محاولات الانتحار بين فرض الكيان والهروب من الواقع

محاولات الانتحار بين فرض الكيان والهروب من الواقع

مقدمة

يعدّ الانتحار من المشاكل الإنسانية الأكثر خطورة لأنّه يثير مخاوف عميقة تجعل الإنسان منشطرا بين الاشمئزاز والانجذاب الغامض. حُرّم القتل (قتل الذات أو ذات أخرى) مبكرا في بداية التاريخ الإنساني، ربّما كان ذلك لسبب نفعي، غايته حماية البقاء وتطوّر الجماعات الإنسانية، لكن هذا الأمر غير كاف لجعل الإنسان يحرّم القتل بهذه الصرامة. ويبدو لنا أنّ هناك سببا آخر غامض جدا يجعل الإنسان متجاذبا بين حبّه للحياة ورغبته في إنهاء هذه الحياة. ولم تستعمل كلمة الموت عمدا لأنّ الإنسان لا يرغب في الفناء، بل في نهاية مطاف يمكن أن يكون أليما بالنسبة له وفي هذه الحالة يسعى الإنسان إلى إنهاء هذا الألم، وهذا ما نجده كثيرا في محاولات الانتحار. أمّا في الحالة الثانية، فإنّ الشعور بمنتهى السعادة يجعل الفرد يرغب تارة في توقيف مسار حياته في هذا المقام وكأنّه يريد توقيف الزمن.

حرّمت كل الدّيانات[1] القتل والانتحار وجعلت منه المحرّم الأكبر، لكن الثقافات المختلفة تجعل من القتل في الحروب والانتحار فضيلة في بعض الظروف الخاصة، وقد سمّاه "دوركايم"[2] الانتحار « altruiste » مثل انتحار "الصاموراي" في اليابان الذي يعيد للمنتحر شرفه وكرامته. وفي الثرات الدّيني الإسلامي وديانات أخرى قد تعتبر العمليات الانتحارية جهادا، لكونها تهدف إلى الدفاع عن رموز أو مثل عليا مثل الحرّية، الاستقلال.. إلخ، فالانتحار هنا محاط بقيم اجتماعية[3].

هذا النوع من الانتحار لا يهمنا في هذه الورقة البحثية، بل ما يهمنا هو الانتحار أو محاولة الانتحار التي لا تدخل في هذه الحالات الاستثنائية والمقنّنة اجتماعيا وثقافيا.

تثبت البحوث الأنثروبولوجية وجود الانتحار في المجتمعات البدائية، إذ نجد أنّ "ب. مالينوفسكي" على سبيل المثال يصف نوعين منه في جزر "تروبرياند" (Trobriand Mélanésie)وهما:

  • إنتحار تكفير الذنب بعد خطيئة.
  • إنتحار احتجاج وانتقام لمن أساء إلى المذنب أمام الناس وجعله في وضعية مؤلمة[4].

وكما يشير الكاتبان (بودلو وايستابلي) إلى أنّ هذا النوع من الانتحار الانتقامي كان موجودا في الصين ولا يزال معمولا به إلى الآن في الصين الحديثة خاصة في الأرياف، إذ تنتقم النساء عن طريق الانتحار من عنف أزواجهّن وأسرهم (Baudelot et Establet, 2006 ).

كما يلاحظ أنّ الصين هو البلد الوحيد الذي يشهد فيه أنّ عدد الإناث يتجاوز عدد الذكور خاصة في المناطق الزراعية، وهذا ما يجعل "الانتحار من المؤشرات التي تسلّط الضوء على المجتمع وتفسّره أكثر مما يفسّره المجتمع " كما يقول بودلو واستابلي (المرجع نفسه).

يمكننا أن نذهب من هذا المنطلق إلى أنّ الانتحار في الجزائر غير منطقيّ باعتباره بلدا مسلما، إذ تشير الدراسات أنّ الديانات الموحّدة وخاصة الإسلام هي من العوامل الواقية من الانتحار وهذا يجعلنا نتساءل: ما هي العوامل التي تغيّرت لدى المسلمين اليوم؟ هل أنّ الضغوط الاجتماعيّة والاقتصادية والنفسيّة تجاوزت حدود تحمّلهم؟ أم أنّ هناك تحوّلات جعلت عقلية المسلمين تتغيّر إلى حدّ أصبحت لا تخاف فيه من المحرّم ؟

بالنسبة لنا، بوصفنا نفسانيين، فالإنسان مهما كان ديـنـه وإيمانه، فإنّ لقدرته على التصدّي للمحن والآلام حدود، وهذه القدرة التي تسمى [5]résilience والتي ترجمناها بـ "اللدونة" وتجعل كلّ واحد فريدا من نوعه بفضل خصائصه الداخلية (وخاصة بطبعه وقدراته) والخارجية (أسرية اجـتـمـاعـيـة)، والسبب في ذلك أن الأفراد غير متساوين أمام ظروف الحياة، وهذا هو العائق الأساسي لتحديد عوامل الانتحار.

إنّ الانتحار ومحاولات الانتحار متعدّدة ومتنوّعة - باستثناء الحالات المصابة بالأمراض العقلية - فهي مرتبطة بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية الرديئة وبالصعوبات الوجدانية والوجودية ذات العلاقة بالعوامل النفسيـة والخاصة بالفرد وعتبة تحمّله وتصديه للصعاب. وتثبت الدراسات (Baudelot Establet, 2006 ; OMS, 2007) أنّ الانتحار مرتفع جدا في البلدان الغربية وغير مرتفع في البلدان النامية، وهذا ما يجعل العامة يتسرّعون في الحكم على أنّ التطوّر الاقتصادي يجرّد الإنسان من قواه الروحية، إلخ. لكن هذا التأويل خاطئ في أساسه، لأنّ الانتحار يكثر في هذه البلدان لكنه يمسّ الطبقات قليلة الدخل والجاه إذ يقول "بودلو" و"استابلي": "حيثما تحصلنا على إحصائيات فيها مهنة المنتحرين وجدنا أنّهم موجودون في السلم الاجتماعي الأدنى"، فالعلاقة بين الغنى والانتحار دالّة.

ويعتبر الدّين من العوامل الواقية، إذ نجد أنّ البلدان المسلمة عامّة رغم انخفاض معدّلات نموّها لا توجد فيها نسب انتحار مرتفعة على الرغم من أنّ الصحف والبحوث تتكلم عن ارتفاع نسبه ومحاولاته. لكن يمكن التساؤل : هل حقيقة هناك نسب قليلة أم أنّ ذلك راجع لغياب إحصائيات وافية ؟

يجب، التساؤل عن دور التعصّب الديني في البلدان المسلمة وتأثيره على ارتفاع نسب الانتحار ومحاولات الانتحار. وهذا لا يرجع في نظرنا إلى نقص الإيمان أو ضعفه بل يدلّ على تغيّر في مفهوم المحرّم الأكبر "القتل" سواء للنفس أو للغير، وهنا نتساءل عن دور "الإرهاب وانتشار الجرائم الإرهابية" والفتاوى العشوائيّة لعملية القتل ومنها الانتحار في بعض الحالات.

تجدر الإشارة إلى أنّ الإرهاب باعتباره اضطرابا اجتماعيا حادا دام أكثر من عشر سنوات ودمّر التوازن الاقتصادي والثّقافي والنفسي، قد خلّف صدمة نفسيّة جماعيّة ما زالت تدسّ سمومها في المجتمع الجزائري، ومن أهمّ أعراضها القلق، نقص الثّقة في الذات وفي المحيط، ضعف الاتصال والعنف داخل الأسرة، ...الخ.

وفي دراستنا[6] حول الانتحار ومحاولة الانتحار عند الشباب في وهران، واجهتنا صعاب كثيرة مرتبطة بخطورة الموضوع وما يثيره من مخاوف لكونه من المواضيع المحرّمة. لكن الارتفاع الملحوظ، على الأقل، في الأرقام الخاصة بمحاولات الانتحار تبيّن العكس: إذ سجّلت مصلحة الاستعجالات (UMC) بوهران:

  • 295 حالة سنة 2001،
  • 400 حالة سنة 2002،
  • و508 حالة سنة 2003،
  • 649 حالة (483 إناث و166 ذكور) سنة 2004،
  • 589 (469 إناث و120 ذكور) سنة 2005،
  • 571حالة سنة 2007.

كما وجدنا صعوبة كبيرة في الحصول على أرقام واضحة ومتشابهة من كل الجهات المعنية. فأرقام الصحافة متناقضة ومشبّعة بالأخطاء، وأرقام الدّرك الوطني لا تتناسب مع أرقام الحماية المدنية والوسائل الأخرى، وتتناقض مع أرقام المستشفيات، وهذه الصعوبات ليست خاصة بالجزائر فحسب بل تمسّ كلّ البلدان لكن بمستويات متفاوتة، ولهذا الأمر أسباب عدّة، نذكر منها:

- العوامل السوسيو-أنثروبولوجية، إذ أنّ عملية الانتحار ومحاولة الانتحار تعاش بوصفها أفعالا مناهضة للحياة وللأخلاق وللدين، ممّا يجعل الأسر، وحتى المؤسسات تخفيه أو تخفي أسباب الوفاة أو الاستشفاء في حالة محاولة الانتحار.

- كما أن المؤسسات الصحيّة بالجزائر لا تعتبره واقعة أو حدثا يستحقان الاهتمام، ولذا لم تقم بإحصائه وحتى تسجيله بوصفه انتحار. ونادرا ما يسجّل على هذا الأساس في سجّل الطب الشرعي مثلا، بل يُذكر فيه سبب الموت (نزيف، صدمة دماغية، إلخ) وهذا التلبيس يمنع الإحصاء البعدي (Rétrospectif).

- غياب التواصل ما بين المؤسسات الوطنية، لذا نجد أرقاما متناقضة عند مختلف الجهات والمؤسّسات الوطنيّة، ولا توجد هيئة تجمع الأرقام من كلّ الجهات المعنية.

- تجزئة المهام، فالدرك الوطني يأخذ على العموم الحالات خارج المدن، والحماية المدنية تأخذ الجثّة للطب الشرعي والأمن يقوم بالتحقيق. وهناك عدد من الذين قاموا بمحاولة الانتحار يتوفون في المستشفى دون أن يتم إحصاؤهم من قبل الحماية المدنية ولا من قبل الدّرك الوطني ولا من طرف الأمن الوطني.

يجدُرُ بنا القول إلى أنه تمّ تسجيل سنة 2005 بالجزائر 503 حالة انتحار[7]، إذ يشير الدرك الوطني إلى 192 حالة انتحار على المستوى الوطني، أمّا الأمن الوطني فإنّه يشير إلى 311 حالة، وعلى الرغم من ارتفاع هذا العدد إلاّ أنه غير كامل ويجب ربّما مضاعفة هذا العدد مرتين لأنّ حالات الانتحار على مستوى الوطن لم تحص بدقة، بسبب عدم انتظام وسائل الإحصاء وتبليغ الأرقام. والذي يستوجب من جمع كلّ الأرقام في المراصد الجهوية للصحة (ORS) ثم في مرصد وطني أو في الوزارة.

تشهد كل البلدان العربية تطوّرا لظاهرة الانتحار ولكنها تتكلّم عنها باحتشام، وحتى المملكة العربية السعودية مثلا تشير إلى ارتفاع في نسبها[8]، إذ تقدّم أرقاما رسمية حول ذلك بحيث سجّلت سنة 1997، 276 حالة انتحار وقد تضاعف هذا العدد سنة 2000 ووصل إلى 596 حالة.

محاولات الانتحار بوهران

ولتفادي التناقضات ونقص المعلومات فيما يخص هذه الظاهرة، حاولنا فهم وضعية وهوية الأفراد الذين يقومون بمحاولة انتحار ومعرفة خصائصهم السوسيوديمغرافية.

كما هو الحال في العالم، فإنّ محاولات الانتحار متواجدة بكثرة عند النساء. ودراستنا تشير إلى نسبتهم تبلغ 75% عند إناث و25% عند ذكور. لم نجد دراسات عديدة في المغرب العربي، وهذا لا يعود لعدم وجود البحوث في الموضـوع بـل لقلة الـنـشـر والتوزيع. ومع ذلك عثرنا على دراسة أجريت بمستشفى "موناستير" التونسية[9] إذ تشير إلى أن نسبتهم تبلغ%60 عند الإناث و40% عند الذكور ومعدل السنّ هو 26 سنة، لكن الدراسة قديمة نسبيا (1988). أمّا العوامل المؤثرة، فيشير الباحثان إلى غياب النشاط الثقافي وصعوبة ظروف المعيشة ورداءة أو غياب النشاطات الترفيهية. في مرجع آخر تشير الطبيبة النفسية ر. الخياط'[10] أنّ محاولات الانتحار في المغرب العربي كانت مرتفعة بعشر مرّات عند الإناث ممّا هي عند الذكور، لكن هذا الفارق تقلّص خلال السنوات الأخيرة، كما تشير أيضا أنّ الانتحار انتشر عند الإناث مثل ما هو الحال عند الذكور.

كشفت دراستنا الميدانية عن النتائج التالية:

- ثلاثة حالات من ضمن خمس (3/5) يتراوح سنّهم ما بين 15 و24 سنة.

- 1/5 منهم سنّهم ما بين 25–35 سنة وقرابة 12% من الحالات يتجاوز سنّهم 36 سنة.

- متوسط السنّ هو 24 سنة، 87% من محاولي الانتحار لا يتجاوز سنّهم 36 سنة.

- أما حالتهم الاجتماعية: 65% منهم عزّاب و35% متزوّجون.

أغلب الحالات المسجلة ضمن فئة المتزوجين من النساء، والبعض ممن أجرينا معهنّ مقابلة يشرن إلى الخلافات القائمة مع الزوج أو مع أسرته أو هما مـعـا والعنف الأسري هنا يلعب دورا مهمّا، كما أنّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة أو البسيطة تساعد على ذلك، ممّا يدلّ على أنّ الحالات المدروسة تعيش وضعيات معقّدة وصعبة تتداخل في إنتاجها عوامل مختلفة.

أسباب القيام بمحاولة الانتحار

للتعرّف على أسباب القيام بمحاولة الانتحار، أجرينا مقابلات مع 173 حالة (في مصلحة الاستعجالات، في مركز الصحة النفسية CISM، الخ)، وتوصّلنا إلى أنّ الأسباب متنوعة، لكن يحتلُّ سوء التواصل والعنف الأسري المرتبة الأولى، كما تحتل المشاكل الغرامية مرتبة متقدمة بين الأسباب وتنقسم إلى فرعين: الشجار بين العاشقين ورفض الأسر لخطيبة ابنهم أو خطيب ابنتهم، فأمام تصلّب مواقف الأباء يحتجّ الشبّان بهذه الطّريقة اليائسة ويبدو حسب دراستنا أنّ هذه الوضعية في تكاثر ويخُصُ الاحتجاج الإناث أكثر مما يخصّ الذكور.

وفي كّل الحالات، تبدو محاولة الانتحار خاصة عند الشباب - الذين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و25 سنة - وكأنها تعبير عن رأي ومطلبٌ للحوار ورفضٌ لوجود ذاتية تريد أن تقرّر مصيرها الخاص دون أن يشكك أحد في اختياراتها وسلوكها.

أما المواقف الصلبة لبعض الأسر وتمسكها ببعض التقاليد الخانقة في نظر أبنائها، فقد ترجع إلى أسباب مختلفة:

- عدم القدرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية وما تتطلبه من ليونة في معاملة الأبناء وخاصة الإناث منهم.

- مشاكل خاصة بالأسرة وعدم نضج الآباء وتفهمهم لأبنائهم.

- تأثير النزعة الإسلاموية على تصوراتهم والتراجع الملحوظ خاصة عند الأسر البسيطة التي تتبنّى بصلابة الفتاوى المتسرعة والصادرة عن الأفراد و المؤسسات غير المؤهلة، فهذه العوامل أدت على العموم إلى التعسّف اتجاه حرية المرأة، ولكن الضغوط نفسها تمارس أيضا على الذكور، ويلاحظ تضاعف العنف الذي أصبحت له "مشروعية".

تبرز لنا المقابلات مع الأفراد الذين حاولوا الانتحار معيشا نفسيا صعبا أمام محيط أصمّ لا يصغي إليهم أو يعاملهم كقُصر عندما يتعلق الأمر بمصيرهم، على الرغم من أنه يلزمهم بأدوار ومهام في الحياة اليومية. هذه الوضعية تذكرنا بـ"القبض المزدوج" (double bind) (double impasse) أو المأزق المزدوج كما وصفته مدرسة Palo Alto من Bateson ورفاقه، إذ يقال لهم في آن واحد: أنت مسؤول وغير مسؤول. أما فيما يخصّ الفتاة فهي مسؤولة على أشغال البيت وعلى الأخوة ولها مهام عديدة، لكنّه قد يحرّم عليها أن تخرج دون إذن أو دون مرافقة، كما قد يتحكم في تصرفاتها أخوها الأصغر ويحرّم عليها العديد من الممارسات، ولا يمكنها أيضا أن تختار الشريك الذي تريد الزواج منه، إلخ.

لقد استثنينا من دراستنا الحالات المرضية (انهيار، ذهان، فصام...)، فتحليل المقابلات العديدة التي أجريناها مع محاولي الانتحار بيّن لنا الصعوبات العلائقية ونقص الاتصال داخل الأسرة ووجود عنف بدرجات متفاوتة. وانطلاقا من تحليل المقابلات، يمكننا تلخيص دوافع[11] القيام بمحاولة الانتحار إلى ما يلي:

  • محاولات الانتحار باعتبارها رفض لعادات خانقة ومدمّرة.
  • محاولات الانتحار باعتبارها رفض للأدوار المفروضة من الأسرة على الفتاة خاصة، حيث تقول فتاة مبحوثة "أنا قادرة على كلّ شيء إلا على نفسي" وتفسّر فعلها كمحاولة "حماية حقوقها المهضومة"..
  • محاولات الانتحار باعتبارها رغبة في فرض فردانيتها (individualité) ووجودها، إذ تقول فتاة لأمّها التي أرادت أن تزوّجها من فرد لا تريده وعارضت رغبتها في الزواج من شاب تحبّه: "سأتزوج منه وإلا سأعيدها (محاولة الانتحار) مرّة أخرى وأموت".
  • محاولات الانتحار وبوصفها تعبير عن يأس وآلام أو شعورا بالعجز وتارة شعور بالغضب والرغبة في الانتقام من الظالم العنيف! في هذه الوضعية وجدنا حالة شاب متزوج وهو في صراع مع "أب جبّار" يعامله بقسوة واحتقار. وجدنا أيضا حالات نساء معنّفات من الزوج أو من أهلهنّ وحالة معنّفة من ابنها: "ليس لي رغبة في حياة ممرمدة هكذا".

نظرا للدور الكبير التي تلعبه الصراعات داخل أسر الحالات المدروسة، أجبرتنا هذه الوضعية على دراسة المحيط الأسري لها وكانت هذه المقاربة صعبة، لأنّ هذه الأخيرة تعيش محاولة الانتحار (أو الانتحار) عند أحد أفرادها وترى في ذلك مساسا بسمعتها، وبكرامتها وصورتها الاجتماعية، ("كشفنا"، هذه "الكشفة") لأنّها تضع الأسرة عرضة لأقوال الناس، لشفقتهم عليها أو نقدهم لها، لتأنيبهم أو احتقارهم لأفرادها، إلخ.

هذا المساس يمتدّ إلى نرجسية أعضاء الأسرة ويسبّب لهم جرحا يؤلمهم، هذا بالإضافة إلى الألم الناتج عن الصدمة والخوف من فقدان أحد من أفرادها. وهكذا فزيادة على الألم والعيب والعار والحشمة[12] فإنّ أفراد الأسرة يشعرون بغضب واحتقان نحو هذا العضو الذي أراد أن ينسحب منهم. وانطلاقا من المشاعر المسجلة لدى الأسر المدروسة، يمكن تصنيفها إلى نمطين وفق استجابتهما:

- يتّسم الصنف الأول من الأسر بالقلق والحيرة والاهتمام بمصير ابنتهم/ابنهم، وبالبحث عن السّبب قصد مساعدته وحمايته. هذه الأسر لا تعاني من اضطرابات كبيرة في نسقها، وهي مرنة وقابلة للتحسّن، إذ تبقى متفتحة، وبعد إجراء المقابلات معها، تعي وتتفطن عموما بتناقضاتها وصراعاتها البارزة أو الكامنة وتساعد فعلا من أقدم على هذا الفعل.

- الصنف الثاني أكثر صلابة وتزمتا، وبدلا من أن تتساءل الأسرة عن نقائصها أو صراعاتها فهي ترمي الخطيئة على مرتكب المحاولة وتتهمه بكلّ العيوب، فيصبح في مقام كبش الفداء، أو يأخذ مكان الموضوع "السيئ" في منظور". كلاين[13]. نرى لدى هذا النوع من الأسر مدى الاضطرابات والتصلب في السلوك والمواقف. عندما تكون الأسرة غير قادرة على التعاطف مع أحد أعضائها وهو في حالة ألم كبير، وغير قادرة على وضع الفعل في إطاره الخاص، في هذه الحالة، يزيد هذا الفعل في تعميق الفجوة المـوجـودة بـيـن أفـراد الأسـرة وفي تأزّم العلاقات بينهم ويُصبح معيش محاولة الانتحار وكأنّه مساس بسلطة الأباء[14]، مما يثير حقدهم وهذا يذكّرنا بأنّ "اليونان والروم كانوا يتقبّلون انتحار الإنسان الحرّ ويرفضونه ويحرّمونه على النساء والأطفال والعبيد، إذ يُعتبر الانتحار في هذه الحالات مساسا بالملكية الخاصة"[15]، وصعوبة فهم محاول الانتحار لا تتوقّف عند الأسرة بل تتوسع لتشمل المحيط الإستشفائي وإلى محاول الانتحار نفسه، إذ يعتبر من قام بمحاولة الانتحار في المستشفى مريضًا مزيّفًا « un faux malade » حتى وإن كان في حالة يُرثى لها، لأنّه سلب سرير مريض في حالة "استحقاق"، وهذا يثير مشاعر متناقضة تجمع بين الشفقة واللوم والاشمئزاز تارة، والعدوان من طرف السلك الطبّي تارة أخرى، ورأينا في بداية هذا النص التناقض الوجداني الذي يثيره الانتحار ومحاولة الانتحار.

أما عن رأي محاولي الانتحار فيقول بعضهم: "لم أفهـم مـاذا حـدث وكيف قمت بفعل مثل هذا" "الشيطان، مقدرة، مكتوب"، وهؤلاء يندمون على فعلهم ويشعرون بذنب وندم تجاه الدّين وتجاه آبائهم. وهناك صنف آخر لا يشعرون لا بالندم ولا بالذنب بل يصمّمون على المضي في هذا السياق: "سأعيدها" تقول شابة بعد أن تمّ إنقاذها وهي تسبّ وتشتم الممرضين. إنّ الغضب والتمرّد على الوضعية المعاشة واضحان لديها، إذ تعبّر عن ملل ضخم من المعاملة القاسية والظلم: "بزاف الحقرة"[16] "لا أطيق" إلخ، ولهذه الجمل دلالتها الواضحة. وفي هذه الحالات نجد نوعيّة استجابة الأسرة التي بتعاطفها أو برفضها، ستساهم في مساعدة محاول الانتحار على الاطمئنان والبحث عن سبل تعبير مسالمة، أو تساهم في تصميمه على العنف المدمر له ولأسرته.

خلاصة

نستنتج من خلال هذه اللمحة الوجيزة لعمل مجموعة البحث[17] أنّ محاولة الانتحار ليست فعلا بسيطا يمسّ مرتكبيه بل هو صدمة عميقة تمسّ كلّ أفراد الأسرة والمحيط، فهو فعل متشعّب المعاني وعميق الجذور في مجتمع ومحيط وفي أسر تعيش وضعيات مختلفة تجعلها تتفاعل مع أفرادها بطرق يمكنها أن تؤدي إلى سلوكات مميتة.

 ما أثار اهتمامنا في هذه الدراسة الجانب العلاجي الذي يكاد ينعدم، إذ يعتني العلاج بالجانب العضوي فقط، فإذا كانت الحالة بسيطة يخرج المريض من المستشفى بعد "غسل" المعدة، وفي الحالات الخطيرة يرسل إلى الأجنحة المتخصّصة حيث لا يوجد مختص نفساني، وعندما يكون موجودا، فإنّه لا يملك مكتبا يستمع فيه إلى المرضى، وفي حالات أخرى مثل مصلحة الاستعجالات، نجد نفسانية واحدة تواجه كلّ الحالات الاستعجالية.

وأخيرا، يدفع التزايد المستمر لحالات الانتحار و محاولاته إلى جعله قضية أساسية لاهتمامات المجتمع، وهو ما يدفعنا إلى إعداد علاج لهذه الفئة والاهتمام بمحيطها للتخفيف من آلامها أولا، ثم لمساعدتها على بناء علاقات جديدة مع أفراد أسرها تكون مبنية على الإصغاء والتفاهم والتسامح، حتى لا تتكرّر هذه الأفعال، أو نعمل على التقليل من العود لمحاولة الانتحار (la récidive) والتي يمكن أن تكون أشدّ خطورة.

Bibliographie

Baudelot, C. ; Establet, R. (2006). Le suicide, l’envers de notre monde. Paris : Éd. du Seuil.

Bendella, S. ; Boustani, M., La tentative de suicide et ses liens avec le mode d’éducation, Mémoire de fin de licence dirigé par M. Mimouni, Université de Mostaganem, 2003-2004.

Bensmail, B. (1999). Suicide et culture au Maghreb, in Kiss, Adam (dir), Suicide
et culture
. Paris : L’harmattan.

Boublenza ; Belhadj; Tadjeddine, A., CHU de Sidi Bel Abbès, Evolution du suicide dans l’ouest Algérien. Boucebci M. Psychiatrie et société, Alger : SNED, 1978.

Boudarene et Ziri. (2005). Le suicide à Tizi Ouzou. Colloque CRASC : l’état de la recherche sur le suicide en Algérie. B. Mimouni-Moutassem et coll.

De Gaullejac, V. (1994), Aux sources de la honte, Desclée de Brower.

Gaha, L.; Skhiri, T.; Bouchoucha, S.; Tunisie médicale 1988, vol. 66, n° 2, p. 103-106.

Hiba, Kh., Bentounès, M., Sahnoun, A. (2003-2004). Le deuil chez les parents ayant perdu un de leur fils par mort naturelle, par accident ou par suicide. Mémoire de Fin de licence dirigé par M. Mimouni, Université de Mostaganem.

http://www.elaph.com

 http://www.who.int/media/en/suicide.jpg

Kiss, Adam (s/dir), Suicide et culture. Paris : L’harmattan, 1999.

Klein, M., La psychanalyse des enfants. Trad. J. B. Boulanger, Paris : P.U.F., 1959.

Mimouni, M. (2006), Avant-projet d’unité de prise en charge de suicidants et de leur famille, Colloque organisé par le groupe « suicide des jeunes : modalités de prise en charge », Oran : CRASC, 25 janvier.

Moutassem-Mimouni, B ; Sebaa F.- Z. ; Mimouni, M, Djaoui, B., Rapport de recherche suicide et tentatives de suicide des jeunes et prise en charge des suicidants. Oran : CRASC, 2002-2007.

Moutassem-Mimouni, B. (2005). Je me suicide donc j’existe communication du groupe, table ronde, 5 octobre, Oran : CRASC.

Moutassem-Mimouni, B., Naissances et abandons en Algérie. Paris : Karthala, 2001
et Ibn Khaldoun, Oran 2003.

OMS, Figures and Facts about suicide, 1999.

El Khayat, R. (2006). Condition féminine dans le Monde arabe et psychopathologie, Arabpsynet, e.Journal, N° 10&11- printemps – été.

Sebaa, F.- Z., (2002). Adolescence et délinquance en Algérie. Oran : Dar El Gharb.

Therozi, M., Le syndrome de l'infirmière autrichienne, in Kiss, Adams (dir.), suicide
et culture
.

Ziri, Le suicide en Kabylie. Congrès : le suicide de la culture aux neurosciences. Association Franco Algérienne de psychiatrie, Montpellier, 8 et 9 juin 2007.



الهوامش

*مقال منشور في مجلة إنسانيات باللغة الفرنسية، عدد 72-73 | 2016، ص. 95-113. بعنوان:
 " Les retraités : retraite ou retrait, Repos ou esseulement ? Enquête auprès d’enseignants à Mostaganem "

[1] Mimouni, M. (2006). Exploration d'un concept : le suicide », colloque 2006, Oran : CRASC.

[2] Durkheim, E. (2004). Le suicide. 12ème édition, Paris : Quadrige, P.U.F.

[3] Les religions face au suicide, in congrès franco algérien, « le suicide : de la culture aux neurosciences », Montpellier, juin 2007.

[4] Baudelot, C. et Establet, R. (2006). Le suicide, l’envers de notre monde. Paris : éd du Seuil.

[5] Cyrulnik, (1998). Un merveilleux malheur. Paris : Odile Jakob, P.U.F.

[6]مشروع بحث "محاولة الانتحار بوهران" تحت إشراف الأستاذة بدرة معتصم-ميموني، فاطمة السبع، مصطفى ميموني وبن تمرة جاوي. مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC) وهران 2002-2004 و2005-2007. لقد شاركت خ. كبداني في المشروع الأوّل (2002-2004).

[7] أنظر تقرير البحث حول "محاولات الانتحار بوهران" لجماعة البحثCRASC ،2007.

[8]قناة "العربية"، حصة "صناعة الموت"، تقديم ريما صالحة، يوم 27 ابريل 2007.

[9] Gaha, L. ; Skhiri, T.; Bouchoucha, S. Tunisie médicale 1988. vol. 66, n° 2, p. 103-106.

[10] Rita, El Khayat, (2006). Condition féminine dans le Monde arabe et psychopathologie. Arabpsynet, e.Journal, N° 10 &11- printemps - été.

 [11]مشروع بحث "محاولة الانتحار بوهران" تحت إشراف الأستاذة ب. معتصم-ميموني، ف. السبع، مصطفى ميموني وبــــــــ. جاوي. مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC) وهران 2005-2007.

[12] De Gaullejac, V. (1994). Aux sources de la honte. Paris : Desclée de Brower.

[13] Klein, M. (1959). La psychanalyse des enfants. Trad. J.- B. Boulanger, Paris : P.U.F.

[14] Moutassem-Mimouni, B. (2006). Mourir, d'aimer, Colloque sur la prise en charge des suicidants. Oran : CRASC.

[15] Therozi, M. Le syndrome de l'infirmière autrichienne, in Adams, Kiss (dir.), suicide et culture.

[16]كلمة تعبر بقوة عن الاستفزاز والابتزاز واللاعدل.

[17] للاطلاع على نتائج مشروع البحث، أنظر:

معتصم ميموني، بدرة (2011)، محاولات الانتحار وانتحار الشباب في وهران: يأس أو إثبات الذات؟ وهران، منشورات مركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية.

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact