تقدم الأطروحة التي نبسطها هنا، مبدأ نظرية قائمة على العمل الغريزي لسياقات التنظيم الذاتي، اشتراطا ابتدائيا ضروريا. يعني هذا عملَ العقلنة بالنسبة إلى تسيير مجتمعات خاضعة للبنية التنافسية لاقتصاد السوق. إعادة إدماج الدولة هو الواسطة إلى إضفاء الموضوعية على البنى العقلانية و إلى تحويلها تاريخيا، لتؤدّي هكذا إلى تحرّر وظيفي و منظَّم حسب منطق داخليٍّ اقتصادي تكنلوجي و إلى استكشاف هذا العمل الذي يقوم به المجتمع تجاه ذاته. التنظيم الذاتي يأتي الأوّلَ في السياق الذي يؤدي إلى نشأة الجمعية، و هي شكله المؤسساتي. يُجبر هذا التنظيم صفوة الدولة ، في لحظة محـددة و معينة، على تغيير العلاقات مع المجتمع و مع هياكل التنظيم الذاتي التي يخوِّل نفسَه إياها. تُشكِّل، هنا، الأشكال التي يُفعِّلها شباب الهجرة في فرنسا، أداة توضيع هذا الهيكل الغريزي. في الوقت الذي تمت فيه تنشئتهم الاجتماعية فوق الأرض الفرنسية، اِستبطنوا معايير المحيط الاجتماعي، كما تلقّوا معايير بلد الإقامة و لكن كذلك عناصر مرتبطة بالماضي الاستعماري. شباب الهجرة هؤلاء هم الذين سيشكلون بناء "المحلّي" بصفته فضاء تَسوس فيه الدولة المشاكل الاجتماعية الجديدة، و بصفته إطارا لإثبات المدن، وكذا المجالَ لبروز الأزمة الاجتماعية و أزمة العلاقات بين مختلف الأعراق.
هذه الإشكالية هي التي تدفعنا إلى التفكير في التغير الاجتماعي. مع قانون اللامركزية، بدا المحلّي الفضاء المناسب لإعادة النظر في دور الدولة وكذا صياغة سياسة عمومية أنتجت كثرة من الإجراءات المحيطة بالجهاز السياسي/ الإداري المحلي الذي كان يتصادم مع رفض الشباب مادامت التكيُّفات تُسار من دون مردود بالنسبة إليهم، بل تسار كذلك ضدهم. يكون إذن هذا الموضوع الفتيّ بناء اجتماعيا مصدره استراتيجيات الشباب في المهجر حيث يبقى المغرب العربي موجودا و ذا تأثير على الحياة "هنا"، لتكون هذه الفئة من الشباب كاشفة، في ذات المرة، عن المشاكل التي تواجه الشباب في مجمله، و هذا، لأن على شباب المهجر، مواجهة عوائق اجتماعية متراكمة. ضمن هذا الكمّ من الظروف، كان الشبان يجدون في الجمعيات مفاتيح ولوج النظام السياسي/ الإداري، مع إعادة النظر في الأشكال التقليدية لأنماط التجمع القديمة، الملتفتة أساسا، نحو البلد الأصلي، في منهج على بعد، كان الهدف منه تسيير الهجرة على أنها ظاهرة انتقالية. لن تكون هذه الجمعيات، رأسا، سُلَطا مضادة، بل ناقلة لإثبات شعور الانتماء إلى الجماعة، واضعة نفسها، حيال العمل العمومي، أدواتٍ للإدماج. ستكون كذلك فضاء لتشكيل صفوة اجتماعية ترقى إلى مصف "عامل تنمية". كوّن أطفال القصدير، سواء المولودون في عين المكان أم القادمون حديثا من الجزائر، في نهاية الستينات، كونوا أنفسهم على محك النضال السسيوثقافي، مُحَـيِّـنين المطالبةَ "بالحق في المعرفة" و مجددين العلاقةَ التاريخية مع حركات التربية الشعبية. هكذا، و قبل الترشيح لتمثيل الفئات الاجتماعية المنبثقة من الهجرة، تعلق الأمر بالتعـلم الاجتماعي و السياسي، مصدرِ حركاتLes Beurs (أبناء المهاجرين المولودون في المهجر بعد استقلال في البلاد المغاربية) في السنة 1983، مما قاد إلى "سياسة المدينة" التي وضعت القطاعات الجمعوية في مركز المقتضيات.
كان هذا يتمّ في الوقت ذاتـه الذي يعاد النظر فيه في الجمعيات التاريخية للتربية الشعبية و الجمعيات السسيوثقافية، نفسها، بصفتها أداة للتنظيم المستقل، و لأنها أصبحت بالية، غير ذات فاعلية. نتج انخفاض قيمتها من عمل البلديات التي كانت تنشئ لصالحها مقتضيات عمومية أو شبه بلدية، واضعة جمعيات، الشباب، هكذا، في موقف تنافس عسير، و في منطق السوق، محوِّلا موضوعات التنشئة الاجتماعية في الجمعيات إلى موضوعات ،التنمية المحلية"، موضوعات تجند لها الباحثون، من أجل إيجاد الحلول لِـ" المسألة الاجتماعية الجديدة" مستشرفين جسما اجتماعيا مدمجا.
وراء اجتماع "الفاعلين" الذين توسلوا حلم التسيير الذاتي القديم، تختبئ تكنولوجيا و استراتيجية احتواء المبادرات المحلية، من أجل إدماجها في أهداف الاقتصاد اللبرالي. تنصرف هذه الظاهرة من ذات هيكل التفاعل بين عمل الدولة و سير التنظيم الذاتي الذي نلاحظه على هذه الحركة التي نطلق عليها اسم"احتواء". تشكل ترتيبات تدخل الدولة أدوات إعادة صياغة الروح الإبداعية في النشاطات ذاتية التنظيم في شكل تقطيس الأعمال المؤدية إلى إضفاء الشرعية على النظام السياسي المحلي. ينتج فرض تقنيات إدارية مجالات و وسائل مراقبة تشكل في ذات الوقت، مجالات تبادل وضبط بين الشباب و مسؤولي السياسات المحلية. هكذا عرف البحث عن متحاورين انزياحا في المعنى نحو فكرة "قائد" التي تناسب تقنية الاحتواء التي يمارسها الجهاز السياسي/الإداري المحلي و تناسب حصر سياقات التنظيم الذاتي في المؤسسات التي ابتدعها الأخصائيون حول مفهوم "الدولة المنشطة".
يُسجَّل أن سير الاحتواء يرتكز على "الحدث العرقي". فعلا، فإن منوال الإدماج ببلد الشباب، و بالتفهم الاستراتيجي لدورهم، انطلاقا من الرصيد الثقافي الموروث عن هجرة العمل السابقة، و بالنسبة إلى الجزائريين على أساس الْتِحام جراح حرب الجزائر، لم يشِم فقط وعي الفرنسيين، بل كذلك وعي شباب الهجرة الفتيّ المرتبط بهجرة العمل القديمة. تندرج العودة إلى الإسلام في بحث عن انتماء، كما تشكل مرحلة في هذا المسار الذي تشكِّل فيه العودة إلى البلد، ذاك الهناك الرمزي، أثر مفارِق لسياق إدماج هذه الفئات في المجتمع الفرنسي، مدمجين في كنفهم أنماط من التصنيف الخاص بالبلد المضيف. لهذا السبب، فإن السياسات الثقافية هي ما يعيد، بسرعة، إعادة صياغة بُعْد الشباب الذي ولد في المهجر. يحيل الإطار الخلفي المشاهَد، إذن، مباشرة على الإرادية و النشاط الاعتباطي في تدخل الدولة المعبأ من أجل احتواء الإبداعية الاجتماعية في الهياكل ذاتية التنظيم، متسببة،خصوصا، في قطائع بين الأجيال و، أمام الفشل الصريح لهذه العمليات، و مرتقبين الحفاظ على "النظام" من خلال الهياكل الدينية. كانت شريحة ضئيلة من الشباب قد اعتنقت الأصولية، إلا أنّ عودة الإسلام الأرثودكسي بعد الثمانينات، و قد عاشه الشباب فشلاً، تشكل لفّة ضرورية نحو هذا الهناك الذي يحملونه في وجدانهم، حتى يسايروا الزمن في انتماء يعيشونه موضوعيا. التكرار هذا الذي تقطع التاريخ البشري يُدرج التنظيم الذاتي ظاهرةً مهيكلة التغير الاجتماعي. يتعلق هذا التكرار بالإنتاج الاجتماعي، جارَّةً الدولة و المجموعات المهيمنة كل حسب شكله التاريخي المحدد و المؤرخ، إلى التدخل بواسطة سياسات. في التشكيلات المعاصرة، تشكل الترابطية الواسطة/الأداة المثلى لمثل هذا النشاط بتقنيات الاحتواء للإبداعية الاجتماعية ضمن النشاطات ذاتية التنظيم. لا تسهم هذه الأخيرة، بالضرورة، في دفع التاريخ إلى الأمام، ربما تسبّبت في ارتدادات (ارجع إلى الجمعيات الإسلاموية)، إما أنها تساهم في إعادة إنتاج النظام، إما أنها مناهضة للنظام.
يقدم هذا التحليل التغير الاجتماعي على أنه تغير بعديّ (و لا يقدمه نظريةً لِلاختراع الاجتماعي و لا إنتاجا ذاتيا للمجتمع) بِـتوقعات إرادوية و تقنوية من طرف الدولة، منبثقا من مشاريع الأخصائيين في علاقة مع التجهيزات الاجتماعية الضرورية للتسويات الاقتصادية و السياسية الآنية، و حتى لا يتسنى الوقت لسياقات التنظيم الذاتي فتتحول تجربة اجتماعية. إنه يؤكد على العناصر النقدية حيال الإشكاليات التقليدية، ذات الفعالية الكافية، إشكاليات مطروحة على صيغة طبقية. علينا الانطلاق من فكرة خطوط الاستهراب التي تعبر عن الحركة (أو ميكانزم التغير الاجتماعي) التي تدفع الأفراد، باستمرار، نحو مجالات الاستقلالية في مقابل تدخُّل الدولة التي تبحث احتواء إبداعيتهم، حركة تدفعهم كذلك إلى الانفلات من العلاقات السلطوية ومن الأطر المؤسَّسة. إلا أنه ليس أكيدا أن الذين يجتمعون، يفعلونه بنية التضامن، يتموقع التضامن على الصعيد الوطني. ليس التضامن محرك هذه البنية بل إنها تتعلق بـتَجديد الرابطة.. يشكل الوسطاء اليوم، جواب الدولة العصرية من أجل تنهيج التحكم في آثاره.
جيرار بريفو - Gérard PREVOST
نقله إلى العربية :
أحمد حمومي - Ahmed HAMOUMI
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم