة 9 H 98 : تقرير رقم 705.

[4] أكس ك علبة9H 98 ك تقرير رقم 38.

[5] هجرة واسعة مست في البداية الجالية الجزائرية المقيمة بتونس عند نهاية سنة 1898، استقر هؤلاء الجزائريون (عددهم 800 مهاجرا) على أراضي منحتها الحكومة العثمانية لهم على إثر المساعي التي قامت بها أسرة الأمير عبد القادر والمكتب العربي للهجرة. انتشر خبر هذه الهجرة إلى مقاطعة الأصنام إذ قدم 436 جزائرى طلبا للـهجرة إلى مصالح العمالة، وفي عمالة وهران، تقدمت أسر جزائرية (منها ستون من دائرة معسكر) بـنفس الطلب إلى مصالح العمالة، وتمكنت أسر جزائرية أخرى – لا نعرف عددها – من دائرة المدية من مغادرة المستعمرة خفية وتوجهت إلى بلاد الشام.

[6] أكس – علبة 9 h 99 – تقرير "لوسياني".

[7] أكس – علبة 9 h 99 - - تقرير "لوسياني".

[8] أكس : علبة 9 h 99 : تقرير لوسياني.

[9] أكس: علبة 9h 99: تقرير لوسياني.

[10] بدأت هجرة تلمسان في جوان 1911 وكان المهاجرون يغادرون البلاد سرا، وفي شهر أكتوبر، بلغت حركة الهجرة ذروتها إذ عمت سكان المدينة والمقاطعة، تراوح عدد المهاجرين بين 3000 نسمة حسب جريدة La dépêche algérienne و1800 نسمة حسب جريدة "الحق الوهراني" و1200 نسمة حسب جريدة ECHO d'Oran .

[11] أرشيف ولاية وهران: المجلس العام للعمالة: جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[12] أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[13] أرشيف ولاية وهران : المجلس العام للعمالة : جلسات سنة 1911. تقرير السيد كاميه صاباتيي.

[14] الولاية العامة للجزائر : هجرة تلمسان-الجزائر: 1914- ص. 30 (بالفرنسية).

[15] أكس : أرشيف ما وراء البحر : علبة 9h105 : تقرير : مارسكيه.

[16] تقرير مارسي.

[17] مجلّة العالم الاسلامي.- عدد 6، سنة 108 (بالفرنسية).

[18] جريدة الحق الوهراني.- عدد 2 (أرشيف ولاية وهران).

[19] ش. أ. آجرون.- المسلمون الجزائريون وفرنسا.- ج.2 .- ص. 1086 (بالفرنسية).

[20] أكس: أرشيف ما وراء البحر.- علبة 9H104 تقرير فارنيي.

شملت هذه الهجرة فلاحي بلدية عين تاغروت بدائرة سطيف عام 1910. لقد هاجر 576 فلاحا تضرر من الجفاف والجراد الذي أصاب محصولهم الزراعي خلال موسمي 1909 و1910، فاضطر الفلاحون الفقراء إلى بيع ماشيهم والتنازل عن أراضيهم لصالح المعمرين وبعض الأثرياء الجزائريين. إلى جانب الفواجع الطبيعية، عانى هؤلاء الفلاحون من الجباية الثقيلة واستاءوا من قرار الخدمة العسكرية الإجبارية… فتواجهوا -سرا- إلى الشام عن طريق الحدود التونسية الجزائرية.

[21] ميليا، ج. - الجزائر وفرنسا (بالفرنسية).- باريس، 1918.- ص. 46.

[22] راجي، ج.-ج.- المسلمون الجزائريون في فرنسا والبلاد الإسلامية (بالفرنسية).- باريس، 1950.

[23] باردين، ب..- الجزائريون والتونسيون في الإمبراطورية العثمانية 1848 – 1914 (بالفرنسية).- باريس، 1979.

[24] مينيه، ج.- الجزائر في الربع الأول من القرن العشرين.- أطروحة دكتوراه الدولة.- نيس، 1979.

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact