تشير الأحداث التي جرت و تجري على الساحة العربية[1] إلى سعي المجتمع المدني لتحقيق المواطنة الكاملة ممثلة في حرية التعبير، المشاركة في اتخاذ القرار و العدالة الاجتماعية... و لم تكن هذه المطالب وليدة اليوم و إنما هي نتيجة إرهاصات سابقة، إذ تطور مسعى المطالبة بالحقوق المدنية، الاجتماعية و السياسية بظهور تنظيمات متعددة من قبيل الجمعيات، الرابطات و الحركات السياسية، إضافة إلى المؤسسات التقليدية. و هناك اليوم رهانات و تحديات جديدة، خاصة تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، الحريات الفردية و الجماعية و مسألة الهويات المطروحة في سياق عالمي جديد. ليست المواطنة مفهوما جاهزا و لكنها متطورة بحسب الشروط التاريخية و طبيعة المجتمعات التي تولد فيها. و يمكن أن نستفيد كثيرا من المفاهيم المُجاورة لها مثل: الفضاء العمومي، التفاوض، الهويات المرنة و المُتصلّبة، و ذلك في ظل الرهانات العالمية الجديدة المتعلقة بالثورة العلمية و تكنولوجيا الاتصالات و المعلومات، الحكامة الدولية و الحكم الراشد. و لقد كانت هذه الإشكاليات محور تفكير العديد من فرق البحث وموضوع العديد من منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية[2].
و تتطرق المقالات التسع[3] المنتقاة لهذا العدد الثالث من دفاتر إنسانيات إلى هذه الإشكالات في الفضاءين المحلي و الدولي، وفق رؤى و مداخل متعددة. بداية، يأتي إسهام العياشي عنصر ليحلل تجربة التعددية السياسية و ميلاد الحركة الجمعوية، حيث يبدأ بتحديد مفهوم المجتمع المدني، مركّزا على المنظمات المدنية النّشطة و دورها. كما يتناول الشروط التاريخية لتكوين المجتمع المدني و التي منها: قيام مؤسسات الدولة و مؤسسات المجتمع المدني بشكل منفصل، التمييز بين آليات عمل الدولة بوصفها مؤسسة و بين آليات العمل الاقتصادي و قيام فكرة المواطنة... و لم يفته التطرق إلى العلاقة بين المجتمع المدني و الديمقراطية القائمة على الاقتراع الحر، الانتخابات البرلمانية و حقوق المواطنة. و أوضح عند المقارنة بين مؤسسات المجتمع المدني الحديثة و المؤسسات الاجتماعية التقليدية، المفارقة الجوهرية الكامنة في أن التنظيمات والمؤسسات التي تنحو بقوة لاستعمال تعبير المجتمع المدني تفتقد لقاعدة اجتماعية. أما القوى المحافظة، فتحظى بقاعدة اجتماعية واسعة تسمح بإدخال التغيرات المرغوبة في بنية السلطة، إلا أنّ قطاعا هاما منها عادة ما يرفض الدخول في مجال العمل السياسي.
و في السياق نفسه، يتناول أحمد كرومي المواطنة في علاقتها بالحداثة و فق رؤية فلسفية مفاهيمية تُنظّر للعلاقة التي تربط بينهما، مسلطا الضوء على الكيفيات التي يُشكّل بها وعي و معارف المواطن في السياق العربي الإسلامي المُرتبط بالعقل الفقهي. و يشير المُؤلّف منذ البدء إلى أن كُلاًّ من المواطنة و الحداثة اللتين تأسستا في الفضاء الغربي تجدان نفسيهما في الفضاء الحضاري العربي الإسلامي، و كأنهما "المركب الغريب". و بعد هذا التشخيص يتساءل صاحب المقال عن العوائق المتسببة في ذلك و التي يحصرها بعد التحليل في السيرورة التاريخية.
و توافقا مع هذه الطروحات، يحاول عمر دراس البحث في الميكانيزمات التي تُمَكّن المجتمع المدني الحضري من الالتفاف على منطق احتكار السلطة، حيث تكون الدولة ذات التصور الشمولي الفاعل الوحيد في إجراء التغيرات الاقتصادية و الاجتماعية. و في هذا الصدد، يشكّل القانون الجزائري الصادر في 04 ديسمبر 1990 و المتعلق بشروط إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي و غير السياسي انفراجا، حيث سمح و لا شك بإنشاء عدد كبير من الجمعيات، و لكن من غير أن تتمكن هذه الأخيرة من إحداث تحولات جذرية ضد المساعي الرامية إلى "دولنة المجتمع".
و ضمن سلسلة العوائق التي تكبح ميلاد المجتمع المدني، يأتي البحث الميداني الذي أجراه محمد فريد عزي سنة 1995 حول شباب مدينة وهران، للبرهنة على دور هذه الفئة داخل المجتمع المدني، و على دور المدينة بوصفها فضاء تنطلق منه و فيه الاحتجاجات، المظاهرات و الثورات... و لكن في سياق اجتماعي عرف اللاأمن و مظاهر العنف المفرطة، أدت إلى جعل الشارع -باعتباره مكانا يلتقي فيه الشباب- غير قادر على لعب دور التنشئة و التفاعل، بل أصبح مكانا للعزلة، للتهديد و تصفية الحسابات. و قد حصل و أن انتقل مركز و مجال التفاعل الاجتماعي من الشارع إلى المسجد بسبب تنامي الحركات و الأحزاب السياسية.
و انطلاقا من واقع التنظيمات الشبانية التواقة إلى الوجود المستقل، يقوم أحمد بوكابوس بتصنيف التنظيمات الشبانية إلى ولائية و وطنية. و بدأ بحثه بإطلالة على الامتداد التاريخي للحركة الشبانية في الجزائر مذكرا بالقانون الصادر سنة 1901 خلال الفترة الاستعمارية. ثم أشار بعد ذلك إلى سنة 1943، التي شهدت نشاطا مكثفا للحركة الشبانية في خضم الحرب العالمية الثانية. و بعدها قام باستعراض المراكز الأولى التي انطلقت منها تلك الحركة في الجزائر مثل: مركز سيدي المدني، ملحقة تيكجدة و مركز الرياض... و قد نشأ نشاط هؤلاء في المراكز التربوية و خصوصا المخيمات الصيفية ثم الاتجاه بعدها إلى استعمال تقنيات العرض السينمائي في مجال التوعية و نشر الوعي الوطني. تناول بعد ذلك واقع الحركة الشبّانية و تنظيماتها قبل 1989، و التي كانت في نظره من صنع الإدارة. و حتى مع فتح الباب القانوني لهذه التنظيمات بعد ذلك، فقد ظلت مرتبطة بالإدارة لنيل الدعم المالي. و لكن الاستعمال غير العقلاني للمال العام من طرف التنظيمات الجمعوية، أدى بالدولة إلى التجميد المؤقت له، ثم تقليصه في فترات لاحقة.
و من المنطلق نفسه، يناقش هشام حشروف طروحات ضعف المجتمع المدني و هشاشة الجمعيات في الوسط الحضري و قِلّتها في الأوساط الريفية، كما يقيّم صاحب الإسهام جملة من الأدِلّة المبنية على إحصائيات و دراسة ميدانية في الوسط الريفي لولاية بجاية (الجزائر). إذ يتناول عدد الجمعيات، مجالات اهتمامها وعلاقتها بالأطر التقليدية المتجذرة في المنطقة والتي يكون نشاطها موازيا لسلطة الدولة. و يتم التركيز بشدة على "التّجْمَعْت"[4] و على أشكال التضامن التقليدية المعروفة بـ "التويزة"[5] و دورها في تنامي الحركة الجمعوية في المنطقة. و بعد مناقشة نتائج كل من عمر دراس و عبد القادر لقجع، يركز صاحب المقال على دراسة ابراهيم صالحي للظاهرة ببجاية، حيث يصبح بحث هذا الأخير المرجع الفصل في المسألة. و قد أكد على دور الجماعات المحلية المسماة بـ"التّجْمعت" -و التي ستتحول إلى لجان القرى لاحقا- في تقوية المجتمع المدني في فترة السبعينات (القرن العشرين)، توافقا مع مخططات التنمية الخاصة. لقد بدأ المجتمع المدني المحلي حواراته و نقاشاته الأولى مع السلطة المركزية انطلاقا من مطالب اجتماعية هي الماء و الكهرباء. و جاءت أحداث 05 أكتوبر 1988 لتكسب الأحزاب المعارضة و الجمعيات مزيدا من الشرعية و الفاعلية.
و في هذا الصدد، يتتبع محمد ابراهيم صالحي حوادث احتجاج شملت منطقة "القبايل"[6] خلال 2001، ففي إطار المواجهة الشديدة مع السلطة، يلجأ المحتجون إلى تبني أنماط تنظيم تقليدية تستعير من "العرش"، أي من الجماعة القبلية، كيفيات اختيار الممثلين. و إن كانت مطالب المحتجين ذات طبيعة اقتصادية و اجتماعية كما يحصل في جميع مناطق الجزائر، إلا أن المطلب الهوياتي و مطالبة الدولة بالاعتراف به تصدّر جميع تلك المطالب، ما أدى إلى التصعيد و قمع المتظاهرين. إن السلطة المركزية ذات البعد الوحدوي و الأحادي لم تعترف حينها بالخصوصيات المحلية للمنطقة. و في خضم الاحتجاجات برزت مجموعة من الخطابات، الشعارات، النقوش الجدارية و أشكال من تنظيم تجمهر المحتجين في الفضاءات العمومية.
أما الهواري عدي ، فإنه يستقرئ المجتمع المدني من منظار عالمي و دولي، ما يسمح في رأيه بقياس فعاليته و مقاومته ليس فقط على المستوى الوطني، بل أيضا على المستوى العالمي. و قد نَظَر الكاتب فيما إذا كان المجتمع الدولي شبيهًا بالمجتمع الوطني و منقوصا من عناصر محددة، مبيّنا أن البحث في طبيعة العلاقات الدولية يكشف أنها قائمة على النزاعات. و أشار المقال إلى نوعين من المقاربات حول المجتمع الدولي: المقاربة الأولى تُشبّهه بالدولة التي يُفترض أنها هي الفاعل بحكم قدرتها و طابعها السّيادي. أما المقاربة الثانية، فتشبّهه بالأفراد و الجماعات و المنظمات غير الحكومية، ما يسمح بوصل فاعلي المجتمعات المختلفة عبر حدود باتت مخترقة بفعل تكنولوجيات الإعلام و الاتصال الجديدة، و هذا ما يُعبّر عن مجتمع مدني وطني معمم على الساحة العالمية.
و من هذه الزاوية التي تربط بين المحلي و العالمي، يستعرض زهير بن جنات نشأة الدولة في تونس من بداياتها إلى اليوم، و هي البدايات التي لم تَخلُ من تصادمات بين المؤسسات التقليدية و الدولة. و إن كانت هذه الأخيرة تضغط على الجماعات و المجموعات الوطنية، فإن المؤسسات التقليدية تعمل على تحريرها من ذلك. و قد ركز بالخصوص على دور الدولة-الوطنية و علاقتها بالمجتمع المدني في ظل وضع عالمي يتميز اليوم بالتأثيرات التي يمكن أن تمارسها الدول الأجنبية و المؤسسات المالية العالمية. فإذا كانت الدولة على المستوى المحلي تحاول أن تنقص من شأن المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة بدعوى عدم قدرته على تسيير شؤونه بنفسه، فإنه و في المقابل تتعرض الدولة-الوطنية إلى ضغوط خارجية تعمل على تقليص حجمها و دورها. و هذه الدولة - في نظر صاحب المقال - لا يمكنها أن تضطلع بدور الحكامة أو الحكم الراشد، حتى و إن كان لها في البداية دور إيجابي تمثل في تبنيها لخطاب يصهر و يوحد قوى المجتمع و روافده المختلفة في سبيل مشروع السيادة و الاستقلالية. و قد أدت رعاية الدولة المفرطة للمجتمع و عنايتها الشديدة به إلى إفلاس علاقتها به، خاصة في ظل سياق عالمي ليبرالي يحرر الطاقات الفردية و الجماعية و لا يعترف بالحدود الوطنية التي صارت مفتوحة و محررة أمام التجارة العالمية بإنشاء المناطق الحرة المعلنة و غير المعلنة.
و قد توصّلت هذه الإسهامات في مجملها إلى أن مؤسسات المجتمع المدني هي في طور الإنشاء، نظرا لنمط الوعي المتشكل و الذي يميل إلى الاحتكام إلى التقاليد و غير القادر على ولوج الحداثة. و قد انعكس ذلك على تمظهرات المواطنة و أشكالها التقليدية و الحديثة. و تبقى المواطنة حبيسة تصورات الدولة- الوطنية الحديثة التي تتميز بكونها الدولة- الرّاعية أو مفرطة الرعاية و المُتجاوزة هي الأخرى بما آل إليه المجتمع الدولي، حيث صارت الدولة تحت تأثير مباشر للاقتصاديات العالمية و الهيئات التي تطالبها بتبني أشكال الحكم المتوافقة مع سياسات "الحكم الراشد".
و يُستنتج من جملة الإسهامات و كأن الدولة تعتبر أن المجتمع المدني لم يصل بعد إلى سن الرشد الذي يؤهله للمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بالشأن العام، كما هو الحال بالنسبة لكثير من الجمعيات التي لم تتمكن من العمل المستقل بعيدا عن دعم الدولة لها، هذا من جهة، و من جهة أخرى، يظهر و كأن المجتمع المدني بدوره يعتبر أن الدولة لا تتصف بمواصفات الدولة الحقيقية أو هي دولة منقوصة السيادة و منقوصة الخبرة إما لحداثة سنّها و إما لوقوعها تحت ضغوطات دولية تجعلها تخفق في تحقيق أهدافها الاجتماعية، الاقتصادية و السياسية.
محمد حيرش بغداد - Mohamed HIRRECHE BAGHDAD
الهوامش
[1] و هي أحداث ما يعرف بالربيع العربي الحاصلة في تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، البحرين... بداية من 2011 إلى اليوم.
[2] ضمن مشروع البحث حول ممارسة المواطنة في الجزائر (في إطار قسم البحث حول التاريخ و الذاكرة من 2009-2012). أنظر : حسن، رمعون (إشراف). (2012)، الجزائر اليوم: مقاربات حول ممارسة المواطنة، وهران، منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية، الزبير، عروس (إشراف). (2005)، الحركة الجمعوية في لجزائر الواقع و الأفاق، وهران، دفاتر مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية، عمر، دراس (إشراف). (2002) ، الحركة الجمعوية في المغرب العربي، وهران، دفاتر مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية.
[3] المقالات المنتقاة لهذا العدد من دفاتر إنسانيات قد سبق نشرها في مجلة إنسانيات سواء باللغة العربية أو الفرنسية و قد تم تنقيحها، تصحيحها و إضافة الشروحات اللازمة في الهامش، خاصة بالنسبة للمصطلحات و الألفاظ المحلية.
[4] المقصود بهذا المصطلح مجموعات التشاور و القيادة التقليدية الفاعلة في المجتمع القبايلي و غيره، الأمس و اليوم.
[5] "التويزة" هي شكل من أشكال التعاون الجماعي على إنجاز المنشآت ذات النفع الفردي أو الجماعي.
[6] فضلنا استعمال لفظ القبايل بدل القبائل و ذلك مبرر في المقال الُمترجم لمحمد ابراهيم صالحي و الموجود في هذا العدد.
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم