"المحلي"، الأصل و المصطلح

"المحلي"، الأصل و المصطلح

لِنُزِِل الصورة الأولى عن أذهاننا، صورة تعيسة نوعاً ما حيث نتلقى منها دائما أسئلة من "القاعدة"، و حيث تبث منها تعليمات أو تفسيرات آتية من "أعلى". ما هو مبرر أن يكون لكلمة "محلي"، حتى و إن كانت عادية، مكانة في قاموسنا للعلوم الاجتماعية، حيث تعد أكثر من ذلك كلمة أنثروبولوجية. لماذا نشعر بالحاجة إليها، و من أجل ماذا نستعملها و نشير إليها، هل عجزت الكلمات العادية المرتبطة بممارساتنا من الإشارة إلى ما نريد توصيفه و بيانه؟

بعدما أفرغ من محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، سأتوقف عند ما يبدو لي جوهرياً، ألا و هو النتائج المنهجية لهذا الموقف، ثم سأتناول بعد ذلك مثالاً من واقع الأحداث.

الحركة المزدوجة

يعد المحلي في الحياة اليومية المكان الذي نعيش و نتعارف فيه، و منه يعترف بنا الآخرون، و هو بالبداهة، القرية و البلدة، الدوار و مراعيه، الحي و مبانيه و فضاءاته للتبادل و المواجهة. تطلق هذه التسمية في الجزائر (و في مكان آخر، غير أننا نلزم أنفسنا في حدود ما نعرفه)، على مكان تَجدُّرِ الأصل، أصل علاقة القرابة الأبوية، و المكان حيث يوجد الأهل و المقبرة، و الولي الصالح، الحامي الذاكرة و المراجع، أو حينما نقيم خارج المكان المألوف فنشعر بالحنين إلى كل هذا، و نقوم بعملية التكيف و التآلف مع ما يجاورنا، مهيئين أنفسنا لتجذر جديد. المحلي قبل كل شيء "بيتنا"، ال"نحن" المتغير بالضرورة مع الظروف التاريخية، غير أنه يحمل معه شرعية ما. فهذا النوع من المحلي ليس ما كان يبدو غالباً في مقاربات العقلانية، خصوصاً المنطلقة، على نحو خاص، من رؤية جغرافية، و التي على أساس تعريف دقيق لمجال خاص، تحاول توضيح المبادلات و النشاطات المتكاملة التي يقتضيه الجوار. و ليس له أيضاً علاقة بالمقاربات الواسعة التي من خلالها يمكن للمحلي، مقارنة بالمجموع، اعتباره في المقام الأول، منطقة ما دون أو ما فوق الوطن، أو كفارق حسب متغير ما (مثل التساقطات المطرية، كثافة السكان، الدخل المتوسط...)، كما بيّنه علم الخرائط، أو كما هو موضح في صور الأقمار الصناعية الفضائية، كجزء من فضاء معزول عن الكل أثناء عملية التحليل.

غير أن المحلي المعاش، يبدو على نحو خاص، مختلفاً جذرياً عن المحلي منظوراً إليه من أعالي الدولة المركزية والموزّعة للسلطات و الخيرات و الخدمات. و يعتبر المحلي، من هذا المنظور، نقطة وصول تدفقات من الأوامر و الوسائل التي تنتقل عبر أجهزة متخصصة تصل إلى دوائر محددة سلفا و حسب قواعد مطبقة من قبل أعوان متماثلين مبدئياً. كل هذا من أجل تجنب مخاطر شبكات الماء الصادرة عن المركز من أن تنحرف عن مجراها المتوقع، أو أن تضيع في رمال الوقائع. إن الدولة، و هي تستهدف إظهار الاعتراف بسلطتها في كل مكان، و التوصيل لكل طرف نصيبه من الخيرات و الخدمات، تجهل المحلي أو تخشاه، ذلك أنها تخاف من أن تنحرف تدخلاتها عن مقاصدها. أما السوق، فإنها تجهله أيضاً، معتبرة إياه نقطة تعبير خاصة عن العرض و الطلب في مجمله.

هناك إذن رؤيتان للمحلي: رؤية الفاعل المنطلق من بداهة علاقـاته اليومية التي يمكن أن تبلغ، بواسطة التكتل أو التحالف، إلى علاقات أكثر اتساعاً، علاقات جهوية، وطنية، أو جاهلة للحدود، كما هو الشأن في الانتماء الديني. و هناك أيضاً رؤية الدولة المتدخلة في إقليمها و التي تستهدف من وراء ذلك إدماج السكان و تنظيم المبادلات.

تصبو الدولة من وراء رؤيتها تلك إلى توسيع الاستفادة المشتركة حسب الحاجيات، عند قصورها عن بلوغ الاتحاد، قائمة على التوزيع المتراتب، خشية ألا تصل أيضاً إلى المستهدفين من خدماتها، و مهملة المناطق "المعزولة". فليس في هذا الأمر ما هو جديد. و دون الحديث عن التمييز الذي يمكن أن يقيمه علماء السياسة بين "الدولتين"[1]، نعرف على وجه الخصوص أن علماء الاجتماع المتخصصين في التنظيمات عليهم في آن واحد دراسة تنامي المشاكل و الطموحات لأعضاء الدولة مثل الكيفية التي تم تفسيرها و التكفل بها، و في ذات الوقت دراسة توزيع التعليمات و الايدولوجيا التي تنتقل من المنظمين نحو الأعضاء، و كذا كثافة هذه التدفقات المعبرة عن التضامن الداخلي للمنظمة.

لا شك أن هناك ما يدعو إلى تعجيل التفكير في المحلي، ليس فقط بسبب المآسي الحديثة التي شهدت بهذه المناسبة ظهور هيئات تمثيلية محلية مطالبة بماضي منسي، لكن لأن معنى المحلي يبدو غائباً عن الرأي العام، و ذلك ربما بفعل ما نشرته وسائل الإعلام عن الهيئات التمثيلية المعولمة. لقد بدأ ذلك في الجزائر بالتقليد الكسول في تعيين الولايات، و تعقيد أقاليمها، و فضاءاتها البيئية، كما في أماكن استيطانهم البشري، بواسطة اسم المدينة الذي تعتبر المقر الرئيسي الإداري، أو عن طريق الإهمال الذي يستبعد تعدد أصول المبحوثين المصنفين في فئتين وحيدتين: "المدينة" و "الريف"، كما نلاحظه في بحوث الطلبة في علم الاجتماع. أو عن طريق الإغفال الذي من خلاله تصف اللغة اليومية أولئك القادمين الجدد أو الوصوليين بـ"الغرباء" ، كل أولئك الذين لم تكن أقدميتهم في الإقامة مماثلة لذلك الذي يتكلم. و لكن أيضاً عن طريق الدعوة المتكررة "لقوانين السوق"، مع إغفال الظروف الملموسة لعملية جمع، و نقل و بيع المنتجات، و تعدد الطلبات و الأسعار. يتجلى الغياب أيضا من خلال الاستعمال الدائم "للنسب المئوية المتوسطة"، التي غالباً ما تكون مزينة بالألوان في بطاقات، التي تخفي الفوارق بدل من أن تساعد على إدراكها وفهمها. وقد أدى هذا إلى اعتبار كل ما هو عادي أمراً "طبيعياً"، مثل الخلط بين المتوسط الحسابي و المعيار (مثل قياس التساقطات المطرية)، و تصور ما هو مرغوب فيه كأمر عادي كلياً لظروف الحياة و المصير في نطاق الأمة أولاً، ثم اتخاذ الصورة المرئية في التلفزة كمرجعية

المحلي اختلاف

المحلي ليس فقط اختلافاً بسبب أن كل جزء من الفضاء له إمكانياته و نقائصه، تضاريسه و مياهه، و مشاهده الطبيعية الخاصة به، و لا بسبب أن لكل ساكنة محلية طريقتها في حيازة هذا الفضاء و العمل فيه، و تاريخه و كثافته، و لكن أيضاً تاريخه الذي يُروى لبيان تشكله و تقسيماته، للمطالبة بحقه في أن يكون هنا، لإعطاء معنى لما يعيشه[2].

لكن المحلي هو أيضاً فيما تتلقاه، بصورة غير متساوية، من الخارج، و في كيفية استعمال لما كان تتلقاه: كموقع مفضل بهذا القدر أو ذاك بما توفر عليه من طرق المواصلات و أقطاب التشغيل، و المدرسة القريبة و مراكز الخدمات التي يمكن الاستفادة منها و استخدامها، كما تكون قريبة من أعوان هذه الخدمات و من "المنتخبين" الذين يتمتعون بهذا القدر أو ذاك من الكفاءة و النزاهة، و يمكن الاقتراب منهم، حيث يقومون بترجمة المطالب دون تشويه.

إن محلي اليوم ليس وحده نتاج الطبيعة و التقاليد. لقد تم تحويره و تحويله بفعل تدخلات الدولة و العلاقات السلعية، و نظام الإجارة و التجارة. لقد كان على كل فاعل محلي أن يحدد موقعه و موقفه تجاه هذه التدخلات حسب فرص و إمكانيات الترقية أو توفر الأمن التي يراها فيها حسب موقعه في الجماعة التي ينتمي إليها. كما بنبغي على هذا الفاعل المحلي أن يتخذ موقفا من العمل في الخارج أو البقاء لمزاولة تعليم البنات، و بناء الدار، و الاستثمار، و التموقع كرجل حكيم أو الدخول في اللعبة السياسية، الإفصاح عن ثقافته المرجعية، أو القطعية. إن حالة كل ما هو محلي حالياً هو نتاج جملة من الخيارات التي تقررت منذ أربعين سنة رداً على عروض و التماسات آتية من مجموعة أوسع، و لا سيما الدولة الوطنية. و من خلال فهم معنى هذه الردود، ضمن استراتيجيات أسرية أو شخصية، يمكن أن تأتي منها قراءة قائمة على ما يمكن أن يقدمه اليوم لنا ما هو محلي. إن الجماعة التقليدية المتكاملة، و المستقلة ذاتياً و المنافسة لجيرانها، على افتراض أنها لم توجد بالمرة كما نستعيدها، لم تعد موجودة، حتى و لو بقيت أمكنة مربوطة فيما بينها ربطاً سيئاً، بسبب انعدام الإمكانيات، و من ثم وصفها بأنها مناطق "محرومة"، حيث يجد الشباب أنفسهم فيها مقصين من المدرسة أو من العمل المثمن، و بالتالي من الزواج، مما يؤدي إلى بقاء بنات غير مخطوبات، و من ثم إقامة الحجة على أن التقاليد لم تعد تضمن استمرار نسل الجماعات.

إن ما نجده، و نحن ذاهبون إلى ميدان المحلي، هي تلك التجمعات السكنية التي تتميز بهذا القدر أو ذاك من الضيق و العشوائية، و المتوفرة على "خدمات" حكومية أو ما شابهها، و على النشاطات التجارية. كما نجد في نطاق هذا المحلي قرى لا تعيش بالعمل إلا جزئياً في حقولها و مزارعها، و دواوير حيث تستخدم مراعيها لتربية المواشي بصورة مكثفة، بحيث لا يجد كل راعي من الرعاة القدامى نصيبه فيها. كما نجد "قطع أراض" مهيأة للبناء مأخوذة من أراض كانت سابقاً زراعية بجوارها منازل مبنية على النموذج الحضري، و"أحياء" يحاول مستأجروها حيازتها، و أحياء أخرى تتفكك إلى "حومات" متنافسـة، ومتخاصمة، كـما توجد في كل مكان مـدن، و تجمعات سكنية جديدة، أنشـأتها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، السياسات الحومية، و التي أصبح ساكنوها، بنمط عيشهم، متمردين على كل محاولة ل"تثبيتهم" في قالب نموذجي خضوعهم لمراقبة السلطة المركزية.

إن التغير الاجتماعي هو في آن واحد نتاج لهذه التدخلات: تدخلات الدولة و السوق و استراتيجيات الفاعلين المعنيين، و لذلك فإن المحلي هو نتاج استخدامات من هم جزء من المجموعة السابقة للحيازة على هذه الإمكانيات و ما تنطوي عليه من إكراهات حسب ما يرونه متطابقاً مع مصالحهم و كرامتهم.

إن الاشتغال على المحلي، بما هو مجال للبحث والدراسة محصور في حقل يتيح جمع المعطيات الكيفية ويتيح عقد مقارنات، و هو السعي للحصول على الوسائل التي تمكَن من الإحاطة الحية بجدلية ما هو "داخلي"، باعتباره ذاتاً يعي نفسه بهذا القدر أو ذاك (دون وجود تناقض داخلي)، و بين الخارج، الذي يشمل ما يمكن أن تأتي منه الثروات و المجد. يمكن للمحلي أن يكون، ضمن هذا المنظور، نقطة انطلاق متميزة، لكن كيف يمكننا معالجته؟

مسائل منهجية

إن اختيار معالجة المجتمع انطلاقاً مما هو محلي، هو قبل كل شيء رفض ما يوفره التحليل الإحصائي من أمن في نتائجه الموحدة التي يتم الحصول عليها من عينات ممثلة، ليس من أجل الاعتراض عليها، و لكن من أجل أن نأخذ بعين الاعتبار الوجه الآخر، محاولين إدراك الدينامييات التي تتدخل في إنشاء وضعيات الذي يقوم التوزيع الإحصائي بوصفها.

هل المونوغرافيا هي السلاح الأفضل لمهاجمة المحلي ؟

تتوفر الجزائر على عدد لا يستهان به من الدراسات المونوغرافية المحلية، الذي يعتبر البعض منها هاماً[3]، و هي دراسات قام بها متخصصون في علم الجغرافيا، و العمران الحضري و التهيئة العمرانية، و التاريخ الأنثروبولوجيا، و كذا العديد من أعمال الطلبة في تخصصات مختلفة. كما توجد إلى جانبها، الأعمال الأدبية و السير الذاتية التي وجب الاستفادة منها. كل ذلك يشكَل ثروة هامة، لكن من الصعب الربط فيما بينها و تفسيرها لفهم مجتمع اليوم، لأنها أعدت في فترات مختلفة، و أحياناً في أفق ضيق من التخصص أو في دراسة حالة خاصة بعينها.

غير أن ما هو مهم، ليس المحلي في حد ذاته (ما عدا فاعلي المكان المعني)، لكن كيفية ما يمكن للمحلي أن يقوم به كردود فعل تجاه الإسهامات و الضغوط الخارجية. الأمر يتعلق إذن بفهم العلاقة أو نوع العلاقة بين المحلي – و هو ما نجده أثناء البحث الميداني- أو ما يشمله و ما شمله خلال مسيرته التاريخية. أليس الإكثار من الدراسات المونوغرافية (أو القيام على الأقل بدراسة مونوغرافية لمنطقة محلية واحدة لكن في مدة زمنية متباعدة) بإمكانه أن يساعدنا على إحراز تقدم في فهم الكيفية التي يكون فيها كل محلي مختلفاً في علاقته مع الخارج[4].

و لكن من جهة أخرى، عندما لا نتوفر إلاّ على عدد محدود من الدراسات المونوغرافية، مهما كانت درجة جديتها، كيف يمكننا أن نـعرف فيما إذا كانت ممثًلة، و ممثلة لأي شيء؟ لماذا هذه القرية،

و هذه القبيلة، و هذه الواحة، و هذا الحي بعينه دون ذاك؟ هل لأن كل ذلك كله يـبدو أصلـياً، يشبه الصور القديمة المعدة سلفاً، بما يجعلنا نعتقد أن نجد فيها الماضي متجاوزاً؟ أو لأنها تبدو قد نجحت في الانتقال إلى الحداثة؟ أو لأنها موضوع مشروع تحوَل؟ أو لأنها مبعث قلق؟ إن مجرد اختيار المحلي كموضوع بحث يحمل في ذاته خلاصات الدراسة.

قد يكون من الممكن محاولة تبني مسلك منهجي وسطي. يقوم قبل كل شيء على وضع فرضية تقسيم جهوي (يكون واسعاً ومستقلاً عن الحدود الإدارية) على أساس مقاييس تتطابق مع الأهداف المراد تحقيقها: مثلاً، خصائص الوسط الطبيعي و ما نعرفه عن أنماط العيش السابقة كسمات ثقافية. (و يمكن أيضاً استخدام الخرائط الجميلة التي أعدتها الوكالة الوطنية للتهيئة الإقليمية [5](L’ANAT) و المعطيات الإحصائية التي تلتها، و ما إلى ذلك). نقوم بعد ذلك بسحب عشوائي، من جملة البلديات المتضمنة في هذه المناطق، بلدية أو بلديتين، (اختيار واحدة منها معنية بالتغيرات الحديثة، وأخرى "معزولة" أو أكثر لدراسة حالة محددة. تعتبر البلدية أصغر وحدة إدارية معترف بها إدارياً، حيث يتم هنا التعرف على مكوناتها (مثل القرى ولجانها أو جمعياتها، القبائل، و الأحياء الجديدة...). يمكن أن تنطلق دراسة الحالة في هذا المستوى، و سيكون ممكناً هنا الاستعانة بدفاتر المقاطعات الإحصائية لاستكشاف محلة من المحلات داخل البلدية. و قد يكون أحياناً، على العكس من ذلك، مفيداً أن تتخذ مجموعة من البلديات المجاورة كموضوع دراسة. إن الغاية من إجراء السحب بواسطة القرعة هو تجنب الوقوع في الإغـراءات التي تنطوي عليها حالة محلية محددة، دون، أن يضمن لنا مع ذلك، نوعاً من التمثيل الصادق.

قد يكون اختيار الطلبة لمكان ازديادهم الأصلي بديلاً عن طريقة السحب بواسطة القرعة، غير أنه لا يشجع بالضرورة على موضوعية المحقق. و في جميع الأحوال، يجب أن يوضع هذا الاختيار، ضمن الإطار الواسع الذي ينتمي إليه. يتم بعد ذلك القيام بعمل مكثف و مزدوج، و لكنَه مركَز نسبياً خلال فترة زمنية معينة، حول المجتمع المحلي في جميع مكوناته، أي دراسة سلوكيات و مراجع أولئك الذين يشكلونه ( بما في ذلك المتدخلين غير المقيمين)، و كذا العلاقات الخارجية في جميع أبعادها، بما في ذلك إرسال و استقبال مختلف الرسائل، و دور الأعيان المحليين، و المنتخبين و أعوان الدولة والسـوق و غيرهم، مع الحرص على تسجيل المعالم الكرونولوجية حول التغيرات التي تساعد على كشف هويتها. يعتبر ذلك بمثابة دليل عمل في الميدان كفيل بتحضير عناصر المقارنة، مع ترك مكانة أوسع للمبادرات و الحساسيات المتعددة للمحققين.

إن تحليل و حوصلة هذا النوع من العمل يجب أن ينجز بالاشتراك مع المتخصصين في الأنثروبولوجيا والباحثين في العلوم الاجتماعية على ضوء حركة التاريخ الجارية. يمكن أن يظهر هذا النوع من الاقتراح مثالياً. فليس ذلك إلاّ محاولة، ضمن محاولات أخرى سيكون مرحباً بها، لرؤية كيف يكون ممكناً معرفة و فهم تنوع ديناميات المحلي عندما لا يكون هذا الأخير في مواجهة مع ماضيه الحقيقي و المتخيل فقط، و لكن أيضاً في مواجهة مع الوافد عليه من خارج ذاته. كل ما هو محلي يخشى، بالفعل، أن يكون مبتذلاً وعادياً أو معالجاً وفق معايير خارجية، مما يعرَضه للزوال. يتناول موضوع البحث شروط بزوغ فاعل جماعي محلي قادر على اختيار و تنظيم توازن دائم بين مجاله و ساكنيه في تفاعله مع مجموعات أكثر اتساعاً يشكل هو نفسه واحداً من مكوناتها.

كما يستهدف البحث الكشف عن الموضوعات الاجتماعية الجديدة مثل الإقليم، و حجم و تركيبة السكان، و العلاقات. ذلك أنه لا يوجد ما يجعلنا نرى أن العلاقات القديمة بين المجموعات الاجتماعية و بيئتها المعيشية لازالت تحتفظ بمصداقية عملية، حتى و إن كانت تدعي الحنين إليها.

إن الطابع الأصيل لكل محلي خاص، على شساعته، لا يمكن، دون شك، أن يُكْشَف عنه انطلاقاً من تلك المقاربة، لكن هناك فنانين للقيام بذلك. لا غنى لنا، لنا من أجل معرفة البلاد و الأمة في تعقيداتها وأزماتها، و من أجل الاعتراف بالتنوع كمصدر للحيوية في الوقت الذي ينظر إليه كانحراف أو حرمان، من الاستعانة بالمساهمة الحالية للعلوم الاجتماعية في جميع تخصصاتها.

المنهج في لحظة اختبار

في غياب امتلاك جملة من المعارف المتكاملة عن التغيرات الجارية على المستوى المحلي، أصبحنا نحن المتخصصون في العلوم الاجتماعية، و المتخصصون في الأنثروبولوجيا على وجه الخصوص فقراء و عاجزين عن تفسير الأحداث التي تعرفها حالياً منطقة القبائل. الأمر لا زال مبكراً، فالمعلومات التي جمعتها وسائل الإعلام و روايات بعض الشهود لازالت جزئية، و متحيّزة. إننا لا نعرف بعد مآل الأزمة لاقتراح إشكالية ما. فهل من الممكن، على الأقل، أن نحتفظ، انطلاقاً من التأملات التي اقترحناها الآن حول مقاربة المحلي في الوضع الحالي، بقائمة من الموضوعات التي يتعين علينا تعميقها؟ إننا نقدم هذه الفرضيات هنا للتأمل و النقاش.

يطرح النزاع على مستوى العلاقة بين المحلي و الوطني، كما تفصح عنه الرمزية الجارية (مثل الحواجز، محاولة طرد الهيئة التي تعين بصورة دائمة أعوانها في الخدمة الوطنية (العسكرية) ضمن المحلي، تدمير أنظمة الاتصالات العمومية: مثل البريد، و الهاتف، و المباني الإدارية و ما تحويه من ملفات). إن تعريف السياسة و مجال ممارسات السياسة هو المستهدف ضمنيا من وراء ذلك، فهل يعتبر ذلك اتحادا متتابعا و متدرجا لفاعلين محليين، تجمعهم إرادة مشتركة أو وحدة مؤسسة تتنوع تدريجياً باقترابها من المحلي؟ هل الديمقراطية هي التعبير الأساسي عن وحدة و إجماع الجماعات المحلية، أو التعبير، على مستوى القرار، عن أفراد يجتمعون للمطالبة بالاعتراف، عن طريق الأحزاب و الجمعيات بخياراتهم، و مصالحهم و طموحاتهم المشتركة؟ هل الأمر يتعلق بانبعاث "النزعة الانقسامية"[6]، و ليس فقط باحتجاج محتقن ضد البيروقراطية و اختلالات القنوات القائمة بين المركز و الأطراف؟

- إن ميدان النزاع ليس هو الفضاء التقليدي بقراه المتراصة (تادارت) و مزارعه أو جماعات القرية القريبين من أسواقهم(و هذا ما يعرف بالعرش)، و أمكنة "أوليائمهم الصالحين"، و مسالك قممهم، و إنما هو الفضاء الجديد الذي صنعته الطرقات و حركة نقل المركبات، و الإدارات و مقراتها، و التجارة وشبكاتها، و المؤسسات و مناطق توظيفها، و السكنات المبنية بالأسمنت العمومي و الخاص، و جماعات الانتماء و مالكيها و محتليَها. أصبحت هذه التجمعات السكنية الفاقــدة لمواصفات الهندسة المعمارية، مدناً في واقع الأمر، بسكانها الذين يتجاوز عددهم بسهولة عشرة آلاف نسمة، و قد اكتسبت هذه التجمعات مكانة مقر الدائرة، دون أن تمتلك مواصفات مجتمع حضري. تتركز فيها النشاطات "العصرية" لأناس لازالوا، من جهة أخرى، أعضاء في قراهم الأصلية. هذه المدن تسيطر عليهم وتحيط بهم، يستعملونها و لا يتحكمون فيها. تخضع هذه التجمعات السكنية ، مبدئيا، للقانون العام الوطني (و ليس للنظام المحلي القديم)، غير أنها تعتبر، على وجه الخصوص، فضاءات للتنافس غير المقنن أي أنها فضاءات لا تخضع للقانون.

- غالباً ما تذكر المؤسسات التقليدية بهذا الاسم، و اسمها هو الذي استرعى اهتمام وسائل الإعلام. فقلما كانت القرية باعتبارها حيَّا[7]، تتدخل عن طريق هيئة القرار العادية المسماة "تجماعت"، حتى و لو كان أعضاؤها يظهرون بأسماء الحكماء أو "الأعيان"، يقومون بدور المصالحة. إن أشكال التنظيمات الجديدة، مثل لجان القرية و الجمعيات، التي استعادت صلاحيات الجمعية لممارستها في السياق الحالي (كما أظهر ذلك ابراهيم صالحي[8])، لم تقم هي نفسها بممارسة مثل هذا الدور. لم يكن الرهان على مستوى القرية، التي تعتبر في عمومها كياناً محدوداً قائماً في فضاء قديم، و إنما كان على مستوى البلدية (التي تشتمل على ما لا يقل عن عشرات من "القرى")، و حتى على مستوى الدائرة، أي على كيانات تابعة للدولة أو تجمعات قرى التي استعملت في تسميتها كلمة "العرش" ثم أخذت قيمة رمزية لم تكن أسسها السابقة بديهية، و حتى الطوبونومية (علم الاسماء و الأماكن) لم تكن واضحة، فأحياناً ما تتردد في تسميتها ما بين الدوائر الانتخابية و بين أسماء تحال إلى التجمعات القديمة. و كأنَ الإطار الحالي في تحديد مجالات النشاط هو الذي ينفجر بفعل تنامي الحاجيات الجديدة و العادات المستحدثة، من دون أن تتمكن من العودة، مع ذلك، إلى التقسيمات (والتوترات) السابقة، استناداً إلى مرجعية حنينية. أصبح الرهان يكتسي أهمية قصوى، ذلك أن الأمر يتعلق بتحديد هوية الفاعلين الجماعيين الحاليين وحقول مشروعيتهم.

- إن القوة التي تعبر عن نفسها هي قوة الشباب، و لا سيما الشباب المتعلم أو في طريق التكوين، و من المنطقي أن هذه القوة لا تعبر عن نفسها في سياج سلطة القدماء، و إنما في المدن الجديدة حيث توجد أماكن التكوين، و أماكن التشغيل، و أماكن الاستهلاك و الترفيه، و الأماكن المنفلتة عن الرقابة الاجتماعية و لقاءات النظراء. تشتغل الفضاءات الحضرية، القديمة منها أو التي هي في حالة تشكل، كأمكنة للقاءات بالنسبة للفئات الاجتماعية الجديدة من التجار و الحرفيين الحديثين، و الناقلين، والموظفين، والعمال، والمتقاعدين و الشباب في طور التكوين، أو في حالة انتظار التشغيل. ينحدر كل هؤلاء من مختلف القرى المحيطة، و هي قرى يخضعون فيها لرقابة اجتماعية حينما يقيمون فيها ، ولكنهم ينفلتون منها باجتماعهم فيما بينهم في نطاق تسامح فضاءات غير مقننة من قبل التقاليد وغير خاضعة للانضباط الحديث، حيث نجد فيها "البزنسة"، و العطالة، و حركة التنــقلات، وأنماط الموسيقى والألبسة، كما نجد عند البعض المشروبات الكحولية، و المخدرات. إن الإغراءات حاضرة، تقدم صورة لإمكانية تحقيق رغبات فردية بيسر و سهولة دون أي قيد آخر غير المال.

  • المال هو الذي يتحكم في السلوكات و الأفعال، حتى و لو كانت هذه الفضاءات الجديدة قد تم إنشاء جزء كبير منها من قبل التدخلات الإدارية ومصالح الخدمات العمومية، فهي فضاءات تجارية، وكل ما هو أكثر اجتذاباً للشباب بشكل خاص، يباع نقداً. فكل ما يتيح للفرد التميز على الآخرين، مثل الملابس، و السيارات، والمنازل الــمريحــة، والأجهزة الإلكترونية يجب أن يُشترى. وكل فرد لا مال له يُقصى من المنافسة، حيث استبدلت المنافسة بالمال على المنافسة بالشرف الذي اعتمد معيارا للعلاقات الاجتماعية التقليدية. غير أن هذا المجتمع، الذي كان في زمن مضى متقشفاً، ثم ألف ما يحصل عليه من كرم التوزيع "الاشتراكي"، صار الآن مفلساً، لأنه لا ينتج إلا قليلاً من المال، ولصالح البعض من الناس. لقد تم القضاء على قيم النزعة "المساوتية" بسبب استحالة استفادة الغالبية من الناس على الخيرات المرغوب فيها، وبفعل الإنفاق التفاخري للبعض منهم. و لذلك أمكن القول أن الفضاءات الحديثة هي فضاءات للإحباط.
  • تمَّيز حاضر منطقة القبائل، بصورة يتعذر محوها، بتجربة الهجرة، نظراً لمحدودية الموارد في مقابل كثافة سكانية عالية التي جعلت من هذه المنطقة (حسب تباين المجموعات الاجتماعية)، خزاناً للعمال المهاجرين، و هذا طيلة الفترة السابقة على الاستعمار. فمنذ فترة الغزو، ثمَ الحرب العالمية الأولى، و خصوصاً مع بداية من الحرب العالمية الثانية، أصبح لزاماً على سكان هذه المنطقة، من أجل إعالة أسرهم، الذهاب بحثاً عن العمل في الخارج، أي في مناطق أخرى في البلاد أو في الضفة الأخرى من البحر. و هي تجربة كثيفة وطويلة ( خلال سنوات الخمسينيات)، و يحصى خلال هذه الفترة أكثر من نصف الرجال البالغين المهاجرين إلى فرنسا في بعض المناطق[9]. كانت تتم تلك التجربة في شكل ذهاب بالتناوب للرجال البالغين وحدهم، ثم في شكل تجمع عائلي بعد الاستقلال في مناطق العمل، التي كان من نتائجها ميلاد ما يُعرف بـ" beurs" الحاليين و أطفالهم، و هم من أصل منطقة القبائل و حاصلين على الجنسية الفرنسية[10]. لقد كان من نتائج هذا التاريخ الطويل أن خلق نوعاً من الجوارية المخيالية منافسة دائمة بين "أبناء الأعمام" من جهة ثانية، منافسة بين الذين تلقوا تربيتهم في الخارج وأولئك الموجودين هنا، سواء كانوا من السكان الحاليين للمنطقة أو المشتَتين بسبب أعمالهم في البلاد و خصوصاً في التجمعات السكنية للجزائر العاصمة أو ما جاورها.

و خلال فترة تفكك الاقتصاد الحكومي (القطاع العام) (الذي تزامن مع تحرير الاقتصاد و انخفاض قيمة الدينار) كان وزن الهجرة مفيداً للمنطقة التي عرفت نوعاً من الازدهار المرتبط بتصريف العملة في الأسواق غير الرسمية، و بتجارة الحقيبة و الاستثمار و التوفير في أشغال البناءات و المؤسسة الصغيرة. إن هذه الفترة من الرخاء -التي ساهمت، إلى جانب مساهمات أخرى، في نشاطات المدن الجديدة- أصبحت مهددة بالزوال، بسبب قلق المهاجرين الذين يترددون في استثمار أموالهم في البلد من جهة، و بسبب نفاذ معاشات المهاجرين المتقدمين في السن من جهة ثانية.

ساهم الانفصال التدريجي بين المغتربين القبائل في الشتات و منطقتهم الأصلية في زيادة مصاعب هذه الأخيرة، و هي صعوبات مادية (من جملتها تقلص الطلب، طلب العائدين لقضاء عطلهم في البلد) و صعوبات معنوية مرتبطة بتدني قيمة البلد الذي يعطي الحجة للابتعاد عنه. إن الغضب على الوضعية الحالية، باتهام "النظام" على أنه هو المسؤول عن ذلك، دون تحديده، يستهدف تبرئة أولئك الذين اختاروا الذهاب إلى الخارج، و أن تبخيس الذات يمكن أن يعني التموقع بجانب الآخرين، بجانب أبناء العمومة الذين نجحوا أو الذين تظاهروا بذلك.

إن صورة الذات، المنتمية لمنطقة القبائل في كيانها الأوسع، و المحددة انطلاقاً من استخدام اللغة، أصبحت تغطي حالياً هويات أكثر محدودية مما كانت عليه قياساً بالأجيال السابقة، مثل هوية القرابة، و القرية، و العرش في حالة الحرب الكونفيدرالية، و هوية الأمة أثناء الحرب ضد الاستعماري. يعود هذا التوسع ، دون شك، إلى حركة الهجرة بحثاً عن للعمل، و إلى الحاجة إلى تضامن أولئك الذين نزحوا إلى داخل ثم إلى خارج البلد من أجل العمل، و لم يكونوا يحظون دوماً باستقبال جيد. إن هذا الأمر هو نتاج عمل كل أولئك الذين بنوا المرجعية القبائلية ضمن المجموعة البربرية، خصوصاً منذ ظهور و نجاح الحركة الثقافية البربرية (MCB). لقد أصبحت هذه الحركة الآن واقعاً اجتماعياً، و هي تتجاوز الحدود الإدارية وحتى حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث رسمت مجموعة اجتماعية محدَدة نطاقها عن طريق اللغة القبائلية كلغة الداخل، أي لغة المبادلات الداخلية.

  • إن صيغة البناء هذه، و التي جرت في سياق التعارض المفتوح لما اعتبر في و قتها كـ"ثقافة وطنية"، قد عملت على حشد تثمين جماعي للاختلاف، و ما كان ذلك ممكناً دون الاستعانة بموضوعات تم نشرها حول "أسطورة القبائلي" الكولونيالي[11]. و يفهم من ذلك، عبر خليط من الحجج المؤسسة تاريخياً، كآثار أيديولوجيا ذهبت إلى حد العنصرية، إذ نلاحظ أحياناً في مواقف بعض الشباب نوعاً من التثمين الزائد عن اللزوم للأنا المدفوع إلى حد اللامعقول. إن انبعاث هذه المواقف مجدداً يضعف الأفراد، بطبيعة الحالة، ويجعلهم مرتبكين وحيارى إزاء الفجوة بين مطامحهم و واقعهم، مرتبكين في تعبيرهم عن مطالبهم جملة، كما يجعلهم عرضة لتشويه صورتهم أو أي "تدخلات" أخرى.
  • يوجد قطب آخر لانبعاث إيديولوجي يمارس أيضاً جاذبيته حول القبائل، ألا و هو الإسلام السياسي في طابعه المسلح. سكان القبائل مسلمون كغيرهم من الجزائريين الآخرين، و حتى عندما تكون حياتهم محصورة في القرية و القبيلة، فإنَ ممارساتهم الدينية يمكن أن تتخذ طابعاً خاصاً، و حينما يكتسبون تعليماً دينياً أو يكونون في مواجهة في عملهم مع غير المسلمين، فإنهم يتعرفون عن بعضهم البعض بانتمائهم للإسلام. إن إدعاء البعض بتأكيده أن القبائليين يتصفون في الجوهر، بمناعة ضد النزعة الإسلامية، كان ذلك جزءاً من عملية انبعاث "أسطورة القبائلي". لقد أدى هذا الإدعاء إلى طمس الواقع وتشويهه.
  • كانت منطقة القبائل، على العكس من ذلك، أكثر استعدادا و تهيئاً، باستثناء الأجيال المكافحة ضد الوجود الاستعماري و السنوات الأولى في عملية البناء الوطني، للثقافة الاستقلالية للجماعة القروية التقليدية، مما جعلها ترفض كل سلطة تدعي فرض نفسها على القرية أو على إتحاد القرى، باستثناء ما يتعلق بالدين. وضعت "الجماعة السلفية للدعوة و القتال"، كجماعة سلفية، تفرقة بين الشعب التي ترى من واجبها حمايته، و بين الحكومة و أعوانها المستهجنة في ذاتها، و حتى في غياب انخراط صريح، فإن تقارب بعض الموضوعات، بات يتسم بنوع من الحساسية[12].

تتمثل أهم خاصية جوهرية تتصف بها الوضعية الحالية، في انسحاب النساء (رغم بعض المبادرات و المواقف المتأخرة للتنسيقيات). فحينما عرفت المظاهرات الحضرية الأولى مشاركة نسائية معتبرة، ظهر أن اللجوء إلى المراجع التقليدية، قد تم فهمه منطقياً كدعوة إلى التفرقة القديمة للفضاءات بين الجنسين، أي إقصاء النساء من مجال السلطة السياسية: لقد أُسند إلى النساء دورهن الدائم، دور الباكيات الداعيات إلى الانتقام. غير أن النساء كانت غائبات عن اجتماعات التنسيق، و المسائل التي كانت تطرحها على الدوام، بصورة صريحة، لم تتم الموافقة عليها في النصوص التي جرت المصادقة عليها. لقد كان لعودة المحلي، بالنسبة إليهن، إنكاراً لكل التغيرات التي أجرتها فعلياً الدولة مثل التمدرس و الجامعة والتشغيل، و الانتخابات، و الخدمات، و التغيرات التي استهدفت تحسين إطار الحياة...، التي كان من نتائجها إسناد أدوار نسائية جديدة استطاعت أن تتقلدها على نطاق واسع. فحينما كانت النساء تعبر عن نفسها، فذلك من أجل المطالبة بمواصلة هذه التغيرات و تدعيمها: ينبغي، هنا أن نلاحظ أن هذه القوة قد جرى إهمالها، بل، أكثر من ذلك، كبتها وقمعها.

يبدو الأمر على العموم واضحاً أن اللجوء إلى المؤسسات المحلية السابقة يحمل معه تجديداً للوصاية العائلية على أولئك الذين يجب أن تضبط سلوكياتهم للمساهمة في تماسك الجماعة، و نعني بهم كل النساء، و لكن أيضاً الشباب. يجب، فعلاً، العمل على تمكين الاستراتيجيات الزواجية لأرباب الأسر و الكبار منهم من الانتشار و الامتداد. و من أجل تحقيق هذه الغاية، فإن تيسير تلبية الحاجات الجنسية للفتيان كما للفتيات يجب أن تكون محددة، بصورة صارمة، في نطاق الزواج الذي يجب أن يبقى من مهام العائلات وحدها. نحن على علم أن أزمة الزواج الحالي[13] بلغت مداها إلى حد التفاقم بسبب ثقل القيود و شدتها، و المتطلبات التقليدية في المحافظة على الشرف، و هي متطلبات مجسدة في ضمانات عينية و نقدية تجعل من الصعب على الشباب الزواج دون تدخل علائقي و نقدي لعائلاتهم. قد لا يحضى أكثر الشباب بمكانة داخل الجماعات المحلية، بسبب بقاءهم دون زواجكما يشكل الحضور الخفي لأعداد مماثلة من الفتيات في حالة انتظار خطوبة ما، أو أنهن "تجاوزن سن الزواج" إكراها عاماً. يتعلق الأمر بجماعات الشباب (بالمعنى الاجتماعي للكلمة، باعتبارهم غير مسؤولين، لأنهم غير متزوجين)، الموجودون خارج البيت العائلي (ذلك أنَ الرجل لا يجب أن يبقى في البيت طوال اليوم)، فهؤلاء هم الذين يشكلون القوة الضاربة للحركة الحالية. نجد ضمنها أطفالاً، حالما يعتبرون أنفسهم بلغوا مرحلة من العمر لا يمكنهم فيها البقاء مع نساء عائلاتهم، وصولاً إلى العازبين المكرهين على تمديد عزوبيتهم. البعض من هؤلاء يلعب لعبة الحرب، و البعض الآخر يحمل معه خيبة أمل عن الربيع البربري و النجاح عن طريق التوظيف أو إقامة مشروعات فردية، لكن مستقبلهم يتم تحضيره في الخارج.

تنطوي التغيرات الاجتماعية على نزعة تفرَدية، حتى و إن لم تكن في صورتها المكتملة، فإن الأفراد، من رجال و نساء يظهرون بقدراتهم و طموحاتهم، و رفضهم للقيود الحالية. إن حاجتهم للحرية و المسؤولية تتعارض مع النظام التقليدي الذي يخضع كل فرد فيه للمصلحة المشتركة. يجد النظام التقليدي صعوبة في تبني مقتضيات النظام الحديث (ليس فقط القانون الوطني، لكن أيضاً تعليمات الأمن، و المنافسة، و الادخار، و التأمين، و الكياسة و الآداب مع غير الأهل...)، لأنه لم يكن مهيئاً لقبولها. إن دور المواطن، أي بما هو فرد مشارك في الشأن السياسي عبر اطلاعه على معلومات منشورة من قبل الأحزاب و قدرتها على تكوينه، لم ينفصل، بصورة واضحة، عن الانتماءات الأصلية. ذلك أن الضغط الاجتماعي المحلي، و شرف الجماعة، و الإشاعات، كصورة عمَا يُعتقد أن تكون الحياة في الخارج، تعمل على تشويش الفكر. لقد جرى إحالة الحقوق إلى المستوى الوطني، و ربط الواجبات بالعائلة و بما هو محلي. و ضمن هذا المنظور، يمكن اعتبار الوضعية الحالية في منطقة القبائل كصورة ممثلة و معَبرة بوجه خاص عن التوترات الحالية في كل أنحاء البلاد. لكن شريطة ألا تتسبب النزعة الحنينية و الفظاظة في تشويه أو إخفاء ما هو حديث، و ما هو حالي و كوني في المعركة بين النظام القديم و النظام القادم.

إن ما يجري في منطقة القبائل جزء لا يتجزأ مما يجري في العالم. لقد أصبحت العولمة، في كل مكان، بأنماط علاقاتها الاقتصادية الجديدة، كما في النشر العالمي للصور و الرسائل، تتجه نحو تذويب المراجع الوطنية و تسعى إلى محو أو تجاوز سلطة الدول. و قد نجم عن الطابع الاعتيادي لهذه العولمة آثارًا تمثَلت في انبعاث شخصيات جماعية و إيقاظ نزاعات متعلقة بالحدود و التعايش بين الدول المجاورة. و في كل مكان، أصبحت هذه النزاعات مستخدمة كوقود في حركة النظام العالم. و على نحو خاص، فإن العلاقات بين المغتربين في الشتات و مناطقهم الأصلية يمكن أن توحي باقتراح تشكيل "منطقة حرة" عابرة للحدود و مندرجة مباشرة في المبادلات البينية بين الأوطان، سواء كانت متمتعة بحقوقها أو دون حقوق خاصة بها.

لقد تمت محاربة الدولة-الأمة في كل مكان باعتبارها شكلا من أشكال التنظيم السياسي، و استخدمت لذلك النزعات الخصوصية كبوابة لتدخَل القوى الأجنبية. و ضمن هذا المنظور، لا توجد خصوصية قبائلية: ذلك أن الوضعية يجب أن ينظر إليها أيضاً، دون نسيان روعة الماضي، كعنصر من عناصر "أحجية الصورة المقطوعة" (Puzzle) العالمية.

خلاصة

إن التفكير في المحلي في جانبه المنهجي، و محاولة اختبار طريقة لتبيان محاور التفكير حول تاريخه و هو في حالة اشتغال و حركة، قد قادنا، على ما يبدو، بعيداً عن المحلي الذي كان هو الموضوع المقترح. ليس ذلك اقتراحاً لإهمال هذا المحلي، بل بالعكس من ذلك، حيث نأمل أن تظهر يقظة ضمير محلية أو جهوية للتضامن، في كل مكان و ليس فقط في منطقة القبائل، تكون متجاوبة مع المبادرة و المسؤولية المشتركة حول الأقاليم المهيَأة من قبل ساكنيها. نأمل ايضا في أن إعادة تحديد مسار الفعل السياسي سيساهم في إزاحة العوائق عن المؤسسات و الديمقراطية.

غير أن هذه المحاولة كانت لها فائدة في بيان أن المحلي لا يمكن أن يدرس علمياً إلا إذا تم إدراجه في إطار الكل الذي يشمله بكل تعقيداته.



ترجمة :

الهوامش

* مقال سبق نشره باللغة الفرنسية في مجلة إنسانيات، العدد 16، أفريل-ماي 2002 بعنوان:

« Le « local », l’origine et le terme ».

[1] Badie, B. (1986), Les Deux Etats, Paris, Fayard, (réed. Points, 1997).

[2] نجد هنا دليلا حديثاً و جميلاً قدمه مارك كوت. أنظر

Cote, M. (1996), Pays, paysages, paysans d’Algérie, Paris, CNRS.

[3] البعض من هذه الدراسات الخاصة بـ ال (CRAPE) منشور من قبل، لكن توجد إلى جانبها أيضاً الكثير من الدراسات الجامعية التي يصعب الوصول إليها. أنظر في هذا الصدد:

Espaces maghrébins, pratiques et enjeux, Actes du colloque de Taghit (23-26 novembre 1987) organisé par l’atelier, sémiologie spatiale, de l’URASC, introduction de Nadir Marouf, Université d’Oran-Urasc, ENAG. Éd., 1989. Voir aussi Carlier, O. et Marouf, N. (1995), Espaces maghrébins. La force du local, CEFRESS Université de Picardie, Paris, L’Harmattan.

 [4]نجد هنا في دراسة هنري مندراس برهاناً ساطعاً على ذلك. أنظر:

in Mendras, Henri et Oberti, M. (2000), le Sociologue et son terrain, trente recherches exemplaires, Paris, Armand-Colin, Coll. « U », (chapitre 1).

[5] PNUD-ANAT, Carte de la pauvreté en Algérie, Octobre 2000.

 [6]و هي قراءة استعادها مؤخراً محفوظ بنون:

Bennoune, M. (1998), Esquisse d’une anthropologie de l’Algérie politique, Alger, Marinoor.

[7] Au sens de Masqueray, E. (I983), Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie, 1886, rééd. Edisud.

[8] Salhi, B. (1999), « Modernisation et retraditionalisation à travers les champs associatif et politique : le cas de la Kabylie », Insaniyat, n° 8, p. 21-42.

[9] Mahé, A. (2001), Histoire de la Grande Kabylie, XIX-XXe siècle, Anthropologie historique du lien social dans les communautés villageoises, Paris, Ed. Bouchène.

[10] Sayad, A. (1999), La Double Absence, Paris, Seuil.

[11] Mahé, Alain, op.cit., livre 2.

 [12]هناك مثال من بين آلاف الأمثلة. رعاة صغار يتحدثون مع صحافي بعد مجزرة تجبالين :"إن ناس الغابة لا يهاجمون الشعب، إنهم يريدون المال و لا يطالبون بذلك، إن كنت تستطيع مساعدتهم، فأفعل، و إذا لم يكن لك مال، فإنهم لا يجبرونك على ذلك، و إذا كانون يهاجمون المدنيين فلإن أعوان الحكومة قد مروا من قبل يبحثون عن المعلومات… فلم يكونوا أشرارا معنا، إننا نراهم كل يوم يمرون من هنا". أنظر :

Le Quotidien d’Oran, 10 février 2001.

[13] Adel, F. (I998), « La crise du mariage en Algérie », Insaniyat, n°4, p. 59-78.

Kateb, K. (2001), la Fin du mariage traditionnel en Algérie ? 1876-1998, Paris, Ed. Bouchène.

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact