تعد الأبحاث الأنثربولوجية حول البلاد المغاربية مجالا من مجالات الدراسات الأنثربولوجية حول مجتمعات " الآخر" المتواجد خارج حدود العالم الغربي و المحجوب بعيدا عن حصون حضارته. و إذا كانت غاية الباحث الأنثربولوجي، شأنه شأن غيره من الباحثين و المفكرين في باقي مجالات العلوم الاجتماعية و الإنسانية، رهينة ظروف سياسية و سوسيوتاريخية معينة، فإن هذه الدراسات و الأبحاث قد تحولت من استراتيجية إيديولوجية للكشف عن "غرائبية" ذلك الآخر إلى مقاربات علمية و منهجية لمختلف أشكال الممارسات المحلية. و تجدر الإشارة أن الأنثربولوجيا المغاربية عرفت انتعاشا كبيرا بفضل الإسهامات النيرة للعديد من الباحثين و المفكرين المغاربيين.
لهذا فإننا نطمح من خلال المقالات المتضمنة في هذا العدد إلى عرض بعض الدراسات حول أنثربولوجيا المحلي و رهاناته المعرفية في المنطقة المغاربية و أثر هذه الدراسات في بناء أنثربولوجيا تعكس واقع المجتمعات المغاربية و تستجيب لتطلعاتها.
و من ثمة كانت لنا وقفة في المحور الأول من هذا العدد مع مقال لـمحمد العربي عقون يوضح فيه من خلال دراسة و تحليل أعمال أحد أعلام الإثنوغرافيا الكولونيالية مدى نجاعة هذه المقاربة الاستطلاعية في شق الطريق أمام المشروع الاستعماري عبر ترسيخ معالم "معرفة عالمة" حول المناطق المستعمرة أو المناطق التي لفتت هذه الدراسات انتباه المستعمر إليها و أغوته باحتلالها. يتعلق الأمر بالمترجـم و المستشرق الفرنسي "شارل فيرو" (Charles Féraud) الذي تعد أعماله مرجعا أساسيا في الدراسات السوسيو-تاريخية المنجزة حول منطقة شمال إفريقيا عموما و منطقة القبائل الشرقية على وجه الخصوص و ذلك في نهاية القرن التاسع عشر.و بالمقابل، و في الحيّز الجغرافي ذاته، تحضُر المقاربة الأنثربولوجية التاريخية بقوة في دراسة ظاهرة من ظواهر الحياة اليومية للمجتمعات المغاربية و المجتمع التونسي تحديدا. إنها الظاهرة الاستهلاكية التي تعكس، حسب عبد الواحد المكني، مظهرا من مظاهر الثقافة المحلية و تكشف الحجاب عن تاريخ الذهنيات و الذاكرة الجماعية، هذا من جهة. و من جهة أخرى، و في السياق الكولونيالي نفسه، يعالج صادق بن قادة طفرة عمرانية عرفتها مدينة وهران و التي تمخضت عن معارف عسكرية جعلت منها نموذجا حيا من نماذج الحداثة العمرانية الكولونيالية التي غيّرت المشهد المجالي للكثير من المدن الجزائرية في تلك الفترة. شغلت مدينة وهران موقعا استراتيجيا على الخريطة العسكرية للوجود الإسباني و الغزو الفرنسي الذي تلاه، و هو ما جعل هذه المدينة تخضع لمصالح الهندسة العسكرية و ضباطها من ناحية التهيئة العمرانية و إعادة البناء و التحصين الدفاعي، في حين" و اصلت المصالح المدنية إنتاج رصيد وثائقي خرائطي ثرّي و متنوع حول المعطيات المادية للمواقع العمرانية "، حسب المؤلف.
يعدّ كتاب "الإسلام ملاحظا" لمؤلفه كليفورد غيرتز (Clifford Geertz) من كلاسيكيات الدراسات الأنثربولوجية للظاهرة الدينية في كل من المغرب و أندونيسيا. و بغض النظر عن ميادين هذه الدراسة، يعتبر محمد براهيم صالحي أن مقاربة غيرتز يمكن أن تكون منطلقا جادا لتصورات منهجية تتجاوز الحيز التقليدي والنماذج النمطية الجاهزة في دراسة الممارسات الدينية في المجتمع الجزائري.
و ضمن الحقل الديني ذاته، و من خلال مقالها الذي يدور موضوعـه حول الدين، السـياسة، و الثقافات، تطلعنا فاني كولونا على تجربتها الميدانية في منطقة الأوراس بالشرق الجزائري في الفترة الممتدة بين سنتي 1973 و1995، من خلال عرض لبعض الفرضيات والنتائج التي توصلت إليها في دراستها المتعلقة بوضعية الإسلام في المناطق غير الحضرية مقارنة بدين المدن الكبرى و الإرشاد الإصلاحي الباديسي في ثلاثينيات القرن الماضي.
أما المحور الثاني من هذا الدفتر، فنستهله بتعريف "للمحلي" تقترحه كلودين شولي في ظل التنوع الدينامي و التحولات التي يعرفها المجتمع الجزائري، و بالأخص المجتمع القبائلي و التي مردّها عوامل متسرِّبة من الخارج و أخرى متفجرة من قلب المجتمعات ذاتها.
بالمقابل و في حيز جيو-تاريخي يجتاز حدود المحلية، يكشف لنا حسن رمعون في مقاله المعنون بـ "البلاد المغاربية بوصفها جماعة متخيَّلة" عن السيرورة التاريخية التي حالت دون الوحدة السياسية لبلاد مغاربية باتت شبيهة "بالجماعة المُتخيَّلة"، و ذلك بالرغم من توفرها على الخصائص الأساسية لبناء أمة معاصرة و قوية. فقد تُشكِّل البنى الاجتماعية التي تتمخض عن هويات جماعية أحد الأسباب الرئيسة في الانفصال و التفكك عن السياق الشمولي. كما يواصل حسن رشيق مناقشة الإشكالية نفسها و لكن من منظور مختلف يرتبط بدراسة الحدود الفاصلة بين ما يسميه "الهوية الخشنة" و "الهوية الناعمة"، اعتمادا على ملامح قابلة للقياس و وفقا لمعايير سياسية، دينية، عرقية و ثقافية.
و في سياق حديثه عن مجريات السياسة الدينية في المغرب، يطرح عبد الحكيم أبو اللوز جملة من التساؤلات حول توجهات هذه الأخيرة محاولا من خلال مقاله تتبع سيرورة تنفيذ مشروع "تدبير الحقل الديني في المغرب" في ضوء تفاعله مع القوى الاجتماعية الناشطة في المجال الديني. و أما بخصوص الممارسات الثقافية التي لعبت دورا في بث الحس السياسي في المجتمع التونسي أثناء فترة الحماية الفرنسية، فيتناول نور الدين سريب في دراسته مثالا حيا عن جمعيتين ثقافيتين برزتا من خلال دورهما الفعال في خلق الشعور الوطني، و هما "الجمعية الخلدونية" التي تأسست سنة 1896 و "جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية" التي ظهرت للنور سنة 1905.
و أخيرا، و في مقاله المعنون "العائلة، عاداتها و تقاليدها بين الماضي و الحاضر: الظاهرة الاحتفالية بالأعياد نموذجا" يتطرق محمد سعيدي إلى واقع العائلة الجزائرية في كنف علاقتها الروحية بمصادر هويتها الحضارية و الثقافية المتمثلة في العادات و التقاليد، و ارتباط هذه الأخيرة بسيرورة التغير الاجتماعي و المحلي عبر مختلف مراحل تاريخها الفكري و الحضاري.
لقد حاولنا من خلال ملف هذا العدد من دفاتر مجلة إنسانيات تسليط الضوء على بعض ميادين الأبحاث الإثنوغرافية و الأنثربولوجية في المنطقة المغاربية سواء في فترات الاستعمار أو في مرحلة ما بعد الكولونيالية. و تظل معظم هذه الدراسات، و التي تطرقت إليها مجلة إنسانيات في أعدادها السابقة، مصدرا معرفيا ثريا يرصد مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، السياسية، الفكرية و الثقافية في المنطقة. و لهذا، فإننا نأمل أن تشكل هذه المواضيع مجالا للنقاش بين الباحثين في الحقل السوسيو أنثربولوجي المغاربي اليوم و موضوعا لدراسات مستقبلية تتناول المجتمعات المغاربية بشكل مغاير و وفق رؤى و مقاربات مختلفة.
صورية مولوجي ﭬروجي - Soraya MOULOUDJI GARROUDJI
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم