أنثروبولوجية المجال المسكون الجديد : رهانات عقارية ومجاليات الطبقات المتوسطة في مدينة وهران وضواحيها

أنثروبولوجية المجال المسكون الجديد : رهانات عقارية ومجاليات الطبقات المتوسطة في مدينة وهران وضواحيها

شهدت منطقة مدينة وهران وبلدياتها المجاورة مع نهاية القرن العشرين، انتشارا واسعا للبناء، يمكن لشخص يتمتع بحس الملاحظة أن يميزه بكل سهولة، بحيث يستطيع أن يتعرف من جهة على العمران القانوني ومن جهة أخرى على العمران غير القانوني القابل للتسوية الإدارية. وينفرد مجال التعاونيات العقارية داخل المدينة المنظمة والمواقع العمرانية الجديدة، بنوعية السكنات الفردية التي تتشكل غالبا من الطبقات المتوسطة والميسورة ومن مستوى التجهيزات المرافقة لها.

يعتبر استرجاع البلدية للأراضي القابلة للبناء في سنة 1974، بإنشاء الاحتياطات العقارية رهانا عقاريا قبل أن يكون رهانا متعلقا بالأملاك غير المنقولة، فالمسألة مرتبطة بنمط حيازة الأراضي من طرف الدولة بوصفها السلطة الممركزة والمخططة من جهة، وبالممارسات والفاعلين المحليين من جهة أخرى.

وبالرغم من وجود عمران منظم طرأت عليه بعض التغييرات بعد الاستقلال، إلا أن السباق نحو التعاونيات العقارية أحدث ضجة كبيرة، وهذا بالرغم من تعليمات الإدارة المركزية حيث تحول الفكر التعاوني لحساب المجال الفردي. فقد تساعدنا المقاربة الأنثروبولوجية أكثر من الجغرافيا الاجتماعية في الفهم الأحسن للأساليب التي من خلالها تمكنت كل من الطبقات المتوسطة والميسورة من التوفيق قصد إنتاج فضاء فردي جديد مسكون، بين التمنطق الحديث للإجراءات الإدارية والمعمارية و"التمنطق الآخر" والذي يجيب عن ثقافة هوياتية تبرز العادات والتقاليد المحلية.

1. التعاونيات العقارية: رهان عقاري للطبقات المتوسطة والميسورة

1.1. الرهان العقاري المُشكل من طرف الاحتياطات العقارية البلدية

شهدت سنة 1976 مرحلة هامة في تجسيد النصوص القانونية المتعلقة بالعمران الشرعي للجزائر المستقلة، وأكثر من هذا، كانت الحكومة قد أعلنت بوضوح عن سياسة السكن الواجب اعتمادها. وللمرة الأولى، اعترفت السلطة المركزية بصراحة أنها ليست قادرة على التكفل بتمويل وبناء السكنات، ودعت "كل المواطنين، والعمال وأرباب العائلات الذين يعيشون فرادى أو جماعيا ضمن التعاونيات... للمشاركة في بناء السكن الجديد..." كما نصت عليه المذكرة الحكومية المتعلقة بالسكن.

وقد لقيت النصوص التنظيمية المدعمة بالخطاب السياسي، لدى مجموعات النفوذ استجابة من أجل تجسيد سريع للقرار المتخذ على المستوى المركزي. ألحقت بشكل منطقي الاحتياطات العقارية بالبلدية، حيث يبدو هذا التنفيذ في الوقت نفسه على أنه أسلوب من أجل إشراك المواطنين في تمويل سكناتهم، وطريقة لإعادة توزيع غير مباشر لحصة من الموارد النفطية الوطنية قصد دعم الطبقات المتوسطة الشغيلة التي تعمل في المؤسسات العمومية والإدارية. وهنا تكمن الرهانات الحقيقية لانطلاق سوق عقاري مفتوح قادر بمكافئة المسيرين بشكل عام والمنتخبين المحليين خصوصا، الذين قاموا بإعداد القوائم الأولية المشكلة للتعاونيات العقارية الأولى من خلال الحصول في ثلاث بلديات من الضاحية الوهرانية موضوع الدراسة. و قد حصل هؤلاء على قطع أرضية واقعة داخل الأنسجة العمرانية والتي يمكن لها أن تغطي أكثر من 800م2 لكل وحدة أرضية. (ف. بوزادة، س. مسلم، 1990). إن منح الأراضي العقارية، ذات الموقع الجغرافي الجيد، يفسر بشكل كبير سبب حدوث العديد من الصراعات والمساومات الممكنة والتي يمكن تصورها أثناء جرد قائمة المشاركين في إنشاء التعاونية العقارية. ومن خلال هذه الرهانات العقارية والاقتصادية، يلاحظ بشكل إرادي كل ممارسات المحاباة والرشوة التي تم اكتشافها بعد عدة سنوات، من خلال سلسلة من الاعتقالات التي مسّت المنتخبين وموظفين في الإدارة المحلية.

2.1. طريقة الحصول على الملكية العقارية الخاصة بواسطة الإجراءات العقارية: دور التعاضديات المهنية المحلية.

لعبت كل من الشائعة لدى البعض والواقعية لدى البعض الآخر دورا مهما خلال انجاز القوائم المشكلة من 20 شخصا لكل تعاونية عقارية، إذ سمح كل من التجمع المهني والتعاضدي في بداية الأمر بإعداد هذه القوائم لدى الهيئات العمومية والإدارية مثل قطاع التأمينات، والمالية، والدرك الوطني، والجمارك، والري، والتعليم، والفلاحة، والجامعة، ومؤسسات البناء، ومستخدمي البلديات، والصحة...، وحتى لدى الجمعيات المهنية الخاصة المتمثلة في التجار، والصناعيين، والمهن الحرة، والمقاولين... وبعد فترة وجيزة، تحولت التسمية الأصلية للتعاونيات العقارية والتي أعدت وفق القواعد المهنية إلى تسمية مستوحاة من التاريخ الحديث للبلاد ومن النصوص الإيديولوجية والنشاطات الكبرى للتنمية الاقتصادية ومن المخزون الرمزي...

ونظرا لقربهم من مصادر المعلومات، تمكن مسيّرو القطاع العمومي والمقرّبون من السلطة من تجسيد الخطاب السياسي الذي يتطرق لمسألة "الاحتياجات الجديدة للسكان ولمتطلبات التطور الاجتماعي بهدف "التموقع" وإدراج ضمن القوائم التي يتم إعدادها، أسماء بعض أفراد العائلة الموسعة وبعض المعارف التي تعمل في قطاع اقتصادي خاص لا يتمتع بسمعة جيدة لدى السلطة المركزية.

وبالنسبة للجميع كان الدخول إلى سوق العقار من خلال التعاونيات العقارية مرحلة أولى نحو الحيازة الفردية للقطعة الأرضية التي تعتبر أكثر أهمية من المزايا المرتبطة بهذه العملية. لم يكن البناء الفردي في هذا السياق هو الأهم، بل العقد القانوني الذي يسمح بالحيازة، في زمن متوسط بجزء من الوعاء العقاري، ولو أن رغبة السلطة المركزية تمثلت في تشجيع بناء منازل فردية مبنية من طرف الطبقات المتوسطة وليس لفائدة الطبقات المتوسطة التابعة للقطاع العام ولا حتى القطاع الخاص (والمتمثل في الفاعلين في الحياة الاقتصادية والثقافية...) هذا القطاع الذي أصبح مقبولا أكثر فأكثر. بطبيعة الحال شهد "الطابع المهني لمجموع المستفيدين الذي عرف انطلاقة مميزة على وجود تناغم اجتماعي ترغب فيه الطبقات المتوسطة، وحتى الميسورة قصد الحصول على قطعة أرضية كثيرة الطلب والاستفادة من المزايا المتعددة والمسموح بها من طرف التنظيم العقاري" (بن جليد عابد).

3.1. الامتيازات الموفرة من طرف الدولة لفائدة العقاريين

وباعتبارها أمرا ثانويا، تعتبر الامتيازات الموفرة من طرف الدولة لفائدة الفاعلين المباشرين لهذا الفرع من الإنتاج الخاص بالبناء من المنظور الاقتصادي بالمعتبرة.

ومع الشروع في بناء السكن الفردي في إطار تعاوني، تحصل كل أعضاء التعاونية العقارية على الأولوية في شراء مواد البناء بأسعار مناسبة جدا لدى الوكالات المحلية للشركات الوطنية المكلفة بالتوزيع. وفي ظل خضوع السوق دوريا للندرة، يستفيد العقاري الحائز على بطاقة زبون من حصة لاقتناء مواد البناء مثل الاسمنت، والآجر، والحديد، والخشب، والبلاط، والمواد المتعلقة بالجانب الصحي... وبأسعار جد مدعمة من ميزانية الدولة.

و بالإضافة إلى ذلك، منح صندوق التوفير قروضا بفوائد مخفضة بنسبة 4٪ لفائدة المدخرين القادرين على تسديد الديون، بيد أن القرض يعتبر فرديا، يسدد على فترة تقدر بعشرين سنة، حيث عرف تطورا مستمرا: 240.000 دج في سنة 1978، و 320.000 دج في سنة 1982 و 450.000 دج في سنة 1986. أما بالنسبة للتركيبة المالية الخاصة بالعملية، فيبقى الأمر سرّيا. وحسب تصريحات العقاريين – الموظفين، كان القرض مع بداية الثمانينيات يغطي 40٪ إلى 50٪ من التكلفة الإجمالية للفيلا الواحدة ! وفي هذا السياق، يمكننا القول بدون أية مبالغة أن تعاونيات الجيل الجديد للفترة (1958-1977) استفادت بشكل كبير من انعكاسات إيرادات النفط التي تم إعادة توزيعها من طرف السلطة المركزية والتي تتمثل في تكلفة التنازل عن الأراضي، أسعار مواد البناء، الإعانات الجزئية الموجهة لتهيئة مختلف الشبكات، القرض البنكي المخفض... وهكذا، سمحت الدولة المانحة (Etat providentiel) لعدد كبير من الإطارات السامية والمتوسطة، ولعمال يشتغلون في القطاع العام من بناء سكناتهم الفردية، وهذا ما يشير إليه البحث الميداني الذي تمّ انجازه سنة 1990 والذي تشكل ,240 ٪ نسبة البنايات التعاونية التي استفادت من قرض من طرف الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط.

4.1. نحو تحقيق الامتزاج الاجتماعي المرغوب من الدولة : تجيب مجموعة من الفاعلين المحليين بواسطة فعل التمايز المجالي

حتى وإن حدد "الإطار القانوني لمنشآت التعاونيات العقارية الخاصة بالانجاز التي يشكل من خلالها البناء الفردي انطلاقة متميزة"، فإن الدولة أعادت تركيز اهتمامها على العملية من خلال التعليمة الحكومية المتعلقة بالسكن، وذلك من أجل محاولة تجنب احتكار العقار من طرف فئة الميسورين والأثرياء. وعليه، يتم البحث عن طريقة منصفة للمنحة العقارية التي تسمح للمستفيدين الحائزين على مداخيل زهيدة بإمكانية الاستفادة من التعاونيات العقارية. ولقد قامت السلطة المركزية بتوجيه تعليمات لفائدة الجماعات المحلية كان الهدف منها تحقيق امتزاج سوسيو-مهني بالنسبة للمستفيدين، وذلك بغرض تجنب أي شكل من أشكال التمييز الاجتماعي والتمايز الجغرافي. ويبدو أن هذا الإجراء يمثل أحد شروط الإعانة التي تمنحها الدولة لفائدة الجماعات المحلية في مجال تحويل الأراضي القابلة للبناء، وتكلفة التهيئة والمساعدة التقنية...

وقد تم تطبيق تعليمات الدولة بالرغم من تسجيل تجاوزات هنا وهناك خلال عملية التنفيذ. وعموما، أصبحت عملية تنقيح القوائم أكثر تنوعا من الناحية المهنية والاجتماعية، وينتج من خلال هذا المعطى الجديد مجموعة واسعة تتضمن فئات سوسيو-مهنية موسعة (جدول 1).

مكانة الفئات المهنية ضمن التعاونيات العقارية لمدينة وهران

وضواحيها المجاورة (بالقيمة النسبية بين 1977 و 1993)

الفئات

تجار وصناعيون

مهن حرة

إطارات سامية و متوسطة

موظفون

عمال

المعدل

وهران

34,2

3,3

29 ,5

23,7

9,3

100

السانية

15,5

4,1

33,3

42,9

4,1

100

بئر الجير

32,6

5,9

40,2

19,3

2,0

100

المصدر : بوزادة، مسلم، بن شهيدة

يبين هذا التصنيف الموزع على خمس مجموعات اجتماعية للمستفيدين من الأراضي التعاونية بوضوح كل الفئات التي تمكنت من الحصول بمختلف مستوياتها على ملكية عقارية بفضل رعاية الدولة، ولا يمكننا إغفال الجانب الايجابي لسياسة الرئيس هواري بومدين خلال فترة الاقتصاد الموجه بالنسبة للطبقات المتوسطة على ضوء الظاهرة التي تم ملاحظتها خلال الأربعينيات والخمسينيات في أمريكا الجنوبية حيث تحصل العديد من عمال الطبقة المتوسطة على الأراضي العقارية الحضرية والواقعة بالضواحي الحضرية. ويشكل الأعضاء المنتمين للقطاع العام والمستفيدين من أراضي عقارية في بلديات وهران، السانية وبئر الجير نسبة تتراوح من 61٪ إلى 80 ٪ .

ويمكننا الجزم أنه بفضل التعاونية العقارية أو التجزئة الأرضية العمومية، تحصل كل المنتخبين المحليين المتعاقبين على الملكية العقارية متى أتيحت لهم الفرصة، في وقت بدأت فيه الدولة تعجز على تمويل معظم البرامج الخاصة بالسكن المخطط، ما أدى إلى بروز ظاهرة الخصخصة في الوسط الحضري.

وعموما، تم إنشاء "حوالي 240 تعاونية عقارية ما بين 1993 و 1997 ضمن الإقليم المتروبوليتاني الذي تمركز في بلديات وهران، السانية وبئر الجير. وهذه البلدية الأخيرة هي التي يكثر فيها انتشار الأراضي العقارية كونها تحوي 3000 تجزئة تم إنشاؤها من طرف السلطات العمومية... وفي المجموع، تم إحصاء حوالي 5000 مسكن–فيلا منتشرة عبر هذه البلديات الثلاث على مساحة تقدر بـ 250 هكتار" (بن شهيدة، بن جليد، 1995). وتجدر الإشارة أنه من أصل 240 وحدة سكنية عقارية، تهيمن من خلالها ثلاث فئات سوسيو-مهنية فقط وهي كالتالي: العمال المتخصصون، التجار والصناعيون، الإطارات السامية والمتوسطة. وعلى الصعيد الجغرافي، تبرز هيمنة تفضيلية وكأن الأمر يتعلق بفئة اجتماعية قد فرضت واختارت عن قصد مكان إقامتها الجديد في كل إقليم بلدي كما هو الحال بالنسبة للتجار والصناعيين الذين فضلوا الإقامة بوهران، ذلك على عكس الإطارات السامية والمتوسطة التي استقرت ببلدية بئر الجير، أما بالنسبة للعمال المتخصصين فقد كانت وجهتهم المفضلة هي بلدية السانية.

وفي هذا السياق، يبقى هذا التخفيف الجغرافي منطقيا يتقاسمه العديد من العمال الذين يعترفون اليوم بأنهم كانوا محظوظين كثيرا لحصولهم على مساكن فردية من خلال التعاونيات العقارية، ما يجعل الحراك السكاني نحو الضاحية أمرا مفروغا منه. وتجدر الإشارة إلى أنه بين سنتي 1977 و1993، مس الحراك السكاني أكثر من 30.000 شخص ويرجع سبب ذلك إلى تمركز هذه التعاونيات العقارية. و يبرز هنا بلا شك معطى هام مرتبط بالتمايز المجالي للفضاء السكاني الحالي بمنطقة وهران.

2. إنزياح الروح التعاونية : منطق الفاعلين وممارساتهم

1.2. التعليمات المركزية وممارسات المنتخبين المحليين

خلقت تعليمات الإدارة المركزية أثرا حيث غيّرت معظم المؤسسات العقارية تسمياتها إذ أصبحت تتمتع بطابع مهني وملزمة بإدماج بعض أرباب العائلات ضمن تعدادها، ولكن سلطة القرار الذي تمنحه النصوص القانونية لفائدة المنتخبين المحليين تبقى واسعة بالنسبة لمجال العقار قصد السماح لكل مكتب يقوم بتسيير تعاونية أن يعارض بشكل مباشر قرارات المجالس المنتخبة. وهكذا، سيؤدي كل خلاف إلى رفض منح قطع أرضية عقارية من طرف المجلس الشعبي البلدي الواقعة ضمن إقليمه الإداري، ما يعني أننا لا نجد للتعاونية العقارية أثرا إلا من خلال الوثائق الإدارية. 

ويعتمد المنتخبون على استراتيجية واسعة تهدف إلى إصلاح بشكل سري دائرة العائلات الموسعة من خلال إدراج أشخاص عاملين من الرقعة الجغرافية نفسها، ومن الأفضل فئات ذات الدخل الضعيف في قوائم التعاونيات، وتسجيل بعض المستفيدين من أصحاب المعارف بالإضافة إلى أشخاص قام مسؤولون فاعلون في مختلف مراكز القرار بالتوصية لهم. وتشكل عملية اكتساح الأراضي العقارية التابعة لأملاك الدولة لفائدة الحيازة الفردية مسألة ملفتة للانتباه، تسمح من جهة ببروز الروح القديمة " للدوار" مقابل عقلية "البايلك"، ومن جهة أخرى، ترافق ظهور مرحلة سياسية أصبحت أكثر اهتماما بتلبية الرغبات الاجتماعية التي ما فتئت تطالب به الطبقات الاجتماعية المتوسطة المتطلعة إلى حياة أفضل، مع العلم أن الدولة خفضت وبشكل كبير الغلاف المالي المخصص للسكن من ميزانيتها.

وبالرغم من تعليمات السلطة المركزية، يبرز منح الأرضية العقارية من خلال تجلي مسألة التطبع التي ظهرت بقوة بعد غياب طويل لممارستها بسبب الدور الإستباقي من أجل التوحيد ونتيجة للرغبة في تجسيد العدالة الاجتماعية العقارية التي كانت تبحث عنها الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، ما يبين تواجد عدة مجموعات اجتماعية في الأرضية العقارية المنحدرة من مختلف الأوساط الجغرافية للتعاونية العقارية ذاتها. وبالمقابل، فإن هذه الظاهرة ليست حكرا على الجزائر، حيث نجدها تمارس في الكثير من بلدان العالم، وخصوصا إذا سلمنا بالعبارة المعروفة والمتمثلة في أن العمران يعيد قبل كل شيء إنشاء "القرية داخل المدينة".

2.2. مظاهر إستراتيجيات الفاعلين المتعلقة بالإلتفاف على الروح التعاونية

و دون الخوض في أغوار مسألة تأسيس وتنظيم التعاونية العقارية، أصبح من الضروري الإشارة إلى أن أي ملف يتكون من وثائق تقنية متعلقة بمشروع عقاري يتم بالضرورة تقديمه إلى البلدية من أجل الموافقة. وتعتبر هذه الخطوة أساسية من أجل تخصيص أرضية للبناء، ما ينجرّ عنه بداية إجراءات تحويل القطعة الأرضية من الأملاك العمومية إلى البلدية، حيث تتم كل العمليات بصفة جماعية. ويتم إصدار قرار التنازل على الأرض ورخصة البناء بشكل جماعي وليس فردي، بما أن المخطط الهندسي هو نفسه بالنسبة لجميع المستفيدين. وبالرغم من وجود القوانين التنظيمية، ما زال هناك غياب للتنسيق بين البلدية ومديرية التعمير للولاية أثناء إصدار رخص البناء. وعليه، تمكن العديد من المستفيدين من الحصول وبكل سهولة على رخص بناء فردية، والأخطر من هذا، نجد المنتخبين والإطارات السامية في الدولة، بالإضافة إلى الموظفين الساميين في الإدارات العمومية بوصفهم مسؤولين مكلفين نظريا بتطبيق القانون سببا في ظهور مثل هذا.

ويظهر الشكل الثاني من الالتفاف عن الروح التعاونية أقل حدّة، حيث يتم اللجوء إلى القرض وفق توفير كل شخص ويعتبر الملف المقدم شخصيا للغاية. وتبقى الأمور على حالها، لأن هذه المرحلة تبرز القطيعة بين الممارسات الإجرائية الجماعية المنتظرة من طرف جميع المستفيدين العقاريين والنشاط الفردي الذي يتوج من خلال التوقيع على عقد القرض بين طالبه وصندوق التوفير. على الرغم من وجود بعض الوحدات العقارية، تشكل عملية انجاز البناء القطيعة الثانية ضمن المسار النظري للعملية، كون العقاري يوظف بنفسه مقاولا صغيرا أو بناء قصد تحقيق المشروع. وتجب الإشارة أيضا للمشاكل المتعلقة بالبناء الجماعي التي طفت على السطح فور الانطلاق في انجاز التعاونيات العقارية الأولى كما كان الحال في بلدية السانيا سنة 1977 (غ. بلحيارة، 1990).

وواجهت كل مظاهر الانزياح للنصوص القانونية واقع الميدان الاقتصادي والتنظيمي والممارسات الاجتماعية. وبطبيعة الحال، يمكن لهذه الأخيرة أن تفسر بشكل كبير وفي الوقت نفسه، درجة تقدم الأشغال بالورشات والتنوع المورفولوجي لبناء التعاونيات العقارية ووزن العادات المجتمعاتية من خلال أنماط العيش في المجال.

3. تكييف مجال السكن الفردي: التفاعل بين العقلانية الحديثة والمنطق الهوياتي

يتعلق الأمر في هذا المقام بتحليل من خلال طرق معينة الطبقات المتوسطة والميسورة منها التي تقيم في السكن الجديد، وتحاول تكييفه في الوقت نفسه مع العقلانية المفروضة من قبل نمط للعيش الحضري وبالمنطق الثاني المرتبط بالأحرى بالتصرفات السوسيولوجية التقليدية.

1.3. أنماط شغل الأراضي السكنية الفردية من طرف الطبقات المتوسطة

يجب أن يكون المخطط الهندسي للسكن الفردي مطابقا (من الناحية المبدئية) للمخطط الأصلي المسلم من طرف المصالح الولائية للتعمير، وينطبق هذا الأمر أيضا على وضعية البناء وفق مخطط المساحة الذي يحدد رقعة المجال المسكون في الأرض مع مراعاة المقاييس النظرية المنظمة لذلك. ولكن وفي كثير من الحالات، يتم تجاوز هذه المساحة بسبب إضافة غير متوقعة لقطعة أرضية أو أكثر، لقبو أو لمرأب، لصونا أو لحمام صغيرين... و ستتضاعف بطبيعة الحال، الحاجة لمجال مسكون من خلال تقلص المساحة المخصصة للحديقة وذلك على حساب الساحة المبنية من الاسمنت التي تتحول بدورها إلى "حوش" تقليدي ومجال شخصي ضروري لكل مسكن ريفي أو حضري موجود في المجال المغاربي.

وباعتباره جزء لا يتجزأ من المجال المتواضع، يستعمل هذا "الحوش" بطريقة تقليدية في الحياة اليومية من طرف النساء اللواتي يبدين تلقائيا رأيهن حول المساحة المراد استغلالها من خلال المطالبة بغرس أشجار العنب المتسلقة عبر الجدران... وتعتبر هذه الطريقة نمطا متوسطيا في العيش وفي الاحتماء من أشعة الشمس المحرقة في أيام الحر الشديد. ويوفق هذا النمط لشغل الأراضي المتفاوض حوله في الوقت نفسه بين الشكل الحديث للفيلا والنمط التقليدي" للحوش" العادي والمتمثل في مسكن به فناء. 

2.3. المظاهر الخارجية للسكن الفردي ضمن التعاونيات العقارية : صور لتراجع هندسي وثقافي

ستكون في النهاية التعاونية العقارية التي ترغب في الحصول على مخطط نموذجي أو أكثر لانجاز فيلا ، كما تنص على ذلك النصوص القانونية أمام تواجد لأشكال خارجية وهندسية متنوعة. وعلى العموم، تبدو الفيلات المبنية ضخمة بسبب الاستعمال المكثف للاسمنت، مما يعكس التبذير الهائل لمواد البناء التي تم تدعيمها خلال سنوات السبعينيات والثمانينات، من خلال اعتماد الأنظمة السياسية المتعاقبة إستراتيجية إعادة توزيع الثروة النفطية.

لقد سبّب مشكل آخر ضررا بمهنة المهندسين المعماريين حيث تم منح الاعتماد من طرف الوزارة لتقنيين تم إدماجهم بغير حق في صنف المهندسين، وذلك بهدف السماح لهم بفتح مكاتب للدراسات في الهندسة المعمارية. و علاوة على ذلك، أصبح المهندسون والمدمجون المكلفين بإعداد مخططات السكن الفردي أكثر "تقنيين"، كونهم اغفلوا نمط العيش وهوية الساكن الجزائري. هذا بالإضافة إلى أنه لم يتم تصميم العدد الكافي من المخططات الهندسية الخاصة بالمساكن الحضرية العادية لفائدة العقاريين، مع العلم أن هذه المساكن الفردية تتمتع بالنمط الأندلسي حيث لقبت بـ "الدار" كونها واسعة الانتشار في المدن شبه الكولونيالية التي تتكيف مع المناخ والهوية المحلية. ويبين هذا الأمر بلا شك النقائص المسجلة خلال التكوين الذي خصص لفائدة المهندسين في شقه النظري والمتعلق بعلاقات السكن مع الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية وبدرجة ثانية مع تحليل الأوساط المرتبطة بالجغرافيا والبيئة في البلدان المغاربية. وبالتأكيد، يبقى تكوين المهندسين المعماريين في الجامعات الجزائرية مفتوحا على النموذج الغربي ولكن هذا لا يعني بالضرورة إغفال النمط الهندسي المغاربي. ونجد في جميع أنحاء العالم خضوع البيت المسكون بالضرورة لمعايير ثقافية متعلقة بالمجتمع وبعوامل مرتبطة بالمناخ المحلي وبالإرث الهندسي. ويشكل هذا الأمر إصلاحا عميقا سيتم تجسيده سريعا بالجزائر من جهة في ميدان التكوين الجامعي للمهندسين المعماريين، ومن جهة أخرى في مجال الإستراتيجية الواجب اعتمادها من طرف المسؤولين المركزيين والمحليين المكلفين بتسيير شؤون المدن. ويظهر تدهور الهندسة المعمارية اليوم من خلال تنوع شديد لأساليب تفتقر لطابع معين يمكن ملاحظتها في المناطق الحضرية والريفية. وبلا شك، يدل هذا الأمر على تراجع ثقافي يتعين تداركه في أسرع وقت ممكن من طرف السلطات العمومية وإتحاد المهندسين المعماريين والجمعيات الثقافية.

وفي غالب الأحيان، يبقى المظهر الخارجي للبنايات الخاصة بالتعاونيات العقارية لمدينة وهران وضاحيتها القريبة في تناقض مع تقاليد المجتمع والإمكانيات المادية للمقيمين والعوامل المتعلقة بالمناخ المحلي متمثلة في عدد لا يحصى ولا يعد من النوافذ ذات الحجم المتوسط والكبير، فتحات زجاجية واسعة، سلسلة من الأبواب المزودة بنوافذ...، إذ يعتبر هذا الشأن مدهشا خصوصا إذا تعلق الأمر بطبقات متوسطة لا تفتقد لرؤية سليمة.

بالإضافة إلى ما سبق، يمكن ملاحظة تواجد الشرفات غير المستعملة في كل مكان، الأسطح، الفيراندات المهملة، النوافذ والأبواب المزودة بنوافذ مغلقة باستمرار. مع العلم أن فصل الشتاء البارد لا يتعدى الثلاثة أشهر في السنة.

وفي كثير من الأحيان، يُنظر إلى الفيلات بوصفها رمزا للنجاح الاجتماعي في المجتمع حيث يمثل المظهر حاليا معطى لا مناص منه. وفي الواقع، يشكل السكن الفردي في المجتمع الذي يعيش أزمة مؤشرا للترقية الاجتماعية بالنسبة لأولئك الذين نسميهم باللغة الشعبية "الوصوليين"...غير أنه في جميع المجالات المبنية الجديدة أو في طور البناء، كانوا أغنياء أو فقراء، يحس السكان على حد سواء بجو من اللاأمن من خلال الاستعمال المفرط للقضبان الحديدية الخاصة بالأبواب والنوافذ التي تشوه السكنات الفردية كما يظهر مثلا من خلال التّعلية المفرطة والمتتالية لجدران السكنات. ويمكن فهم هذه الإرادة في حماية الأملاك العقارية من أجل المحافظة على الفضاء الداخلي من النظرات الخارجية تجاه المرأة.

3.3. التهيئة الداخلية للمجال المسكون : نحو راحة تستجيب لممارسات مجتمعاتية قديمة و راهنة.

قبل الشروع في التهيئة الداخلية لأي بناية، يهدف دفتر الشروط الخاص بجميع التعاونيات العقارية إلى تحقيق تناغم هندسي خارجي للإقامات السكنية يكون مطابقا لمخطط المساحة المصمم لهذه الغاية. وتعتبر هذه العملية شكلا من أشكال التناسق المورفولوجي للسكن العقاري الجديد الذي يجب أن يندمج تدريجيا ضمن المشهد الحضري. وفي المرحلة الثانية من العملية، تم منح لكل شخص حرية التهيئة الداخلية للمجال القابل للسكن، ويمثل هذا الإجراء مبدأ يتقاسمه المستفيدون من التعاونيات العقارية العديدة وذلك قصد تجاوز مرحلة متناقضة ناتجة عن التطبيق القانوني للتعمير والترتيب الداخلي للمجال المسكون حسب المتطلبات العائلية لكل فرد.

وحسب رأي بعض المقيمين والمنتمين إلى الطبقات المتوسطة، يتم تكييف السكن الداخلي للبيت الجديد المصمم وفق الماضي السكني للعقاري، أي حسب امتزاجه بالسكن السابق، وأيضا حسب صعوبة التعايش داخل السكن المشترك، ما يفسر بلا شك إعادة تشكيل "الحوش" (فناء) التقليدي داخل الفيلا الجديدة، بوصفه تمثلا هوياتيا لإقليم ينظر إليه في الوقت نفسه، على أنه استمرارية للمجال المسكون ومكان وظيفي معاش في ظل وجود التفاهم العائلي. وحسب جميع الأشخاص الذين تم سبر آرائهم، كان الأمر بالنسبة لهم فرصة للراحة ولنسيان الجو السيئ للحياة في العمارات حيث مكنت عمليات إنشاء وتصليح الهوائيات المقعرة والحراسة الليلية للسيارات من تحقيق نوع من التعايش في معظم السكنات العمومية الجماعية، أو في العمارات فقط. ويمكن تشبيه هذا النوع من الراحة بـ "الحرية المسترجعة" بما أنه يستحيل على عائلة أجنبية ما الإقامة في الطابق العلوي..." كما يشير إليه وبصريح العبارة إطار سامي. 

وعلى صعيد آخر، يستجيب التعدد العشوائي للمساكن لمسألة أنثروبولوجية، اجتماعية وثقافية تخص كل مجالات النسيج الحضري في الجزائر. وعليه، ومن خلال تحقيق ميداني جماعي أجري في مدينة ندرومة الصغيرة (ع. بن جليد، أ. برونان، سردون، 1987)، وللإجابة عن تساؤل يتضمن الحوافز التي تشجع على بناء فيلا متكونة من تسعة غرف مخصصة لعائلة لا تتعدى خمسة أشخاص، يتحدث صاحب بناية خاصة مبرزا أن "تكلفة غرفة واحدة أو أكثر لا تمثل بالنسبة لي شيئا، لأن الأهم هو توفير القدر الكافي من الغرف بسبب احتمال رجوع أحد الأبناء إلى البلدة أو في حالة زواج الآخر..." واستمر في حديثه مشيرا إلى أن الدولة كانت عاجزة على حل مسألة السكن بالرغم من كل الخطابات الوزارية... 

إن غياب الثقة في الدولة المخططة والموزعة، يفسر وبشكل كبير هذه الممارسة الوطنية التي تتمثل في تخزين كل شيء بما في ذلك السكنات وحتى الشقق الموجودة داخل الفيلات، ويبرز هذا الأمر جليا من خلال بناء سكنات من صنفي 13 أو 15 غرفة، إذ توصف هذه الممارسة بالمنطق المقبول لدى عقلية الساكنة المحلية. إن هذا التخزين للغرف له بطبيعة الحال أثر مباشر على التنوع المورفولوجي للبناية العقارية التي انتقلت من فكرة "الحوش" البسيط على غرار ما تم بناؤه في بعض الوحدات العقارية بالسانية إلى الفيلا العادية، مرورا بالفيلا-عمارة... ولقد أجري تحقيق ميداني على مستوى 14 تعاونية عقارية واقعة ببلدية السانية حيث تم تسجيل معدل شغل لكل سكن (يقدر بـ 5,07 أفراد لكل سكن واحد، وتعتبر هذه النسبة ضعيفة نسبيا مقارنة بنسبة مدينة وهران التي سجلت 6,9 فردا لكل غرفة سنة 1992. سيخفض التحفيف الحالي والذي تكثف من خلال سلسلة بناء الغرف التي هي في طور الانتظار، معدل شغل لكل غرفة إلى نسبة أقل من1,5 فرد للغرفة الواحدة داخل التعاونيات العقارية لوهران وضاحيتها المجاورة موضوع الدراسة.

وبالرغم من المستوى الاجتماعي والتربوي للمتعاونين المنتمين إلى طبقات متوسطة وميسورة، يبقى فعل تأسيس أي بناء فردي (ع. لقجع، 1997) مرتبطا بسلسلة من الأفعال الرمزية حيث تمتزج من خلالها العادات، الطقوس والمعتقدات التي تعود إلى الماضي البعيد. في نهاية الأمر، المجتمع هو الذي يقترح ويفرض عاداته حيث مازالت فكرة المحافظة على ساكني البيت الجديد من العين الشريرة والجن قائمة مع نهاية القرن العشرين مهما كانت الفئة الاجتماعية والمهنية للمتعاون العقاري. ومن جهة أخرى، وحتى وإن نسي العقاري هذه الممارسة أثناء الانطلاق في الأشغال، فإن البنائين والعاملين المنحدرين من المناطق الريفية بجبال الونشريس، بوسلام، الظهرة، فرجيوة، مجردة، ترارة، بني شقران، الضاية... يذكرون كل مخالف بالتقاليد ويطلبون منه إقامة أضحية الكبش التقليدية بهدف حماية ساكني البيت. وتتجلى هذه الممارسات تدريجيا لفائدة العمال أثناء انطلاق الأشغال ومع نهايتها لفائدة العائلة الموسعة، إذ تعتبر نوعا من المصالحة بين بعضهم بعض، الهدف منها إقامة روابط للتضامن الأسري التي تلاشت نوعا ما مع الزمن. وبدون أن نركز على الممارسات الأخرى المرتبطة بالمجال المسكون المبني حديثا، يمكننا الإشارة إلى أن العادات والطقوس تعود تدريجيا في بلد حيث تواكب فيه تقاليد المجتمع الريفي شيئا فشيئا مجتمع المدن. ومن منظور آخر، تجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسات استعادت نشاطها منذ أحداث أكتوبر 1988، تزامنا مع إطلاق التعددية الحزبية سنة 1989 ومع التراجع التدريجي للدولة.

وعلى الصعيد الوظيفي، يعتبر الاستعمال الداخلي للمجال المسكون المزود بعناصر الرفاهية تكييفا للشكل الهندسي للبيت، وهذا بفضل مجموعة من التفاعلات بين الحداثة والنموذج الثقافي التقليدي الحاضر دوما. وهكذا، يستجيب المطبخ في معظم التعاونيات العقارية، لوظيفة أساسية داخل الحياة العائلية، حيث يتكون في غالب الأحيان من غرفة صغيرة مجهزة بـ "سدارية" وهي نوع من الأريكة ذات وظائف متعددة حيث يمكن الجلوس والاسترخاء والنوم عليها. وتشكل هذه الغرفة أيضا فضاء يمكن النساء والأطفال من التجمع فيه خصوصا مع وجود جهاز التلفزيون، ما يجعل هذه الحجرة تتحول إلى قاعة للاستراحة تستعملها النساء لمتابعة المسلسلات المصرية وهنّ ملازمات في الوقت نفسه للمطبخ. ويتكون المسكن الفردي الخاص بالطبقات المتوسطة والميسورة من قاعتين للاستراحة على الأقل.

يعتبر الصالون المغاربي الواسع كعادته والموسوم بالصالون المغربي مجهزا بـ "السداريات" والأغطية والوسادات، وهي تشكل في الوقت نفسه قاعة لاستقبال الزوار ومكانا للإقامة خاص بالمدعوين خلال الاحتفال بمختلف المناسبات العائلية مثل الزواج، الميلاد والوفاة... هذا الصالون المغربي مزود بخزانة الصفرة و/أو خزانة زجاجية التي تستعمل لغرض عرض الأواني الفاخرة التي يتم الاحتفاظ بها بعناية من طرف النساء قصد استعمالها على شرف المدعوين المميزين. ويشكل هذا الأمر بلا شك نوعا من الهوس الظريف لدى الجزائريين، إذ تشمل هذه الممارسة كل الطبقات الاجتماعية القاطنة في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. وتتكون قاعة الاستراحة الثانية المجهزة على الطريقة الغربية من أريكات وكراسي مريحة وجهاز تلفزيون ومانيوطوسكوب وجهاز سمعي ذي تقنية عالية وهاتف، بينما يبقى الصالون المغربي مغلقا لأنه يخصص عادة للمدعوين، على العكس غرفة الجلوس الغربية التي تستعمل دوما من طرف العائلات.

وعلى كل حال، يتعلق الأمر بأن تمنح كل أسرة صورة للنجاح الاجتماعي بالنسبة للمدعوين وللأقارب، ولكن يجب الإشارة إلى أن استقبال المدعو قد يكون في إحدى غرف الاستراحة، وهذا التمييز يتمّ بطبيعة الحال وفق النوعية الاجتماعية والجغرافية والثقافية للزائر.

تقع الفضاءات الخاصة مثل غرفة النوم وغرف الأطفال...في الطابق العلوي، حيث يوجد فاصل مقصود بالغرفة التي يُستقبل فيها المدعوون. وباعتباره حدثا اجتماعيا جديدا، تتكون الفيلات الضخمة والمبنية من طرف الفئات الميسورة وحتى المتوسطة منها من غرفة خاصة موجهة لتخزين المواد الغذائية مثل الدقيق، والفرينة، والزيت، والقهوة والسكر... ومواد التنظيف مثل مواد الغسيل والصابون...والأجهزة الإلكترومنزلية مثل آلة الطبخ، الثلاجة، آلة الغسيل وجهاز التلفزيون. ويبدو في هذا المقام أن هذه العقلية توارثتها العائلات الكبيرة وأعيان الوسط الريفي، حيث تمثل في الوقت نفسه ممارسة وطنية حديثة تطورت بشكل كبير خلال سنوات الندرة الغذائية التي شهدت الاحتكار التجاري للدولة الذي أثبت عجزا كبيرا في التوزيع.

4.3. السكن الفردي، عامل لإعادة تكوين الأسرة الأصلية

وباستثناء بعض العائلات النووية للإطارات السامية والمتوسطة العاملة في القطاع العمومي، يمكن تفسير انجاز فيلات ضخمة ضمن التعاونيات العقارية لوهران على أنها إعادة لتشكيل "العائلة" بسبب الحجم الكبير الذي اتخذته أزمة السكن في الجزائر.

يقرر رب العائلة المتنبئ للأشياء لتمويل الفيلا-عمارة التي تتكون من عدة شقق حيث نشهد في نهاية الأمر إعادة تكوين للأسرة الأصلية التي يعيد رب العائلة تشكيلها بواسطة سلطته في اتخاذ القرار. وعليه، تسمح عملية تهيئة سلسلة من الشقق داخل "الفيلا" للعديد من الأجيال بالإقامة فيها، حيث تشغل كل عائلة شقة معينة. ولكن، نحن أمام نموذج ثقافي في التصرف الذي يسمح تقريبا لكل أسرة العيش بكل استقلالية، والتي يُنظر إليها من طرف الآخرين على أنها حياة عائلية حقيقية. في الواقع، يمكن لكل المتغيرات أن تكون موجودة ضمن هذا النوع من السكن ومن الممكن تقويم أهمية هذه الظاهرة الاجتماعية من خلال إجراء بحث ميداني جواري محدد فقط، لأننا نشهد في النهاية تحولا في الميول منذ 12 سنة. وبعد الالتزام الإرادي للدولة لفائدة ترقية الأسرة النووية من خلال سياسة الاستثمار المخطط، تساهم بشكل كبير ظاهرة تفاقم أزمة السكن التي يصعب تحليل أسبابها في إعادة تكوين العائلات الأصلية حيث تواجه العائلات الشابة مشاكل كبيرة قصد إيجاد سكن إيجاري في المدينة أو حتى بالضاحية.

الخلاصة

تسجل اليوم بالتأكيد التعاونيات العقارية بصمتها في المجال المتروبوليتاني لمنطقة وهران، ويبدو مجال التعمير الجديد منتوجا لقرار سياسي مركزي، إلا أنه تم تطبيقه بطريقة مختلفة من طرف المجالس المنتخبة المتعاقبة على البلديات الثلاث التي مستها الدراسة. وعلى الرغم من التعليمات الصادرة عن السلطة المركزية التي كانت تبحث على تحقيق التوازن الاجتماعي والإقليمي، فقد أرادت السلطات المحلية المعيّنة والمنتخبة أن تجعل من تعاونيات الجيل الأول (1977-1985) رهانا كبيرا لفائدة الطبقات المتوسطة والميسورة، وذلك بفضل توفر الاحتياطات العقارية البلدية في بلد كانت الحيازة العقارية في سنة 1974 شبه مستحيلة بسبب تبعية الاقتصاد الجزائري للقطاع العام. ومن جهة أخرى، يجب القول أن استصدار النصوص التنظيمية المتعلقة بالتعمير في العديد من دول العالم الثالث لم تمنع السلطات المحلية من الاستحواذ على الاحتياطات العقارية، من خلال إقامة شبكات مبنية على العلاقة والمعرفة، وذلك بعلم الإدارة المركزية إلى حد ما.

أما بالنسبة لحالة منطقة وهران، يعتبر تجاوز كل المراحل المتعلقة بالإجراءات الإدارية التي وضعتها الدولة واقعا لا يمكن القضاء عليه، حيث أن الإرث الهوياتي المتجدر عبر التاريخ تم إعادة إحيائه من طرف التعاونيين الذين حاولوا التوفيق في الوقت نفسه بين النصوص التنظيمية وعاداتهم الشخصية ومستواهم الثقافي ومتطلباتهم الاجتماعية الراهنة. ومن منظور آخر، يقوم المجتمع دوما في النهاية بفرض قيمه وعاداته التي تبقى على الرغم من كل شيء متأثرة بالعالم الريفي (أنماط شغل الأرض الخاص بالسكن الفردي والمظاهر الخارجية للبناية والتهيئة الداخلية للمجال المسكون الموروثة من عدة طقوس مرتبطة بإنشاء سكن جديد وإعادة تكوين الأسرة الأصلية...)، المطبق من طرف الفاعلين، حيث تشكل هذه الالتفافات المتعددة من تجاوزات وقطيعات تحوت في العلاقات الموجودة بين إعادة تكوين الأسرة بالمعنى الصحيح للكلمة وبين الأزمة الاقتصادية والسياسية التي شهدتها البلاد منذ منتصف الثمانينيات وبين ضعف مؤسسات الدولة.

ومن خلال الفضاء المتروبوليتاني لمنطقة وهران، تطبع التعاونيات العقارية للجيل الأول (1977-1985) المسكونة من طرف الطبقات المتوسطة والميسورة منها المجال بصفة دائمة، حيث أنها تتميز بجمالية هندسية من طراز حضري. وضمن هذه المجمعات العقارية يمكننا اليوم ملاحظة وجود تمايز في المورفولوجيا الحضرية بين مساكن الفئات الاجتماعية الميسورة التي تواصل توسعة بناياتها من خلال تحسين جماليتها وصورة بناية الطبقات المتوسطة الأجيرة. و كانت هذه الفئات الاجتماعية قد استفادت من عائدات الريع النفطي، ولكنها تواجه أيضا مع بداية التسعينيات مشاكل كبيرة قصد الانتهاء من الأشغال أو تهيئة منازلها بسبب الارتفاع السريع للتضخم. ويبدو اليوم، هذا التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين المستفيدين من التعاونيات والمنحدرين من المهن الحرة والمستقلة ومن الطبقات المتوسطة العاملة في القطاع العمومي، ميدانا مهما للبحث والتحري في مجال أنثروبولوجية المجال والتهيئة الحضرية. ويبقى هذا التمايز ينظر إليه بشكل سيئ من طرف السكان ذوي الدخل الضعيف الذي يشبهون الطبقات المتوسطة الموظفة بطبقة "الأثرياء" وحتى، وإن كانت هذه الأخيرة بدأت تعرف الفقر مع سنة 1997.

وعلى صعيد تهيئة المجال المتروبوليتاني، يمكن أن تصبح مناطق السكن التعاوني الموجودة في كثير من الأحيان بمواقع شاغرة داخل البلديات التي تعاني مشاكل مالية كبيرة، تجمعات سكنية تشكل الضاحية المجاورة لمنطقة وهران، على أمل أن يهتم أصحاب القرار بجدية بمسألة القانون وتهيئة الإقليم المتروبوليتاني.

بيبليوغرافيا

BELHAYARA G.,1990 : Les coopératives immobilières à Es-Sénia (wilaya d’Oran), D.E.S., géographie, 74 p., université d’Oran.

BELGUIDOUM S.- MILLET D., 1987 : Détournements et retournement des modèles urbains architecturaux à Sétif (Algérie). In « politiques et pratiques urbaines dans les pays en voie de développement » ; Harmattan, Paris.

BENCHEHIDA D.- BENDJLID A., 1995: Les mécanismes de la production du bati dans la wilaya d’Oran

BENDJLID A. : Implantations de coopératives immobilières sur les terres agricoles péri-urbaines et logiques d’acteurs dans la commune d’Es-Sénia (wilaya d’Oran), 12p., à paraître.

BENDJLID A.- PRENANT A.- SERDOUN A., 1987 : Nédroma 1983 : exurbanisation et desserrement d’une petit ville ancienne longtemps marginalisée. In « Nédroma 1954-1984 », p.p.103-202, CRIDSSH, université d’Oran, O.P.U., Oran.

BOUTEFNOUCHET M., s.d. : Système social et changement social en Algérie, 167p ; O.P.U., Alger.

BOUZADA.F.- MOUSLIM S., 1991: Analyse de l’espace urbain et péri-urbain de la ville d’Oran ; le cas des coopératives immobilières-Mémoire, ingénieur, géographie, 103p., université d4oran.

DEPAULE J.C., 1994 : Anthropologie de l’espace, in « le courrier du CNRS », n°81, Paris.

GUERROUDJ Z. ? 1987 : Pratique des nouveaux logements des habitants des bidonvilles d’Alger. In « Politique et pratiques urbaines dans les pays en voie de développement » Harmattan, Paris.

LAKJAA A., 1997 : Conflits de rationalités en espace urbain : l’habitat spontané à Oran.- In « Aménageurs et aménagés en Algérie ». fasc. Recherche, URBAMA, université de Tours.

Ordonnance 74-26 du 20 Février 1974 portant constitution des Réserves foncières au profit des communs. J.O., Alger. 1974.

Ordonnance 76-92 du 23 Octobre 1976 relative à l’Organisation de la coopérative immobilière, J.O ., Alger 1976



ترجمة :

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact