إنشاء "المدينة الجديدة"، وهران (1845) : نموﺫج عن السياسة الاستعمارية للتجمعات الحضرية

إنشاء "المدينة الجديدة"، وهران (1845) : نموﺫج عن السياسة الاستعمارية للتجمعات الحضرية

إن سياسة التجمعات السكنية التي عرفتها الجزائر إبان ثورة التحرير الوطني ليست في الواقع بالسياسة الجديدة، إذ سبق وأن طبقت في السنوات الأولى للاحتلال و في فترة كانت الثورة قد بلغت فيها أوجها.

كانت هذه السياسة التي أرسى معالمها الجنرال "بيجو" (Bugeaud) تهدف بشكل أساسي إلى تجميع القبائل المحتشدة أسفل جدار المدينة و على حواف المخيمات العسكرية لحمايتهم من الضربات الانتقامية للأمير عبد القادر. مع هذا، فإن ما لم يكن في البداية سوى تجميعا سكانيا مؤقتا، تطور عند "بيجو" ليتحول إلى فكرة إنشاء قرى أهلية مكافأةً منه للدواوير و الزمالة على الخدمات التي قدموها للقوات الفرنسية و أمر، من ثمة، سنة 1837 ببناء أولى القرى العربية المحصنة "بالمالح" لفائدة هؤلاء الذين تعاونوا معه، ليخطو بذلك أول خطوة في مشروعه الهادف إلى استعمار البلاد العربية

1. سياسية بناء "القرى الأهلية"

لقد استلهم الجنرال "لاموريسيار"Lamoricière) ) عن سياسة بناء القرى الأهلية، فكرة بناء أول قرية أهلية بوهران سنة 1845 التي لقبت في البداية "بالمدينة الجديدة "، ثم اشتهرت فيها بعد باسم "القرية الزنجية".

وبدوره استلهم العقيد "والسين ايسترازي"[1] (Walsin Esterhazy) نائب المدير المكلف بالشؤون العربية في وهران عن الجنرال "لاموريسيار" الفكرة نفسها، ليقوم بإنشاء قرية أهلية أخرى بوهران، كما أنه قام بتصور مشروع لبناء قرى مماثلة في سهول وهران موجهة للقبائل التي كانت تحت سلطة إدارته و بالأخص الدواوير و الزمالة، و بالنسبة له كان لا بد للبيوت التي ستبنى أن "تتضمن بنايتين تفوق غيرها من البنايات علوًا و ذات طابع شرقي: منزل شيخ الدوار في وسط أحد الجوانب و المسجد في وسط الجانب المقابل، كما كان يفترض بهذه المنازل أن تكون بغرفتين أو ثلاثة و أن تتوفر جميعها على مدفئة و حضيرة مجاورة قادرة على استيعاب الماشية بداخلها"[2].

وسرعان ما حظي مشروع نائب المدير المكلف بالشؤون العربية بالقبول، ليقوم في التو بإبرام صفقة مع مقاولين أوروبيين من وهران بغرض بناء 35 قرية بدءًا بالزمالة.

و لا مناص من الاعتقاد أن هذا التثبيت أو حتى التجميع السكاني كانت دوما تسبقه عند "والسين ايستيرازي" فكرة خلفية ذات صبغة سياسية و عسكرية محضة، و هكذا، فإن هذا التطور في شكل المسكن دفع القبائل إلى التصور أن المنازل ستحل محل الخيم و القرى محل الدواوير.

ويشير "روبارت تاتوان" (Robert Tinthoin) أن "هذا التعديل المزدوج في طريقة العيش ونوعية السكن يؤدي، لا محالة، إلى ثبات الإسكان و من ثمة، دفع الأهالي إلى التخلي عن حركة التنقل المستمرة التي كانت تصنع في العمق قوة الأمير عبد القادر"[3]. ضف إلى ذلك أن الجنرال "لاموريسيار" (Lamoricière)الذي كان قد وضع آنذاك أولى لبنات "مشروعه الإستطاني"، وجد مشروع "والسين استيرازي"(Walsin Esterhazy) مشروعاً جدُّ مميز يستحق التبني و إعادة الصياغة. هكذا، قرر "لاموريسيار" سنة 1847 منح عدد من الأراضي للمزارعين المحليين مع التزام هؤلاء ببناء منازل وغرس أشجار مثمرة.

كان "الزمالة" أول من اتفقوا، في شهر أكتوبر 1847، مع السلطات العسكرية على مواقع بناء قراهم وكلهم ثقة في وعود "لاموريسيار" و بمجرد حلول شهر ديسمبر كانت عملية تشييد 18 قرية قد بلغت منتصفها، ليطلق عليها اسم " قرى الزمالة ". كما أن الأراضي الممنوحة للأهالي، و التي تم الحصول عليها تعويضا عن المصاريف التي تكبدوها في البناء و الزراعة تم اختيارها بالقرب من القرى، لتجتمع بذلك المنازل و البساتين في الحيز الجغرافي نفسه. و تجدر الإشارة إلى أن بعض الأراضي التي أعطيت ملكيتها للأهالي، تم منحها تعويضا عن المنازل التي بنيت في "المدينة الجديدة" من قبل السكان الأصليين "للزمالة"، حيث استفاد هؤلاء من ملكية أراضي بلغت مساحاتها 4269 هكتار[4].

يبد أن هذا المسعى لم يخل من الانتكاسات، فقد صرح "تيودور لوجولي"(Théodore Laujoulet)، بالرغم من اشتهاره آنذاك بفضائحه في مجال المضاربات العقارية، أنه كان شاهدا على ما مفاده أنه:"في سنة 1847 اضطر العرب إلى بناء قرى أهلية في مقاطعة وهران، كما أن العديد منهم أجبروا على تحصيل قروض، كان عليهم تسديدها من خلال دفع أقساط بفوائد شهرية تضاهي 11% أو ما أطلقت عليه تسمية "الحداش في المية" (السابع أحدى عشر في المئة) و ما كان ملفتا للانتباه أكثر هو أن ذلك الذي كانت له سمعة تضاهي سمعة قائد من قادة الأهالي و الذي كان الأكثر إسهاما في نشر الحماسة في صفوف الأهالي اللامبالية للقيام بعملية البناء، هو نفسه من كان متآمرا لمصلحة اليهودية و يروج من خلالها لتلك المضاربات المشينة[5]".

إن هذه السياسة الاستعمارية للعرب، التي رسم "بيجو" خطوطها العريضة بشكل رسمي في منشوره المؤرخ بـ 10 أفريل 1847، لم تفتأ أن تحولت إلى مدرسة تمخض عنها عدد غير هين من خطط تصميم قرى تستجيب إلى طريقة العيش الجديدة، التي كان يفترض توفيرها للقبائل المجمعة.

من بين هذه القرى "قرية مخزم" التي تم إنشاؤها من قبل النقيب ريشارد (Richard) سنة 1848. أو "القرية الأهلية" التي بناها "دي مرتمبري" Martimprey) (De سنة 1849، انطلاقا من المخطط الابتدائي للمدينة الجديدة الذي صممه سنة 1845.

هذه النماذج من القرى التي استلهمت من السياسة الاستعمارية المخصصة للعرب عند "بيجو"، تم تطبيقها من قبل ضباط المكاتب العربية، هؤلاء "المختصون في التدمير- كما يشير إليه ميشال كورناتون (Michel Cornaton)- الذي كانوا يمحون من على وجه البسيطة كل ما كان بإمكانه أن يعيق مساعيهم و يحول دون تملكهم للفضاء، فضاء كانوا يغطونهُ بأشكال هندسية ترسم معالم حدود كل واحد فيهم، و كانت المنازل في حد ذاتها تنم عن التسلسل العسكري و عن رتبة كل واحد منهم، ضف إلى ذلك أن كل شيء كان ينظم بالرجوع إلى منزل "القايد" (Caïd) المسؤول الأول عن الأمن في القرية"[6].

ويبدو أن هذه السياسة المتبعة في إنشاء "القرى الأهلية" في الجزائر، بما فيها نموذج المدينة الجديدة، ألهمت و بشكل كبير، في الفترة الزمنية نفسها، الإدارة الاستعمارية في إفريقيا السمراء، حيث أنه، وفي عام 1848، و تطبيقا لقانون "فيكتور شولشر" (Victor Schoelcher) الذي ينص على القضاء على الرق في المستعمرات الفرنسية )27 أفريل 1848(، أنشأت، أولاًّ، في سان لويس، بالسنغال ما أطلق عليها تسمية "قرى الحرية"، التي تحولت فيما بعد إلى "قرى اللاجئين" و المخصصة بشكل أساسي إلى العبيد الذين تم تحريرهم حديثاً. و ما كان على ڤالييني (Galliéni) إلا العودة إلى هذه السياسة سنة 1887، ليقوم مجدداً ببناء هذا النوع من القرى، كما كان الحال سنة 1895 بعد تمرد عبيد حلقة سيقيري (Le cercle de Signiri) (المنطقة الشرقية من السودان الفرنسي أو المالي حالياً) [7].

والملفت للانتباه هو أن الدوافع التي أدت إلى إنشاء "القرى الأهلية" في أفريقيا السوداء، هي الدوافع ذاتها التي انتهجها ضباط المكاتب العربية في الجزائر، وحسب "مهجموت دييوب" (Mahdjemout Diop) فإن الغرض الرئيسي من بناء هذه القرى في إفريقيا السوداء يكمن في " الحد من الانحلال و انعدام الأمن[...] حيث أن الآثار المترتبة عن تجارة الرق و كذا غياب دور الدول الكبرى المنظمة في أفريقيا القرن السابع عشر و الثامن عشر تسببت في انعدام شبه تام للأمن في هذه القارة، كما أن حروب الغزو الاستعماري في هذه المنطقة بالتحديد ضد الحاج عمر و الألماني ساموري (Alamany Samory) على وجه الخصوص، و كذا إلغاء الرق كلها أمور جعلت الوضع يتعقد أكثر، خاصة بعد ما عرفه الشارع من احتدام و وتصعيد جماهيري" [8].

2. أصل إنشاء المدينة الجديدة

لقد نجمت عن سياسة الابتزاز و ارتكاب الجرائم التي قادها الجنرال "بوبير" (Boyer) (من سبتمبر 1831 إلى أفريل 1833) الهجرة الفورية لعدد كبير من السكان المسلمين من المدنية، و لم تبق فيها سوى العائلات التركية الكرغلية، اليهود و السود من دون أي انتماء قبلي، و للقضاء على أدنى أمل لسكان وهران في العودة إليها، قام الجنرال "بويير" (Boyer) بإحراق ضواحي "خنڤ النطاح، رأس العين "و كلايا" و تدميرها كلية في 5 ماي 1832 بحجة أنها كانت تعيق بشكل كبير أجهزة الدفاع في المكان "[9].

ولم تخل نتائج هذا التدمير للضواحي، التي استعمرت سالفا، من العواقب الوخيمة التي تجسدت بشكل واضح في الانخفاض الكبير لعدد السكان بالمدينة.

وعندما غادرت الحرب ضواحي وهران، سنة 1844، بدأت المدينة تشهد بداية عودة سكانها القدامى في موجات متتابعة، بما فيهم أولئك الذين تقع منازلهم في الضواحي التي شملتها حملة التدمير، لتلتحق بها عناصر أخرى من قبائل عانت لسنين كيد الشقاء والتيه جراء الحرب التي جعلتها تجر أذيال الهزيمة على أبواب المدينة: إنهم "الجالين" (Djalis)[10].

ومنذ تلك الفترة ، طرح و بشكل حاد مشكل إعادة إسكان كل هؤلاء القادمين الجدد الذين استقروا وسط أنقاض الدمار و البيوت المهدمة بعد أن جعلوها ملاجئ مؤقتة و جعلوا من المغارات وأفران الجير القديمة منازل تأويهم. وهكذا أصبحت المدينة، و في وقت قصير، محاصرة بعدد مذهل من البنايات البدائية.

فبالنسبة للإدارة الاستعمارية، إن هؤلاء "السكان المتنقلين"، كما نعتوا في ذلك الوقت، كانوا يهددون أمن المدينة و حوافها و قد وضَح نائب مدير الشؤون الداخلية "برتيي دي سوفيني" Berthier de Sauvigny)) المكلف بمواجهة مشكل عودة السكان السابقين لوهران أنه " ليس بإمكان العرب البقاء، نظرا لكونهم مشتتين في كامل أرجاء المدينة، دون أدنى وجود لنقطة ثابتة، أو أرض للزراعة و دون أي نظام أو تنظيم، و الأهم من هذا و ذاك، هو أنهم كانوا يعيشون دون أدنى رقابة - و يضيف – يمكننا ملاحظة عددهم المتزايد على أبواب مدينة وهران، و لن نسمح لهم، مهما كان، بالاستمرار في هذا الوضع الغامض، السلبي بالنسبة لهم و المقلق بالنسبة للأوروبيين "[11].

و هكذا، فقد دعى "دي سوفيني" بعد ذلك إلى، أن تهجر إلى سهول وهران، تلك الدواوير التي كانت تستقر في الأراضي التي كان من المفترض توزيعها على المستعمرين :

" قطعة أرض، واسعة بما فيه الكفاية تكون ملكاً لهم بالإجمال، يستطيعون هبتها، بيعها أو التصرف فيها كما يحلوا لهم"[12].

و قصد احتواء هذه الفئة من "السكان المتنقلين" داخل فضاء محدد، سهل المراقبة إداريا، ويمكن السيطرة عليه عسكريا، فقد أمر "لاموريسيار" قائد مقاطعة وهران و المكلف في الوقت ذاته بنيابة الحكومة العامة، من خلال المرسوم المؤرخ في 20 جانفي 1845 ببناء قرية أهلية بوهران.

و يشير "ب. سمود"(B. Semmoud) بخصوص هذا القرار أنه : "من الممكن الاعتقاد أن الأمر يتعلق بتجهيز تم القيام به لمصلحة الأهالي، غير أنه في الواقع، عملية إيواء تهدف إلى دفع الأهالي المزدحمة بجرف "ڤارڤينطا" إلى الجنوب. فقبل عام تقريبا و في وقت مبكر، كان قد تم تحضير خطة منتظمة للبناء و ذلك بداية سنة 1845، أي مباشرة بعد الانتهاء من إنشاء المدينة الجديدة"[13].

لقد تم توكيل عملية تصميم و تنفيذ هذه القرية الأهلية الجديدة في وهران إلى المقدم "دي مارتمبــري" Martimprey) (De، الذي صرح قائلا أنه : "أولا، تم منح عقود ملكية في القرية الجديدة أي المدينة الجديدة، بأمر من الجنرال، وكنت قد فرغت للتو من إنشاء قرية "سان أندري" التي كان من المفترض أن تأوي وتجمع الأهالي العربية والزنوج المنتشرين إلى غاية الساعة بين الأنقاض و في الصوامع القديمة و أفران الكلس على مشارف المدينة، والتي لم يكن معظم السكان يزاولون فيها سوى بعض الصناعات الصغيرة "[14].

فقد بلغ، عدد السكان في المدينة الجديدة، حسب إحصائيات 1846 ما يعادل 2316 نسمة.

ومن الوارد هنا، الاعتقاد أن الهدف المتوخى من خلال إنشاء المدينة الجديدة، لم يكن الهدف منه مجرد تثبيت للأهالي في المكان. ونحن في هذا المقام نشاطر "س.أ.رفاس" (A.S Reffes) فكرته القائلة بأن الأمر يتعلق، في الواقع، بإبقاء الأهالي "تحت المراقبة المشددة رهائنا" وبما فيهم عائلات القادة مخزم، الذين استخدموا، في بعض المرات في عمليات بسيكولوجية كانت تنجز على طريقة "بيجو"، حيث كان هذا الأخير يصبو إلى بناء قرى استعمارية على طراز نظيراتها في أوربا للتكفل بهذه العائلات بالتحديد"[15].

من هذا المنظور، فإن الضباط الفرنسيون لم يقوموا إلا بإعادة استخدام النظام القديم "للعائلات الرهينة" الذي طبقه التركيون، و الذي كان شرطا من شروط معاهدة التين المبرمة سنة 1836 بين الجنرال "تريزال" (Trézel) و قادة قبائل الدوار والزمالة، التي تنص في مادتها 12 أنه "يتم اختيار من كل قبيلة من القبائل قائد يسكن و عائلته مدينة وهران".

3. التنظيم الفضائي للمدينة الجديدة

وعلى خلاف غيرها من المدن الجزائرية التي انهمكت فيها السلطة الاستعمارية ببناء أحياء جديدة مجهزة خصيصا للأوربيين، فإنه تم في وهران اعتماد النهج المعاكس من خلال "الرغبة في بناء مدينة جديدة و حقيقية لا تكون موجهة للأوربيين، و إنما للأهالي"، ومن ثمة، فإن غياب مفهوم "المدينة" عن وهران حال دون الحاجة إلى القيام بأشغال كبيرة فيما يخص: "استبدال النسيج التقليدي لاستعمار الفضاء الحضري التقليدي، قبل القيام بمحاولة ترسيخ معالم النمط الحضري أو النمط الأوربي"، كما كان الحال في مدينة قسنطينة على سبيل المثال[16] و هو الأمر الذي جعل عملية تقسيم الفضاء الحضري نفسه بين الأوربيين و السكان الأصليين في مدينة وهران، و هي عملية غير ضرورية، ضف إلى ذلك أن اختيار مصطلح "المدينة" بوصفها اسما لهذه المنطقة لم يأت من باب الصدفة.

وبالنسبة لمصمميه، فإن هذا الحي يؤدي وظيفة "المدينة" التقليدية نفسه التي كانت غائبة عن مدينة وهران. فهذه المدينة الاستعمارية هي ذاتها المدينة التي قارنها "ب سمود" "بالمدينة الجديدة "للدار البيضاء (Casablanca) في العديد من الجوانب الحضرية (رصف البنايات، انتظام خط الطرقات...الخ) [17].

لقد تم اختيار القاعدة الأرضية التي بُني عليها الحي الجديد " للمدينة الجديدة" على هضبة "الكلاية" و المدعوة أيضا ب "القرية الزنجية"، في مكان يقع شرق الموقع القديم لدشرة "كلاية"، على أراضي كانت ملكا للبايليك السابق و أيضا لملاك مسلمين باعوا عددا من أراضيهم لليهود مع بداية الإحتلال، و من بينهم عائلة "بن هايم"[18]. ومع هذا، فإن كل الدلائل تشير أن "المدينة الجديدة" كانت في الأصل تتألف من ثلاثة أحياء صغيرة يحمل كل حي منها إسم "مدينة":

  • مدينة الرادار: و هو الحي الواقع في الشمال و الذي كان يقطنه النبلاء و الحضر، كما تحيل إليه التسمية، "كان هو التجمع الأحسن تكوينا من حيث تركيبته السكانية - على حدِّ تعبير القائد "ل شنيفال" (L. Chèneval)- نظرا لكونه يجمع بين حرفيين و تجار سبق لهم الاستقرار لفترة من الزمن في المدن"[19]. ونجد هذا الجزء من المدينة مسجلاً لأول مرة على سجلات الحالة المدنية في جوان 1846، تحت إسم "قرية البربر" .
  • مدينة العبيد: حيث تمخضت عن هذه التسمية الترجمة الفرنسية (le village Nègre) أو القرية الزنجية، وهي التسمية التي أطلقت فيما بعد على كل حي المدينة الجديدة.

وقد طغت استعمالات هذه التسمية ذات الإيحاءات العنصرية (سواء على المستوى الفضائي أو السوسيو-عرقي) على غيرها من التسميات، و اشتهرت بشكل كبير في الجغرافيا الحضرية الاستعمارية، " نجدها- يسجل "ل تواتي" (L. Touati)- في كل المدن الفطرية التي بنيت في أعقاب الغزو الاستعماري: باريقو، سيدي بلعباس، سيق، عين تموشنت...الخ، وهكذا، ارتبطت كل مدينة من هذه المدن بقرية زنجية معينة"[20].

فالإشارة إلى القرية الزنجية وردت للمرة الأولى في سجلات الوافيات للحالة المدنية لبلدية وهران بتاريخ أفريل 1847 تحت اسم "القرية المدعوة بقرية "الزنج"، و يبدو أن هذا الحي الصغير كان مصمما في الأصل لاستيعاب السكان السود لمدينة وهران والذين كانوا يعيشون حول " قبة سيدي بلال، قديس كل المجموعات السوداء في الجزائر. و كانت هذه المجموعة تملك، أيضا، مقبرة بجوار مقبرة سيدي البشير، وهي مقبرة كان لها استخدامها الخاص[21].

و بالرغم من إلغاء التكتلات العرقية و المهنية سنة 1868، إلا أن مجتمع السود استمر في العيش بعد ذلك لمدة طويلة، في حدود المدينة الجديدة ضمن "تكتل زنجي"[22].

مدينة الشراقة : يموقع "ل. شنيفال" (L. Chéneval) هذا الحي الصغير "انطلاقا من المنازل التي تحيط بساحة شارع "جوزيف أدريو" في الشرق وصولا إلى أبواب ساحة المناورة، و إذا كانت التسمية تدعو إلى الاعتقاد أنه كان مسكونا من قبل سكان من أصل الخليفة السابق للشرق (غليزان، مليانة، زمورة ...الخ)، فإن "ل. شنيفال" يوضح أن سكانه كانوا من المحتاجين، القادمين من كل حدب وصوب و كانوا حمالين على أرصفة الموانئ و عمالا و بنائين عند المقاولين"[23].

ومع بناء الجدار الجديد للضاحية سنة 1866، تم ضم المدينة الجديدة إلى الحيز الجغرافي الواقع داخل هذه الجدران، ليتغير بذلك وضعها من ضاحية إلى حي. و قد سمح هذا الوضع الجديد لهذا الحي، و كذا لحي "سان أنطوان" بالاستفادة من المشاريع الحضرية الجارية الإنجاز، و تلك المرتبطة بإنشاء الطرقات المبرمجة في إطار مختلف مخططات الرصف و التسوية و المصممة في الأصل لضاحية "قارقنطا"، "سان بيار" و "سان ميشال" و قد صرح "ر. لسباس" أنها كانت ترسم في جهتها الشرقية، و على يمين طريق التين، شبكة جد منتظمة من الطرق المتقاطعة في الزاوية اليمنى، في حين أن الكتلة الغربية عمت فيها الفوضى ولفترة طويلة، ضف إلى ذلك أن سمعتها كانت سيئة بين بقية الشوارع التي لم يكن قد تم تصنيفها بعد.

أما الشارع الجنوبي، يضيف "ر. لسباس"، فقد تم تقليص مساحته من العرض للسماح بانجاز بنايات جديدة، و بالفعل، سجلت زيادة تدريجية في عدد السكان المسلمين، و خلال عملية الإنجاز، تم إنشاء الساحة الرئيسية لهذه المدينة الأهلية"[24].

خلاصة

كثيرون هم هؤلاء الذين مثل "ر. لسباس" و "ش. أ. جوليان" أو "ب. سمود" يعتقدون أن إنشاء المدينة الجديدة كان نتاج سياسة "تجميع" للسكان الأهليين في مناطق حضرية. وعلى ما يبدو، فإنه، و في هذه الحالة بالتحديد، فقد استخدم مصطلح "التجميع" في غير محله، حيث أن سياسة التجميع الحقيقية لم تطبق إلا حوالي سنة 1853 من قبل المارشال "روندون" (Randon)، و الذي كان من أكثر المؤيدين للاستعمار على "النطاق الضيق" و المشجعين للهجرة الحضرية الأوربية و الزيادة السكانية ذات الأصول الفلاحية. وبالإضافة إلى هذا، فإن سياسة استعمار العرب عند "بيجو" و ما انجر عنها من بناء لقرى أهلية، كانت تهدف منذ بداية الاحتلال إلى تجميع القبائل لأسباب عسكرية محضة، بغرض إبعادها عن تأثيرات الأمير عبد القادر.

في الأخير، فإننا على غرار "ميشال كوكرفي" الذي كون فكرة مختلفة عن غيره حول سياسة بناء القرى الأهلية و بالأخص نموذج المدينة الجديدة و الذي يذهب "ميشال كورناتون" إلى اعتباره شكلا من أشكال التجميع السكاني، فإننا نعتبر إنشاء هذه القرية من "أولى أشكال إعادة التوطين و تحديد الإقامة على أبواب مدينة السكان الأصليين الذين فروا أثناء الغزو ليعودوا بعدها أكثر عددا"[25].



ترجمة :

الهوامش

[1] ولسين استراز لويس جوزيف فردينو (1857-1807) بوليتكنيكي، وصل إلى الجزائر سنة 1832 برتبة ملازم أول، تم تعيينه سنة 1842 كقائد سرب في سلاح الفرسان الأهليين، ثم مقدم في الكتيبة الثانية و عقيد سنة 1847. سمحت له وظيفته قائدا بالمكتب العربي في وهران بإنشاء علاقات مع العديد من الجزائريين ذوي الشأن الذين أمدوه بالمادّة الأولية لكتابة مؤلفيه الموسومين "بالهيمنة التركية إبان الوصاية القديمة على مدينة الجزائر" (باريس 1840)، و "السجل التاريخي لمخزن وهران" (وهران 1849).

[2] Tinthoin, R., Colonisation et évolution des genres de vie dans la région ouest d'Oran de 1830 à 1885. Etude de géographie et d'histoire coloniales, ­Oran, L. Fouque, 1947, p. 130

[3] نفس المرجع، ص. 130.

[4] نفس المرجع، ص. 145

[5] Laujoulet, Théodore, Le commerce en Algérie. Etudes sur le peuplement utile de l'Afrique française, Paris, 1851, p. 68.

[6] Cornaton, M., Les regroupements de la colonisation en Algérie, Paris, éd. Ouvrières, 1967, p.45

[7] Mahdjemout, Diop, Histoire des classes sociales dans l'Afrique de l'Ouest I. le Mali,  Paris, F. Maspéro, 1971, p. 39.

 المرجع نفسه ص.39[8]

[9] Derrien (commandant Isidore), Les Français à Oran depuis 1830 jusqu'à nos jours, Aix, Nicot, 1886, p. 33.

[10] كلمة "جلّي" تعني، حسب الإجابة التي أعطاها القائد "ل. شوفينال" في الرسالة المؤرخة في 17 سبتمبر 1924 للقائد "بالكا" (pellecat) على سؤال طرحه عن أصل المدينة الجديدة: "المتشرد"، الغريب عن البلاد، و جمعها في الفرنسية Djalis ، دون النطق بـ "سين" الجمع (أرشيف القائد "بالكا"، مجتمع الجغرافيا و علم الآثار بوهران). ينظر أيضا: commandant L. Chèneval. "Souvenirs oranais la Place Sidi Blal"L’ Echo d'Oran 19 mars 1925 كما وردت تسمية "قرية الجالين" على تقرير لرئيس المكتب العربي للمدينة الجديدة، ينظر أيضا: Turin (Yvonne). Affrontements culturels dans l'Algérie coloniale. Ecoles, médecine, religion, 1830-1880, Paris, F. Maspéro, 1971, p. 144.

[11] تانتوان، ر. المرجع السابق، ص. 134.

[12] المرجع نفسه ص.134.

[13] Semmoud, B., Médina-Jdida. Étude cartographique et géographique d'un quartier d'Oran. Les rapports avec l'agglomération et la région Oranaises, 2 vol., Thèse 3ème cycle, Paris VII, 1975, VoI.1, p.47.

[14] Martimprey (général comte de), Souvenirs d'un officier d'état-Major : histoire de l'Etablissement de la domination française dans la province d'Oran, Paris, 1886, 288p., cartes.

[15] Reffes, Sid Ahmed, La propriété immobilière à Oran de 1832 à 1847, Thèse de doctorat, Paris, 1985, p. 49.

[16] Pagand, B., De la ville arabe à la ville européenne : architecture et formation urbaine à Constantine au XIXème siècle, RMMM, N0 73/74,1996, p.p. 281-294.

[17] Semmoud, B., Op. cité., p.47.

[18] الموقع الذي تم إختياره لإنشاء المدينة الجديدة، كان دوماً مطالباً به من قبل مصالح الدومين. "هذا التوزيع للأراضي التي كانت تعد ملكا للبايليك كما يوضح "ديريان" (Derrien)، أدى إلى خلق العديد من ردود الأفعال و النزاعات أمام محكمة وهران و محكمة الإستئناف بالجزائر سنة 1849 و 1855 و التي أصدرت حكما برفض دعوة أهل بنهايم. و بأمر من المحكمة تم منح كل ملكية شوارع القرية الزنجية لمدينة وهران و بشكل نهائي سنة 1870. Derrien.- Les Français à Oran de 1830 jusqu'à nos jours. Aix, 1886, pp. 185-186 لتفاصيل أكثر ينظر أيضا :

Revendication par Hippolyte-Auguste Bachelet, à l'encontre du Domaine de l'état des terrains situés à Oran maintenant intra-muros et sur lesquels était au moment de la conquête et extra-muros un village appelé Kalaïa.- Oran, impr. Nugues, 1882, 13p., plans.

[19] Chèneval, L., Souvenirs oranais la Place Sidi Blal,  Echo d'Oran, 19 mars 1925.

[20] Touati, Lahouari, Economie, Société et Acculturation. L'Oranie colonisée 1881-1937, Thèse 3ème cycle, Université de Nice, 1984, p. 155.

[21] Benaada, S., Espace urbain et Structure sociale à Oran de 1792 à 1831, DEA-Sociologie, Université d'Oran, 1988, 223 p., plans, annexes.

[22] ل. شفينال، ينظر المرجع السابق.

[23] تقدمت مجموعة السود عام 1882 بعريضة إلى رئيس بلدية وهران للمطالبة بتعيين أحمد ولد موسى أحد الملاك في القرية الزنجية، كقائد لتكتل الزنجيين.الأرشيف البلد ي، ملف الأهلية.

[24] عمليات الرصف التي ذكرها "لسباس" (lespès) تخص تحديدا شبه حي سبالة الطُلبة، و الذي كانت تتوسطه ساحة "أديلاييد" (ساحة دواجي حاليا).

[25] Coquery, Michel, L'extension récente des quartiers musulmans d’Oran, ­Bulletin de l'Association des géographes français, N° 307-308,1962, p. 175

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Téléphone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact