الإسلام و التمثلات السياسية : دراسة ميدانية حول التدين و الثقافة السياسية

الإسلام و التمثلات السياسية : دراسة ميدانية حول التدين و الثقافة السياسية

إن العلاقة بين السياسة و الدين موضوع ذو أهمية و حساسية قصوى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة و ظل مجال نقاش بين الأكاديميين خلال معظم هذا القرن.

من الأفكار الشائعة بين الدارسين الغربيين و المسلمين على حد سواء هو أن الإسلام لا ينظم فقط مجال العبادات بل يتجاوزه ليكون مخططا أو برنامجا لنظام إجتماعي يشمل كل مـيادين الحياة بما فيها القانون و الدولة[1]. إن ما يؤكد هذه الحقيقة في نظر هؤلاء الدارسيين هو أن الإسلام ليست له مؤسسة رسمية كالكنيسة، بالرغم من وجود مؤسسات لعلماء الدين يسهرون كحماة لتفسير النصوص المقدسة. فهذا و خصائص أخرى تجعل من المجتمعات الإسلامية كيانات تختلف عن المجتمعات الغربية التي تتميز بفصل الدولة عن المؤسسات الدينية. فالذي يميز هذه المجتمعات كذلك هو وجود مجال مستقل لثقافة علمانية و مجتمع مدني يشكلان ركيزتين أساسيتين للحداثة الغربية.

إن غياب هذه الحداثة السياسية في المجتمعات الإسلامية و عدم الفصل بين العلماني و المقدس منع حسب العديد من المحللين، ظهور مجال مستقل للفضاء السياسي[2].

لا يتفق كل الدارسين للمجتمعات الإسلامية على هذه النتائج فبعضهم يقر أن هناك مجال مستقل نسبيا للممارسة السياسية- فلابدوس LAPIDUS- يرى أن المجتمع الإسلامي عرف نوعين من العلاقات بين السياسي و الديني: أ- علاقات تطابقية غير متمايزة (Undifferentiated) بين الدولة و الدين و التي تميز المجتمعات القبلية. أما المجتمعات الإسلامية الحضرية فعرفت تقسيما بين مجالات الدولة و الدين: "فرغم القول الشائع بأن مؤسسات الدولة و الدين موحدة، و بأن الإسلام هو نهج كلي للحياة الذي يحدد القضايا السياسية و الاجتماعية، فإن أغلب المجتمعات الإسلامية لا تساير هذا المثل بل قامت و أسست حول مؤسسات منفصلة للدولة و الدين"[3] [ لابدوس-ورد عند حسن..].

مهما يكن، فإن العلاقة بين الدين و السياسة مازالت تثير جدالا كثيرا بين الدراسيين و صراعا حادا و في بعض المرات داميا في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فأغلب الدول في هذه المجتمعات ظهرت للوجود على أثر صيرورة إزالة الإستعمار (Decolonisation) قادتـها حركات وطنية كان يتزعمها قادة ذوو نزعة علمانية نسبيا، و حافظوا بعد استقلال بلدانهم على المنظومات القانونية و التربوية الموروثة عن العهد الإستعماري. فالحركات الدينية التجديدية و الحركات الدينية السياسية التي ظهرت على إثر فشل النخب الوطنية نددت بالإتجاه العلماني في بلدانها و نادت بالرجوع إلى دولة تمثل الإسلام كمنهج للحكم و الحياة[4].

إنطلاقا من هذه الخلفية العامة سنحاول المساهمة في هذا النقاش الدائر في الأوساط الأكاديمية اعتمادا على معطيات ميدانية نركز فيها على تمثلات و مواقف الأفراد فيما يخص علاقة التدين و الثقافة السياسية.

لن تكون هذه الورقة مساهمة أخرى إضافية في النقاش النظري الدائر منذ أكثر من قرن حول المسألة الحساسة لعلاقة الدين بالسياسة، و إنما سأحاول التركيز فيها، و من خلال إستعمال أدوات سوسيولوجية، على أبعاد و علاقات التدين بالتـمـثـلات السيـاسيـة بمعـنى آخـر هـي محاولـة مـوضعـة (Objectivation) و قياس علاقة التدين بالسياسة.

إن زخم الأحداث و كثرة الكتابات ذات الطابع الجدالي في مجال العلاقة بين الدين و السياسة، أضفى على هذا الميدان ضبابا كثيفا أصبح من الصعب بناء رؤية موضوعية فيه.

فبالرغم من كثافة الأدبيات حول هذا الموضوع فإنها تفتقر إلى معطيات ميدانية. إننا في هذا العمل سنعتمد على معطيات ميدانية جمعناها بواسطة بحث مغاربي لسبر الآراء شمل 1000 مستجوب في كل قطر (تونس-الجزائر-المغرب)*. فموضوع هذا البحث عام يهدف إلى رصد تمثلات، مواقف و سلوك المستجوبين حول مجموعة من الأبعاد للحياة الاجتماعية الأسرة، العمل، الدين و السياسية.

تنقسم هذه الورقة إلى فصلين، ففي الفصل الأول سنتعرض إلى الجانب المنهجي الذي يعالج تقنية تحليل المعطيات مع عرض للنتائج الإحصائية.

أما الفصل الثاني فسيخصص إلى التعليق و الشرح لهذه النتائج.

المعطيات و المنهجية

تم إخضاع المعطيات إلى مجموعة من التقنيات الإحصائية المختلفة :

- التحليل المعاملي، التحليل الإنحداري..إلخ. أفرز التحليل المعاملي

- مجموعات من المواضع (المتغيرات) ذات إرتباط عال فيما بينها مما يدل على أنها تقيس نفس البعد، إضافة إلى ما يسمح به التحليل المعاملي من تحديد الزمر التي بين عناصرها إرتباط عال، فإنه كذلك يمكن من تكوين سلم الإتجاهات (Scale of attitudes) حول المواضيع المطروحة.

- أسفر التحليل المعاملي على النتائج التالية:

 الأبعاد الدينية :

ثلاثة أبعاد دينية جرى عزلها و قياسها حيث بينت نتائج التحليل المعاملي ثلاثة زمر مختلفة تعبر عن أبعاد مختلفة للتدين. فالمجموعة الأولى للمتغيرات تدل على البعد الشخصي أو الفردي للتدين، و الثانية تبرز البعد السياسي للإسلام و دور الدين في الشؤون العامة، أما البعد الثالث فيشير إلى التقاليد المرتبطة بما يسمى بالإسلام الشعبي.

المتغيرات المكونة لهذه الأبعاد هي كما يلي :

* التدين الشخصي*

- أداء الصلاة بانتظام

- استشارة الإمام أو الفقيه في مسائل شخصية

- قراءة أدبيات دينية

* الإسلام السياسي (دور الدين في الشؤون العامة)

- الدين كمرشد في القضايا الإقتصادية و التجارية

- الدين كمرشد في القضايات الإدارية و السياسية

* الإسلام الشعبي

- زيارة أضرحة الأولياء

- الإشتراك في المواسم (الحفلات الدينية الشعبية)

- اللجوء إلى الطب الشعبي

تقدم توزيع مواقف (أجوبة) المستوجبين بالنسبة لهذه المواضيع بطريقتين:

أولا : تقدم الإجابات عن كل مؤشر على حدى-

ثانيا : تجمع التوزيعات لتكون سلما لقياس المواقف :

جدول I : (أنظر في الملحق)

من الجدول الأول يمكن استخلاص ما يلي :

التدين الشخصي :

الأغلبية العظمى من المستجوبين (76.9%) تمارس الصلاة بانتظام، و تمنح للدين دورا أساسيا كمرشد في الحياة الشخصية و العائلية، و لكن عدد قليل منهم يلجأون إلى استشارة دينية (الإمام) فيما يخص قضاياهم الشخصية أو العائلية، تجدر الملاحظة هنا أن السؤال المتعلق بالإستشارة الدينية كمؤشر على التدين سجل نسبة عالية عندما أختبر في بلدان المشرق العربي[5].

الإسلام السياسي و دور الدين في الشأن العام

إن نصف المستجوبين يمنحون للدين دورا في الشؤون الإقتصادية و الإجتماعية بينما الثلث منهم يؤكدون على دور الدين في الأمور الإدارية و السياسية. فتوزيع الإجابات في هذا المجال يبين أن ربع عدد المستجوبين يوافقون بشدة على الدور الريادي في الشأن العام، و ربع آخر يمنح بعض الريادة لـلدين، أما النصف المتبقى منهم فيرى أنه لا يجب أن يكون للدين أي دور في الأمور الإدارية و السياسية.

الإسلام الشعبي : حسب السلم المكوِّن لهذا البعد فإن ثلثي المستجوبين لا يتعاطون ممارسات لها علاقة بالإسلام الشعبي.

الأبعاد السياسية :

تمت معالجة المعطيات المتعلقة بهذا الفصل بنفس الخطوات المنهجية للفصل السابق –التحليل المعاملي- و كانت من نتائجه تحديد ثلاث زمر (أو مجموعات) بين عناصرها إرتباط عال- و تشير هذه الأبعاد إلى : أولا الموقف من النظام الإقتصادي، السياسي، ثانيا: يدل البعد الثاني عن المشاركة السياسية أما البعد الثالث فيشير إلى الموقف من الديمقراطية و الإنفتاح السياسي، أما التغيرات التي تكون هذه الأبعاد فهي كما يلي :

* الموقف من النظام الإقتصادي و السياسي :

- الهوة بين الفقراء و الأغنياء أصبحت أكثر إتساعا في الخمس سنوات الأخيرة

- الحياة السياسية معقدة جدا حتى يفهمها المواطنون العاديون.

* المشاركة المدنية و السياسية

- الانتماء إلى جمعية مدنية

- المشاركة في المشاريع ذات المصلحة العامة

* المواقف من الديمقراطية

- تطوير المؤسسات الديمقراطية كأولوية في برنامج الحكومة

- الإنفتاح عن الأفكار المختلفة كمعيار للرِّيادة السياسية (أنظر الجدول رقم 2 في الملحق)

إن توزيع الإجابات كما يوضحه الجدول رقم 2، يبين الإتجاهات التالية:

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي

أغلبية المستوجبين أبدو قلقهم من الهوة التي تتعمق باضطراد بين الأغنياء و الفقراء و في نفس الوقت يعتبرون أن السياسة أمر معقد خارج فهم المواطن العادي. و من هنا يتبين أن نسبة الرضا السياسي و الإقتصادي منخفضة جدا حيث لا تمثل إلا 5%.

* المشاركة المدنية و السياسية

قليل من المستوجبين يمارسون نشاطات مدنية أو سياسية فنسبة المشاركة بينهم لا تتجاوز 15%.

* الموقف من الديمقراطية

هنا كذلك قليل من المستجوبين يعيرون أهمية للمؤسسات الديمقراطية أو الإنفتاح على الأفكار السياسية كعامل في الريادة (Leadership) السياسية. فعلى العموم هناك أقل من 20% تعطى أهمية لتنمية المؤسسات و الأفكار الديمقراطية.

العلاقات بين الأبعاد :

لدراسة العلاقات بين البعد الديني و البعد السياسي و كذلك العلاقة الداخلية بـين الـعـناصـر الـمـكـونة لهـذه الأبـعـاد، عـمدنا إلـى تحلـيل متعـدد العـوامل (Multifactorial analysis) و طبقنا تقنية الإنحدار المعاملي (regression analysis) فهذه الأخيرة من شأنها أن تبين العلاقة بين المتغيرات و خـاصة أنها تحدد وزن كل متغير في المـعادلة. إحـتـوى الـنمـوذج الأول لـتـحلـيـل الإنـحدار (regression analysis) على الثلاثة أبعاد المكونة لسلم التدين مع إعتبار التدين السياسي كمتغير مستقل و البعدين الآخرين كمتغيرين تابعين.

بينت نتيجة هذا التحليل أن المستجوبين الذين سجلوا نقاط عالية على مستوى التدين الشخصي هم الأكثر إحتمالا أن يناصرو الإسلام السياسي.

و على العكس من ذلك، فلا توجد علاقة بين التدين الشعبي و البعدين الآخرين (الشخصي و السياسي) أنظر الجدول رقم 3.

أما النموذج الثاني للتحليل الإنحداري و الذي يحتوي على المتغيرات السياسية و الدينية، فيوضح أنه ليست هناك علاقة بين البعدين الدينين و البعدين السياسيين (المشاركة السياسية و الموقف من النظام الإقتصادي و الإجتماعي).

فالعلاقة الوحيدة التي كشف عنها التحليل هو علاقة الإسلام السياسي بالموقف من الديمقراطية، بحيث توجد علاقة عكسية بينهما. أي أن المستجوبين الذين يعطون أهمية كبيرة للدين في الشؤون العامة من المرجح أنهم لا يبدون نفس الأهمية للمؤسسات و القيم الديمقراطية.

إن هذه الإستنتاجات ما هي إلا إتجاهات عامة لا تعكس الإختلافات و الفروقات في المواقف عند المستجوبين فحتى نلقي مزيدا من الضوء عن ديناميكية هذه المواقف المتعلقة بالتدين و الثقافة السياسية قمنا بربط هاته الأخيرة بمتغيرات مستقلة مثل السن، الجنس و المستوى التعليمي. جرى أيضا إجراء تحليل إنحداري (regression analysis) و أعطت النتائج التالية (أنظر جدول رقم 4).

البعد الشخصي للتدين :

يتبين أن نسبة الـتـديـن الشخـصي مرتفعة بين فئة الأكثر من ثلاثين سنة (30 سنة) ذوي مستوى تعليمي متدني و هذا بغض النظر عن الجنس. و تكون نسبة التدين الشخصي منخفضة بين الشباب ذوي مستوى تعليمي منخفض بغض النظر كذلك عن الجنس و كذلك بين الشباب ذو مستوى تعليمي عال :

تشير هذه النتائج إلى وجود تباين في مواقف الفئات الاجتماعية للشباب و الفئات الاجتماعية للكهول (Adults). يظهر أن الفئات الشبانية هي نسبيا أقل تدينا أو بالأحرى أقل ممارسة للدين. و هذا التباين هو أكثر إتساعا بين الأشخاص ذوي المستوى الدراسي المنخفض عند الجنسين و كذلك عند الرجال ذو المستوى الدراسي العالي.

البعد السياسي للتدين :

إن المواقف المؤيدة للسياسات المرتبطة بالإسلام السياسي توجد بنسب عالية بين الشباب من الذكور ذوي المستوى الدراسي المنخفض و بين النساء ذات المستوى الدراسي المنخفض دون اعتبار السن، تنخفض نسبة التأييد بين فئة الذكور الغير الشباب ذوي مستوى عال من الدراسة.

فهذا يبين أهمية عامل التعليم في تفسير التباين في المواقف بين عناصر العينة دون إغفال عاملي السن و الجنس.

* الموقف من النظام الاقتصادى و السياسي :

إن مواقف المستجوبين من النظام السياسي و الحالة الإقتصادية لا تختلف، فهي مواقف تعبر عن عدم الرضا و خاصة بين الشباب ذو المستوى التعليمي المنخفض.

* المشاركة المدنية و السياسية :

إن المشاركة المدنية و السياسية هي أعلى عند الشباب ذوي المستوى التعليمي العالي. فنسبة المشاركة منخفضة بين النساء ذات المستوى التعليمي المنخفض مهما كان السن يشير هذا إلى أن عامل الجنس يمكن أن يفسر الإختلاف في المشاركة السياسية و المدنية بحيث نرى و يشكل عام أن نسبة مشاركة الرجال هي أعلى من نسبة مشاركة النساء.

* الموقف من الديمقراطية

يمنح الشباب من الجنسين ذوي المستوى التعليمي العالي أهمية كبيرة للقيم و المؤسسات الديمقراطية. تنخفض هذه الأهمية عند الذكور من الشباب ذوي المستوى التعليمي المنخفض و كذلك عند الكبار من النساء ذوات المستوى المنخفض كذلك. يتجلى هنا الدور الحاسم للتعليم في تفسير المواقف تجاه الديمقراطية. لكل من السن و الجنس دور كذلك إذا اقترنا مع التعليم.

مناقشة

إن أهمية البحث الميداني و بخاصة في موضوع التدين و السياسة تكمن في إضفاء نوع من النسبية و التدقيق (nuance) على كثير من المسلمات التي يرتكز عليها الخطاب الأكاديمي و السياسي في هذا الميدان. طبعا، بعض النتائج جاءت مطابقة للحس العام و الملاحظة المباشرة.

فأحد أهم النتائج الإحصائية هي أن ظاهرة التدين على مستوى التمثلات و السلوك هي ظاهرة متعددة الأبعاد، و أن العلاقة بين أبعادها المختلفة هي ليست علاقة ثابتة و متكاملة.. أي أنه إذا كانت الثقافة الدينية تمثل مرجعا مهما في تمثلات المستجوبين فيما يخص حياتهم الشخصية و الفردية (حيث أن 70% منهم يقرون بأهمية الدين في هذا المجال) فإن الأمر يختلف في المجالات الأخرى للحياة الإجتماعية، بحيث أن 50% منهم فقط يؤكدون على أهمية الدين فيما يخص تنظيم الحياة الإقتصادية و الإجتماعية. تتراجع هذه النسبة إلى 31% عندما يتعلق الأمر بدور الدين في تنظيم الحياة الإدارية و السياسية. ليس من السهل التأكد من صواب هذه الإستنتاجات على مستوى المجتمع ككل، و لكن مع هذا توجد مؤشرات عامة و غير مباشرة تؤيد جزءا من هذه الإستنتاجات، فعلى سبيل المثال نذكر نتائج الإنتخابات التي جرت في 1990 و 1991 حيث كان نصيب التيار الإسلامي يـتـراوح مـا بـين الثلث (3/1) إلى الربع (4/1) من أصوات المنتخبين. فهذه النسبة تقترب من النتيجة التي كشف عنها البحث، و هذا بكل تحتفظ حيث أننا ندرك أن السلوك الإنتخابي لا يعكس بشكل آلي التمثلات و المواقف السياسية.

إن البعد الآخر الذي يكشفه البحث هو جانب الممارسات الدينية الشعبية حيث ما زالت هذه الأخيرة تعرف إنتشارا نسبيا في المجتمع رغم كون العينة تمثل مجتمعا حضريا أين من المفترض أن تكون فـيه هذه الممارسات هامشية. فهذا من شأنه أن يؤكد بعض جوانب نموذج E.GELNER[6]. للمجتمع الإسلامي. أنه أهم خصائص الدين الإسلامي حسب GELNER أن ينقسم داخليا بين إسلام الصفوة (إسلام العلماء) و إسلام العامة. فالصنف الأول هو حضري يحمله علماء مدينيين ينحدر أغلبهم من الفئات البرجوازية التجارية الذين يعكسون قيم و أذواق الفئات الوسطى، تلك القيم التي تركز على النظام، إحترام القواعد، التعليم و الرصانة، و إلى جانب ذلك تؤكد على التوحيد في الدين تحارب كل أشكال التوسـط أو الـوساطة بين الله و الإنسان و يتميز أيضا بالصـفوية (Puritanism) و (Scripturalism) أمـا الإسـلام الـشعــبـي فـهـو إعـتـقـاد يـقــوم عـلى الـتوسط (Mediationist) بين الله و البشر. يرتكز على السحر أكثر منه على التعلم. و أهم مؤسساته هي زيارة الأولياء.

إن ما يلفت الإنتباه هنا و ربما يشوش هذا النموذج الثنائي، هو تواجد و بشكل واسع نسبيا لممارسات شعبية دينية بالحضر، و هذا بالرغم ما يظهر من إكتساح للساحة الدينية من طرف موجة الإسلام السياسي الذي هو أقرب إلى ما يصفه E.GELNER بالإسلام العارف (High Islam).

ربما النقطة التي تهمنا أكثر في هذا البحث هي العلاقة بين هذه الأبعاد المختلفة للتدين.. وخاصة منها العلاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين. إن هذه القضية و نظرا لحساسيتها في الظرف الحالي و هذا في مجمل المجتمعات الإسلامية، فإن النقاش حولها غاليا ما يكون ميرائي (Polemic) و مؤدلج.

تظهر المعطيات الميدانية أن هناك علاقة بين البعد الشخصي و البعد السياسي للتدين أنظر جدول 5، نفس العلاقة تفرزها المعطيات المغربية. أنجزت بحوث ميدانية أخرى في مجتمعات شرق أوسطية توصلت إلى نتائج مختلفة، حيث أظهرت أن العلاقة بين سلم قياس التدين الشخصي و الإجتماعي هي علاقة ضعيفة. ففي هذا السياق إنتهى الباحث الأمريكي م.تسلار[7] من خلال دراسة مقارنة لسبر الأراء و المواقف في كل من مصر و الكويت سنة 1988 إلى أن 50% من المستجوبين الكويتيين و 70 من المستوجبين المصريين الذي سجلوا نسب عالية على سلم قياس التدين الشخصي أبدو تأييدا ضعيفا للحركات الإسلامية المعاصرة في بلدانهم.

إن دراسة المواقف و القيم و السلوك الإجتماعي بشكل إجمالي و شمولي قد يخفي التباين في المواقف و بالتالي لا يسمح لنا بإدراك الفروقات الموجودة، و عليه فإن ربط هذه المواقف و القيم و السلوك بعوامل إجتماعية ديمغرافية كان ضروريا لإضفاء دقة و مصداقية أكبر عن النتائج العامة.

أفرز البحث عاملين أساسيين يفسران الاختلاف (Variance) في المواقف و القيم و هما عاملي السن و التعليم و إلى حدما الجنس.

يلعب عامل السن دورا مهما في تفسير السلوكات الدينية الشخصية و يصبح أكثر ثقلا إذا اقترن بالعامل التربوى، نلاحظ أن الفئات الشبانية الأقل تعلما هي الأقل ممارسة للدين. فالبرغم ما يلاحظ من تغيرات على مستوى الممارسات الدينية في الجزائر، فمازالت تخضع تـلك الممارسات إلى ثابت أنثروبولوجي (Anthropological invariant) وهو أن الممارسة الدينية تزداد كلما تقدم السن.

إن المعالجة الإحصائية لموضوع التدين تبقى عاجزة عن كشف طبيعة هذا البعد الحساس، فإن كانت توفر بعض المؤشرات المهمة فإنها تخفق في توضيح طبيعة الممارسات و التغير الذي حدث فيها. ففي ما يخص موضوع الدين و الشباب و رغم انخفاض درجة الممارسة مقارنة مع الكبار، فإن طبيعة الممارسة الدينية تختلف من جيل الشباب إلى جيل الكبار. إن ما حدث من غليان على الساحة الإجتماعية و السياسية الدينية منذ منتصف الثمانينات حتى اليوم هو ليس فقط اتساع في الممارسات الدينية (أو حركة إعادة أسلمة) بقدر ما هو طبيعة جديدة للعلاقة بالدين و الذي تمثله بالخصوص الفئات الشبانية.

فكما أوضحته دراسات سوسيولوجية[8] فإن التدين الشباني يهدف إلى مطلب هوياتي من خلال تمايزه و مخالفته لتدين الأباء. فالأمر هنا يتعلق بكيفية الممارسات الدينية و ليس مدى إنتشارها فحتى على مستوى الممارسات الدينية المحضة - أي الشعائر و العبادات- عمل الجيل الشباني على أن يتمايز عن الآخرين و ذلك بتبنيه لممارسات رمزية و شعائرية مختلفة، و التي تتمثل في ارتداء اللباس و طقوس تأدية الشعائر و كذلك الميل إلى الصرامة و التشدد في مجال المعاملات.

فقيام الشباب بممارسات دينية تختلف عن تلك التي مارسها و يمارسها آباؤهم تعبر عن رغبة و محاولة للتمرد عن النظام الاجتماعى القديم، و يتضح هذا الأمر أكثر عندما نلاحظ من خلال المعطيات الميدانية أن فئة الشباب القليل التمدرس (ابتدائي أو أقل) هم الأكثر تأييدا للإسلام السياسي (و المفارقة كذلك أنهم يمثلون الفئة الأقل ممارسة للعبادات)؟ هل هناك تفسيرا سوسيولوجيا لهذه المفارقات؟ ما معنى أن الشباب الأقل حظا في التعليم هم الأكثر تأييدا للإسـلام السياسي و كذلك في بعض الحالات هم أقل ممارسة للدين؟ ما معنى أن تكون النساء و بغظ النظر عن سنهن هن كذلك الأكثر مناصرة للإسلام الـسياسي؟ فهل من عوامل سوسيولوجية تلقى الضوء على هذا الموقف؟ لا توجد دراسات كيفية تبحث في هذا الموضوع. فإن ما في حوزتنا من معطيات تبرز فقط دور عامل التدريس، حيث المستوى التعليمي لهؤلاء النساء منخفض. فما يثير فضول الباحث أكثر هو أن النساء يمثلن القناة الأساسية لنقل القيم و التقاليد و المخزون الثقافي على الـعموم بواسطة عملية التنشئة الاجتماعية، فمن المتوقع إذا أن تكون تلك القيم والتقاليد أكثر إرتباطا بالإسلام الشعبي… في الوقت الراهن لا تتوفر لدينا معطيات أكثر لتحليل أدق لهذه النتيجة.

تعرضنا في هذا البحث كذلك إلى عناصر أخرى مكونة للثقافة السياسية: كالمشاركة السياسية، الموقف من النظام السياسي، الموقف من الديموقراطية… إلخ و حاولنا البحث في العلاقة بين هذه الأبعاد و المكونات الدينية.

لا يبدو أن القيم الدينية بأبعادها : الشخصية، الاجتماعية و السياسية ترتبط أو تؤثر في مكونات الثقافية السياسية. بمعنى أنه و رغم الدور التجنيدي للإسلام السياسي فإنه لا يدفع إلى مشاركة مدنية أو إلى معرفة بالنظام السياسي… ربما يرجع هذا إلى محدودية و عدم مطابقة بين المفاهيم النظرية للإقران الثقافية السياسية و الواقع السياسي الجزائري و تمثلاته… و قد يكون الظرف الذي أجرى فيه البحث الميداني - و ذلك في خضم الأحداث الدامية في الجزائر (1995) - جعل المستجوبين أكثر تحفظا في إبداء مواقفهم و آرائهم و سلوكا تهم و إبعادهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، بحيث أكدت النتائج أن هناك نسبة عالية من العزوف أو الاغتراب السياسي political alienation)).

الخاتمة

وثقت نتائج هذا البحث لنسبية الأطروحات المتداولة في ميدان علاقة الدين بالسياسة. فبرغم تأكيدها لأهمية التدين داخل الجمع، فإنها اظهرت الدور النسبي للتدين السياسي.

و أهم من ذلك فإن المعطيات و تحليلها تبيّن الأهمية الكبيرة للمحدادات السيـوسولوجية للـظاهرة الدينية السياسية. فإن علاقة هذا الأخير مع التدين الشخصي / العادي ليست علاقة عضوية و لا آلية. و إذا فإن الثقافة السياسية للجزائري لا يمكن اختزالها في ثقافة سياسية إسلاموية، فمع أهمية البعد الاسلاموي في التعبئة السياسية و الـتمثلات، إلا أن المحددات السيولوجية و السياسية لها أهمية و وزن في تحديد طبيعة الثقافة السياسية.

الملاحق

الملحق 1:

جدول رقم 1 : (أ) البعد الشخص للدين الصلاة

 

التكرارات

النسبة المنوية

يصلي

لا يصلي

ملغى

المجموع

769

218

13

1000

,976

21,8

1,3

100.0

الدين كمؤشر في الحياة الشخصية و العائلية

 

التكرارات

النسبة

كثيرا

بعض الشيء

لا

ملغي

المجموع

715

156

59

70

1000

71,5

15,6

5,9

7,0

100.0

استشارة إمام أو فقيه

 

التكرارات

النسبة

دائما/ بعض المرات

نادرا / أبدا

ملغى

المجموع

120

849

31

1000

0,12

84.9

3.1

100.00

الملحق 2

تابع الجدول 1

(ب) البعد السياسي للتدين

الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

النسبة

التكرارات

 

43,5

43,7

87,2

12,8

100.00

435

437

872

128

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

النسبة

التكرارات

 

23,8

53,8

77,6

22,4

100.00

238

538

776

224

1000

كثيرا

قليلا / لا

المجموع

ملغى

المجموع

سلم لدور الدين في الحياة العامة (هو مجموع الجدولين السابقين)

النسبة

التكرارات

 

21,4

24,8

47,4

77,0

23,0

100.00

214

191

365

770

230

1000

مهم جدا

مهم بعض الشيء

أقل أهمية

المجموع

ملغى

المجموع

الملحق 3

الجدول 2

الأبعاد السياسية

أ ? سلم المواقف تجاه النظام الاقتصادي و السياسي و الذي يتكون من عاملين (أي الإجابات عن سؤالين : تقييم الفرق بين الأغنياء و الفقراء + تقيم للسياسة)

النسبة

التكرارات

 

4,5

28,1

55,90

87,6

12,4

100,0

45

281

550

876

124

1000

راضي جدا

راضي بعض الشيء

غير راضي

المجموع

ملغى

المجموع

ب ? سلم المشاركة المدنية و السياسية و الذي يتكون كذلك من عاملي العضوية في جمعية و المساهمة في أعمال للصالح العام.

النسبة

التكرارات

 

82,9

15,2

1,5

99,6

0,4

100,0

829

152

15

996

4

1000

لا توجد مشاركة

بعض المشاركة

مشاركة أكبر

المجموع

سلفى

المجموع

ج þ سلم الموقف من الديموقراطية (يحتوى على متغيرين 1: المؤسسات الديموقراطية)

  1. 2. الإنفتاج على الأفكار السياسية المخالفة).

النسبة

التكرارات

 

52.3

27.7

7،4

84.7

15.3

100.00

523

277

47

847

153

1000

موقف غير مؤيد

2.00

3.00م

مؤيد

المجموع

ملغى مجموع

الملحق 4

الجدول 3: العلاقات بين الأبعاد الدينية

ا- التدين الشخصي

ب- التدين السياسي

المجموع

غير متدين

متدين

التدين السياسي

التدين الشخصي

587

%100

%2,76

245

%7,41

%6,71

342

%3,58

%9,79

متدين

183

%100

%8,23

97

%0,53

%4,28

86

%0,47

%1,20

غير متدين

770

%0,100

%100

342

%4,44

%0,100

428

%6,55

%0,100

المجموع

نموذج التحليل الانحداري: Model Régression حيث التدين السياسي هو المتغير التابع

Sig

T

Standard

Coefficient

نموذج

   

BETA

 

0,00

0,02

0,21

10,908

3,091

,3122

0,111

0,083

الثابت( (constant

التدين الشخصي

التدين الشعبي

الملحق 5

الجدول 4

علاقات الأبعاد بالمتغيرات السوسيوديمغرافية

السن + الجنس + المستوى التعليم مع مقارنة بإجابات المسجوبين من المغرب

نسب التدين الشخصي مقترن بالسن + المستوى التعليمي

إناث

كهول

تعليم

عال

(إ ك ت ع)

إناث

شباب

تعليم

عال

(إ ش ت ع)

إناث

كهول

تعليم

منخفض

(إ ك ت م)

إناث

شباب

تعليم

منخفض

(إ ش ت م)

ذكور

كهول

تعليم

عالي

ذ ك ت ع)

ذكور

شباب

تعليم

عالي

(ذ س ت ع )

ذكور

كهول

تعليم

منخفض

(ذ ك

ت م)

ذكور

شباب

تعليم

منخفض

(ذ ش ت م)

 

86

74

96

47

87

60

92

50

الجزائر

80

61

90

31

81

56

89

42

المغرب

نسب المستجوبين الذين يوافقون على دور الدين في الشؤون العامة (إدارية / سياسية).

إ ك ت ع

إ ش ت ع

إ ك ت م

إ ش ت م

ذ ك ت م

ذ ش ت ع

ذ ك ت م

ذ ش ت م

 

18

33

40

43

15

28

34

47

الجزائر

37

53

50

42

44

46

56

33

المغرب

الملحق 6

جدول 5

مقارنة للموافق السياسية و الدينية بين المستجوبين الجزائريين و المغاربة

الجزائر

المغرب

 

%78

%73

التدين الشخص (الصلاة)

%12

%29

التدين الشخصي استشارة الإمام

%50

%62

التدين السياسي : الدين كمرشد في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية

%31

%50

التدين السياسي: الدين كمرشد في الحياة الإدارية و السياسية

%37

%37

التدين الشعبي

%86

%74

درجة عدم الرضا

الاقتصادي و السياسي

%05

ضصث

المشاركة السياسية: الانتماء إلى جمعية مدنية

%13

%14

المشاركة السياسية:

المشاركة في أعمال الصالح العام

%17

%20

الموقف من الديموقراطية:

تطوير المؤسسات الديموقراطية

%26

%16

الموقف من الديموقراطية

الانفتاح عن أفكار

المراجع

MAUDUDI, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

LEWIS, B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

ESPOSITO, J.L..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

HASSAN, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper, university of califosmia - Los Angeles, 1999.

HUNTINGTON, Samuel. P..- The clash of civilisation and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

LAPIDUS, IRAM..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.- May 1996.

TESSLER, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.- occasional papers, University of wisconsin- Milwankee, 1993.

GELNER, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

MERZOUK, M..- Quand les jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération.- Archives des Sociences sociales des religions, 1997.- p.p. 141-158.


 


الهوامش

[1]- Maududi, A.A..- The Islamic Law and constitution, Lahore : islamic publication.- 1960.

Lewis, B..- Islam and the west.-New-York, Oxford university press, 1993.

Esposito, JL..- The islamic threat : myth or reality.- New-York, oxford press, 1992.

Hassan, R..- Faithlines : Social structure and religiosity in Muslin society, Working paper university of California – Los-Angeles, 1991.

[2]- أنظر

Weber, M..- Economy and Society.- Berkley, Californie press, 1978.

Huntington, Samuel.P..- The clash of civilization and remaking of World order.- New-York, Simour Schuster, 1993.

[3]- Hassan, R..- Op. cité.- 1999.- p.4.

[4]- أنظر

Esposito.- Op. cité.

Lapidus, Iram..- State et religion in Islamic society.- post et present, 151.- May 1996.

* أنجز هذا البحث سنة 1995 - 1996 من طرف باحثين من الجزائر، المغرب، تونس و الولايات المتحدة، بإشراف المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية (AIMS)، تحت عنون عام : "التغيرات الديموغرافية و الاجتماعية في الوسط الحضري في المغرب العربي". اعتمدت فيه الاستمارة كوسيلة لجمع المعطيات.

* إن المتغيرات المذكورة هنا و التي احتفظنا بها في التحليل هي المؤشرات التي تنتخب عن التحليل المعاملي، بحيث أنها ترتبط فيما بينها بعامل إرتباط عال، و هي في نفس الوقت تشكل سلما لقياس المواقف. و قد تم حذف المؤشرات التي لم يبينها التحليل.

[5]- أنظر Tessler, M..- The origins of popular support for Islamic movements : a political Economy Analysis.- occasional papers, University of Wisconsin- Milwaukee, 1993.

[6]- Gelner, E..- Muslim society – Cambridge.- Cambridge university press, 1981.

[7]-- Tessler, M.. مرجع سابق.- ص.17.

[8]- Merzouk M. : Quand les jeunes redoublent de férocité : L’islamisme comme phénomène de génération .- Archives des Sciences sociales des religions, 1997.- p.p. 141 - 158.

Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Phone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact Us