كيف يمكن أن نقرأ - في المجتمع الجزائري- بروز أدوات التحديث مثل الجمعية و الحزب السياسي اللذين يفترضان، أصلا، أشكالا جديدة للإتصال ؟ تسعى الدراسة، إنطلاقا من حالة منطقة القبائل، إلى إظهار مجموعات مستها عملية التحديث، تراوح مكانها، و هي تعيد توظيف هذه الأدوات الجديدة. فالفاعلون الحاملون لهذا النمط الجديد في التنظيم يتفاوضون حول اندماجهم. ثـمة صفقة تشير إلى الازدواجية، إذن. فممارسات العاملين في مجال التحديث يكتنفها لبس - ظاهريا - إلا أن مثل هذا اللبس ضروري. و من جهة أخرى، يمكن أن تنتج المجموعات، في ظروف خاصة، تقليدا أي أن تعمل على تفعيل عملية إعادة الأقلدة. نشرح من خلال أمثلة دقيقة، كيف يحدث ذلك و كيف يتم العمل به. يصدر تفكيرنا من مبدأ عدم وجود إستمرارية تاريخية بين وضعية تحديث مفروضة اقتضتها حركة الاستعمار و أخرى نتجت عن نشأة الدولة الوطنية، بل ثمة ثبات لعناصر ترتبط بسلوك مزدوج لفاعلين يطوعون استراتيجياتهم وفقا لمصالح مرتقبة. في الأساس، تبدو المواقف التي تبنتها السيدة "جان فيقري" صالحة نسبيا كما هي صالحة الخلاصة التي وصل إليها بلانديي بشأن التحولات في البلدان المستعمرة قديما :"كل شيء يتغير إلا أن كل شيء لا يتغير جملة".
تاريخيا، ظهرت الجمعيات على إثر صدور القانون الفرنسي لسنة 1901، الذي امتد نفوذه إلى الجزائر بوصفها مستعمرة فرنسية. فعمل الجزائريون بدائرة تيزي وزو السابقة، ابتداء من الثلاثينات على تأسيس جمعيات تتألف من أصحاب المهن أو الموظفين في المؤسسات (معلمون، قدماء التلاميذ). و في مجري ذلك، ظهرت جمعيات رياضية إسلامية اتخذت بعدا رمزيا لأنها كانت عموما، وجها معاكسا للجمعيات الرياضية التي أسسها الأروبيون و لأنها كذلك، كما هو الحال مع الجمعية الرياضية القبائلية، واسطة للعمل الوطني الذي كان يتأكد شيئا فشيئا. و في سياق الدعوة الاصلاحية، ظهر نوع جديد من الجمعيات تمثل في الجمعية الدينية. كانت "جمعية الاصلاح" لمدينة دلس (تم تسجيلها يوم 20 نوفمبر 1931) و جمعية "الشباب الإسلامي" لتيزي وزو (تم التصريح عنها يوم 20 فيفري 1934) أولى الجمعيات الدينية التي ظهرت بمنطقة القبائل. و في الأربعينات و الخمسينات، برزت جمعيات أخرى ذات نطاق محدود. يؤكد عدد من المؤشرات أن هذه الأشكال الحديثة للتنظيم لم تكن تستبعد وجود الأشكال التنظيمية التقليدية. في البداية، احتل الفاعلون الجدد موقعا معينا في المجتمع سمح بإعادة توظيف دلالات الخطاب الحديث و تنظيماته. يتجلى هذا المطعى التوفيقي بوضوح مع تغلغل الحركة الوطنية بمنطقة القبائل خاصة منها حزب الشعب الجزائري و حركة انتصار الحريات الديمقراطية إذ كان المناضلون السياسيون يمزجون في مجال توسيع نفوذهم، بين الأساليب الحديثة و الأساليب الجماعية التقليدية و توقفت فعالية رسالتهم السياسية و وجودهم النضالي على مدى استنادهم إلى النسيج الأسري و الديني القديم و اعتمادهم على التنظيمات الاجتماعية التقليدية (الجماعة بشكل خاص). هكذا تتحقق فعالية الحركة التحديثية كلما مرت عبر القنوات الأسرية. يجب الإشارة إلى أن ادراك هذا الاندماج يمر بتحليل عالم هؤلاء الفاعلين الخاص الذي يبدو و كأنه مزيج حقيقي بين القيم المحلية (قيم المجموعة) و القيم العالمية التي تحملها الحداثة. عمليا، ينتج الفاعلون ما أسماه "ج. بلانديي" ازدواجية ضرورية تتلخص ملامحها في قوله "تسعى الأحزاب إلى التأسيس خارج الخصوصيات، و إلى ضمان بث الأفكار الجديدة، و إلى منح دور رائد للعاملين في مجال التحديث، غير أن اندماجها في الوسط الفلاحي يفرض عليها تقديم تنازلات لصالح النظام القديم."لذا تعتمد هذه الأحزاب" حتما الإزدواجية الثقافية عند بداية نشاطها و أحيانا بعد هذه المرحلة. و إذ تسترجع رموزا تقليدية ناجعة، تعمل على تنظيم مراسيم الحياة السياسية بهدف تقديسها، و تضفى على زعيمها وجها مزدوجا فتضع له شخصية بطولية (و إذا اقتضت الحاجة، تنسبه إلى سلالة الأبطال الشعبيين) ثم تلجأ إلى الأساليب التقليدية لحمل السكان على الانخراط في صفوفها و لتكريس هيبة مناضليها" و من جهة أخرى، تكشف حالة الجمعية التربوية لتيزي وزو "الشبيبة (1944-1963). كيف يعيد الأعيان المحليون البارزون و "الجماعة" (قرية تيزي وزو القديمة) توظيف هذا الإطار التحديثي لغرض تأكيد نفوذهم و بلورة مكانتهم الإجتماعية. نستخلص من ذلك، أن الحزب السياسي يمكن أن يتحول إلى بديل للأطر التقليدية عندما تنعدم هذه الأطر لأسباب تاريخية.
تشكل هذه الظواهر، خاصة الاتجاه إلى التعامل مع الأطر التقليدية و الإزدواجية المتولدة عنه، عناصر ثابتة في الحقل الجمعوي المحلي كما تبين لنا ذلك بوضوح خلال السنين الماضية. تحت تسمية معاصرة "لجنة القرية" أو تحت غطاء "الجمعية القروية"، يتم إعادة تفعيل "الجماعة" التقليدية. فجمعيات الشباب ذات الطابع الثقافي التي تتمركز في القرى، غالبا ما تشرف عليها، بل تراقبها "الجماعة" و تحدد دائرة نشاطها. في الواقع، تعمل هذه الجمعيات في ظل وضعية تحول اجتماعي و اقتصادي سريع أو فريد من نوعه، على أساس خطاب و مواقف تحيل كلها إلى المرجعية الهوياتية و ذلك بانتهاجها أسلوب تنشيط أنماط التسيير التقليدية (أعراف أخرجت من النسيان، يعاد تكييفها). ثمة عملية مزدوجية تتمثل في إحتواء للحداثة و إعادة الأقلدة في نفس الوقت. لقد حللنا هذه الظواهر في ظل سياق تميز بانبثاق الحركة الجمعوية و انتشار نفوذها في الميدان.
في الخلاصة، نرى أن إمكانيات التحديث التي تتطلع الحركة الجمعوية إلى تحقيقها (خاصة الحركة السياسية) غالبا ما يعاد تطويعها و تحويرها فتتجسد من جديد في لغة محلية خاصة بالمجموعة. و اذا كانت التنازلات ممكنة بين قيم الحداثة و أطرها من جهة و قيم الجماعة و أطرها من جهة أخرى، فإن هامش استقلالية الأطر الجديدة غالبا ما يكون ضئيلا كما تكون فعاليتها محدودة.
محمد ابراهيم صالحي - Mohamed Ibrahim SALHI
نقله إلى العربية :
محمد غالم - Mohamed GHALEM
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم