مفهوم العلاقات الدولية. مقاربات نظرية لسوسيولوجيا الساحة الدولية

مفهوم العلاقات الدولية. مقاربات نظرية لسوسيولوجيا الساحة الدولية

لقد دأبت التقاليد السوسيولوجية دوماً على دراسة وتحليل العلاقات الإنسانية سواء من زاوية النزاعات أو التماسك، و لم تنفلت العلاقات الدولية عن هذه القاعدة. البعض من المؤلفين يرى فيها نزاعات وعدوانية، والبعض الآخر يرى فيها تعاوناً و بحثاً عن السلم. سواء كانت هذه العلاقات عدوانية أو سلمية، فإنها ترسم فضاء حيث يميز فيه الجامعيون بين تشكّل "مجتمع دولي" متحد من الدول شبيه في سيره و اشتغاله بصورة المجتمع الوطني، بفارق وحيد أنه لا يملك جهازاً محتكراً للقوة. من زاوية المقاربة النزاعية، يتميز هذا المجتمع، في نظر التيار الواقعي، بالحالة الطبيعية من وجهة نظر هوبز و سيكون كذلك دائماً. و بالنسبة للمقاربة المنافسة لهذا الطرح، ممثلة في مقاربة التيار الليبرالي، فإن هذا المجتمع يتسم بالفوضى بما يعني عدم و جود سلطة عليا تفوق سلطة الدول. غير أن هذه الفوضى ليست رديفاً للاضطراب و الحروب الدائمة. إن ما يتعيّن استنتاجه هو أن المتخصصون في العلاقات الدولية قد فضلوا منذ البداية تناول موضوعين للمشهد الدولي: الحرب و السلام، مستلهمين ذلك من الفلسفة السياسية وتاريخ الأفكار والقانون...و لم يكن لعلم الاجتماع أي إسهام ايجابي في ذلك، هذا إن لم يكن له دور سلبي، فقد افترض أن المجتمع الدولي مشابه للمجتمع الوطني منقوصاً من عناصر محددة.

و من دون أن يكون المتخصصون موافقين حول هذه المسألة، فقد استخدموا، و أحياناً بإفراط، هذا المفهوم - متخذين إياه موضوعاً لهم- متصورين هنا أن المجتمع الدولي، باعتبار علاقاته بمسألتي الحرب والسلام والمعاهدات والخلافات حول الأمن وإرادة الدول في تغيير توازن القوى لصالحها بواسطة الردع. لقد بنى المتخصصون في العلاقات الدولية مقاربات قائمة على مفهوم "المجتمع الدولي" كمجموعة من الدول و"المجتمع العالمي" باعتباره مجموعة أفراد مكونين للجنس البشري. و ترتسم وراء هذا الفارق مواجهة بين تيارات و تيارات فرعية ساعية إلى تحليل الواقع الدولي: البعض من هذه التيارات يريد مقاربة الواقع الدولي عبر الدولة، التي يفترض فيها أنها هي الفاعل الرئيسي بحكم قدراتها وطابعها السيادي، و البعض الآخر يفضل التركيز على الأفراد والجماعات و المنظمات غير الحكومية و المؤسسات المتعددة الجنسيات حيث تتجلى أفعالها -إلى جانب الدول، لكن أحياناً ضدها- على النمط العابر للأوطان، رابطة بين فاعلي المجتمعات المختلفة عبر حدود باتت مخترقة بفعل تكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة (NTCI). و بشكل ما، أضحى المجتمع الدولي في حالة تشكل، متجاهلاً الحدود، و مؤذناً بأفول الدولة-الوطنية[1] و مفهوم السيادة.[2] هذا المقال يقترح نقد هذين التصورين انطلاقاً من استخداماتهما لمفهوم "المجتمع"، من أجل بيان أن هذا المفهوم هو عبارة عن عملية تشكيل ذات تجذر أنثروبولوجي محلي. إن الطابع الحقيقي المكثف للعلاقات المجتمعية و التبادل العابر للأوطان للسلع والخدمات و الرموز على الساحة الدولية، قد أسهم في توسيع حقل الأنشطة الاجتماعية للأفراد، يدعو إلى صياغة مقولة تعبّر عن هذه الحقيقة التي تتجاوز الإطار التقليدي للدولة-الوطنية.

المجتمع الدولي ودينامكيتاه المتناقضتان

تُعبّر عموم التيارات النظرية في العلوم الاجتماعية عن آفاق متباينة لموضوع واحد، و الذي يعتقد الباحثون من خلاله إدراك جوهر الظاهرة الاجتماعية التي يحاولون تفسيرها بواسطة أدوات مفهومية تمت صياغتها لهذا الغرض أو تمت استعارتها من تخصصات علمية أخرى. غير أن التيارات النظرية تجد تأكيد صحتها -أو نفيها- على محك الواقع و تصبح أحياناً باطلة أو أنها تبقى محتفظة بصحتها بفضل إثرائها ببادئة "الجديدة" (préfixe néo). و هذا هو حال العلاقات الدولية، ذلك التخصص الذي تميز بوجود تيارين متنافسين تبادلا الاتهام خلال سنوات الخمسينيات و الستينيات، بإثارة حرب عالمية ثالثة وعادا للاتفاق فيما بينهما خلال سنوات الثمانينيات و التسعينيات. إن موضوع الرهان بين التيارين يتمثل في إيجاد شبكة قراءة للعلاقات الدولية و مصير "المجتمع الدولي" الذي أصبح وجوده مطروحاً سواء بصورة صريحة أو ضمنية. يرى أصحاب المقاربة الواقعية أن هذا المجتمع غير رسمي، فهو مهدد باستمرار بسبب طبيعة الإنسان المولعة بالقتال، الأمر الذي يحيل هذا الموضوع إلى الأنثروبولوجيا أو سوسيولوجيا العلاقات بين الجماعات، ذلك أن المجتمع الدولي واقع موحد بواسطة قيم مشتركة بين أعضائه و التي يُعتبر القانون الدولي تجسيد لها، هكذا يقول الليبيراليون. غير أن هذين التيارين سيلتقيان بقبول ترضيات: يقوم أحد الطرفين بالتخلي عن التفسير المستند إلى الأنثروبولوجيا البشرية أو سوسيولوجيا العلاقات بين الجماعات، بينما يقوم الطرف الآخر بقبول مبدأ الفوضى للاعتراف بأن العالم عبارة عن نظام اجتماعي فوضوي يخضع لقواعد وقيم مشتركة. لم يكن هذا التلاقي ممكناً إلاّ لأن كلا الطرفين يستندان -دون علمهما بذلك-، على ذات الفلسفة السياسية لـ هوبز والتي ننسى أن لها وجهان:

وجها هوبز وتبريرات النزعتين الواقعية و الليبرالية

لا زال التخصص العلمي للعلاقات الدولية على الأقل منذ نشأته الأكاديمية سنة 1919 تسيطر عليه النزعتان الليبرالية و الواقعية –و التيارات الفرعية المصاحبة لهما- و اللذين يبدوان ظاهريا أنهما غير قابلتين للتوفيق فيما بينهما، و هذا إلى غاية سنوات السبعينات. و في الواقع، هما أخوين توأمين ينظران لنفس الموضوع من زاويتين مختلفتين. تجمع بينهما مرجعية رئيسية، هي مرجعية توماس هوبز، مع فارق وحيد أن أصحاب النزعة الواقعية يركزون على الحالة الطبيعية الذي أشار إليها هوبز (هوبز 1)، بينما يهتم أصحاب النزعة الليبرالية بالحالة المدنية (هوبز 2)، و كل واحدة منهما تَوَدُ أن تفرض نفسها على المستوى الدولي. لقد استحوذ كل تيار من هذين التيارين على نصف النموذج الهوبزي و انغلقا فيه. لقد استعار التيار الواقعي فرضية حرب الجميع على الجميع، المتميزة بغياب الحاكم و القانون، و منطق علاقات القوى و الردع. و لذلك يفسر أصحاب التيار الواقعي المشهد الدولي حيث تكون الدولة فيه منشغلة بأمنها و مصلحتها الوطنية الذي يضمنهما سعيها لاكتساب القوة الرادعة. أما أصحاب التيار الليبرالي، فإنهم يعتبرون، أحيانا بصفة مثالية، أن الدول، على غرار الأفراد في النموذج الهوبزي، يعبرون عن إرادة لتجاوز الوضع الفوضوي العدواني، مع بيان حرصهم على تمسكهم بالسلم الذي تضمنه المعاهدات المتعددة الأطراف و الاتفاقيات الثنائية، الأمر الذي يبيّن وجود وعي بالمصلحة المشتركة. و هم يؤكدون، قبل كل شيء، أن النظام الدولي البيني لا يعرف إلاّ الحرب باعتبارها حالة استثنائية بينما السلم هو القاعدة. إن العلاقات الدولية تسير حسبهم، بحكم منطق الحالة المدنية و العقد الاجتماعي أكثر ما تسير بحكم الحالة الطبيعة. و إذا تمعنا في الأمر عن كثب، فإننا نجد الليبراليين هم ربما أكثر "هوبزية" من الاتجاه الواقعي، إذا كان مفهوماً هنا باعتباره متطابقاً مع فكر هوبز، الذي تتمثل غايته في بيان أساس النظام الاجتماعي و السياسي الداخلي. إن ما هو مهم لدى هذا المؤلف هو فكرة العقد الاجتماعي المؤسسة لصاحب السيادة. غير أن المقاربة الليبرالية تسعى إلى بيان أن "المجتمع الدولي" يحوز على عدد كبير من المؤسسات التي تعبر عن الحاجة إلى النظام و التعايش السلمي. و في مقابل ذلك، يظهر الاتجاه الواقعي أقل "هوبزية" باعتبار أن مرجعيته الرئيسية هي الحالة الطبيعية، التي هي خيال، و هي فرضية منهجية هدفها ذو منحى غائي.

صحيح أن هوبز ذكر في فصله الثالث عشر الشهير العلاقات بين الدول الذي قال أنها محكومة بأن تعيش حياة الفوضى، غير أن ذلك لم يذكر إلاّ من أجل توضيح المنحى العام، باعتبار أن هوبز لم يكن يمتلك مراجع تاريخية تشهد بوجود دولة الحالة الطبيعية. لقد قام بصياغة فرضيتين تسمحان بفهم نظرية الدولة انطلاقاً من غاية هذه الدولة. الفرضية الأولى تتمثل في القول أن الحالة الطبيعية هي حالة منهجية وبقيت كذلك، و الفرضية الثانية تتمثل في أن الحالة المدنية، هي منطلق عملية تاريخية في تشكيل الدولة. تقوم فلسفتها السياسية، أساساً، على استخدام داخلي، و توسعها على المستوى الدولي من قبل التيار الواقعي لم يتناول إلاّ جانباً من نموذجه، و هذا ما لم يكن أمراً شرعياً.

إن مفهوم الحالة الطبيعية لا يحيل إلى حقيقة تاريخية، فهو مجرد مفهوم نظري ضروري من أجل بيان الصورة الإجمالية. و عليه، فإن الحالتين الطبيعية و المدنية تشكلان مقطعا تصوريين مرتبطين، يفسران بعضهما بعضاً، فمن التعسف نظرياً استعمال إحداهما دون الأخرى. باقتصارهم على المقطع الأول (هوبز 1)، اعتبر أصحاب التيار الواقعي فرضية الفوضى كمعطى أنثروبولوجي مكون للعلاقات الدولية. إن هذا المعطى هو الذي يعطي لخطاب هانس مورجنتو (Hans Morgenthau) وحدته الابيستيمولوجية، مع وجود هوة متزايدة مع الواقع الدولي[3]. تتميز العلاقات بين الدول، حسب هذا المؤلف، بالفوضى الهوبزية التي سبقت إنشاء العقد الاجتماعي الذي أضفى الشرعية على صاحب السيادة (الحاكم) لوضع نهاية للحالة الطبيعية المضرة بأمن كل فرد. هذه الإحالة الجزئية إلى هوبز هو ما يعطي تماسكاً نظرياً للنزعة الواقعية، غير أنها تستدعي ملاحظتين لا يمكنه أن يجيب عنهما: الملاحظة الأولى تتمثل في أن النموذج الهوبزي ليس ذا طابع تاريخي بل منهجي، فصدقيته و وجاهته في بيان هدف الدولة حسب المسعى الغائي. تاريخياً، فإن العقد الاجتماعي لم يكن في أي مكان مؤسساً للدولة، إن لم يكن ذلك رمزياً، غير أن الأمير كان في كل مكان يتصرف كما لو أن الحالة المدنية كانت قائمة على العقد الاجتماعي. أما الملاحظة الثانية فإن مورجنتو لم يحتفظ من نموذج هوبز إلاّ بالمقطع الأول (الحالة الطبيعية)، ناسياً الحالة الثانية (الحالة المدنية)، في حين أنهما مرتبطتان و متساندتان. إن مؤسس النزعة الواقعية لا يوضح لماذا الدول، على غرار أفراد هوبز، لا تؤسس الحالة المدنية، مع أنه كان يماثلهم بكائنات أنثروبولوجية تحركها نفس الأهواء التي تحرك البشر. هذا الوضع يعتبر بالنسبة إليه مسلمة بدونها تنهار كل محاججة و كل برهان. كان لزاماً على الرؤية الواقعية للعلاقات الدولية أن تفصل بين هوبز 1 (الحالة الطبيعية) عن هوبز 2 (الحالة المدنية) و إضفاء على الفوضى محتوى تاريخيًا تتجلى من خلالها موضوعات الحرب و السلام والأمن والقوة و التسلح إلخ...إن المجتمع الدولي يشكل مجتمعاً دولياً متسماً دوماً بحالة حرب الجميع ضد الجميع، دون أن يكون ممكناً، كما هو الشأن في النظام الداخلي، إزاحة هذا التهديد عن طريق تفويض القوة لدركي عالمي. غير أن الحالة الطبيعية عند هوبز هي بالفعل مجتمع و هو أمر نجده ضمنياً عند مورجنتو، مع هذه الخاصية: لا يوجد قانون يحمي الأملاك (أو الأقاليم) ووجود الأشخاص (أو دول). هل يوجد مجتمع دون قوانين و دون مؤسسات؟ يجب التذكير أن العقد، في نظر هوبز، هو الذي ينشئ الدولة لا المجتمع، باعتبار أن المجتمع سابق على الدولة و هو علة وجودها. إن هذا الأمر يثبت أن الدولة الطبيعية التي اعتبرها مورجنتو حقيقة تاريخية مجرد خيال، ذلك أنه اتخذ من فرضية منهجية كحقيقة تاريخية، و بفعله هذا قام بتشويه هوبز، حتى و إن كان يدعي انتسابه إليه.

نجد عند ريمون أرون المورجنتو الأوروبي تصوراً أكثر دقة للعلاقات الدولية من نظيره الأمريكي. لقد رافع في سنة 1963 لأجل سوسيولوجيا العلاقات الدولية، متأسفاً أن الباحثين في هذا التخصص قد استخفوا بهذا الجانب من الحياة الجماعية المهددة بحرب محتملة و التي عرفها كقطيعة مع الرابط الاجتماعي[4]. يحاجج بأنه لا يوجد على المستوى الدولي جهاز يمارس احتكار العنف، فنحن نعتبر أن علم الاجتماع لا موضوع له خارج حدود الدولة-الوطنية. صحيح أن علم الاجتماع منذ نشأته كمؤسسة أكاديمية قد حدد لنفسه مستويين: المستوى الأصغر (أفعال الأفراد) و المستوى الأكبر (المجتمع)، محاولاً تجنب السقوط في النزعتين السيكولوجية و السوسيولوجية. لقد تم الاتفاق على أن المجتمع يتزامن مع الدولة-الوطنية، التي تشكل حدوداً عليا للفعل الاجتماعي، لكن اتفق أيضاً أن العلاقات بين المجتمعات، في اتصالها عبر دولها المحترمة، يجب أن تُترَك هي أيضاً لتصبح من موضوعات علم العلاقات الدولية التي تمحورت أساساً على جانب واحد ألا و هو نظام الدول البينية. توجد، في نظر أرون، موضوعات أخرى للمشهد الدولي، غير أن العلوم الاجتماعية لا يمكنها إدراك الواقع في كليته المعقدة و اللانهائية. تكتفي، إذن، بدراسة الجزء الذي يستوقفنا و نسائله لأسباب مرتبطة بوجودنا. و عليه، لم يكن أرون منشغلاً إلاّ بجانب واحد من الواقع الدولي: العلاقات بين الدول التي تعتبر أمراً حاسماً من أجل السلم و الحرب. يطرح ضمنياً وجود مجتمع دولي مكون من الدول- الوطنية الساعية إلى ضمان أمنها في عالم يتميز بوجود تجاور سيادات مولعة بالقتال في حالة نزاع وحرب.

حاول أرون، تقليل الاعتماد على الأنثروبولوجيا، بناء نوع من "البراكسيلوجيا" و"سوسيولوجيا" العلاقات الدولية، محتفظاً بمفهومي الحرب و السلم بين الدول كموضوع للتحليل، مع التركيز على العلاقات بين المجموعات الاجتماعية المشكلة للدول-الوطنية. و قد أشار، و هو يدرس هذه العلاقات في آفاقها التاريخية، إلى أن غزو الأقاليم الترابية كان دوماً، إلى غاية مجيء المجتمع الصناعي، مصدراً للثروات. غالباً ما كانت المجموعات الوطنية تسعى إلى الامتداد على حساب جماعات أخرى حينما امتلكت ما يكفي من القوة لتحقيق أهدافها. و لم تكن الحداثة مستثناة من هذه القاعدة، عدا أن الغزو الإقليمي قد فقد من مزاياه الاقتصادية[5]. يرى أرون أن هناك عاملين يميزان المجتمع الدولي: أ) وجود دول ذات سيادة تحرض على الحرب و لا تعترف بأي سلطة عليا. ب) أن البحث عن الربح عن طريق التجارة يدفع إلى السلم، ذلك أن في العصر الصناعي، لم يعد غزو الأقاليم الأخرى ذا مردودية اقتصادية كبيرة. يشكل هذان العاملان ما يسميه أرون بالتناقض الهيكلي للمجتمع الدولي، زاده تفاقماً ظهور السلاح النووي، الذي ولّد وضعاً "صار السلم فيه مستحيلاً و الحرب بعيدة الاحتمال". غير أنه ابتعد عن التيار المسيطر الموجود ضمن التخصص في الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكداً أن الواقع الدولي لا يمكن تحليله من خلال نظرية، نظراً لطبيعة الظاهرة الاجتماعية[6]. و بصفته منتمياً للاتجاه الوبيري، يرى أرون أن فعل الأفراد- و أيضاً الدول- أمر يتعلق بالفهم الذي يتكفل علم الاجتماع وحده بتوضيحه، خلافاً للنظرية التي تفسر و تتنبأ على غرار العلوم الاقتصادية. بيد أنه يصطدم بمشكلة اتخاذ القرار وبطبيعة الفهم عندما يتعلق الأمر بفاعلين جماعيين مثل الدول. فهل علم الاجتماعي التفهمي ينطبق على كائنات غير مُجسدة؟ لقد شكلت النزعة الواقعية مع مورجنتو وأرون خلال سنوات 1940 إلى غاية 1970 الشبكة الأساسية لقراءة الفضاء الدولي- المعرّف كنظام بين الدول (الدول البينية)- سواء كان ذلك في الحقل الجامعي أو عند السياسيين. غير أن مع أفول عدد من النزاعات بين الدول وشجب الحرب مع ظهور السلاح النووي وخصوصاً مع تنامي التدفقات العابرة للأوطان، صار الفكر الواقعي أكثر فأكثر غير ملائم للكشف عن مكنونات الواقع الدولي.

العالم كنظام اجتماعي مكون من الدول

و في مواجهة الانتقادات الكثيرة التي سجلها على وجه الخصوص أصحاب الاتجاه الليبرالي على المستوى الدولي، قام كينيث والتز ( (Kenneth Waltzبفصل النزعة الواقعية عن مسلماتها الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، على غرار نموذج الثورة الكلاسيكية الجديدة في علم الاقتصاد (جوفونس، والراس) (Jevons, L.Walras) الذي يكون قد أعطى للتراث الكلاسيكي لـ أدم سميت و ريكاردو أسساً علمية جديدة[7]. و باستفادته من تالكوت بارسونز، و لكن أيضاً من إميل دوركايم، قام ببناء نظام دولي حيث يكون فيه للكل أولوية على الأجزاء[8]. و يؤكد أن النظام الدولي لا يستقي قواعده لا من الطبيعة البشرية و لا من النظام السياسي للدول، و لكنه يستقيها من بنيته التي تفرض نفسها على الجميع. حقاً أن النظام مضبوط بالفوضى، غير أن لهذه الفوضى مبدأ ضابطاً للتوازن[9]. إن لأعضاء النظام الدولي (الدول) موارد غير متساوية من القوة و يقدرون مصالحهم تبعاً لموقعهم في الهيكل الدولي. فإذا كان لهم ما يكفي من الموارد لتغيير موقعهم في هذا الهيكل، حتى و لو كان ذلك بالحرب، فإنهم سيحاولون ذلك، و إلاّ سيكتفون بالمحافظة على المصالح الوحيدة التي يدعون امتلاكها. مع إعطاء النظام الدولي استقلاليته، زعم والتز أنه حرر تخصص العلاقات الدولية من عيوبه الاختزالية وتمكن من حل مشكل مستوى التحليل.

إن النظام لا يطيع لا الأفراد و لا الدول، و إنما يطيع نفسه، فارضاً منطقه و اكراهاته على أجزائه. دخل علم العلاقات الدولية في الولايات المتحدة مع والتز في مرحلة النزعة الوظيفية البنيوية، مدافعاً عن فكرة أن الدول تخضع لمنطق النظام الذي تصنعه و الذي لا يمكن أن تتملص منه خشية أن تتسبب في أزمة دولية تكون على حساب مصالحها الحيوية.

لقد انبهر و التز بالمفاهيم الدوركايمية حول التضامنات، باحثاً عن استخدامها في نظريته حول النظام الدولي، و مؤكداً أنه حينما تكون أجزاء النظام الدولي متماثلة (باعتبار أن الدول هي وحدات ذات سيادة متساوية شكلياً) و لا تعترف بسلطة عليا على سلطتها، فإنها تشكل حينئذ كلاً مندمجاً بفضل التضامن الميكانيكي كما هو الحال في التصور النظري الدوركايمي للمجتمع التقليدي السابق على الدولة. يقابل و التز بين هرمية النظام الداخلي (التضامن العضوي) و فوضى النظام الخارجي (التضامن الميكانيكي)، غير أنه بفعله هذا يبتعد عن الدلالة التي يعطيها دوركايم لإشكالية التضامنات[10]. لقد لجأ دوركايم إلى ذلك للإشارة إلى أن المجتمع التقليدي، خلافاً للمجتمع الحديث، يضمن تماسكه بفضل الضمير الجمعي الواجب على أعضاء المجتمع الامتثال له. غير أن هذا الضمير الجمعي آخذ إلى الأفول في المجتمع الحديث، الذي صار أكثر عرضة للأنومية (فقدان القيم)، التي يشكل الانتحار التعبير الأكثر بروزاً و إثارة لها[11]. غير أن هذه المقاربة المعتمدة على مفهوم التضامنات تخلى عنها دوركايم نفسه في نهاية حياته و لم يكن علم الاجتماع بعد دوركايم يحيل إليها، و قد تعرضت هذه المقاربة على المستوى الدولي لكثير من النقد لأنه بات من الصعب أولاً تصور ما سيكون عليه الضمير الجمعي المُعبَر عنه من قبل الدول على المستوى الدولي، و ثانياً تخيل دولة تعيد إنتاج سلوك يحيل إلى ذاتية الأفراد.

في محاولته لإعادة بناء النزعة الواقعية على أسس علمية، قام والتز بإضعافها و بادر بديناميكية التقرب من التيار الليبرالي[12]. لطالما أكد هذا الأخير على وجود مجتمع دولي، رغم كل التقلبات التي لم يجد و التز صعوبة في قبولها، شريطة أن تكون مختزلة في علاقات بين الدول. في الواقع لا يوجد خلاف أساسي بين والتز وهيدلي بول في القول أن فوضى المجتمع الدولي ليست لا اختلالاً في النظام و لا حروباً دائمة.

كتب هيدلي بول كتاباً بعنوان المجتمع الفوضوي[13] للتأكيد أن العلاقات الدولية ليست فقط نظام الدول ذات السيادة، و لكن أيضاً مجتمع دول محكومة بجملة من المعايير، بعضها رسمي و بعضها الآخر غير رسمي، من إنتاج القانون الدولي، و توازن القوى، و الديبلوماسية و أيضاً الحرب حينما تندلع. لقد لخص المؤلف منذ السطور الأولى من كتابه انشغاله: "هذا الكتاب دراسة حول طبيعة العلاقات الدولية و خصوصاً حول مجتمع الدول ذات السيادة عبر النظام العالمي الموجود كما هو قائم حالياً. حاولتُ الإجابة على ثلاث أسئلة: 1. ما هو النظام في العلاقات الدولية؟ 2. كيف تمّ الإبقاء على هذا النظام في منظومة الدول ذات السيادة؟ و هل يقدم هذا النظام سبيلاً قابلاً للحياة لهذه المنظومة من الدول؟ بيّن بول أن النظام الدولي منظم ولم يكن فوضوياً، إلاّ لأنه كان يفتقد لسلطة تعلو على سلطة الدول. غير أن هذا الغياب لم يمنع من وجود مجتمع، ينمي ثقافة مشتركة للتعايش و التعاون أنشأت مؤسسات و قوانين فعلية ليس بمساعدة شرطة دولية و لكن بفضل الوعي بالمصالح المتبادلة للدول التي ارتضت طوعاً أن تبني هذا النظام أحياناً على حساب الحد من سياداتها كما يبيّنه تنظيم الحكومات[14]. إن غياب حكومة عالمية ليس إذن عائقاً أمام السلم و الاندماج من منظور بول. إن المجتمع الدولي يتجه نحو التوسع، كما تدل عليه العديد من الدول التي تحررت من الاستعمار و التي قبلت، في معظمها، بقواعد لعبة ثقافة السلم و التعايش[15].

نقد مفهوم المجتمع الدولي

سبق وأن رأينا لدى العديد من المؤلفين أن المجتمع الدولي واقع أمبريقي لا شك في و جوده. يقوم، حسب رجال القانون، على أساس قانوني متبلورا في القانون الدولي في عز تطوره، و يعتبر بالنسبة للسياسيين، فضاءاً، حيث تتجلى فيه خصائص القوة و الهيمنة والسيطرة، و هو أخيراً عند الاقتصاديين نتاج اقتصاد-العالم بما ينطوي عليه من عملية خلق الثروات و توزيعها غير المتساوي. و يجد عالم الاجتماع صعوبة في تصور مجتمع كشبكة معقدة من الأفراد و الجماعات و المؤسسات على الصعيد العالمي حيث يقيم الفاعلون، من مختلف الأمم، علاقات فوق دولهم. صحيح أن البروز المتنامي للتدفقات العابرة للأوطان تزعزع رؤية الساحة الدولية كمجموعة من المجتمعات الوطنية المتناضدة، لكن هل بالإمكان مع ذلك الحديث عن "مجتمع عالمي"؟ إن من اهتم بالعلاقات الدولية هم رجال القانون و الاقتصاديون و خصوصاً السياسيون، الذين رأوا فيه موضوعاً اسمه "العلاقات الدولية". لم يتناول علماء الاجتماع، باستثناء ريمون أرون، هذا الحقل، لأن المجتمع في نظرهم محدد بحدود الدولة-الوطنية.

إن العلاقات الدولية في نظر مورجنتو، كما رأينا، من صلاحيات الأنثروبولوجيا التي تتولى بيان الطابع النزاعي للساحة الدولية. غير أنها اصطدمت بصعوبة مستوى و وحدة التحليل. كيف يجري نقل الطابع النزاعي و الحربي للإنسان إلى الدولة؟ ما الذي يسمح لنا بالقول أن الأمم توجد في الحالة الطبيعية كما هو شأن الأفراد في تصور هوبز1؟ فشل مورجنتو في محاولته لتفسير العلاقات الدولية بسبب تميز مقاربته بالنزعة الأنثروبومورفية. حاول ريمون أرون من جانبه تجنب هذا المطب، مفترضاً ضمنياً وجود مجتمع دولي حيث أعضاؤه فاعلون جماعيون يقيمون فيما بينهم علاقات، تارة تكون سلمية و تارة حربية. و هدفه من وراء ذلك وضع أسس لسوسيولوجيا العلاقات بين الفاعلين الجماعيين، مشكلين بذلك المجموعة الدولية الكبيرة. إلاّ أن هذه المحاولة لم تكن أيضاً ناجحة، لأن هيكل البناء القائم على ثلاث طبقات (الأفراد، الفاعلين الجماعيين، و المجموعة الدولية) كان هشاً.

إدراكاً منه لهذه النقائص، اعتقد و التز بتجاوز هذه الصعوبة بلجوئه إلى التحليل النسقي و الشمولي، مقترباً من التيار الليبرالي الذي لا نعرف إن كان يتكلم عن مجتمع دولي موجود أم عن مجتمع دولي يتمناه[16]. غير أن هذه المقاربات تحمل خاصية مشتركة و التي تعتبر في ذات الوقت ضعفاً: ذلك أنها تفترض كلها وجود تطابق الرابطة الاجتماعية المحلية مع العلاقات الدولية، تكون فيها الدولة مدركة ككائن ذاتي. و بإضفاء الطابع الذاتي على الدولة، تمنحها سيكولوجية فردية و التي ستشكل قاعدة السلوكات و الأفعال، مُكونة بذلك نظاماً دولياً شبيهاً بالمجتمع البشري، منقوصاً من الجهاز الحائز على احتكار العنف المادي. و انطلاقاً من ذلك، فإن مفهوم "المجتمع الدولي" مقولة تطرح مشكلة، ذلك أن كل المفاهيم السوسيولوجية تفترض ضمنياً وجود نوع من الذاتية البينية للفاعلين. كثيراً ما كان دوركايم حريصاً على الفصل بين علم الاجتماع وعلم النفس، غير أن ذلك لا يعني أنه كان ينكر خصوصية علم النفس أو وجاهة موضوعه. الأمر يتعلق هنا بكائنات سيكولوجية تعطي للعالم الاجتماعي موضوعه، و من أجل أن تكون هناك تمثلات أو تصورات جماعية تتجسد من خلالها صورة المجتمع، وجب أن تكون هناك موارد سيكولوجية تسمح، على المستوى الجماعي، بإنتاج مخيال تجعل من خلاله الكائنات السيكولوجية تحس أنها تشكل المجموعة. عندما يؤكد دوركايم أن الكل (المجتمع) هو شيء آخر غير مجموع أجزائه (الأفراد)، فإنه يتكلم عن كائنات بشرية تتسم بذاتية، و قدرات تخيلية وحساسية، أي القدرة على إعطاء معنى لأوضاع معاشة عبر القيم والمعايير. إن هذه الأجزاء الذي يشكل مجموعها مجتمعاً لا يمكن أن تكون شيئاً آخر إلاّ الكائنات السيكولوجية[17]. إن مجموعة من الحمام ليس مجتمعاً، و مجموعة من الدول لا تشكل هي الأخرى مجتمعاً. و كون أن الدولة تُمثَل- و هي مسيرة من قبل الأفراد- لا يجعلها تكتسب سمات سيكولوجية و بشرية، حتى ولو شكلت مجموعة من الدول هيئة على المستوى الدولي و الذي ينبغي دراسة منطق سيرها و انتظاماتها التي تميّز العلاقات بين الدول. و بسبب ذلك، تساءل، على ما يبدو، أرون في أواخر حياته فيما إذا كان شرعياً نظرياً الحديث عن المجتمع الدولي أو العالمي. و قد كتب في هذا السياق يقول: "لا أعتقد أن صيغة ‘المجتمع الدولي’ أو العالمي تشكل مفهوماً صحيحاً. ذلك أنها تشير إلى الكلية التي يندرج ضمنها في آن معاً كل من النظام الدولي البيني و النظام الاقتصادي، و الحركات العابرة للأوطان و الأشكال المتعددة للتبادل...و المجتمعات المدنية و المؤسسات الفوق وطنية. هل يمكن أن نسمي مجتمعاً هذه الكلية التي لا تحتفظ تقريبا بأي من هذه الخصائص الملازمة لأي مجتمع مهما كان؟... إني أشك في ذلك"[18].

الفضاء الدولي للتدفقات العابرة للأوطان

رأينا في الجزء السابق أن العديد من المؤلفين يستخدمون مفهوم المجتمع الدولي باعتباره هنا كعلاقات بين الدول. و هناك مؤلفون آخرون، سنذكرهم في هذا الجزء، يحيلون إلى مفهوم المجتمع العالمي، الذي يتضمن مجموعة من الأفراد متسامون عن الحدود. في الحالة الأولى، يقيم الأفراد روابط فيما بينهم بواسطة دولهم التابعين لها، و في الحالة الثانية، لا يحتاجون إلى وساطة ليقيموا علاقات فيما بينهم. لكن كون الدولة لم تعد هي الفاعل المركزي في الساحة الدولية، لا يعني ذلك وجود مجتمع دولي[19]. إذا كانت مقاربة المجتمع الدولي قد قللت، كما رأينا، من الجانب الذاتي في تشكيل الرابطة الاجتماعية، فإن مقاربة المجتمع العالمي من جانبها قد قللت، كما سنرى، من القوة المشكلة لنزعة التمركز العرقي في إدراك المجتمع كواقع يتسامى على الأفراد و يتجاوزهم. و عليه، فمن أجل تجنب هذه المشكلة ربما يستحسن الحديث عن المجتمع العابر للوطن لوصف مختلف التدفقات الاقتصادية و الثقافية و البشرية التي وحّدت الكوكب كما لم يحدث ذلك بالمرة سابقاً.

النزعة الكوسموبوليتية الكانطية و المجتمع العالمي

هناك العديد من المدافعين عن فكرة المجتمع العالمي يستلهمون كانط و رؤيته الكوسموبوليتية (المواطنة العالمية) للعلاقات الإنسانية خارج حدود الدول. غير أن كانط كان يشك في وجود مستقبلي لمجتمع عالمي و حتى لدولة عالمية، ذلك، حسب رأيه، أن الطبيعة قررت غير ذلك. "فقد استعانت بوسيلتين لمنع اندماج الشعوب و من أجل فصلها: تعدد اللغات و تعدد الأديان، و كان من نتائج ذلك الميل إلى الكراهية و الذريعة إلى الحرب...[20]". إن حالة الحرب هذه، المعبرة عن تعدد الدول المجاورة الغيورة على سيادتها، هي في نهاية المطاف أفضل من أجل السيطرة على الكوكب من قبل إمبراطورية وحيدة. من الأفضل أن تكون هناك قوانين دولية تضبط العلاقات بين الدول من ملكية كونية "حيث تفقد فيها القوانين دوماً من قوتها كلما امتد نطاق الحكومة، و من وجود نزعة استبدادية بلا روح، بعد انتزاعها لبذور الخير، تؤول نهايتها إلى السقوط في الفوضى"[21].

إن ظهور القانون الدولي ينشأ بفعل نفس الدوافع التي كانت سبباً، داخل نطاق الحدود، في نشأة القانون المدني الخاص و العام، ممثلة في استعصاء التنشئة الاجتماعية للبشر. فلم يبق للإنسان، بسبب ميله للنزاع و العدوان و الأنانية، من بديل إلاّ بناء نظام سياسي و قانوني يُجبر فيه على أن يكون مواطناً صالحاً. لقد حوَّلَ الديالكتيك الكانطي الإنسان الشرير إلى مواطن صالح، محترماً للقانون الذي يوفر له الأمن و التفتح. يقول كانط في هذا الصدد: "تريد الطبيعة بقوة و إصرار أن القانون هو الذي ينتصر في النهاية[22]". و القانون الدولي لا يستثنى من هذا المنطق الذي هو أيضاً يقوم عليه وجوده.

يقسم كانط القانون إلى ثلاث فروع: القانون المدني، القانون الدولي و أخيراً قانون المواطن العالمي. الفرع الأول يتعلق بالعلاقة بين الأفراد ضمن نفس الدولة، و الثاني يضبط العلاقات بين الدول، و الأخير يشير إلى انتماء الإنسان إلى النوع الإنساني، و هي الهوية الأولى قبل هوية العصبيات و الجماعات الوطنية. و ما تضمنه هذا الانتماء يُعتبر سببا جعل الليبراليين يتبنون أفكار كانط، واضعين الفرد في الصدارة بإعطائه الأولوية على الدولة و على القوانين الوطنية. غير أن النزعة الكوسموبوليتية، كما طرحها كانط، ليست إيديولوجيا طائفة فوق عضوية –الجنس البشري- تجمع كل أفراد الكوكب. الأمر لا يتعلق بنوع من النزعة الوطنية على الصعيد الكوني، بل هو بالأحرى تعبير عن "قانون الامتلاك المشترك لمساحة من الأرض دون أن يكون ذلك متناقضاً مع القوانين المدنية الوطنية أو القانون الدولي. فقانون الكوسموبوليتيك ليس سراباً ولا شذوذاً كما يقول كانط، لكنه "إضافة ضرورية للقانون غير المكتوب، سواء كان القانون العام أو القانون الدولي بغرض الوصول إلى تحقيق قانون عمومي للإنسانية و من ثمة إلى السلم الدائم[23]".

إن النزعة الكوسموبوليتية هي الآفاق التاريخية للإنسانية المتشرذمة إلى الدول-الوطنية، غير أنها تتطابق، حسب الصيغة التي طرحها دعاة العولمة المعاصرين، مع المجتمع العالمي، كواقع مكتمل أو في حالة اعتمال و اختمار، أنتجها تطور تاريخي، يكون من الأفضل مرافقتها تسهيلاً لسيرها من معاكستها و تحمل تكاليفها في صور من المعاناة و النزاعات غير المجدية. و هذا ما ذهب إليه، على ما يبدو، جون بورتون (John Burton)، معترضاً خصوصاً على فرضية مركزية الدولة في العلاقات الدولية، مفضلاً تطوير فكرة شبكة ينسج خيوطها عدد غير محدود من الفاعلين و التي تقام فيها علاقات بصرف النظر عن الحدود الجغرافية. تشكل هذه الشبكة المعقدة و المتداخلة مجتمعاً عالمياً يتوقف استقراره على تلبية الحاجات الأساسية لأعضائه[24]. يعطي المؤلف للحاجات مضموناً واسعاً، يمس في آن معاً الجوانب السياسية و الاقتصادية و الثقافية. تقوم الفكرة على القول: إذا كان الأفراد و الجماعات غير راضين داخل حدود الدولة، فإن عدم الرضا هذا سيعبر عنه، بصورة من الصور، على المستوى الدولي. و كمثال على ذلك، فإن الهجرة السرية من الجنوب إلى الشمال تعبر عن اختلال في عرض العمل، و سيكون من السذاجة معالجة ذلك عن طريق القمع. فالنزاعات الداخلية للدول، أو بين الدول تنشأ من الحاجات غير المشبعة، و تهدد السلم العالمي. و وقف النزاعات ليس كافياً. غير أن بورتون لا يتكلم عن المجتمع الدولي إلاّ من أجل تفنيد أطروحة مركزية الدولة، مؤكداً أن هذه الأخيرة لم تعد الفاعل الوحيد أو الرئيسي على الساحة الدولية. و يقابل كرات البلياردو المتصادمة فيما بينها بخيوط العنكبوت الممتدة على مساحة من الكرة الأرضية، رابطة فيما بينها الملايين من الأفراد[25]. إن انشغاله الأساسي هو السلم في العالم، و يرى أنه من أجل تحقيق ذلك، يجب القضاء على الأسباب الاجتماعية للنزاعات التي انتشرت مظاهرها العنيفة بسبب أن العالم بات يشكل بنية مستقلة[26]. فالمجتمع العالمي، في تصوره، ليس واقعاً سوسيولوجياً، بل حجة تستخدم كوسيلة لغاية السلم العالمي. كثيراً ما انتقد واتهم بالنزعة المثالية في سنوات السبعينيات، غير أن عمله أخذ دلالة أخرى مع تسريع حركة العولمة، مستلهما نظرية الحكامة الشاملة التي ظهرت في نهاية سنوات الثمانينات ضمن اللجنة التي تحمل نفس الاسم والتي ترأسها و يلي براندت.

لقد تبنى كل من برتراند بادي وماري كلود سموتس مقاربة المجتمع العالمي، حاولا فيها تصور و وضع شبكة تحليل في كتاب موجهاً لإماطة اللثام عن الأزمات التي تسببت في "انكماش العالم[27]". و قد اشتمل على ثلاث أجزاء (ظهور المجتمعات، فقدان المعالم الجماعية و قطائع و إعادة تشكيل)، يطرح كتابهما هذا فكرة وجود مجتمع عالمي خاضع لانفجار ثقافي (الفصل الأول)، تخترقه تدفقات عابرة للأوطان (الفصل الثاني)، مصاب بالأنومية (الفصل الثالث)، منتج للاندماج والإقصاء (الفصل الخامس) و أخيراً الوعي بظهور الأملاك العمومية (الفصل السادس). تعالج مختلف الفصول المذكورة في أجزائها الفرعية موضوعات مثل تعدد العقلانيات السياسية و الاجتماعية، أزمات الهوية، عودة المقدس و الالتفاف حول الدولة، إلخ. يقول المؤلفان: "و باختصار، يمكن الحديث عن ’مجتمع عالمي’". (ص.103)، مذكرين بالتمييز الذي أقامه فرديناند تونيز بين المجتمع و الجماعة، مقيماً تعارضاً بين الطابع المؤسساتي الإرادي للأول، و الطابع العاطفي للثاني[28]. لقد كان بادي وسموتس و آخرون على حق في محاولتهم لبناء سوسيولوجيا المشهد الدولي، ذلك أن هناك، نشاطات اجتماعية تجري على مستوى يتجاوز حدود الدولة أو الوطن. تكمن المسألة في رمتها في معرفة ما إذا كان إطار هذه النشاطات هو المجتمع العالمي بمعنى المجتمع وفق المفهوم السوسيولوجي. للتذكير فإن المجتمع بناء تصوري يشير إلى الفضاء الذي تجري فيه الظواهر الاجتماعية، أي تفاعلات و تبادلات الخيرات و الرموز. من الممكن أن علم الاجتماع في تعريفه هذا قد أعطى، منذ ظهوره، أهمية مبالغ فيها لتبادل الخيرات على حساب الرموز. لا ننسى أن المجتمع في نظر تونيز اختراع و أداة التجار، مثل ما نجد عند دوركايم أن المجتمع الحديث مندمج بفضل التضامن العضوي. هذه هي الآفاق التي حاول المؤلفان بسطها و توضيحها في مقاربتهما للمجتمع العالمي و تحليل اقتصاد العالم، مستلهمين موضوعات زوال الحدود و الأفول القريب للدولة، مفترضين أن العلاقة السلعية كافية لتأسيس الرابطة الاجتماعية في استقلالية عن إرادة الفاعلين. بيد أن هذه الآفاق تتميز بطابعها الاختزالي، ذلك أن المجتمع هو في المقام الأول تمثل ثقافي و منتوج خيالي، يوجد في إدراكات و تصورات أعضائه. و السوق وحده لا يكفي لخلق مجتمع هو أساساً فضاء من القيم يضفي معنى على أفعاله و من خلالها يتعارف أعضاء الجماعة فيما بينهم.

النزعة المركزية العرقية ضد المجتمع العالمي

تتمايز المجتمعات بقيمها المنبثقة من ديناميكية نزعاتها العرقية التي تجد جذورها في الجماعات الأولية مثل (العائلات، و القرى...) إن النزعة العرقية، بما هي خاصية في كل حياة اجتماعية، ترسم دوائر متراكزة (متحدة المركز) حيث تعتقد كل جماعة محلية أنها تقع في المركز، كما تعتقد بصورة حميمية أنها أكثر تطابقاً مع الأخلاق و الطبيعة و العقل و الله...و من هنا تعتبر نفسها هي العينة الممثلة للإنسانية التي يبتعد عنها الآخرون. و الأكثر ابتعاداً عن المعيار هم الأجانب، المتوحشون، و الأقرب هم الجيران الذين يعانون مع ذلك من عجز. إن الوعي بالتماهي مع الإنسانية يحتاج إلى صورة المتوحش، الهمجي اللاإنساني الذي يكون ضرورياً أحياناً محاربته من أجل نجدته أو فرض قيمنا المتماهية مع القيم الكونية[29]. كتب كلود ليفي ستراوس، مؤكداً على أهمية نزعة التمركز العرقي ما يلي: "الإنسانية تتوقف عند حدود القبيلة، الجماعة اللغوية و أحياناً عند قرية، إلى درجة أن عدداً كبيراً من السكان الذين يوصفون بالأقوام البدائية يسمون أنفسهم بالاسم الذي يعني ’البشر’... ما يفهم من ذلك أن القبائل الأخرى، الجماعات أو القرى، لا تشترك في هذه الصفة أو حتى في الطبيعة البشرية، إن هي إلاّ شعوب شريرة، ’قردة الأرض’، أو ’بيض القمل’[30]". إن نزعة التمركز العرقي، بما هي شرط و جود جماعات اجتماعية تحتاج إلى تأكيد تفوقها على الغرباء، تعطي للكائن البشري القناعة بأن قيم الجماعة متطابقة مع قيم الإنسانية وأنها المعبرة عن كونيتها.

بقدر ما تكون جماعة ما ممتدة بقدر ما تكون في حاجة إلى التحكم في تدفقات المركزية العرقية في ساحتها، ضماناً لتماسكها و وحدتها. هذه المهمة عادت إلى الدولة في عصر الحداثة، مستقطبة مختلف ديناميكيات النزعات العرقية المحلية، مذوبة إياها في نزعة عرقية واحدة هي النزعة الوطنية. و وفقاً لهذه النظرة، فإن المجتمع الموجود على الصورة الوطنية، هو بناء تاريخي و إنتاج الدولة بما يعني أن الدولة هي التي تعطيه- بعدما توفر له هيئات الضبط و الحدود الجغرافية- وجوداً و تماسكاً وطنياً يعيشه أفراد عبر مخيال مرتبط بممارسات ثقافية و لغوية. ارتسم البناء الوطني، تاريخياً، ضد النزعات العرقية المحلية المتحاربة. أما المجتمعات الحديثة فهي تعبير عن نزعة عرقية فوق محلية أنشأتها الدولة و أعادت إنشائها من أجل تدعيم التماسك الاجتماعي و استقطاب ولاءات أعضاء الجماعة. لذلك فإن النزعة الوطنية هي مخيال غذته نزعة عرقية مركزية، عملت الدولة على تنشئتها اجتماعياً بواسطة "ثقافة راقية" على حساب "ثقافة هابطة" كما يقول جيلنر[31]. تكمن المسألة هنا في معرفة ما إذا كان لهذا السيناريو فرص لإعادة إنتاجه على الصعيد العالمي. إن تعريف النزعة العرقية المركزية نفسه يوحي بجواب سلبي، فلا معنى له على الصعيد العالمي، لأنه يفتقد لنقيضه لتأكيد نفسه.

يعرّف علماء الأنثروبولوجيا البناءات العرقية بواسطة الحدود التي تستبعد الأخرى و عن طريق بناء صورة العدو[32]. لا تخلو الإنسانية من أعداء، مثل السيدا، و التلوث...غير أن هذه التهديدات تظهر كتهديدات مجردة غير مشخصنة، لا تعمل على أيقاظ الشعور بالوحدة كما كانت تفعل القبيلة أو الأمة التي تهاجم الآخر. صحيح، أن الوعي الكوني آخذ في الظهور لمواجهة المخاطر المهددة للإنسانية، كما ظهرت الحاجة أيضاً إلى الضبط، بواسطة المعاهدات، التجارة العالمية، أو تخويل المؤسسات الدولية مهام دقيقة متعلقة بكل سكان الكوكب مثل: منظمة الصحة العالمية، منظمة الأغذية العالمية، المنظمة العالمية للعمل، المنظمة العالمية للتربية و الثقافة و العلوم (اليونسكو)، صندوق النقد الدولي...فضلاً عن المنظمات غير الحكومية مثل منظمة السلام الأخضر، منظمة العفو الدولية، و أطباء بلا حدود...كلها شاهدة على وجود شعور كوني و وعي بالأملاك العمومية الدولية. فماذا ينقص هذا الجمع لينتظم في مجتمع عالمي؟ ربما مخيال العدو المشترك. هل يمكن تصور وطن وحيد، يتساءل دوركايم؟ كان جوابه لا، ذلك أن الأنا يطرح في تعارضه مع غيره[33]. إن النزعة الوطنية العالمية، وفق هذا المنظور، غير ممكن تصورها، لأنها تحتاج من أجل تجسيدها إلى عدو يقوم بتلحيم النوع البشري ضده.

و بناء على ذلك، فإن أي نزعة عرقية مركزية، حتى و إن ظهرت، ستكون تفقيراً للحضارة الإنسانية، لأن ذلك يعني أن الفرنسيين و الهنود و العرب...يفقدون خصوصيتهم و يصبحون بالتالي متماثلين، و سيكون ذلك خسارة للحضارة، التي استفادت، إلى حد الآن، من إسهامات كل مجتمع. إن العقل يدين النزعة العرقية المركزية عندما لا تظهر إلاّ طابعها العدواني و الحربي، لكن يمكن تصورها كديناميكية ثقافية، حينما تثرى الحضارة العالمية بإسهامات مختلف الجماعات الاجتماعية.

حول المجتمع العابر للأوطان

لا يوجد مجتمع دولي، غير أنه توجد ساحة دولية حيث تجري فيها الوقائع الاجتماعية التي اكتسبت بعداً عابراً للأوطان، رابطة الأفراد فيما بينهم خارج الحدود. لقد انحرف علم الاجتماع عن هذه الوقائع لأنه طابق حدود موضوعه مع موضوع الدولة-الوطنية. و لم يهتم علم العلاقات الدولية للتدفقات العابرة للأوطان إلا بعد ظهور الكتاب الجماعي المؤسس لـ روبير كوهان و جوزيف ني، الذي أكد على أهمية العلاقات المجتمعية المتجلية في ميدان الاتصال و الإعلام، و في الأفكار و المذاهب، في وسائل نقل السلع والأشخاص، في المجال المالي و التداول النقدي و القروض و أخيراً في السفر أو السياحة[34].

خرج المؤلفان بخلاصتين: الأولى أن المجتمعات حساسة للتأثيرات التي تمارس على بعضها البعض. والثانية أن الدولة لم تعد الفاعل الأساسي والمحدد على الساحة الدولية. يعطي فهرست الكتاب إشارة إلى ظهور فاعلين جدد ينافسون الدولة مثل: الشركات المتعددة الجنسيات، المنظمات غير الحكومية، المنظمات الثورية، الشبكات العلمية، إلخ... لقد قام المؤلفان كوهان و نيي بفتح مسالك بحث و التي لم يقم علماء الاجتماعي باستغلالها إلاّ حديثا[35]ً.

نشر كارل كيسر، سنة قبل ظهور هذا الكتاب، مقالاً باللغة الألمانية عنوانه "السياسة العابرة للأوطان: من أجل نظرية للسياسة الدولية"، حيث يؤكد فيه أن العلاقات بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين على الساحة الدولية ليست جديدة، لكن المقاربة القائمة على الوضع المركزي قد تجاهلتهم تماما[36]. صحيح، كما يضيف، أن العلاقات قد ازدادت كثافة مع الحرب العالمية الثانية بفضل التقدم التكنولوجي الذي ساهم في ظهور مجتمع عابر الأوطان "معرّفاً إياها كنظام من التفاعل في ميدان خاص، بين الفاعلين الاجتماعيين ينتمون إلى أنظمة وطنية مختلفة". إن هذا المجتمع العابر للأوطان، الذي لا وجود له جغرافياً، هو التعبير عن التطور الاقتصادي والسياسي للمجتمعات الوطنية التي باتت مراقبة الحكومات لها تتضاءل، و من ثمة دمقرطتها، ذلك، كما يشرح ك. كيسر، أن "البنية الديمقراطية تعمل على زيادة كثافة هذه العلاقة [العابرة للأوطان]، لأنها تُجبر الحكومات على أن تكون أكثر إصغاء وحساسية للاضطرابات". إن هذه الاضطرابات ذات الطبيعة التقنية-العلمية، الاقتصادية، البيئية، الدينية و العرقية... وغير المتحكم فيها من قبل الدول، والعاملة على نفي الحدود الإقليمية، قد أظهرت بطلان المقاربة الواقعية المحللة لعالم مكون من سيادات متجاورة. إن هذه التدفقات غالباً ما كان التحكم فيها صعباً، وقد اكتسبت ما يكفي من القوة، ما جعلها تطيح بالبلدان الاشتراكية السابقة و التي بعد تحررها من وصاية الاتحاد السوفياتي، تسببت في انهياره.

أصبحت المجتمعات الوطنية حالياً أكثر انفتاحاً، وأكثر حساسية للعوامل الخارجية، لقد تمت عولمتها إلى درجة أن أعضاءها أَدمجوا البعد الدولي في حياتهم[37]. هذا الأمر، بات صحيحا على الصعيد الإعلامي، حيث أن زلزالا في اليابان و عملية خطف رهائن في كولومبيا أو تزوير انتخابات في العالم العربي، يشكلون جزءاً من عالمنا اليومي. كما أن هذا صحيح أيضاً فيما يتعلق بالعمل المأجور الخاضع للمنافسة الدولية والمتأثر بمعدل صرف العملات الأجنبية التي تشجع عملية ترحيل المؤسسات[38]. و يعتبر هذا الأمر صحيحاً أيضاً في مجال حياتنا الثقافية و الترفيهية، حيث لم تعد الحدود المادية موجودة في إدراكنا[39]. أصبحت المجتمعات المحلية، بعد الآن، معولمة، تقيم علاقات تتجاوز الدول، حيث تقوم هذه الأخيرة بتكييف نفسها وفق هذا التطور الجديد.

و انطلاقاً من هذه المعاينة يرى روسنو (James Roseneau) أن هناك عالمين على صعيد العلاقات الدولية: عالم الدول وعلاقاتها، و عالم الفاعلين الخواص و التدفقات العابرة للأوطان الذين يعملون على تغذيتها. هناك الكثير من الأعمال التي كُرّست للنوع الأول من العلاقات، بينما النوع الثاني لا يزال ينتظر البحث والاستكشاف، و هو نوع يتميز بقدر كبير من الاضطراب و التوتر و الفوضى، لأنه متعدد المراكز، خاضع لمعقوليات مختلفة لا تُعرف مواقعها. غير أن الذي يميّزها بشكل أساسي، أنها تعرف، بصورة متزايدة، فاعلين موجودين خارج نطاق مؤسسات السيادة، كما توجد على نحو متنامي هويات مشتتة تنشط خارج الولاء للدول أو لأي سلطة نظامية أخرى[40]. و في إطار هذا التشكيل الهيكلي الجديد، لم يعد للمكان الجغرافي الذي يوجد فيه الفرد أهمية تذكر. ولم تعد الولاءات للسلطات المحلية حصرية، و إذا امتلك مواطن جوازين للسفر أو ثلاثة (تعدد الجنسيات) لا ينظر إليه كخائن لوطنه الأصلي. و للتدليل على هذه الأطروحة، قام روسنو بتغيير مستوى التحليل، منتقلاً من السياسة الكلية إلى السياسة الجزئية، مهتماً بممارسات و تصورات الأفراد و التي باتت آثارها توجه تطور النظام الدولي. هناك واحدة من أطروحاته الأصيلة، تشكل صلب الموضوعات السوسيولوجية، تذهب إلى أن أفراد المستوى الدولي قاموا بتغيير علاقاتهم بالسلطة و بالجماعة التي كانوا ينتمون إليها، و دللوا على قدر جيد من المعرفة بالشؤون العالمية أكثر من أي وقت مضى، معبرين عن آرائهم، المستهجنة أحياناً، حول المشاكل الدولية. إذا كان ك. و التز يدعو إلى تفسير سلوك الأجزاء بمنطق الكل الذي ينتمي إليه، فإن روسنو يتبنى منهجاً معاكساً يعتمد على النزعة الفردية المنهجية التي تفترض أن أفعال الملايين من الأفراد تنتج ديناميكيات عابرة للأوطان، مزعزعة لدول ذات فعالية ضعيفة و شرعية متآكلة. هذا الأمر كان مصدر الاضطرابات، و هو مصطلح علم الأحوال الجوية، الذي يشير إلى عدم استقرار و تقلبات جوية مرتبطة بموقع الرياح وقوتها. الساحة الدولية، في نظر هذا المؤلف، تتميز بتقلبات، متسببة في فوضى أكثر خطورة من خطورة النظام الحكومي أو الدولني (نسبة إلى الدولة) القديم، و يعود هذا الأمر إلى سببين: هناك تزايد عدد الفاعلين الذين ينشطون خارج الإطار المؤسساتي للسيادة، مع وجود هويات متفرقة و مشتتة يشق عليها أن تتماهى في ولائها لدولة ما[41]. إن اتجاه روسنو نحو آفاق سوسيولوجية هو مؤشر وجود فراغ يتعين ملؤُه وضرورة التكفل بالظواهر الدولية التي لا يمكن لعلم الاجتماع تجاهلها مثل العنف، و المسألة العرقية و السياحة و المقدس و شبكات الإجرام الدولية التي صنعت الحدث في الصحافة. لقد باتت الساحة الدولية مسرحا للعديد من الظواهر التي تجاوزت الحدود التقليدية لعلم الاجتماع. لقد أصبح الميدان الذي يتعيّن الإلمام به واسعاً، ما يستوجب إجراء دراسات وتحاليل معمقة يُستعان فيها بأدوات العلوم الاجتماعية من خلال البحوث الميدانية، عن طريق المقابلات و الملاحظة بالمشاركة، و استغلال معطيات الأرشيف و البيانات الإحصائية و هذا ما يسميه الأنثروبولوجيون الأمريكيون باختصار fieldwork، (العمل الميداني) مستخدمين أعمال علم السياسة، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، التاريخ والاقتصاد...أي دعوة إلى تضافر التخصصات العلمية المختلفة التي تقتضيه طبيعة الموضوع، ذلك أنه من الصعب تصور باحث واحد يمكنه أن يكون متخصصاً في المسائل الإثنية و الظواهر الدينية و الاقتصاد العالمي و الدولة و ما إلى ذلك.

علم الاجتماع مدعو إلى تجاوز الإطار الوطني و الإقرار بأن وجود احتكار ممارسة العنف يعتبر معطى تاريخياً و ليس معطى أنثروبولوجياً. و على الصعيد الدولي، تبدو الحدود بين علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا متجاوزة. و ضمن هذه الآفاق، ظهر مؤلف مجهول لدى دعاة النزعة العالمية و الذي يمكن لنظريته أن تكشف حقيقة الديناميكيات المتنازعة على الساحة الدولية. إنه بيار بورديو، الذي لا يتخذ من المجتمع مرجعية لعلم الاجتماع، بل الحقول الاجتماعية المتّسمة بالصراعات بين فاعلين حائزين على رساميل اجتماعية مختلفة، و يمارسون على مستوياتهم الهرمية الخاصة عنفاً رمزياً. كما هو الشأن في الساحة الدولية، فإن الفاعلين توجههم "جبلَّتهم" لتعزيز مواقعهم و زيادة رساميلهم، و هذا ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نظام الفوارق والتباينات (هوبز1). تشبه الساحة الدولية المجتمع بمنظور بورديو حيث تكون فيه النزاعات مضبوطة بالعنف الرمزي للفاعلين الخواص، في فضاء لا وجود للدولة فيه، أو بالأحرى الجهاز الذي يمارس احتكار العنف الرمزي. فعلاً، إن الدولة، من منظور بورديو، تُدرك كسلطة اجتماعية كغيرها من السلطات، تخدم مصالح القوى المسيطرة الحريصة على بقاء نظام اللامساواة الذي يفيدها[42]. و هكذا تبدو الساحة الدولية متميزة بالتراتبية، مكونة من بلدان قوية، متوسطة وضعيفة، تسعى كلها لتعظيم مصالحها تبعاً للموارد التي تملكها. إن هذه الصورة الديناميكية للنزاعات الهيكلية هي صورة المجتمع القبائلي، و هو يعمل على مستوى ما دون الدولة ( infra-étatique)، حيث يدافع ضمنها الفاعلون عن رساميلهم الاجتماعية و هم يعيدون إنتاج العلاقات الاجتماعية المتميزة بالعنف الرمزي، و لكن أيضاً بالعنف المادي و الذي لا يوجد أيّ جهاز يحتكره[43]. لكن هذا لا يستبعد وجود، كما هو الحال في العلاقات الدولية، مؤسسات تحكيم (مثل الجماعة، المرابطين، الشرفاء...)، و هذا ما يذكرنا بنظام المجتمع الفوضوي، كما صوره بول، بثقافته القائمة على الردع والمعايير. يتميز مستوى ما "دون الدولة" بالفوضى مثله مثل مستوى "ما فوق الدولة".

إن إشكالية بورديو تسمح بقراءة الساحة العالمية المتميزة بسيطرة الأمريكيين، المتحديين من قبل منافسيهم الحلفاء الذين يستفيدون من هيمنة القوة العالمية الأولى و الذين يعتبرون همزة وصل لنشر ثقافتها و منتجاتها. فبدون رضا الخاضعين، ما كان ممكناً لعملية الأمركة أو المكدنة[44]، حسب بورديو، أن تُنتَج و يُعاد إنتاجها[45]. و مع ذلك، لازالت بعض قطاعات الثقافة الوطنية تقاوم، غير أن المعركة غير متكافئة على نحو كبير، و يبدو أنها خاسرة مسبقاً، بفعل قوة الهيمنة للإمبراطورية الأمريكية المتعاظمة. و هذا ما سماها جوزيف ني بعبارة (Soft Power) "القوة الناعمة" الذي يصعب ترجمتها إلى اللغة الفرنسية، و هو مفهوم يعادل في مضمونه ما يسميه بورديو بالعنف الرمزي. لقد فرضت هوليود، دون أن تلجأ إلى الردع المادي، ثقافتها و إيديولوجيتها عبر السينما التي بات نفوذها ممتداً إلى أطراف المدن الأكثر فقراً. تعتبر هوليود التجسيد الملموس لقوة و فعالية العنف الرمزي الذي جعل الملايين من الشباب ينخرطون في مدركات ورؤى العالم و يتماهون مع أبطال، تزّين صورهم جدران المدن القصديرية لبنغلاديش، و ضواحي لندن و مدن "الفافيلا" في البرازيل. و ربما كان هذا التماثل و التوحيد و إضفاء الطابع الأسطوري على المنتجات السلعية، مجسداً في أجسام الرجال و النساء، و فارضاً قوانين الرجولة و الجمال، هو الذي يثير ردود فعل دفاعية قوية تستمد قوتها من القيم الدينية التي تستقطب شباب آخرين على استعداد لإتباع نهج بن لادن. و هي الأطروحة التي بسطها بنجامين باربر في كتابه (Djihad versus McWorld)[46]. و ضمن هذا المنظور، تعتبر النزعة الإسلامية رد فعل عنيف لفقدان "جوهر النزعة العرقية المركزية" الذي تتعرض لها البلدان الإسلامية، حيث يتبنى فيها قسم من النخبة كونية الحضارة الغربية، وهذا ما يخالف الطابع الكوني للإسلام كمجتمع و ثقافة و دين.

و كخلاصة، يبدو أن صعوبات تحليل موضوعات علم الاجتماع الدولي ذات طبيعة منهجية أكثر منها أنطولوجية[47]. فعلاً، لقد عرف علم الاجتماع توتراً بنيوياً متعلقاً بمقاربتين: أحداهما ترى أن مستوى التحليل هو المجتمع، الذي كان يتماهى، إلى وقت قريب، مع الدولة-الوطنية. (النزعة الكلية)، و بينما ترى الثانية أن هذا المستوى هو الفرد (النزعة الفردية المنهجية). و بين هذين المستويين الأكبر و الأصغر يوجد مستوى الميزو/البيني المتعلق بالجماعات و الجمعيات و النقابات و الأندية و المؤسسات و ما إلى ذلك. تهتم الميكرو-سوسيولوجيا بالجماعات المكونة من أكثر من شخص، و تتميّز عن علم النفس الاجتماعي بكونها تركز، على وجه الخصوص، على العلاقات القائمة على القيم الاجتماعية المنشئة للنظم: مثل الأسر و النوادي المحلية و ورشات العمل و الطوائف المهنية...تنتج هذه التجمعات، على الرغم من محدوديتها، آثاراً اجتماعية بفعل تفاعل ذاتيات الأفراد، التي تعتبر موضوع علم النفس الاجتماعي. بالنسبة لعالم الاجتماع الأمريكي سميلسر، كلما ابتعد الموضوع عن المستوى الأصغر، كلما اكتسب كثافة سوسيولوجية. غير أنه يفقد طابعه الإنساني، ذلك أن البنيات تبتلع الفرد و تذوبه فيها. أما الماكرو-سوسيولوجيا، فهي ميدان النسق و الوظيفة و المنطق الاجتماعي غير المجسد. و ضمن هذا المستوى يطرح المشكل المتكرر للفاعل و النسق و هو نقاش كان دعاة العالمية يعرفونه منذ نهاية 1980[48]. إذا كانت الميكرو-سوسيولوجيا المحددة من قبل الدولة-الوطنية قد تم إفقارها من طرف البنيوية الوظيفة، فما هو حالها على المستوى الأكبر، العالمي؟ و هل بسبب ذلك كان سميلسر مشكاكا في الأساس المعرفي لعلم اجتماع عالمي؟ و قد كتب في هذا الصدد يقول: "إن إحدى سمات علم الاجتماع العالمي هي بالكاد علم اجتماع بالنظر إلى انشغالات التخصص[49]". و هو تخصص يواجه، أكثر من أي وقت مضى، صعوبة في إيجاد إطار ووحدة لتحليل لموضوعاته.



ترجمة :

الهوامش

*مقال سبق نشره في مجلة إنسانيات العدد 47-48 ، جانفي و جوان 2010، ص. 67-90.

[1] Ohmae, K. (1985), La fin de l’Etat-nation, Dunod.

[2] Cf. Badie, B. (1999), Un monde sans souveraineté, Fayard.

[3] Morgenthau, H. (1948), Politics Among Nations: the Struggle for Power and Peace, New York, Knopf.

[4] Aron, R. (1963), "Une sociologie des relations internationales", Revue française de sociologie, vol. IV.

[5] Aron, R. (1962), Paix et Guerre entre les Nations, Calmann-Lévy.

[6] Cf. Aron, R. (1967), "Qu'est-ce qu'une théorie des relations internationales?", Revue Française de Science Politique.

Sur ce thème cf. aussi Roche, J-J. (1994), "Les relations internationales: théorie ou sociologie ?", Le Trimestre du monde, n°27.

[7] Waltz, K. (1992), "Realist Thought and NeoRealist Theory" in R. L. Rothstein (editor), The Evolution of Theory in International Relations, University of South Carolina Press.

 [8]حول استخدامات دوركيام من قبل دعاة النزعة العالمية أنظر:

Larkins, J. (1994), "Representations, Symbols and Social Facts: Durkheim in International Relations Theory", in Millennium, n° 23, et Ramel, F. (2004), "Les relations internationales selon Durkheim. Un objet sociologique comme les autres", in Critique Internationale.

[9] Waltz, K. (1979), Theory of International Politics, Reading, Addison-Wesley.

 [10]أنظر في هذا الصدد النقد الذي وجهه :

Ruggie, J. G., Cox, R. et Ashley, R.K., وردود de Waltz dans Keohane, R. O. (1986), (editor), Neorealism and its Critics, Columbia University Press.

 [11]للاطلاع على نقد استخدام مفهوم الأنوميا من قبل والتز أنظر:

Barkdull, J. (1995), "Waltz, Durkheim and International Relations: The International System as an Abnormal Form", American Political Science Review, n°3.

 [12]هي الأطروحة التي يدافع عنها.

Ashley, R. qui a intitulé son article « Poverty of neo-realism », op. cit.

[13] Bull, H. (1977), The Anarchical Society, MacMillan.

 [14]حول الأنظمة العالمية أنظر:

Cf. Stephen, K. (1983), (ed.), International Regimes, Ithaca, Cornell University Press.

[15] Cf. Bull, H. and Watson, A. (1988), (edited by), The Expansion of International Society, Clarendon Press, Oxford.

[16] Waever, O. parle de la synthèse "néo-néo" en référence à la convergence entre les néo-libéraux et les néo-réalistes. Cf. Waever, O. (1996), « The Rise and Fall of the Inter-Paradigm Débate », in K. Booth, S. Smith, M. Zalewski (éditeurs), International Theory: Positivism and Beyond, Cambridge University Press.

 [17]إن نسبة علم النفس لعلم الاجتماع كنسبة الكيمياء الجزئية للبيولوجيا، فبدون عمليات كيمائية لا توجد ظواهر بيولوجية، على الأقل بالشكل الذي نعرفه اليوم. وهذا ما يمثله المفهوم الدوركايمي للحماس الجماعي الذي يتم إسقاطه على الوحدة الرمزية للطوطم المجسد للمجتمع والمعاش من خلال مخيال ديني. إن هذه العمليات الاجتماعية، المحللة في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" تصاب بعملية التشيء إلى الحد التي تصبح فيه موضوعية، ولا تظهر دون وجود الوجدان النفسي للأفراد والظواهر الذهنية التي تعمل على تمييزهم عن كل الكائنات الحية الأخرى.

[18] Aron, R. (1984), Les dernières années du siècle, Julliard, p. 25-26.

[19] حول هذا النقاش أنظر:

Fourquet, F. (2002), « Une société mondiale ? », in Revue du MAUSS, n°20, 2èm. Semestre, et la réponse dans le même numéro de la revue d’Alain de T., « La société mondiale existera-t-elle ? ».

و من جهة أخرى، فإن المؤتمر الدولي السادس عشر لجمعية علماء الاجتماع للناطقين باللغة الفرنسية، المجتمعين في لافال، كيبك، في جويلية 2000، قد وافق على مفهوم "المجتمع الدولي". أنظر:

Cf. les actes du congrès dans Daniel M. (2001), (sous la direction), Une société-monde ? Les dynamiques sociales de la mondialisation, Québec, De Boeck Université.

[20] Kant, E. (1986), Pour la paix perpétuelle, Presses Universitaires de Lyon, p. 71-72.

[21] Kant, E., op.cit., p.71.

[22] Kant, E., op.cit., p. 71.

[23] Kant, E., op.cit., p. 66.

[24] Burton, J. (1972), World Society, Cambridge University Press.

 [25]"إذا ما أضفنا التنقلات الأسبوعية التي قام بها المسافرون إلى سيل البرقيات والعلاقات ذات الطابع العرقي أو اللغوي، و الأسفار التي قام بها العلماء و المستشارون التقنيون، و حركات الهجرة، و السياح و كل أنواع المعاملات، فبمكاننا تكوين فكرة عن هذه العلاقات التي من شأنها أن تفسر لنا سلوك البشر في المجتمع الدولي، و هو أمر لا يمكننا القيام به لو أننا استعنّا بالبطاقات التقليدية."

Burton, J., idem

[26] Cf. Banks, M. (1984), (editor), Conflict in World Society. A New Perspective in International Relations, Wheatsheaf Books LTD, Brighton.

[27] Badie, B., Smouts, M.-C. (1995), Le retournement du monde. Sociologie de la scène mondiale, FNSP.

[28] غير أن هذا التعارض لا يحيل إلى وقائع تاريخية، و إنما يقوم ببناء "نماذج مثالية" ذات الطابع المنهجي لإدراك عمق الفارق بين المجتمعات المحلية للعالم الريفي حيث تتجسد الرابطة الاجتماعية في الوجوه المألوفة، تكون مجردة في المجتمعات الحضرية و الصناعية. ورغبة منهم في فهم عمق القطيعة التي أدخلتها عمليات التصنيع في القرن التاسع عشر، احتاج الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع إلى بناء مخططات منهجية لاستيعاب موضوعهم. سيكون من الخطأ الاعتقاد أن هذه المخططات تحيل إلى عمليات تاريخية حقيقة.

 [29]لم يتمكن مفكرو عصر الأنوار من الانفلات من النزعة الإثنية المركزية الأوربية الذين كانوا يعتقدون بطابعها الكوني، مستندين في ذلك إلى القانون الطبيعي. إن المهام التحضيرية التي ألهمت المؤسسات الكولونيالية كانت تفصح عن إرادتها لتحرير "المتوحشين"، مع أنهم كانوا أكثر قرباً إلى الطبيعة من الأوربيين، و تقوم بتعليمهم أن مؤسساتهم و معتقداتهم كانت معاكسة للطبيعة. و الجدير بالذكر أن العملية التي من خلالها يحوز "الأهلي"على الجنسية في العديد من اللغات الأوربية تسمى "التطبيع". الأمر يتعلق مثلاً بجزائري يطلب الجنسية الفرنسية ليصبح فيما بعد "طبيعياًّ"، أي فرنسياً، باعتبار أن المجتمع الفرنسي أكثر طبيعية من أي مجتمع آخر. المشكل الوحيد، أن كل مجتمع يعتقد أنه أكثر قرباً من الطبيعة، وهذه بالضبط النزعة العرقية المركزية. أنظر في هذا الصدد:

Cf. Lahouari, A. (1996), "Colonial Mythologies: Algeria in the French Imagination", in Brown, L.C. and Gordon, M.S., Franco-Arab Encounters, American University of Beirut.

[30] Lévi-Strauss, C., Race et histoire, éditions Gonthier, p. 21.

[31] Gellner, E. (1985), Nations et nationalismes, Payot.

[32] Cf. Barth, F. (1995), « Les groupes ethniques et leurs frontières » in P. Poutignat et J. Steiff-Fenard, Théories de l’ethnicité, PUF.

[33] Durkheim, E. (1975), Textes. Fonctions sociales et institutions, volume 3, Les éditions de Minuit, p. 224.

[34] Keohane, R., Nye, J. (1971), (editors), Transnational Relations and World Politics, Harvard University Press.

[35] Cf. Sklair, L. (1991), Sociology of the Global System, Johns Hopkins University Press.

[36] توجد حالياً ترجمة لكتاب

Philippe B. (1977), Théories des relations internationales, PUF.

[37] Cf. De Swaan, A. (1998), « Sociologie de la société transnationale » in Revue de Synthèse, n° 1, Janvier-Mars.

[38] Cf. Martin, D., Metzger, J. et Pierre, P. (2003), Les métamorphoses du monde. Sociologie de la mondialisation, Seuil.

[39] Cf. Roberston, R. (1992), Globalization. Social Theory and Global Culture, Sage Publications.

[40] Cf. Roseneau, J. (1990), « Tubulence » in World Politics, « a Theory of Change and Continuity », Harvester Wheatsheaf,.

[41] حول هذا المؤلف أنظر :

Michel, G. (1994), « Turbulence » dans « la théorie politique internationale » ou Roseneau, J., l'inventeur, in Revue française de science politique.

[42] Cf. Addi, L. (2001), « Violence symbolique et statut du politique chez Pierre Bourdieu », in Revue Française de Science Politique, Décembre.

[43] Cf. Addi, L. (2002), Sociologie et anthropologie chez Pierre Bourdieu. Le paradigme kabyle et ses conséquences théoriques, La Découverte.

[44] المترجم: نسبة لمطاعم ماكدونالد الأمريكية.

[45] Cf. Ritzer, G. (1993), The McDonalization of Society. An Investigation into the Changing Character of Contemporary Social Life, Londres, Thousand Oaks, Sage/Fine Forge Press.

[46] Cf. Benjami, B. (1996), Djihad versus McWorld. Mondialisation et intégrisme contre la démocratie, Hachette Littérature.

 [47]حول هذه المسائل ذات الطابع الانطولوجي الذي يطرحه مفهوم المجتمع على الصعيد الدولي، انظر:

Cf. Thibault, J.F. (1998), « L’idée de société et l’étude des relations internationales » in L. Olivier, Bédard, G. et Thibaullt, J.F. (sous la direction de), Epistémologie de la science politique, Presses de l’Université du Québec.

[48]هذا النقاش بدأ مع

 de Alexander W. (1987), "The Agents-Structure Problem in International Theory", International Organization, n° 3.

[49] Smelser, N. (1995), Problematics of Sociology. The Georg Simmel Lectures, University of California Press, p. 76

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact