معالم قسنطينة و أعلامها

معالم قسنطينة و أعلامها

اتسع ميدان الدراسات التاريخية وكسرت العلوم الإنسانية والاجتماعية العديد من الحواجز الشكلية بين التخصصات لصالح انفتاح متزايد على مختلف ميادين المعرفة في شموليتها مما يؤكد مبدأ تداخل الاختصاصات وتكاملها. وتحتل الجغرافيا وما يرتبط بها من أنماط الإنتاج الحضاري حيزا وافرا في المعرفة التاريخية باعتبارها المجال المادي والإطار الطبيعي الذي يتحرك فيه الإنسان ويتفاعل معه في علاقات جدلية وحميمة، عفوية كانت أم منظمة. "وتفيد الأعلام والرموز والمعالم والتسميات في استنطاق المخزون الحضاري ذلك أنها خلاصة حوار الإنسان لوسطه وبيئته"[1]. وتكتسي هذه الدراسة أهمية إضافية لما عاناه المجال الجزائري من تغيير تعسفي بإلباسه أسماء أوروبية دخيلة فرضت في التداول الرسمي ورسخت رموزها فوق اللوحات الجدارية على الأزقة واستدلت بها مصالح البريد والإدارة بل ورسخ بعضها في التداول اليومي للمواطنين. إذا كانت الأحياء الرئيسية بالمدينة العتيقة مازالت تعرف بمسمياتها "الأصلية" أو القديمة مثل "رحبة الصوف" و"باب القنطرة" و"زنقة مقيس" إن مصطلح "لابريش" (La brèche) على سبيل المثال، الدخيل لفظا، قد حل محل "باب الوادي" وفقد بالتداول شحنة مدلوله التاريخي الذي يذكر بالثغرة أو الفتحة التي أحدثتها المدفعية الفرنسية في سور المدينة لاختراق حصونها وترمز "لابريش" إلى بداية ليل الاستعمار على المدينة[2]. أصبح الموقع بعدها ساحة تربط بين الصخر العتيق والمدينة الجديدة التي توسعت نحو كدية عاتي[3]. وتغيرت معالم قسنطينة.

وتُبقي هذه الأعلام على تاريخ اندثرت معالمه بفعـل الزمن أو بفعل الإنسان ومنها التغييرات التي أدخلت على النسيج العمراني بشق طرقات واسعة تربط الأبواب أو المنافذ الرئيسية للمدينة فمست منشآت وهدمت بنايات وحولت أخرى عن مهامها بحجة المصلحة العامة.

كانت قسنطينـة تتربع على صخر شامخ يحدها جرف وادي الرمال العميق من ثلاث جهات وهو حصنها الطبيعي ويشكل خندقا منيعا أيام الحروب ويحدها البر من الجهة الرابعة بين باب الجابية وباب الوادي والباب الجديد في اتجاه مدينة ميلة[4].

على غرار المدن الإسلامية حفظ أهل قسنطينة ذاكرة أوليائهم وأعلامهم في معالمهم العمرانية مضافة إلى التعريف الدقيق للمحل كما وظفوا التوزيع الحرفي والتسميات الطبوغرافية أو العمرانية ذات المعنى الواضح والمباشر. ليس من السهل التعرف على تاريخ هذه الأسماء أو تراجم الأعلام الذين رسخوا في الذاكرة ورُصع النسيج الحضري بأسمائهم، وهذا مجال بحوث أخرى في الأنثروبولوجيا. قد نكتفي بالإشارة إلى أن العديد من الأولياء الصالحين الذين منحوا أسماءهم لمساجد وزوايا قد عاشوا في القرون القليلة الماضية.

تزخر عقود الأوقاف بأسماء الأماكن والأعلام الجغرافية. وإن اتفقت كل الوثائق على عدم ذكر مساحة قطع الأرض والاكتفاء بتسجيل السعر في حالة البيع أو الشراء، فقد بذل الموثقون مجهودات واضحة لرسم حدود العقار اعتمادا على مجاري المياه - مهما كانت صغيرة- التي تفصل بين قطعة وأخرى، ثم ارتكزت في التعريف على أصحاب قطع الأرض المجاورة. وتوفر هذه العقود مادة غزيرة بأسماء الملاك والأعلام والمعالم خاصة خارج أسوار المدينة. ويمكن استغلالها في باب الأعلام أولا ثم اعتمادها لتقدير الملكية بعد رسم حدود الأماكن الواردة بصفة تقريبية لا غير.

فيما يهم مجالنا الحضري داخل الأسوار كان دفتر صالح باي للأوقاف قد ركز على أحياء محدودة انحصرت في مجال نشاطات صالح باي العمرانية فلم نسجل جديدا في الأعلام إلا ما ندر. وإنما قمنا بجرد كل العناوين الواردة في دفتر الوفيات والتي أدلى بها أصحابها لتثبيت تصريح بوفاة (1840-41) واستخلصنا فهرسا بالأماكن والأعلام التي تميزها. والغرض الأول من هذه التصانيف هو معرفي يرمي إلى دراسة المجال الحضري ومميزاته والتعرف على البيئة التي يعيش فيها أهل قسنطينة وما هي طبيعة الأعلام الراسخة ومكانة الحرف بين مجمل التسميات. ولن نتوقف عند اختيار الأسماء الموقعية وكيفية استمرارها ولو كانت تمثل "شكلا من أشكال ترك بصمات ذاتية في المجال تشهد على الحدث والممارسة لتقـوية الذاكرة بالنسبة للإنسان ولمحيطه وبالنسبة لحاضره ومستقبله"[5].

ثم لا تنحصر وظيفة هذه التسميات "في التوطين والتدليل" وإن كانت من أغراضها الأساسية. ما هي الأسماء والأوصاف المتداولة وما هي الأعلام التي يستدل بها في مدينة مثل قسنطينة في منتصف القرن الثالث عشر للهجرة (قبيل منتصف القرن التاسع عشر) أي بُعيد الاحتلال الفرنسي بسنوات قليلة.

لقد اعتمدنا العناوين الواردة في تصريحات الشهود وثيقـة للمعالم العمرانية والمنشآت العامة وأهم البيوتات حجما أو منزلة أو الاثنين معا وذلك لدراسة علاقة القسنطينيين بمحيطهم. كيف يتوجهون من بيت لآخر وكيف يصفون الأزقة والشوارع وما هي المعايير الواردة للتمييز والتعريف من جهة ولتصنيف المسكن كمعلم أو موقع وترتيبه ضمن شبكة الدور في النسيج العمراني الحضري؟

تتوزع أسماء الأماكن على أربعة أصناف: الأسماء العامة التي ترجع إلى القاموس الجغرافي أو الوظيفي الحرفي ثم الأعلام من الأولياء الصالحين ثم سكان المدينة أنفسهم الذين نسبت إليهم الدور والأزقة والدروب وندرج في الصنف الرابع ما تميز بوصف أو لون… خارج هذه المجالات. وتَبَـين لنا أن أهم معـــالم المدينة هم أعلامها أنفسهم. ويبـقى أن نعرف من تتوفر فيه الشروط ليصبح علما وربما معلما.

النسيج الحضري القسنطيني

فهرس الأعلام

يوجد منذ القرن الماضي فهرس لأعلام المدينة العمرانية يضم أربعمائة معلما ويعد وثيقة جادة يمكن الاعتماد عليها إلى حد بعيد. ولكنه يحتاج إلى إعادة النظر والفحص والتدقيق. والسبب أنه وضع أولا من طرف ضباط الجيش وراجعه مريسي (E. Mercier) وأكمله بعد مرور خمسين سنة على احتلال المدينة باللجوء إلى ذاكرة أهلها.

استغل الباحثون في مجال الدراسات المعمارية والعمرانية هذه الخريطة التي نقلت لنا مواصفات المدينة عند الاحتلال مباشرة. وقد وظفها كل حسب اختصاصه فزادت معرفتنا بالمدينة ومعالمها وأعلامها. وقد اعتمدناها بدورنا في صورتها الأولية من حيث أسماء الأعلام الأماكن وفي صورتها المنقحة من حيث شبكة السكنات التي أضيفت بعمل الجغرافيبن والمعماريين وكانت الخريطة الأولى قد اكتفت بالشوارع والأسواق والأزقة مع الرمز إلى البنايات العمومية من مساجد وحمامات ودور كبيرة[6].

وعلى هامش هذا السؤال المتمثل في البحث عن واقع التمييز الحرفي داخل المدينة، إما بالتضامن وإما بالتهميش... وجدنا أنفسنا نبحث عن مختلف صيغ التعريف وما تعنيه من فروق في مفهوم عنوان المسكن من جهة وفي مفهوم المعلم الرمز الذي يستدل به داخل المدينة لأن "قراءة النسيج الحضري للأجزاء القديمة من المدن المغاربية يعطي صورة على امتلاك المجال الحضري حسب المفاهيم والعلاقات المتعارف بها في المجتمع المغاربي ككل"[7].

بجانب الحرف عمدنا إلى استخلاص قائمة المعالم والأعلام الحضرية الواردة في ذكر العناويـن وكذا فهرس بأسماء العلم من أسماء عائلية وشخصية ثم دراسة هذه المعطيات الثلاثة في تداخلها الاجتماعي والفضائي أو المجالي في النسيج العمراني بالمدينة.

تسمح قائمة المعالم الحضرية بإعادة تركيب الخريطة العمرانية للمدينة. قد انطلق ميرسي E. Mercier من الخريطة العسكرية التي وضعها الضباط الفرنسيون عند استقرارهم بالمدينة ودونت بها كل المعلومات الممكنة لتسهيل تحركات الجيش في المعارك الأولى ثم لاقتراح التغييـرات العمرانية على المدينة بعد أن ألحقت الجزائر بالممتلكات الفرنسية في شمال إفريقيا. لاحـظ مـيــرسي E. Mercier نفسه أن الخريطة غير كاملة وغير دقيقة في تفاصيلها، ولكن في غياب البديل فقد "حافظت في الخطوط العريضة على طابع الواقعية والحقيقـة". ثم حاول أن يكملها بالاعتماد على شهادات حية من السكان وكانت العملية صعبة لمرور خمسين سنة على الاحتلال وكانت المدينة قد عرفت تغيـيرات كبيرة في العمران بشق شوارع وسط الأحياء القديمة (مثل "الطريق الجديدة") وهدم بعض البنايات وتحويل أخرى عن استعمالاتها الأولى. وتأتي وثيقة الوفيات هذه بتوفير الاسم والحرفة والعنوان لما يقارب الألف شخص في وقت واحد لتضفي بعدا واقعيا وعمقا ميدانيا لتلك الحيوية الحرفية التي كانت تستشف من أسماء الشوارع والأسواق فحسب.

ثم إن هذه الظاهرة تطرح تساؤلات أخرى حول الدقة في تحديد المواقع من جهة وحول حجم الدار من جهة أخرى، لأن احتمال إطلالها على ثلاثة أماكن يفترض حدا أدنى في مقاييسها. وهذه القضية ككل تبين كيف يمكن إعادة رسم الخريطة العمرانية بشيء من المصداقية لكن يصعب بلوغ الدقة التي ينشدها المعماريون.

ثم تأتي دور السكنى وهي تفوق المئات وندرجها أيضا في باب الملكية ونستخلص فهرسا معبرا بعدد الدور في قسنطينة وتوزيعها على النسيج العمراني من حيث الحي أو الحومة، من حيث المالك، من حيث الحجم وعدد الساكنين بها حسب العينة ثم في باب قريب من الهدف الأصلي للسجل وهو معرفة جغرافية الوفيات وهل مست الموت، في السداسي المدروس جزءا من المدينة دون آخر أو منطقة أكثر من أخرى.

ومن بين الملاك الذين أعلنوا أنهم يسكنون في بيوتهم، ما هي نسبة الذين يكترون شطرا منها لغيرهم. عملية دقيقة عمليا تحتاج إلى تصنيفات متكررة. ونتيجة هذا التحقيق تكشف عن نمط عيش وعن مستوى المعيشة المتوسط، إذا ما علمنا أنه حتى العدل وهو الذي رتبناه في أعلى درجة لدينا يخصص جناحا من بيته للاكتراء. قد نحاول تفسيره بسعة البيت والغالب أن البيوت في قسنطينة متواضعة المقاييس في مجملها وقد نميل إلى تفسير اجتماعي آخر مفاده أن هذه الغرف تخصص للأقربين قبل أن يسـتقلوا ببيت أو للخدم والأعوان وهذا ما سنحاول الإجابة عنه أو ببساطة لضمان دخل قار فيخصص جناح للاكتراء. وهذا يعني أن من يملك دار سكناه ليس بالضرورة غنياً مترفاً.

وعلى كل فإن نسبة الملاك لا تفوق 10% حسب التصريحات ولكن عددهم أكبر لأن جل الدور الواردة هي ملك لأصحابها. في الواقع يجب تركيب المعطيات ومقارنتها بقائمة الدور التي نسبت لأصحابها وفيهم من حضر في العينة وفيهم من بقي اسمه كما توجد الدور التي نسبت للعائلة. فالعملية طويلة من الناحية التقنية ولكنها ممكنة تسمح فيما بعد لمتابعة الملكية وانتقالها من جهة ثم تطور السكن الفردي والجماعي والعائلي في المدينة. ويمكن أن نحصل على فهرس سليم للمعالم والأعلام العمرانية الذي يعد تقريبيا لما فيه من تكرار واضح أو ضمني.

هذا لا ينفي التصورات القيمية والأحكام المسبقة حول هذا الحي أو هذه الحومة ولكن لا تجد ما يدعمها في أرض الواقع. اشتهرت دور بطابعها المعماري أو باسم مالكها وكانت في أحياء مختلفة. ومثلما كانت الدار والزنقة تأخذ اسم صاحبها[8] فكان شأن الحومة يرتفع بقدر سمعة من استقر بها وفخامة البنايات بها. ولا أدل على هذا من سوق الجمعة الذي كان مهملا وأصبح مقر إقامة الباي صالح (1771-1792) وحاشيته، فزالت العزلة عن سوق الجمعة وسوق العصر "حبيب المسكين"[9] وأصبحت منطقة سكنية راقية بجانب مدرسة سيدي الكتاني وجامع خطبته.

قاموس المعالم

قبل أن يتجول المرء في المدينة يجدر به أن يدخلها من أحد أبوابها الأربعة وهي باب القنطرة، وباب الجابية وباب الوادي والباب الجديد. أما باب الوادي فهي من التسميات القليلة التي تذكر أن وادي الرمال "يتعطف" المدينة على ثلثي جوانبها[10]، أما باب الجابية فنسب إلى الصهريج الذي تخزن به المياه وأما باب القنطرة، فاسم على مسمى، حيث الجسر الوحيد الذي كان يربط قسنطينة بضاحيتها الشرقية. وهو جسر قديم احتفظ ببقايا العمل الروماني وأعيد بناؤه وترميمه أكثر من مرة. أمر صالح باي بترميمه سنة 1792م ؛ بدأ العمل ولم ينجز إلا في عهد خلفه حسين باي (1792-1795م) ؛ لم يصمد طويلا إذ سقط سنة 1857م، فأعيد بناؤه من جديد. لو تتبعنا الأعلام والمعالم باستطرادات حول تاريخ التسمية أو تاريخ المعلم نفسه لغصنا في أعماق الذاكرة الجماعية للمدينة.

إذا واصلنا الجولة حسب القواعد المعمول بها اتجهنا مباشرة من الأبواب إلى الجامع الكبير لتحية المسجد أو إلى إحدى الزوايا للتبرك بالأولياء نتوقف في الجامع الكبير بالبطحاء هو أقدم جامع بالمدينة، يعود بناؤه إلى القرن الثالث عشر خلال العهد الحفصي[11]، لا زال قائما ومحتفظا بمكانته رغم المنافسة الشديدة التي عرفها في القرن الثامن عشر بعد تأسيس جامع سوق الغزل تحت إشراف الباي حسين بوحانك بين 1736 و1754م والسيد ابن جلول وخاصة بعد ما أسس صالح باي المدرسة و"الجامع الأعظم" سنة 1775م. أما جامع سوق الغزل المحاذي للسوق التي وصف بها قد أصبح يعرف بجامع "الباي". لقد تم تحويله إلى كنيسة طوال الاحتلال الفرنسي للمدينة وارجع إلى وجهته الأصلية بعد الاستقلال. أما "الجامع الأعظم بسوق الجمعة" الذي بناه صالح باي فيعرف بجامع سيدي الكتاني وهو اسم الولي الشيخ البركة الذي بُني المسجد فوق ضريحه. ولم ترسخ عبارة "الجامع الأعظم" التي كانت متداولة في عقود الأوقاف زمن تأسيسه بينما احتفظ "الجامع الكبير" بالتسمية رغم افتقاده جناحا كبيرا مع الواجهة عند شق الطريق للربط بين باب الوادي وباب القنطرة مباشرة [12]. أما جامع الجوزة فيعرف أيضا بمسجد حفصة أو السيدة حفصة. وبقيت الحومة تدعى "السيدة" دون إضافة. والقاعدة أن تحمل المساجد والزوايا أسماء علم وهذا ما أوقع العديد في الخطأ عند ذكر "الجامع الأخضر[13] الذي بُني سنة 1730 وكثيرا ما يدعى "سيدي الأخضر"[14] والأصح هو الجامع الأخضر بناء على لونه. تتوزع جوامع الخطبة على الأحياء الرئيسية مثل القصبة التي كان بها آل باديس وجامع رحبة الصوف والجامع الكبير بالبطحاء لآل الفكون (الفقون) وجامع سيدي عبد المؤمن بباب الجابية وجامع سوق الغزل...

ضمت أسماء المساجد والزوايا عشرات الأولياء، رجالا ونساء، ولم تخلد الذاكرة الجماعية مسارات جميعهم. فمنهم من ذكر في كتب التراجم والتاريخ ومنهم من أهمل. وتعود التسميات إلى القرن السادس عشر والسابع عشر وحتى الثامن عشر. قد يلجأ السكان إلى الأولياء لترسيخ ذكراهم، هذه ظاهرة متفق عليها في نواحي كثيرة من البلاد المغاربية وغيرها. ولا يعود اختيار هذا الاسم أو ذاك إلى أسباب موضوعية دائما أو مقننة وإنما قد ترجع لحادثة فريدة؛ قد تدون وقد تهمل ويبقى الاسم متداولا. كما لا يحظ الأولياء بنفس المرتبة عند الكتاب وأصحاب التراجـم[15].

ونريد التوقف أولا عند أسماء المواقع وعند القاموس المحلي الذي وظف لهذا الغرض: أكثر من خمسين اسم موقع تصف معالم المدينة ومجالاتها، في عينتنا[16]، قمنا بترتيبها ألفبائيا لعدم التكرار وانطلقنا من الباب. ذكرت أربعة أبواب حقيقية تفتح المدينة على الخارج وتغلق في المساء وباب خامس "باب القصبة" رمزي يفصل بين القصبة وباقي الأحياء. والقصبة هي أعلى حي موقعا ويشرف على الجرف من أعلى نقطة.

ودائما بحرف الباء، هناك "برج السوس" المطل من أعلى الطابية للمراقبة. وقد اختلف أهل المدينة والدارسون حول بعض التسميات التي اندثرت ونقلت عن النصوص الفرنسية. فهذا "برج السوس في الطابية" من الأسماء التي تم تعريبها خطأ في صيغة "برج عسوس" والواقع أن كل الوثائق أوردته في شكل "برج السوس". واستعملت "البطحاء" وهي اسم على مسمى دون مضاف إليها، إنها مكان مفتوح لا يحتاج إلى تمييز لأن الساحة في قسنطينة تعرف بالرحبة. ولنا ثلاث في المدينة وهي "رحبة الصوف" و"رحبة الجمال" و"رحبة البلد". وكلها محلات تجارية تجمع الأولى بائعي الصوف وسط المدينة في حين يبقى أصحاب الدواب من جمال وبغال وأحصنة قرب الأبواب بين باب الجابية وباب الوادي؛ ومن هذه الأخيرة إلى "رحبة البلد" حيث السوق المركزية قبل الوصول إلى الأسواق أو "سوق التجار" المتخصصة حسب الحرف من حدادين ونجارين وخرازين ودباغين وغيـرها. وصفت "رحبة الجمال" في الروايات التاريخية القديمة بسعتها لخمسين جملا أو أكثر وآلاف الجنود إذا ما اصطفوا... وقد علق الروائي الطاهر وطار بسخرية على مساحتها المتواضعة بأن الرحبة تبدو الآن ضيقة وكأنها تتناقص كلّما خرج منها جمل واستقر صاحبه مكانه! [17].

انفردت الــ"تربيعة" بحرف التاء وهي المكان الواسع المهيأ لمناول النسيج وتقام بالفنـادق ومنها "تربيعة الحوكة" و"تربيعة الفندق" ولم تحدد مواقعها في حي معين.

بحرف الجيم تتبادر إلى الذهن قائمة الجوامع والمساجد وهي تفوق الستين مجتمعة وقد سبق ذكر بعضها، كما اهتم جل الباحثين السابقين بالمعالم الدينية والمنشآت الخاضعة للوقف فحظيت بالجرد أكثر من مرة. وقد بينا (على الخرائط المرفقة في فصول الرسالة) موقع المساجد القائمة إلى اليوم وتلك التي اندثرت أو هدمت أو تحطمت بفعل الزمن. ومن قواعد العمران الإسلامي أن يوجد جامع في كل حومة يقاس شعاعها بمدى صوت المؤذن عندما ينادي للصلاة[18]. وبعد الجامع وجدنا "جنان بن عصمان" الذي لم تحدد حومته بالضبط وكأنه مشهور ما يغنيه عن تعريف وهو وحيد.

وقد سجلنا في حرف الحاء خمس حومات بدءا بحومة القصبة والطابية والموقف في أعالي المدينة إلى حومة المناحل (أو "بير المناحل") وسيدي عبد المؤمن في أسفل المدينة بباب الجابية. والحومة تعني هنا الحي الصغير وقد تستعمل الأعلام مباشرة دون التلفظ بعبارة الحومة التي تصبح ضمنية بل وقد تهمل الإضافة أيضا فيقال: "حومة شارع اليهود" و"حومة الشارع" و"شارع الذميين" و"شارع اليهود" و"الشارع" فقط، وهو الحي الوحيد في المدينة الذي يحمل اسم "الشارع" كما يعني الحومة أو الحارة أكثر مما يعني النهج أو الزنقة. وإن كانت هذه الصيغة اختصارا فهناك تسميات لا يعرف لها سوى اسم المكان دون إضافة اسم العلم المميز له مثل: "البطحاء" كما سبق و"الطابية" و"الموقف" و"الشط" و"المر" و"الدرب" و"الدريبة" و"الرصيف" وأتت كلها معرفة بأداة التعريف العربية أي بالألف واللام كما يظهر في الجدول التالي:

 جدول ببعض أسماء المواقع داخل المدينة

اسم المكان

المعلم واسم العلم

بطحاء

البطحاء

جنان

جنان ابن عصمـان

حمام

حمام ابن السلطـان

حومة

حومة شارع اليهـود

حومة

حومة المناحـل

حومة

حومة الموقــف

حومة

حومة سيدي عبد المؤمن

حومة

حومة الطبالـة

خربة

خربة سيدي السعيد الزبيري

درب

الدرب

الدريبة

الدريبة

 

أخذت هذه التسميات النكرة صيغة اسم العلم للرمز إلى مواقع محددة. قد يرجع هذا التعامل إلى عادة اختصار التسمية في عنصرها المميز من جهة وإلى حجم المدينة المتواضع فلم يتكرر استعمال هذه المفـردات، فهناك "موقف" و"رصيف" واحد كما يعود لدقة التعبيـر وأصالته في بعض الأحيان.

ويلاحظ من القاموس أن الأسماء عربية النحت والاشتقاق وتوظف حسب معناها اللغوي في أكثر الأوقات: فالشط لغويا مكان في الركن، في الحافة... و"الشط" في قسنطينة حومة على ضفاف الوادي، على حافة الجرف بالقرب من "دار الدباغ" التي نقلت هناك لتصرف مياه الورشات مباشرة نحو الوادي وتبعد الروائح الكريهة عن الأحياء السكنية الآهلة[19].

أما البطحاء فهي اسم على مسمى وربما كانت مع رحبة الصوف ورحبة الجمال، الأماكن الوحيدة الواسعة والمفتوحة، وهي تفصل بين الأحياء العليا الوظيفية والحرفية والتجارية وبين الحي السكني بباب الجابية، علما أن الأسواق في تلك الفترة كانت في أزقة ضيقة تصطف الحوانيت على جانبيها، قد تكون مغطاة جزئيا أو كليا ولكن ليست رحبة مفتوحة كما نتصوره الآن. كانت البطحاء مركزية الموقع إذ يفتح الجامع الكبير أبوابه عليها. وهي الرحبة التي لا ترتبط بالنشاط التجاري والمبادلات لكنها مفترق طرق بين الشط والرصيف وسوق التجار ومختلف الفنادق والمقاهي. وهي حي سكني أيضا بها دار الشيخ الفكون ودار ابن نعمون ودار ابن الكريتلي وعلو بوصبع وغرهم[20].

وبهذه الدور نصل إلى حرف الدال حيث سجلنا أكثر من ألف وخمسمائة عنوان حرر حسب الصيغة التالية "يسكن بدار فلان...". اختـزلنا التكرار لفظا في فهرس مستقل.

 ا يسعنا سرد كل هذه المعالم التي جمعت بين "درب ابن شريف" و"دروج الرماح" أو "سيدي الرماح" "وزاوية راس الخرازين" أو" زقاق البلاط" وهي تسميات فريدة بينما سجلنا ما يفوق العشر زنقات منها "زنقة الدرداف" و"زنقة مقَيِس" أو "الزلايقة". أما زنقة الدرداف فهي تنحدر درجات مثل السلم نحو أسفل باب الجابية وتجاورها الزلايقة وهي اسم على مسمى بمعنى أنها تنحدر في زاوية حادة ويسهل الانزلاق فيها ولو مشيت بحذر.

ومن الأسواق وردت مجموعة قليلة وكأنها مخصصة للنشاط الحرفي فقلت بها السكنات: فذكر سوق البرادعيـين والحداديـن والرقاقيـن والقصاعيـن النجاريـن والصاغة وسوق الخلق وسوق الرزق... ومن السوق إلى الكوشة والفرن والفندق والقهوة... ويأتي في آخر القائمة "مصب الجامع الكبير" وقد يقصد به مكان الماء الشروب. وفي التعريف بالمواقع الحضرية دائما وظفت النسبة القبلية أو الموطن الاصلي في هذه الأوصاف مثلما وظفت في تعريف الأشخاص: فهذا "مقعد زواوة" وهو يوازي "مقعد الحوت" في طرفي رحبة الصوف. وثمة "صباط الحنانشة" وآخر "لابن فلوس" وهنا "قوس الطابية" وهناك "ساقية الروم"... وجلها مسميات معلومة لدى أهل قسنطينة والباحثين خاصة.

لفـتت انتباهنا التسميات العربية المتداولة وكنا لا نعيرها أهمية وكأنها بديهية. إلا أن هذه المعالم جاءت مكملة في عدد قليل نسبيا من العناوين وكانت الدار تنعت بصاحبها حيث يصبح المسكن رمز من رموز الانتماء إلى المدينة.



الهوامش : 

[1] بوكاري أحمد، الأعلام الجغرافية كمصدر من المصادر الحضارية" في: الإسم الجغرافي تراث وتواصل.- أعمال الندوة الوطنية الأولى حول الأعلام الجغرافية، (15-17 أفريل 1992)، المغرب، مطبعة فضالة- المحمدية.- ص. 61.

[2] حول الاحتلال الفرنسي ومقاومة مدينة قسنطينة، انظر:

Badjadja, A. La bataille de Constantine 1836-1837. Constantine, éd Baathة S.D.

Temimi, A. )1978. (Le beylick de Constantine et Haj Ahmed Bey 1830-1837. Tunis, Publications de la revue d’histoire maghrébine.

[3] Brebner, Ph. )1984. (The impact of Thomas R. Bugeaud and the decree of 9 june 1844 on the developpment of Constantine, Algeria. R.O.M.M, 2, n° 36, p.p. 5-14.

[4] وصف قسنطينة العديد من الرحالة والكتاب ومن بينها رواية "نجمة" لكاتب ياسين الذي صدر بالفرنسية:

Kateb, Y. Nedjma (roman). Paris, éd. Le seuil. p. 101.

[5] عياد مصطفى، العام والخاص في التسمية المواقعية، في: الإسم الجغرافي تراث وتواصل.- سبق ذكره.
ص. 154.

[6] للمزيد حول قسنطينة في القرن العشرين من حيث السكان والعمران... أنظر:

Meskaldji, S. La medina de Constantine activité et population.- Thèse de 3e cycle en géog. aménagement. Univ. P. Valery, Montpellier III, Déc. 1985.

Spiga, S. Organisation et pratiques de l’espace urbain constantinois. Magister en géog. univ. de Constantine, 1986. 229 p.

Pagand, B. Constantine de la medina à l’agglomération…. Op., cité.

[7] جمادي قاسم، الأعلام الجغرافية في الوسط الحضري المغربي بين الأصالة والمعاصرة، في الاسم الجغرافي تراث وتواصل.- سبق ذكره.- ص. 129.

[8] يوجد تشابه في نسبة الدار أو الزنقة لاسم صاحب المكان في المدن المغاربية... أنظر: قاسم الجمادي في المقال السابق الذكر، ص. 30.

[9] حسب الفكرة السائدة تعرض أحسن المنتوجات من خضر وفواكه في الصباح وما بقي تخفض أسعاره في المساء فيقتنيها ذوي الدخل الضعيف... من قصيدة يغنيها زين الدين بوشعالة " قسنطينة هي غرامي" تشيد

بمعالم المدينة وتبكي أطلالها. أما عن سوق العصر الذي رسخ في التداول وزال سوق الجمعة في التعديلات العمرانية بعد الاحتلال.

[10] تغنى الشاعر محمد العيد آل خليفة بجمال قسنطينة فقال:

 "بلد الهواء دعوك أم بلد الهوى إني أراك لذا وذاك مجالا 

قد ضمك الطود الأشم لصدره وتعطف الوادي عليك ومال.."

[11] Bourouiba, R. (1976). Constantine. Alger, éd. Ministère de la culture.

[12] هي المعروفة حاليا بشارع العربي بن المهيدي. هذا وتندرج هذه السياسة في تبعية العمران الباريسي لمنتصف القرن الماضي الذي وضع خطته هوسمان (Haussman). أنظر بربنر (Brebner) المقال السالف الذكر.

[13] وردت هذه التسمية في عقود الأوقاف بدفتر صالح باي وكذلك في التصريح بالعناوين في دفتر الوفيات وتفصل وأكثر من ستين سنة تفصل بين الوثائق.

[14] في حين اختلف الكتــاب الفرنســيون فـي الـتـسـمـية فمنهم من كتب "سيدي الأخضر" مثل فيرو (L. Feraud) الذي ترجم قائمة المؤسسات الدينية في مقال بنفس العنوان سبق ذكره، وبين من فهم التسمية وترجمها ويقال "الجامع ذو اللون الأخضر" (Mosquée verte) وقد شاعت العبارة في الثلاثينيات من القرن العشرين عندما اشتهر هذا المسجد بنشاط عبد الحميد بن باديس.

[15] أشار عبد الكريم الفكون في منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية إلى رجالات عصره وقد مجد “الفقيه عمر الوزان" في حين شجب سيرة "الشيخ الجليس" والتي وصفها بالتهور وقلة التزامه بالأخلاق الحميدة… ولا يعرف أهل المدينة الذين يرددون اسم "مسجد عمر الوزان" الذي هدم بعد 1837 أو "حومة سيدي الجليس" هذه التفاصيل ولا سر استمرار هذه التسميات. أنظر المنشور الذي ذيله المحقق أبو القاسم سعد الله بفهرس للأعلام جعل من السهل العودة إلى الشخصيات المذكورة.

[16] قشي، فاطمة الزهراء : قسنطينة المدينة والمجتمع في النصف الأول من القرن 13هـ/(18-19م). دكتوراه الدولة، جامعة تونس الأولى، سنة 1999. 618، ص. (غير منشورة).

[17] وطار الطاهر، (1983). الزلزال (رواية). الجزائر. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.

[18] Berque, J. (1974). Maghreb histoire et sociétés. Alger, SNED, Paris, Duculot.

[19] لمزيد حول توزيع النشاطات الحرفية عبر الأحياء راجع مقال أندري ريموند:

Raymond, A. (1986). Caractéristiques d’une ville arabe « moyenne » : le cas de Constantine au XVIIIe siècle, Les Cahiers de Tunisie, Numéro spécial, N° 137-138. pp. 175-195.

[20] دفتر الوفيات، سنة 1256هـ. أو فهرس « Artisan » رقم: 322 و657 و725 للعلو وغيرها.

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Phone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact Us