على القارئ الذي يريد فهم تاريخ جزائريّي كاليدونيا الجديدة أن يأخذ بعين الاعتبار التاريخ الثقافيّ، السياسيّ والدينيّ للجزائر، وبالخصوص تاريخ موجة التّهجير الكبيرة نهاية القرن التّاسع عشر. ففيما يخصّ هذه الفترة المنسيّة، لا يوجد شيء دقيق يسمح للقارئ المعاصر أن يكوّن فكرة حول الوقائع التاريخيّة، حتى وإن وجدنا عددا من الطّقوس الاجتماعيّة ذات الأصل العربيّ-البربريّ في منطقة "بوراي" Bourail. لا يلحظ الزائر لهذه المنطقة، على الأرجح، التّنظيم التّقليديّ الذي تمّ إنشاؤه في هذه الوديان، وبما أنّه غير مرئيّ مباشرة، تطلّب الأمر قضاء سنوات عديدة في هذا الإقليم من أجل إبراز دلالته ومضمونه الاجتماعيّ من خلال عملية غرس النّخيل، طقوسها، مكانتها المقدّسة ومبادئ التّضامن التي كانت الأساس في تكوين "جماعة" قديمة. لم يتمكّن القمع المعنويّ (بالإدماج أو تغيير الّديانة) أو القمع الجسديّ (التّعذيب والوحشية) من تشكيل قاعدة للمنهج الكولونياليّ للاندماج. لقد تمثّلت الرّسالة الموروثة عن الأسلاف لـ "دار الحاج" (وهي عبارة احتقاريّة استعملت خلال الفترة الكولونياليّة لوصف القادة المقاومين) في إعادة تنظيم العدد الكبير للكاليدونيّين أحفاد الجزائريّين والمتضامنين على أساس تجمعّ ثقافيّ ودينيّ حول الشّيخ "سيدي مولاي".
العقوبة المسلّطة كظاهرة كولونياليّة
اتّخذ المحامي من أصل إسرائيليّ أدولف إسحاق كريميو، المقيّد في سجلّ محاماة "نيم" Nîmes وحافظ الأختام في حكومة 04 سبتمبر، قرارا في سنة 1870 يمنح بموجبه يهود الجزائر صفة المواطن الفرنسيّ. لقد أدارت هذه السّياسة ظهرها تماما لـمشروع "المملكة العربيّة" Royaume Arabe لنابوليون الثّالث. فعندما نعلم حجم العلاقات التّجارية القديمة بين الجماعات الموجودة آنذاك، نفهم كيف أنّ الحصول على الجنسيّة الفرنسيّة من طرف البعض (الأهالي اليهود) على حساب البعض الآخر (الأهالي المسلمين) جعل ثورة القبائل الجزائريّة الكبرى أمرًا محتوماً. لقد أعلن نابوليون الثّالث الحرب على بروسيا سنة من قبل، ولكن يبدو أن حكومة الدّفاع الوطنيّ لم تقرّر إطلاقا القتال ضدّ البروسيّين. وأمام انتهاك المكانة العائلية الجماعيّة، تكوّن قطب على أساس تضامني رفض الاعتراف بالقادة الجدد لحكومة الدّفاع الوطني إذ رفضت كتيبة الـ "سباهي" spahis بالجزائر ركوب البحر باتّجاه فرنسا في شهر ديسمبر 1870. وفي أفريل 1871 تزعّم الشّيخ المقرانيّ الثّورة ولكنه [قُتل في المعركة يوم 05 ماي 1871].
تمّ استبدال إمبراطوريّة نابوليون الثّالث بالجمهوريّة في 04 سبتمبر 1870 وتمّ تشكيل حكومة دفاع وطنيّ. لقد نُصّبت محاكم خاصّة مزيّفة سُمّيت بـ "مجالس الحرب" في القطاعات الثّلاث (الجزائر، قسنطينة، وهران) من أجل محاكمة ما اعتبر انتهاكات أثناء فترة الثّورة. لقد أعطيت للائحة اتّهام الثّوّار عدّة تأويلات. فبما أنّه قد تقرّر أن من غير الممكن المساواة في التعامل مع المجموعات المختلفة، تمّ توجيه الاتّهام نفسه لـ 213 فردا بما فيهم "كبار القادة". ومن أجل تشويه صورة المتّهمين لدى هيئة المحكمة، قامت النّيابة العامّة بتقديم هؤلاء الثّوار كمجرمين عاديّين، زعماء قتلة، مشعلي نيران، ناهبين وسارقين. لقد استغلّت جريدة جديدة تسمّى "المبشّر" نظرة سلبيّة كليًّا للوطنيّة العربيّة النّاشئة وللدّين الإسلاميّ ووجّهت الدّعاية ضدّ الثّوار الذين وصفوا بقطّاع الطّرق، القتلة والمتمرّدين.
تستحقّ إدانة الشيخ بومزراق الذّكر، وهو الذي خلف أخاه المقرانيّ بعد وفاته في المعركة على رأس ثورة 1871، لأنّ محاكمة هذا القائد أثارت زوبعة كبيرة. لقد أدّى في الواقع هذا الحكم الجائر إلى ردّة فعل لدى رجال القانون الفرنسيّين إذ أبدى البعض منهم معارضتهم القاطعة مبيّنين أنّ إدانته تمّت حتّى قبل مثوله أمام المحكمة، لكن رغم ذلك فقد اعتُبر مذنبًا وحُكم عليه بالنّفي مع الثّوار الآخرين الذين وُجّهوا نحو فرنسا واعتقلوا في الموانئ السّاحليّة (حصن تولونToulon ، جزيرة بوركرول Porquerolles، جزيرة سان مارغريت Saint Marguerite، حصن سان-مارتان-دي-ريSaint-Martin-de-Ré ، حصن برستBrest ، في كورسيكا Corse بـكالفي Calvi وكورتCorte ).
نفي المغاربيين إلى كاليدونيا الجديدة
لقد تضرّر عدد من الوثائق الخاصّة بالنّفي سواء في فرنسا (خلال الحرب العالميّة الثّانية) أو في كاليدونيا الجديدة (الفيضانات). ومن أجل تحديد المنفيّين السّياسيّين من أصل مغاربيّ، بدا لنا أنّه من الضّروريّ القيام بمقارنة بين سجلات النّفي وسجلات أمكنة الاحتجاز انطلاقا من مصادر أرشيفيّة مختلفة. من جهة أخرى، وبسبب طول فترة صدور أحكام مجالس الحرب والمحاكم، كان على المنفيّين الانتظار طويلا قبل ركوبهم في قوافل بحريّة نحو كاليدونيا الجديدة. لهذا كان يُحبس هؤلاء المساجين في مخازن أو أماكن احتجاز قبل مغادرتهم النهائيّة. لقد استطعنا لحسن الحظّ، من خلال أرشيف أماكن الاحتجاز على الخصوص، إعداد قائمة لأصول وتواريخ ميلاد المحكومين المغاربيون وكذا تواريخ ركوبهم في كل قافلة بحريّة نحو كاليدونيا الجديدة[1].
من النّاحية الكرونولوجيّة، انطلقت أولى القوافل البحريّة للمُرحّلين المغاربيون نحو كاليدونيا الجديدة ابتداءا من 1867. لقد أحصينا ما مجموعه 178 محكوما حسب القانون العام. لقد كان هؤلاء المنفيّون الأوائل جزءا من انتفاضة أولاد سيد الشّيخ سنة 1864. حدّدنا بعد ذلك عدد المنفيّين السّياسيّين بعد انتفاضة منطقة القبائل سنة 1871 وانتفاضة "العمري" (بسكرة) سنة 1876: 120 راكبا في القوافل البحريّة من 1874 إلى 1878. لقد تمّ تطبيق قانون 23 مارس 1872 على هؤلاء المتمرّدين السّياسيّين، القانون الخاصّ بمتمرّدي "كومونة باريس" سنة 1871، وحُكم عليهم بالأشغال الشّاقة أو العزل. نقلت قوافل أخرى منفيّين سياسيّين جددًا بعد انتفاضة الجنوب الوهرانيّ 1881-1882 (بوعمامة مرة أخرى، فرقتي "الغرابة" و"الشّراقة") وكوّنوا ما مجموعه 13 راكبا في القوافل اللاّحقة بين 1881 و1882. بعد ذلك تمّ ترحيل 12 تونسيّا بين 1890 و 1892 بعد انتفاضة الجنوب التونسي (الجريد/طبرقة) سنة 1881، من بينهم من وُلد أو بقي في الجزائر خلال الموجة الثّوريّة لـ 1871. علاوة على ذلك، يجب الإشارة في هذا السّياق أنّ الجنوب الجزائريّ لعب دورا متزايدا انطلاقا من الجريد التّونسيّ. فعند محاكمتهم تحت طائلة القانون العامّ من طرف مجلس حرب تونس ومحكمة تونس، كانت الدوافع الرئيسية لإدانتهم هي رفض السّلطة الفرنسيّة والعصيان. لقد تبعت قوافل أخرى لنفي التّونسيّين، لكن الأرشيف يشير في الواقع إلى عدد من المساجين الجزائريّين المُوجّهين إلى السّجن الكاليدونيّ وهؤلاء كانوا مُسجّلين كنزلاء تحت أرقام الاعتقال التّسلسليّة. لقد كانوا جزءا من القوافل الأخيرة بين 1887 و1895 [2] .
لقد سمح لنا تنظيم المعيشة على متن السّفن الاهتمام بالطّعام المقدّم للمحكومين. لاحظنا مثلا أنّ المغاربيون لم يستطيعوا التّكيّف مع طعام أوروبيّ بالكامل حيث أنّ هذا الأخير لم يُدخل في مكوّناته حينذاك المنتوجات الفلاحيّة المتوسطيّة، وكان هذا السّلوك الغذائيّ يقلق إدارة السّجون التي كانت تحاول معالجة الأمر قدر الامكان.
"(...) ما الذي يمكننا فعله مع ذلك؟ كانت تغذيتهم هاجسا كبيرا للجميع: لقد كانت أذواقهم غريبة! كمسلمين، كانوا يكرهون الكحول والنّبيذ؛ جيّد، ولكن لحم البقر والخضار الجافة لا تناسبهم أيضا؛ ففي عرض المحيط كانوا يطلبون الفواكه والسّلطة [!]"[3].
مع ذلك، وبالرغم من مصاعب هذه السّفريّات العابرة للمحيط، لم يسقط الكثير من المرضى بين المغاربيون وذلك على العكس من زملائهم من "كومونة باريس". مثلا، من أصل 62 راكبا على متن سفينة "كالفادوس" Calvados يوم 02 سبتمبر 1874، نسجّل أربع وفيات فقط في الجماعة المغاربيّة. لقد كانت المعارف الطّبيّة غير كافية، خاصّة تلك المتعلّقة بأصل بعض الأمراض التي كانت لا تزال مجهولة آنذاك. كمثال على ذلك، لم نكن نعرف كيف تتمّ معالجة مرض "الأسقربوط" scorbut الذي كان ينسب، في هذه الحالة، إلى المناخ البحريّ:
" الأكيد هو أنّ الأسقربوط وحمّى التّيفوئيد، بعد الأسبوع الدمويّ، هما من أسقط أكثر الضّحايا من بين متمرّدي 'الكومونة'؛ لقد أفرزا آثارهما الخبيثة ليس فقط أثناء الاحتجاز في الموانئ، بل أيضا خلال التّنقّلات نحو كاليدونيا الجديدة"[4].
من الجدير أيضًا الإشارة إلى تمسّك المغاربيين بديانتهم كما يخبرنا بذلك الأرشيف إذ يسجّل هذا الأخير كيف أنّه ابتداءا من 13 أكتوبر، دخل العرب في فترة الصّوم لشهر رمضان، إنّهم لا يشربون ولا يأكلون من شروق الشّمس إلى غروبها ويرفضون أيّ دواء خلال هذه الفترة من اليوم"[5].
تواصل رسالة مؤرخة في 30 أوت 1873 حول موضوع شرب الحليب بدل النّبيذ:
"من بين منفيي 'سان مارتان' St Martin يوجد 89 عربيّا مدانا بعد انتفاضات الجزائر. كان يجب فصل هؤلاء الأفراد عن المساجين الأوربيّين ووضعهم في أكثر الأماكن تعرّضا للشّمس. كان يسمح لهم بطبخ أكلهم بأنفسهم وبالنسبة لهم، كان يُعوَّض النّبيذ بالحليب، والشّحم بالزّبدة. كانت تُقدّم لهم ألبسة عربيّة كتلك التي كانت تُوزّع في 'كيلارن' Quélern. أرجو منكم إيصال مضمون هذه البرقيّة للمدير. نعلم هذا الموظّف كما نعلمكم بانطلاق الباخرة من 'سان مارتان'. تقبّلوا (...)"[6] .
من ناحية أخرى، لا يمككنا تقرير وجود التّمور على متن البواخر انطلاقا من قائمة السّلع المشحونة. هل من الممكن على الرّغم من ذلك الافتراض أنّ المدانين، الأوفياء لعاداتهم الغذائيّة المتوسّطيّة، قد حملوا معهم هذه المنتوجات الضّروريّة (والتي يمكن حفظها لمدة طويلة)؟ كانت التّمور في تلك الفترة الغذاء الأساسيّ للعديد من سكّان المغرب الكبير: بعض الأنواع الجافّة كـ "مش-دڤلة" من "الزّيبان" أو "دڤلة-بايدة" من "واد ريغ" قابلة للحفظ بشكل ممتاز وتشكّل بالنّسبة للسّكّان الرُّحّل بخاصّة مصدرا غذائيّا قاعديّا غنيّا بالحريرات وبالأملاح المعدنيّة، ولكن ليس ذلك فحسب، بل حتى النّوى كانت تستهلك من طرف الحيوانات[7]. لا يجب إذن الاستغراب إذا حفظ المحكومون الجزائريون، بشكل أو بآخر، مخزونًا من هذه الثّمار خلال سفر التّرحيل الطّويل. من الممكن أيضا أنّ طواقم البحّارة كانوا يقدّمون التّمور كعنصر رئيسيّ في قائمة الغذاء على متن السفن لمزاياها العمليّة والواقعيّة باعتبار أنها لا تتطلّب لا تحضيرًا ولا طبخًا، زيادة على أنّها قابلة للقسمة بسهولة.
على سبيل المقارنة، يُستخلص من مقابلاتنا مع أولياء أسر جزائريّين وصلوا إلى فرنسا سنوات 1950 أنّ البعض منهم –خاصة أولئك الذين لهم علاقة عميقة مع الواحات- كانوا يحملون معهم (في جيوبهم) تمورًا رطبةً أو جافّةً (حسب الأنواع) خلال تنقّلهم نحو أو بين المدن الفرنسيّة. زيادة على ذلك، لا زال الالتزام قويّا بالجمع بين التّمر )الدّڤلة( واللّبن كعادة أسلاف قديمة في واحات المغرب الكبير، وهكذا بقيت كعنصر من تقاليد التّبادلات المنتظمة بين ضفّتيّ المتوسّط. فاتّجاه هذه الممارسات التي يمكن اعتبارها بشكل معقول كبقايا نظام غذائيّ، يمكننا القول أنّ هذا التّراث –كمعرفة علميّة- قد لعب دورا حاسما في مستقبل هؤلاء المنفيّين. نعلم مثلا أنّ النّخلة في التّقاليد الموروثة تضمن بقاء الفرد الذي تعوّد الاعتناء بها منذ عدة قرون. وعندما يتنقّل من وسطه المعتاد نحو المدينة أو نحو بلد أجنبيّ، فإنه يأخذ معه هذه الثّمار الثّمينة من محصوله. فهذه الأخيرة تعتبر مرجعيّة بالنسبة إليه، بل حتى انعكاسا لهويّته. وهكذا، عندما يستقرّ نهائيّا في أرض مجهولة بالنّسبة إليه، يتمّ العمل على فرز أنوية التّمور وحفظها وإعادة غرسها.
تجربة استعماريّة جنائيّة في وديان "بوراي"
"كانت إدارة السّجون بحاجة لمساحات جديدة من أجل نقل المحكومين إليها والقيام بتجربة استعماريّة جنائيّة تبعًا لروح قانون 1854" [8].
ولدت "بوراي" Bourail من سياسة التّهجير والنّفي إلى كاليدونيا الجديدة إذ حسب "جورج كلينغ" Georges Kling، عيّن الحاكم "جيلان" Guillain لجنة من أجل استكشاف الأراضي المحيطة بالميناء الصّغير لـ "بوراي" وذلك من أجل القيام بتجربة استعماريّة جنائية[9]. لقد بدت وديان "بوراي" من منظور المؤسّسين الاستعماريّين مناسبة من أجل إنشاء إصلاحيّة زراعيّة ستتجمّع حولها شيئا فشيئا مجموعة من المِلكيّات، أي قطع من الأراضي التي تنازلت عليها إدارة السّجون[10]. كانت هذه الأخيرة في الواقع مالكة لمعظم إقليم "بوراي"[11] ومركز زراعيّ من هذا النّوع لا يجب أن يُتصوّر كإصلاحيّة، بل كمجموعة قرى موجّهة لإسكان المحكومين تشبه قدر الإمكان القرى الفرنسيّة. لقد كان ذلك مشروعا نموذجيّا حسب روح المذهب السان-سيمونيّ[12] إذ لا نجد في هذا الأخير الأسطورة التي تمزج بين "الشّرق والغرب"، ولكن محاولة استيطان مختلط يجمع بين "العنصر الجنائيّ" و"المستعمر الصّغير". لقد تمّ تطبيق هذا البروتوكول على المنفيّين المُحرّرين الأوائل في الملكيّات الرّيفيّة الفرنسيّة لما وراء البحار.
"في كاليدونيا الجديدة، لم يصبر الأميرال "جيلان" Guillain على مقاومة فكرة تطبيق نظريّاته، وهو الذي بقي في حدود المذهب السّان-سيمونيّ لسنوات 1830. في سنة 1864 حملت سفينة "لا سيبيل" La Sybille قافلة من المرحّلين واختار الأميرال من هذه المجموعة عشرين مستوطنًا يمارس كلّ منهم حرفة مختلفة وقدّم لهم 300 هكتار في منطقة 'ياتي' Yaté، مع وسائل العمل، البذور والحيوانات الضّروريّة. أما أرباح الشّراكة فقد قُسّمت إلى قسمين، أحدهما يُوزّع بدوره على المستوطنين، والآخر بالتّناسب مع أيّام العمل"[13].
رغم ذلك، لم تكن نتائج هذه التّجربة الأولى مرضية وتمّ إيقافها بعد فترة زمنيّة[14] . كان يجب استكشاف مكان آخر وهكذا تمّ اختيار "بوراي" كأفضل منطقة لتجربة استيطان جنائيّ. ففي المركز الإصلاحيّ الزّراعيّ لـ "بوراي"، تتضمّن عمليّة التّنازل وجوب دفع المستفيد المُحرّر ثمن الأرض التي يخدمها إذ أنّ الشّرط الرّئيسيّ لتحريره هو الرّيع السّنويّ ورأسمال تخليص الملكيّة المُتنازل عنها، فرأس المال هذا هو ما يحدّد حرّيّته النّهائيّة. كان هذا الإجراء أساسيّا بالنّسبة للإدارة التي حرصت على انتقاء أفضل عناصرها والذين كانوا يخضعون لقواعد سلوك دقيقة جدًّا. وهكذا أصبحت وديان "بوراي" أرضًا مختارةً وفيّةً لروح المذهب السّان-سيمونيّ كما تطوّر آنذاك في الجزائر. وكما ذكر سابقا، لم يقاوم الأميرال "جيلان"، الذي كان يعتبر في ذلك الوقت طوباويّا، الرّغبة في تطبيق نظريّاته على "المُرحّلين" الأوائل سنة 1864. لقد تمثّلت هذه الرّغبة في إنشاء مزارع وقرى حديثة، ما تطلّب وجود مزارعين. وهكذا، وبواسطة مجهودات مشتركة، تمّ تعليم المرحّلين أساسيّات " العمل الجماعيّ التّعميريّ" – إضافة إلى بعض قواعد السّلوك – من خلال مهامّ متنوّعة: الإنشاء، الغرس، السّقي والزّراعات المُحسّنة. أصبحت إذن "بوراي" أرضا مُختارة جديدة شهدت تطبيق روح قانون 30 ماي 1854. يهدف هذا الأخير إلى فرض نفي دائم للمحكوم عليهم بأكثر من ثمان سنوات من الأشغال الشّاقة ويقدّم لهم إمكانيّة الحصول على ملكيّات أراض متنازل عنها، إمكانية أن يصبحوا مستوطنين. فهؤلاء المدانين يدفعون ثمن حرّيّتهم (رأسمال تخليص قطعة الأرض التي منحت لهم) ويصبحون رجالا أحرارا بامتلاكهم هذه الأراضي نهائيّا، ولكن بشرط أن يثبتوا حسن تربيتهم وسلوكهم. وهكذا تمّ إعادة تجديد أسس المشروع الاستعماريّ بتجنيد العنصر الجنائيّ هذه المرّة.
مسار تجديد الهويّة
سمح لنا الاطلاع على سجّل وكلاء المركز الإصلاحيّ لـ "بوراي" بالتّحقق من الأصول الاجتماعيّة للمستفيدين المغاربيون إذ يظهر مباشرة للعيان أنّ الغالبيّة من المتمرّدين المغاربيون المنفيّين ينحدرون من أصول ريفيّة (مزارعون). وأخذًا بعين الاعتبار العناصر الإثنوغرافيّة، بيّن تحقيقنا ديناميكيّة ريفيّة قويّة في هذه المِلكيّات، كما استفاد المنفيّون المغاربيون من تجربة الأرض "الجماعيّة" لامتلاكهم معرفة جيّدة بالأنظمة الزراعيّة.
بالرغم من تطرّف المعاملات القاسية (نقص التّغذية، رعاية صحيّة محدودة، عقوبات شديدة، محاولات لتغيير الدّيانة، توحيد الألقاب)، لا نزال نلاحظ اليوم في أودية "بوغن" Boghen و"نيساديو" Nessadiou، ذات الماضي الشاقّ، آثارا عميقة وظاهرة على الدّوام لإعادة بناء بيئة مغاربيّة وذلك من خلال مساحات نخيل مغروسة ومتنوّعة ذات أصول عربيّة-بربريّة. نحن نمتلك عددا من العناصر التّاريخيّة والتّصويريّة التي تسمح لنا بتحليل ظاهرة "إعادة إنتاج تقاليد الأسلاف" هذه. فعلى الرّغم من النّظام المهيمن، لم يتخلّ الجزائريّ المستفيد من هذه السّياسة عن تراثه الزّراعيّ وكان يريد أيضا إعادة بناء الرّابط الثّقافيّ القديم في أرض المنفى التي كان يحسّ أنها أرض "عدوّة".
رسالة "دار الحاج"
كانت تقتضي الرّسالة الطّبيعيّة لـ "دار الحاج" [15] تنظيم جماعة متضامنة جديدة في إطار المستعمرة. ففي حين كان يعمل المشروع الاستعماريّ من أجل رفاه فرنسا، كانت هذه المؤسّسات ترمز إلى الرّابط السّوسيو-ثقافيّ في منطقة تكوّنت أساسا منذ زمن مبكّر من زيجات مختلطة، حتى أنّ صورة هؤلاء "الشّيوخ العرب"[16] الذين يشكّلون "دار الحاج" أصبحت أسطوريّة. لقد قُدّم لنا وصف تاريخيّ لهؤلاء الرّجال المرحّلين على هضبة "فوجاراس" Fougères (البلديّة الخامسة، جزيرة الصنوبر):
"نراهم يمشون هنا وهناك، في وقار وزهد، تحت برانيسهم البيضاء الطّويلة المعقودة على رؤوسهم بحبل من وبر الجِمال. تحتفظ عيونهم بشعلة ناعمة، نصف منطفئة؛ ينحنون بتواضعهم المُحترم عند مرور قائد فرنسيّ ؛ وفي المساء يسجدون مع مغيب الشّمس، يقبّلون هذه الأرض العدوّة لهم، ولكنّها تبقى رغم ذلك أرض الله" [17].
الغريب في الأمر أنّه في حين لم تخلّف تجربة السّجن في غويانا Guyane آثارا ثقافيّة كبيرة، فإنّ مغاربة كاليدونيا الجديدة لعبوا دورا كبيرا في الرّبط الدائم بين المجموعات الأخرى. لقد تبنّت نساء المنفيّين، الأوروبيّات في غالبيّتهن أو الميلانيزيّات، التّقاليد الجزائريّة والتّراث العربيّ-البربريّ. ويبدو أنّ هذا الأخير قد تمّ قبوله كليّة والموافقة عليه من طرف الشّابات اللاّئي تزوّجن من جزائريّين، كما أنّ الوفاء لتراث الآباء قد احتلّ مكانة جديدة تماما. لقد تركت العقود الاندماجيّة، المؤسّسة من طرف السّلطة الكولونياليّة، مكانها لعقود المشاركة الشّعبيّة المتميّزة بالدّرجة الأولى بتعليم النّساء الأوربيّات الممارسات التّقليديّة كـ "التّويزة" (العمل الجماعيّ التّطوعيّ)، وذلك من أجل تنمية حسّ الانتماء الجماعيّ فيما بعد. على مستوى الممارسات الغذائيّة، كان طبق الكسكسيّ يُحضّر بواسطة منتجات البساتين العائليّة: اليقطين، اللّفت، الفاصولياء، الفلفل، الكزبرة وحليب الماعز. أمّا القمح الصّلب فقد كان يستعمل لصنع الفطائر ("الكسرة") أو "الخبز". لقد كانت الأسر تحضّر أيضًا فطائر من التّمر المهروس.
يحافظ الكاليدونيّون أحفاد المغاربيين، لغاية اليوم، على التّقاليد العائليّة في ذاكرتهم ويضمنون استمراريّتها. إنّهم يعرفون كيفيّة العناية بالنّخيل وكذا الأدوات الخاصّة بـهذه الزراعة. فالأحفاد الأكبر سنًّا كانوا شاهدين، مع آبائهم المزارعين الذين كانوا غالبا حدّادين وتجّارا في الوقت نفسه، على طرق عمل منقولة مباشرة من الصّحراء الجزائريّة. ففي محلّ الحِدادة تمّ إعادة صناعة "المنجل" و"المسحاة" وحتى الكمّاشة الخاصّة بـ "الجبّارة" من أجل فصل الزّوائد عن الجذع الأصليّ للنّخلة [18].
المصاهرة المختلطة والجينيالوجيا التّقليديّة
يمكن أن يُدرس النموّ الدّيموغرافيّ لكاليدونيا الجديدة على أساس مجموعات متمايزة (جزائريّون، أوربيّون، ميلانيزيّون أو آسيويّون). ولكن كيف تبدو وضعيّة سكّان هذه الوديان موضوع دراستنا؟ هنا، ومن أجل دراسة نظام القرابة في وديان "نيساديو" Nessadiou و"بوغان" Boghen، لا بدّ أيضا من إدخال سلطة "قدماء العرب" – المُلقّبين في الغالب بـ "الشّيوخ". يتعلّق الأمر بمعرفة أيّة أنظمة قرابيّة (وبالتّالي أيّة أشكال من التّبعيّة) يضعها الشّيوخ منذ الزّواج الشّرعيّ الأوّل المعترف به. من أجل تحليل القرابة الأوّليّة التي أتيح لنا دراستها، توصّلنا إلى معرفة خمس عائلات جزائريّة قمنا بتحديد أسمائهم، الأراضي الرّيفيّة التي تمّ التّنازل عنها لصالحهم، علاقات النّسب الخاصّة بهم وأحفادهم لغاية ثلاثة أجيال. يمكننا ملاحظة وجود قرابة معقّدة وغنيّة بعلاقات النسب التي تتقاطع بين الملاّك الجزائريّين في هذه الأودية. نلاحظ في أغلبيّة هذه العائلات علاقات نسب مشتركة تمّ نسجها من طرف مجموعة أفراد كانت تريد الاستقرار.
نلاحظ إذن أنّ القادمين الأوائل قد جلبوا قيمهم التّقليديّة الرّيفيّة وحاولوا إقامة روابط أسريّة قويّة. وهكذا، إذا كانت نسبة الخصوبة متغيّرة من أسرة لأخرى، فإنّنا نحصي أحيانا إلى غاية عشر أطفال في الأسرة الواحدة. هذا النّوع من البُنيات العائليّة ولّد تضامنا قويّا في الوديان، التّضامن الذي لا زال مستمرّا إلى اليوم. تهدف المجموعة "الجماعاتيّة" إلى ضمان استمراريّة التّراث القرابيّ العربي-البربري القائم على علاقة قرابة داخليّة وتضامن وثيق في حالة الصّراعات الخارجيّة. لقد تطوّر هذا النّظام بطريقة متجانسة ومندمجة بفضل التّقنيّات والطّقوس الزّراعيّة التّقليديّة المنقولة اجتماعيّا. هنا تقوم "الجماعة" على الملكيّة الجماعيّة للأراضي (غير القابلة للتّقسيم). لنأخذ مثالا: عنما يتزوّج جزائريّ منفيّ مع ابنة منفيّ أوربيّ[19] فإن الابن البكر، حسب التّقاليد، يرث الحقل الأبويّ وعليه أن يساعد إخوته المضطرّين لاستعارة حقل جديد - وهذا ما يجعل نظام النّسب مستقرًّا ومانعًا لكلّ الصّراعات في إطار قرابة "زراعيّة نخيليّة – ثقافيّة" [20]..
إدخال زراعة النّخيل في منطقة "بوراي"
تمتاز منطقة "بوراي" بمناخ شبه-جافّ أين ينمو النّخيل بشكل جيّد. تقع سكنات الوديان بين الحقول الزّراعيّة والهضبة غالبا على أراض مائلة وتوجد بالقرب منها النّخلة التي تؤسّس لمكان الغراسة وفي بعض الأحيان لقيمة ثقافيّة ودينيّة ("مرابطيّة"). تتكون البنية العائليّة من "الشّيخ" المحاط بقبيلته وهذه الأخيرة تجمع ذريّته كلّها. إنّ لجميع هضبات منطقة "بوراي" تحديد دقيق حسب نظام يحيل إلى تملّك الأرض وذلك بواسطة نظام للتّسميات الجغرافيّة ("أولاد"، "بن" أو "بني"). نحن هنا أمام "عرش" مُعادٍ تشكيله أين يتجلّى تجانس المجموعة الجديدة، سواء كانت جماعيّة أو عائليّة، في نظام علاقات المصاهرة بين "الشّيوخ"، كما تُقدّم النّخلة دائما على أنّها مركز الاهتمام والعناية. إنّها بالفعل رمز للهويّة الأسريّة للمجموعة الزّراعيّة والثّقافيّة.
من المؤكّد أنّ نقل زراعةٍ أصيلةٍ للنّخيل ليس وليد الصّدفة إذ من البديهيّ أنّه مرتبط بوجود المغاربيون في الإقليم الكاليدونيّ الجديد خلال القرن التّاسع عشر. لقد حافظ هؤلاء المزارعون على خبرتهم الفلاحيّة بنجاح اعترفت به حتّى الإدارة الاستعماريّة[21]. ففي "البلديّة الخامسة" لـ "جزيرة الصنوبر" l’île des Pins، أنتج هؤلاء الفلاّحون اللّيمون وفيما بعد، خلال إقامتهم في الأراضي التي تنازلت عنها السّلطات، نجحوا في إقامة مستثمرات فلاحيّة حقيقيّة، خاصّة في منطقة "بوراي". لقد اختاروا في هذه الوديان أراضي ذات تربة طينيّة-رمليّة على مسطّحات طبيعية مُصفّاة جيّدا و"مغسولة" إلى حدّ كبير بالفيضانات المتكرّرة للأودية[22]. من جهة أخرى، سهّلت سنوات الجفاف الاستثنائيّة الثّلاث، 1883، 1884 و1885، تطوير زراعات بديلة. لكن يبدو أن درجة الانخراط في العمل الفلاحي من طرف المستفيدين من هذه التّنازلات كان مرتبطا بظروف مناخيّة ملائمة لزراعة النّخيل إذ في فترة سابقة، زمن "الشّيوخ العرب"، كانت هذه الزّراعة كثيفة ودائمة [23].
لا نعرف على وجه الدّقة طرق غرس النّخلات الأولى. لا نجد أيّ أثر لنقل رسميّ لــــــ "النُّخَيْلات" ("الجبّارات"، "الحشّانات") التي كان من الممكن أن تضعها الإدارة تحت تصّرف هؤلاء "الكولون" رغما عنهم، أي المنفيّين. لكن من ناحية أخرى تحتفظ الذّاكرة الجماعيّة بذكرى البذور (نوى التّمر) المزروعة في قطع الأراضي المتنازل عنها. ما هو أكيدا أنّ هذه الأنوية - التي تعطي إحصائيّا عددا مماثلا من النّخيل المذكّرة والمؤنّثة - يمكن أن "تخلق" واحة حقيقيّة. وما من شك أنّ المزارعين المغاربيين قد عملوا بسرعة على مضاعفة أفضل أنواع النّخيل بغرس هذه "النُّخَيْلات".
يمكننا أن نفترض وجود علاقة بين تمور الواحات (المغاربيّة) والتّمور الكاليدونيّة الجديدة، لكن لا يمكننا أن نؤكّد ذلك بشكل يقينيّ، لهذا قمنا في أعمالنا بمعالجة إشكاليّة التّنوع ليس بمقاربة بيولوجيّة أو زراعيّة وإنّما بمقاربة أنثروبولوجيّة. فانطلاقا من تصنيف التّمور، يتعلّق الأمر بإعادة تشكيل معرفة السّكان حولها واكتشاف التّأويل والرّمزيّة التي يعطونها لها[24]. يستند هذا العمل إلى تحقيقات ميدانيّة قمنا بها بين سنتي 1999 و2001 في الوديان شبه الجافّة لمنطقة "بوراي" (Nessadiou, Boghen) وفي مناطق أقرب (أكثر جفافا) للمقاطعة الشماليّة (Pouembout, Voh) مع عيّنة من حوالي خمسين مزارعا.
في منطقة "بوومبوت" Pouembout، يحدّد التّراث الشفويّ، مثلا، نوعا من التّمور يسمّى بـــــــ "معمّر" نسبة إلى منفيّ سياسيّ بهذا الاسم من "أولاد زكري". لقد قام هذا الأخير حسب روايات السّكان بغرس أنوية هذا النّوع من التّمور في أرضه حتى يُرسّم ارتباطه ببلده الأصليّ [25]. من جهة أخرى، تُنسب أنواع أخرى (مشتركة بين سكّان Nessadiou ، Boghen وVoh) إلى المنفيّ "بن تومي" [26]. من المحتمل إذن أنّه قد تمّ غرس هذه الأنويّة من طرف "الشّيوخ" من أجل ترسيم عروشهم أو انتماءاتهم القبليّة حسب طقوس لا نعرفها جيّدا [27].
انتشار غرس النّخيل والطّقوس المشتركة
لقد أدّى غرس النّخيل إلى انتشار طقوس مشتركة في إطار مصاهرات مختلطة بين مجموعات إثنيّة متمايزة (جزائريّون وأوروبيّون، ميلانيزيّون وآسيويّون). من النّاحية الدّيموغرافيّة، أدّى انتشار غرس النّخيل إلى زيادة عدد المواليد في المجموعات المغاربيّة. يمكننا التّساؤل في المنظور نفسه حول أثر السّياسات الخاصّة بالإنجاب والممارسة في الجزائر منذ 1830 على مجموعة سكانيّة مُحتقرة من طرف "السّادة" (Prépotens) [28]، والتي تهدف في النّهاية إلى محو "الأنديجان". هل تمّ تطبيقها على المنفيّين الجزائريّين نظرا لوضعهم الجديد كمستفيدين من التّنازلات العقّاريّة؟
فبالفعل، كان بإمكان "الأنديجانيّ" المنفيّ الذي أصبح مستفيدا أن ينجب من أجل المستعمرة، وبهذا كانت تهدف الإدارة الاستعماريّة إلى تكوين أسر مسيحيّة أساسا. لقد كانت تعتقد أنّ الأجيال المستقبليّة ستفقد هويّة وديانة الآباء بواسطة الزّواج المختلط. لكن هذه السّياسة الاندماجيّة –القائمة على مشروع "نخبة مستقبليّة" – قد فشلت لأنّ النّظام التّقليديّ للقدماء نجح في إعادة إنتاج طقوس جماعيّة وتطوير جماعة حقيقيّة. في كل الأحوال، لقد بقيت ممارسات حيّة إلى الآن كما يدلّ على ذلك الطّقوس والتّمثلات الجماعيّة المتعلّقة بالمقبرة المغاربيّة التي نلاحظ أنّها تقترب من مبدأ "الزّاوية". تستمد هذه البنية التّقليدية أصلها من معتقد الوليّ الصّالح وتنتظم حول عدد من الطّقوس القديمة ("الزّيارة"، "الزّردة"، "التّويزة"، "الصّدقة"، "الموسم"). في السّياق الكاليدونيّ الجديد، إنّها حالة مؤسّسة "سيدي مولاي" التي أصبحت لها أهميّة اجتماعيّة وروحيّة كبيرة [29].
خاتمة
نجد في مقبرة "نيساديو" Nessadiou عددا كبيرا من أسماء شيوخ القبائل الجزائريّة الشاهدة على الحضور التّاريخيّ لمنفيّي الجزائر والمُدانين في غالبيّتهم لأسباب سياسيّة "التّمرد". لكن رغم النّفي، أنتج تضامن السّنوات الأولى تحالفات قويّة على أساس تجمّعات عائليّة ذات طابع عشائريّ. إنّ الميراث العائليّ، القائم على خدمة الأرض وحفر الآبار، كان نتيجة منهج مقاومة تبنّته كلّية الأجيال اللاّحقة[30].
لقد قام هؤلاء المنفيّون بخدمة حقولهم على مرأى مناظر جبليّة خضراء باهرة، وطوّروا زراعات متنوّعة بواسطة أساليب تقليديّة قديمة. لقد قاموا أيضا بممارسة الرّعي حسب التّقاليد البدويّة على أطراف الوديان، من "بوغان العليا" Haute-Boghen إلى "نيساديو"، ويبدو أنّ قطعان الماعز كانت كبيرة جدّا كما يدلّ على ذلك الأجبان المعروضة للبيع في "بوراي" نهاية القرن التّاسع عشر. ورغم أنّ كاليدونيا الجديدة قد قدّمت لهؤلاء المنفيّين إطارا مختلفا عن بلدهم الأصليّ، إلاّ أنّهم قد نجحوا في إعادة تشكيل نسيج اجتماعيّ أصيل بخصائصه المميّزة (اللّباس، معتقدات الأضرحة، الشّعائر الجنائزيّة، الطّقوس الزّراعيّة) وحافظوا في منفاهم على الكثير من الأسس الاجتماعيّة الخاصّة بوسطهم المغاربيّ الأصليّ.
يبدو أن درجة انخراط المنفيّين الجزائريّين - من أصول زراعيّة غالبا - في خدمة الأرض مرتبط بظروف مناخيّة ملائمة لزراعة النّخيل بهذه المنطقة. وعلى الأرجح أنّ المحكومين الأوائل قد جلبوا معهم أنوية التّمر التي كانوا يرونها رمزا لقيم ثقافيّة واحاتيّة. لقد قاموا بغرس هذه الأنوية في إطار احترام تقاليدهم، وهكذا تمّ إدخال زراعة النّخيل في أرض المنفى حسب طرق تقليديّة مغاربيّة لتكثير "النُّخَيْلات" والسّقي. هكذا إذن أصبحت النّخلة الرّمز الأكثر بروزا لعمليّة نقل زراعيّ ناجحة لعشرات السّنين من حضارة عربيّة-بربريّة في كاليدونيا الجديدة.
مصادر شفاهية
في إطار تحضير أطروحتي للدّكتوراه، قمت بإنجاز عمل ميدانيّ لمدّة خمس سنوات في كاليدونيا الجديدة (مموّل من طرف مخبر الأنثروبولوجيا التاريخية لجامعة باريس 08 وبلدية "بوراي") والذي قمت من خلاله بإنجاز حوالي مائة مقابلة مع السّكّان الكاليدونيّين من أحفاد الجزائريّين (والمغاربيون بشكل عام) في مناطق Nouméa، Pouembout، Voh، Koumak، îles Loyautés وكذلك مع ممثّلي جماعات "الكاناك" Kanakes الذين أشكرهم بالمناسبة.
لقد قمت أيضا بإنجاز تقرير ميداني (1999-2000) لصالح بلدية "بوراي" ومراكز البحث حول الأقاليم (I.A.C. وI.R.D.). بالإضافة إلى ذلك قمت بتحقيقات تكميليّة في الواحات المغاربيّة (الجريد، بسكرة، وادي ميزاب).
الأرشيف
Archives Communales de Bourail, Dossier 5. Note explicative sur les fondateurs de Bourail rédigée le 19 nov. 1873 remise par le Directeur du Service Pénitencier à M. Le Général de division Reboul, sur sa demande.
Archives de la Marine de Brest. "Extrait du Cabinet du Ministère de la Marine (Versailles le 8 août 1874)".
Archives Historique de la Marine, Fort de Vincennes, Dossier BB2 532. "Instruction pour le voyage de Circum navigation de la Loire à M. le capitaine de vaisseau Mottez, commandant de la Loire à Brest, Paris le 7 mai 1874".
Archives du Ministère de l’Intérieur - IY210. "Lettre du Ministère de l’Intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire".
Archives Historiques de Vincennes, 1H 1023. « Détermination de la quantité d’eau nécessaire pour le fort Saint-Germain et les plantations qui en dépendent» «Projet de règlement pour l’organisation d’un syndicat, chargé d’assurer le service des irrigations dans la ville et l’oasis de Biskra et de régulariser les usages divers adoptés jusqu’à ce jour».
Archives du Ministère de l’Intérieur, Lettre du 30 Août 1873. Dossier IY210. Lettre du Ministère de l’intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire.
Archives Territoriales de Nouméa, Table alphabétique des concessionnaires de Bourail, série 198 W.
بيبليوغرافيا
Emerit, M. (1941). Les Saint-Simoniens en Algérie, Paris : Editions Les Belles lettres.
Julien, Ch.-A. (1986). Histoire de l’Afrique du Nord (Tunisie, Algérie, Maroc) (1932). Paris : Payot, 9ème éd.
Nicomède, G. (1886). Un Coin de la colonisation pénale. Bourail en Nouvelle-Calédonie (1883-1885), Thèze : Société Anonyme de l’imprimerie Ch.
Ouennoughi, M. (2000). "Les Calédoniens originaires du Maghreb et la symbolique du palmier dattier en Nouvelle-Calédonie", in Encyclopédie Le Mémorial Calédonien, Planet Memo.
Ouennoughi, M. (2005). Le Voyage forcé des déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie : Histoire anthropologique, culturelle et ethnobotanique, Annales calédoniennes, n° 2, "Les Kanaks et l’histoire", Université de Nouméa.
Ouennoughi, M. (2005). Les Déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie et la culture du palmier dattier (1864 à nos jours), Paris : L’Harmattan.
Pérennès, R.(1992). Déportés et Forçats de la Commune, De Belleville à Nouméa. Nantes : Ouest Edition.
Rinn, L. (1890), Histoire de l’insurrection de 1871 en Algérie. Alger : Adolphe, Jourdan.
Rivière, H.(1981), Souvenirs de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa : Edition du Pacifique, (Réédition).
Saussol, A. (1979), « Une expérience fourriériste en Nouvelle-Calédonie: le phalanstère de Yaté », Bulletin de la Société d’Etudes Historiques de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa : n° 38.
Villechalane, B. (1998), « La Calédonie, c’est ça !
مليكة ونوغي - Mélica OUENNOUGHI
ترجمة :
سيدي محمد محمدي - Sidi Mohammed MOHAMMEDI
الهوامش :
[1] Cf. "Etablissement généalogique des premières listes des mouvements de Maghrébins condamnés au bagne calédonien. 1867- 1895", in M. Ouennoughi, Les Déportés maghrébins en Nouvelle-Calédonie et la culture du palmier dattier (1864 à nos jours), Thèse Université Paris VIII, soutenance 01 Avril 2004, 472 p.
[2] لا يجب نسيان المحكومين الآخرين على الأرجح في أصل مقاومة قديمة للنظام الاستعماري. القوائم الجينيالوجية الجاري إنجازها (بالتعاون مع مصالح أرشيف "نوميّه" Nouméa) ستعطي نظرة نهائية على الرحلات المتجهة إلى المعتقل الكاليدوني.
[3] Archives de la Marine de Brest, Extrait du Cabinet du Ministère de la Marine (Versailles le 8 août 1874).
[4] Pérennès, R. (1991). Déportés et Forçats de la Commune, De Belleville à Nouméa. Nantes, Ouest Editions, p. 167.
بالرغم من ذلك، في تلك الفترة، يبدو أن الإنجليز قد ورثوا تقنيات التشجير المتوسطية كعلم منذ أكثر من قرن. لقد كانوا يستعملون منذ زمن طويل عصير الحمضيات: "لقد كانوا (الإنجليز) يوزعون بانتظام على متن السفن عصير الليمون المحفوظ وقضوا على مرض (الأسقربوط scorbut ". (المرجع نفسه، ص. 168.
[5] Service Historique de la Marine - BB2 532. "Instruction pour le voyage de Circum navigation de la Loire à M. le capitaine de vaisseau Mottez, commandant de la Loire à Brest, Paris le 7 mai 1874".
[6] Archives du Ministère de l’intérieur - IY210. Lettre du Ministère de l’intérieur adressée au directeur de l’administration pénitentiaire.
[7] حتى اليوم، يعتبر سكان الصحراء أن الاحتياطي السنوي الضروري يقدر بـ 50 كلغ للشخص الواحد.
[8] G., Nicomède, Un Coin de la colonisation pénale Bourail en Nouvelle-Calédonie (1883-1885), Société Anonyme de l’imprimerie Ch. Thése, 1886.
[9] انطلقت اللجنة يوم 12 جوان 1867 على سفينة La Fine. لقد كانت مكونة من Dugat، رئيس إدارة السجون، Boutan، مهندس زراعي، Caillé، حارس مدفعية، Vernier، عون جسور وطرقات، و Lacroix، عون إدارة استعمارية. لقد كان يتبعهم عريفان وأربعة جنود وعشرة محكومين يحملون الحقائب. أنظر :
La Calédonie, c’est ça ! Une enquête de Bernard Villechalane.
[10] Archives communales de Bourail. "Note explicative sur les fondateurs de Bourail rédigée le 19 nov. 1873 remise par le Directeur du Service Pénitencier à M. Le Général de division Reboul, sur sa demande".
[11] لا ننسى أصول "الكاناك" kanake لأراضي السكان المحليين في هذا الإقليم.
[12] لقد تم إدخال مبدأ إدماج الزراعة، التجارة والصناعة كمنهج اقتصادي لـ "السانسيمونيين" في الجزائر: "الزراعة للأهالي، التجارة، الصناعة، القروض، الأشغال الكبرى للأوروبيين، هكذا كان المذهب الرسمي للإمبراطورية الثانية".
(M. Emerit, Les Saint-simoniens en Algérie, p. 115)
[13] المرجع السابق.
[14] حول هذه التجربة الريفية بمنطقة "ياتي" Yaté، أنظر:
Saussol, A. (1979). Une expérience fourrieriste en Nouvelle-Calédonie : le phalanstère de Yaté. Bulletin de la Société d’Etudes Historiques de la Nouvelle-Calédonie, Nouméa, (38), 25-34.
[15] في عملنا البحثي، قمنا بإعادة وضع معنى عبارة "دار الحاج" في السياق التاريخي لبلاد المغرب القروسطي (خلال العهد المرابطي) وتبيان، في السياق الكاليدوني الاستعماري الجديد، أن هذه العبارة قد عرفت تحويرا سلبيا لغاية تحولها إلى عبارة Darrages (من أجل إدانة سلوك الشيوخ في تنظيم العادات بمنطقة "بوراي").
[16] العبارة المركبة "الشيوخ العرب" تشير إلى المنفيين الجزائريين في كاليدونيا الجديدة. إنهم يتمتعون بتقدير كبير جدا إذ تتجمع حولهم العائلات في المقابر الخاصة بهم حسب التقاليد الجزائرية.
[17] Rivière, H. (1981). Souvenirs de la Nouvelle-Calédonie. Nouméa : Éditions du Pacifique, (Réédition), p. 75-76.
حجاج، شيوخ، أمناء، قضاة في أغلبهم، التحقوا بمنطقة "بوراي" عند تحريرهم.
[18] لقد تم جمع الأدوات التقليدية من الأراضي المتنازل عنها ووضعت في متحف "بوراي".
[19] هذا ما كان يحدث غالبا.
[20] لقد أمكننا التحقق من نظام الحصص هذا (والمعقد جدا) في إطار الملكية العائلية المشتركة. يبدو أن نظام البنوّة – وليس نظام التّتابع – هو الطريقة الأكثر ملاءمة للنظام الجماعي موضوع بحثنا. هذه الطريقة تقترب من قاعدة البكورة (إعطاء مجموعة من الحقوق للإبن البكر – المترجم)
[21] في الإقليم الكاليدوني الجديد، يمكن للكفاءة الفلاحية للمزارعين أن تنسجم مع المكانة الظاهرة للشيخ أو الأمين. هذا "التعدد الوظيفي" موجود أصلا في الفضاء التقليدي البربري.
[22] يحب النخيل الأراضي "الرخوة" والعميقة إذ يمكنها في هذه الظروف مقاومة فترات جفاف طويلة. حسب شهادات الأبناء فإن الشيوخ قد قاموا أيضا بحفر آبار ذات طابع صحراوي تقليدي تسمح عن طريق السقي بتعويض نقص محتمل للماء. تتذكر الأجيال الأولى والثانية استعمال آبار "ذات ميزان" ("شادوف") وكذلك قنوات طينية هوائية على سطح الأرض ("ساقية"). لقد وجدنا بأنفسنا بعضا من هذه الآبار، شاهدة على انتشار تقنية قديمة، والبعض الآخر قد دفنت أو دمرت بسبب الفيضانات المتكررة في وديان "بوراي".
[23] لقد كانت الفواكه الغذاء اليومي لسكان منطقة "بوراي" خلال سنوات عديدة.
[24] في إطار أبحاثنا حول تاريخ المغاربيون بكاليدونيا الجديدة وإدخال زراعة النخيل إلى هذا الإقليم، قمنا بعقد شراكة مع معاهد INRAA وINRAT بهدف إنجاز أبحاث أخرى حول جرد أنواع أخرى من التمور الكاليدونية.
[25] في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تم تحديد موقع قبيلة "زكري" على مستوى واحة "سيدي خالد" في منطقة "الزيبان". أنظر:
Rinn, L. (1890). Histoire de l’insurrection de 1871 en Algérie.
ولكن رغم ذلك، نسجل كذلك وجود صنف "زكري" في واحات "توزر" و"قبيلي" (جنوب تونس).
[26] أحد الأعيان من أصل إباضي من منطقة وادي ميزاب.
[27] حسب شهادات الأبناء، فإن أسلافهم قد قاموا بغرس الأنوية حسب الدورة القمرية المرتبطة بشهر رمضان.
[28] حسب تعبير شارل أندي جوليان:
Charles-André, Julien, Histoire de l’Afrique du Nord. Tunisie, Algérie, Maroc, Paris, Payot, 1932.
[29] نلاحظ أنّه قد تم الحفاظ في كاليدونيا الجديدة على طقوس ذات أصول قديمة اختفت جزئيا في بلاد المغرب.
[30] لقد وجدنا أن هناك تراثا شعبيا حول سير الأولياء الصالحين يماثل بين هؤلاء المنفيين القدماء و"الشّيوخ الفلاّحة".
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم