عالجت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، منذ بداياتها الأولى إلى الآن، موضوعات عديدة، ارتبطت بمختلف السياقات السياسية و التاريخية التي عرفتها الجزائر المستقلة.
و نستطيع أن نقول، و بصفة مجملة أن الموضوعات الأساسية التي تطرق إليها و تفاعل معها هذا الإنتاج الروائي هي المصائر الفردية و الجماعية و تحولاتها ضمن مسار الثورة التحريرية و الثورة الإجتماعية التي أعقبت الإستقلال.
و الملاحظ أن هذا الخطاب الروائي الذي تضمنته هذه النصوص، قد تماهى إلى حد بعيد مع الخطاب الأيديولوجي الذي ساد خلال السبعينات و يرجع ذلك إلى الطبيعة الشعبوية للسلطة الحاكمة آنذاك، إلى احتضان نفس هذه السلطة لهذا النوع من الكتابة بواسطة مؤسساتها الثقافية و الأيديولوجية (وزارة الثقافة و مجالاتها الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، اتحاد الكتاب الجزائريين، الجرائد الوطنية…)
كان الارتباط بالواقع المرجعي هو دائما المحور الأساسي لهذه الكتابات، التي كانت تنطلق منه و تعود إليه، باعتباره أساسيا في كل النماذج المكتوبة، لكن ضمن تصور إيديولوجي يشيد بالثورتين لارتباطهما معا، كما كان يعتقد آنذاك.
و قد اختلفت أساليب الكتابة الروائية و رؤاها من رومانسية إلى واقعية ذاتية أو تاريخية و اجتماعية، و واقعية أسطورية أحيانا، حيث أمتزج الذاتي بالإجتماعي، و طغت على أجوائها مسحة من التفاؤل بحتمية البناء التاريخي و الاجتماعي لوطن يبحث عن ذاته و يتفاءل بمستقبل جديد و زاهر. لكن هذا لا يعني خلو هذه النصوص من الصراعات الاجتماعية و السياسية، بل بالعكس، لقد عرف الإنتاج الروائي الجزائري نصوصا يمكن تصنيفها ضمن "الأدب السياسي الملتزم" لكل من الطاهر و طار و عبد الحميد بن هدوقة و لعرج واسيني و رشيد بوجدرة و غيرهم…
و قد وظف هؤلاء الروائيون و غيرهم أبطالا لعبوا أدوارا "إيجابية"، تعبر عن تعلق المجتمع بأمل نجاح الثورة الإجتماعية التي شملت مختلف الميادين (الزراعية منها و الصناعية و الثقافية)، و بالتالي بناء "مجتمع مثالي"، لكن مع حلول الثمانينات و التسعينات، بلغت الصراعات السياسية أقصاها مع ظهور قوى سياسية جديدة تدعو إلى قيام نظام سياسي جديد. فاختلت موازين القوى السياسية لصالح التراجع عن الخط السياسي التي اعتمد في مرحلة السبعينات و هكذا بدأت الرواية الجزائرية، من جراء هذه الظروف الجديدة، تعرف ما يمكن تسميته بـ "مرحلة الشك" إذ عبرت نصوصها و بطرق مختلفة عن هذا الوضع المتأزم الذي بلغ ذروته مع بداية التسعينات التي اتسمت باستعمال العنف الرمزي و المادي، أي الإغتيال السياسي الفردي و الجماعي. إنها مرحلة تداخل المفاهيم و زعزعة اليقينات و غياب الأمن و الإستقرار السياسي و الإجتماعي.
العنف و النص الروائي :
عرف المجتمع الجزائري على مر الأزمنة التاريخية المتعاقبة، عنفا متعدد الجوانب. و إذا كان العنف، من طبيعة تواجد المجتمعات البشرية المختلفة و ملازما لها، فإنه يقوم على زعزعة الإستقرار الذي قد يميز العلاقات الإجتماعية أو يعيد صياغتها من جديد.
و لعل الخصوصية التي يتميز بها العنف الذي يطبع المجتمع الجزائري المعاصر، تجعل التساؤل شرعيا من الناحية المعرفية و التاريخية.
يجب التذكير، في هذا الإتجاه، أن الجزائر مرت بمرحلة طويلة من الإستعمار (1830-1954)، استعمل فيها هذا الأخير، كل أساليب القمع و القتل الوحشي و التحقير الثقافي ضد السكان الأصليين لهذا البلـد. ثـم مرحـلة الحرب التحـريرية (1954-1962)، حيث ذهب ضحيتها الآلاف من الجزائريين، لكن مقاومة هؤلاء للإدارة الفرنسية و استعمالهم للعنف المادي و الرمزي ضدها، كان شرعيا و إيجابيا، باعتباره الوسيلة الوحيدة للقضاء على الظلم و الممارسات التعسفية التي تميزت بها هذه الإدارة.
و مع حصول الجزائر على الإستقلال و شروعها في تأسيس الأجهزة السياسية للدولة الوطنية، اتخذ العنف الرمزي و المادي بين أفراد المجتمع الجزائري أساليب أخرى. و لكن هذا لا يعني، خلال المرحلتين السابقتين، إن السكان الأصليين لهذا البلد، لم يمارسوا عنفا ضد بعضهم.
لقد كان هذا النوع من العنف الداخلي الموجه من طرف جزائريين ضد جزائريين آخرين موجودا، منذ بداية انطلاق العمل المسلح (الإقتتال بين المصاليين و الجبهويين، مجزرة ملوزة، اغتيال عبان رمضان و غيرهم كالطلبة الذين التحقوا بالثورة…)؛ لكن هذه الممارسات، و إن كانت هامشية، فإنها ظلت في عداد المسكوت عنه.
لقد سجلت الرواية الجزائرية هذه الأحداث و عبرت عنها و بخاصة رواية "اللاّز" للطاهر وطار، التي أشارت إلى الخلافات الداخلية التي عرفتها الثورة، و كيف تم التصفية الجسدية لممثلي اليسار الجزائري الذين التحقوا بالعمل المسلح.
إن بروز الصراعات السياسية و الأيديولوجية بين مختلف التيارات التي شاركت في الثورة المسلحة منذ صيف 1962، جعل "الإجماع الوطني" يتصدع و يفقد معناه. و تلاحقت الأحداث منذ انقلاب 19 جوان 1965 و ما لحقه من قمع و تعذيب و اغتيالا ت للمعارضين …؛ إلى أن أحكم النظام على فئات مختلفة من الشعب الجزائري بقبضة من حديد، حيث سيطر الحزب الواحد على كافة النشاطات السياسية.
لم يكن، في البداية، العنف السياسي يمس آنذاك سوى فئات المجتمع السياسي، باعتبارها تعيد النظر في التوجه الشعبوي للنظام أو تحاول أن تتمرد على "الإجماع الوطني" أو المطالبة بالتعددية الحزبية و الديمقراطية.
و ظل الأمر على حاله، إلى بداية الثمانينات، فقد عرف الشارع الجزائري عدة انتفاضات شعبية (الربيع البربري 1980، و أحداث وهران 1982 و غيرها… و ما كانت أحداث أكتوبر 1988 التي شملت كل التراب الوطني، إلا لتعلن عن نهاية "الإجماع الوطني" و تحدث شرخا عميقا داخل النسيج الإجتماعي. و كان للحركة الإسلامية دورا كبيرا في تعميق هذا الشرخ، من خلال الطروحات الأيديولوجية التي طرحتها بقوة في الساحة السياسية منذ نهاية الثمانينات و بداية التسعينات. و هكذا شمل العنف السياسي و الأيديولوجي كل فئات المجتمع المختلفة.
و يتضح مما سبق أن المجتمع الجزائري، قد تعرض لكل أشكال العنف الداخلي منذ انطلاق العمل المسلح ضد المحتل الفرنسي، إلى الآن. و لكن المستوى الذي بلغه هذا العنف الداخلي الذي يميز هذه المرحلة التاريخية الحالية، يمثل ظاهرة خطيرة بل إشكالية اجتماعية من الصعب التكهن بنتائجه الآنية و المستقبلية. مما دفع بمختلف الباحثين في حقول العلوم الإجتماعية و الإنسانية إلى الإهتمام بها و محاولة الإجابة عن ماهيتها و خلفياتها و أسبابها و نتائجها.
إن العنف يقتضي "فكرة الإنزياج أو مخالفة المعايير أو القواعد التي تعين الوضعيات المقدرة بأنها طبيعية، عادية أو شرعية. توجد في فكرة العنف، فكرة الاختلال أو الاضطراب، أكثر أو أقل ظرفية أو مستديمة لنظام الأشياء"[1].
و على هذا الأساس، تحمل فكرة العنف في طياتها قيما قد تكون إيجابية أو سلبية إنطلاقا من الموقع الذي يحتله الأفراد أو المجموعات الذين يمارسونه ضد الآخرين.
و نظرا لكون كلمة "عنف" متعددة الدلالات و تخضع في معالجتها للعديد من النظريات العلمية و تقاربها مختلف علوم الإنسانية (من علم إجتماع، و علم النفس و أنتروبولوجيا، و علم السياسة)، فإن الإهتمام بها كظاهرة إجتماعية حديث جدا، إذا استثنينا بعض الأعمال الفكرية التي خصصت لهذا الموضوع (فريديريك أنجلز، سيقموند فرويد، و جوروج صوريل، و رنيي جيرار وجون بول سارتر و التربن يامين و أنا أريند…).
و في هذا الصدد، تشير فرانسواز إيرتي إلى أن الكلمة نفسها غير موجودة كمدخل في الموسوعة العالمية، و ذلك في طبعتها لسنة 1966. لكن بروز هذه الظاهرة في هذا العصرو اتخاذها أوجها متبانية و متنوعة، جعل الحديث عنها يأخذ حصة الأسد من البرامج الإعلامية، و يشغل وسائل الإتصال الجماهيرية بشكل واسع.
و في هذا الصدد، نجد أن الأدب الروائي قد عالج موضوعات العنف و الحرب في مختلف المراحل التاريخية التي عرفتها البشرية، و نجد الرواية البوليسية التي تعرضت لموضوع الجريمة و القتل، و قد ظهر هذا النوع من الأدب "مع تطور المراكز الحضرية الكبرى: التي هي عبارة عن متاهات ملائمة لقيام الجريمة"[2] و إلى جانب الرواية التاريخية أي التي تعتني بالحرب و القتال بين الدول المتنافسة و المتصارعة حول المصالح الحيوية، و الرواية البوليسية نجد، أدب الرعب الذي يتمثل في التعامل مع الأساطير المخيفة و الأموات و الأشباح[3].
إن هذا الصنف من الأدب، لما يتضمنه من عنف و رعب، لم يعرفه الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية إن قليلا، فما عدا بعض الروايات التي تشير إلى الثورة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي، فإن العنف التي تشتمل عليه هو موجه ضد الآخر، أي المحتل الفرنسي و رموزه.
انبثاق حقل روائي جديد :
شهدت المرحلة الحالية، أي نهاية التسعينات، مجموعة من النصوص الروائية المكتوبة باللغة العربية، و التي تتحدث عن المصائر الفردية و الجماعية في ظل الأوضاع المفجعة التي تعيشها الجزائر منذ بداية تدفق العنف المسلح ضد الفئات الإجتماعية المختلفة و ضد رموز الدولة الجزائرية.
و تمتاز هذه الكتابات بأنها تحمل بصمات جيِل من الأدباء، يكتب لأول مرة الأدب الروائي أولا.
ثانيا : نشرت هذه الأعمال كلها ضمن دور نشر خاصة، أي لم تحتضنها مؤسسات الدولة بصفة مباشرة، مما يمنحها استقلالية كبيرة في النشر و التوزيع.
ثالثا : تحمل هذه النصوص في مضمونها، أطروحات جديدة، تعيد النظر في العديد من القضايا الفكرية و الأيديولوجية التي سادت و تكرست في الساحة الثقافية.
رابعا : تجرب هذه النصوص كتابة جديدة، يمكن تسميتها "بعنف النص" لأنها تعيد النظر في الكتابة التقليدية المعروفة بتلاحق أزمتها و أحداثها. فهذه النصوص الجديدة متشظية، تشظي الذاكرة و الذات.
خامسا : تعني هذه الكتابات بفئة معينة من المجتمع، و هي فئة المثقفين التي شكلت كبش فداء للصراع الدائر حاليا بين الدولة الجزائرية و الجماعات الإسلامية المسلحة.
و تنطبق هذه الملاحظات الأولية على كل من روايتي "الإنزلاق" لحميد عبد القادر، "و المراسيم و الجنائز" لبشير مفتي المعنيتين بالدراسة.
الكتابة و الموت :
تطرح هاتان الرويتان، إشكالية الكتابة في زمن الموت المجاني، تريد لنفسها أن تكون كتابة إستعجالية* شهادة ضد الكارثة. إن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الكاتب لتجاوز محنته و تلطيف الأجواء التراجيدية التي تعيشها فئات المجتمع المختلفة. تعلن هذه الكتابة ثورتها و تمردها على المكرس و السائد لتكسر الطابو. إنها كتابة تفجر الذاكرة و النص في بحث عنيف عن المعنى، المعنى الجديد المخلص من التراجيديا.
عندما يواجه الكاتب أو المثقف بصفة عامة، الإغتيال المجاني، و يدفع ثمن أخطاء السياسيين الذين لم يعرفوا تسيير الأزمة، لا يملك من وسيلة سوى مواجهته هذا الوضع بالقلم و الكتابة.
في ظل هذه الأجواء الخانقة و المرعبة، تتحول الكتابة إلى نوع من الصراخ الموجه ضد الصمت القاتل، إلى تنديد بالجريمة و مقتر فيها، ترمي الكتابة إلى تعرية هؤلاء المتسببين في المجزرة الوحشية التي يتعرض لها أولئك الذين لا يملكون من سلاح سوى الكلمة.
الملاحظ أن روايتي "الانزلاق" و "المراسيم و الجنائز" تعالجان موضوع انبثاق الكتابة في ظل أجواء الاغتيال و القتل. إن شخصيات هاتين الروايتين مهددة بالقتل لا مفر لها من هذا القدر سوى ممارسة الكتابة.
و تتضمن هاتان الروايتان موضوع الكتابة، كممارسة اجتماعية و سياسية، خاصة بفئة اجتماعية احترفت القلم و سخرته لفضح الواقع المرير، و تطرح وظيفة الأدب و علاقته بالملتقى. تظهر هذه الكتابة و تبين عن عجزها و ضحالتها أمام عنف و هول الحرب الموجهة ضد ممارسيها، إنها قتل رمزي لأؤلئك الذين يمارسون العنف المسلح.
إنها كتابة جنائزية، تعلن عن حدادها و عن سوداويتها القاتلة، لتحدث شرخا في النظام الرمزي المؤسس على الزيف و الخديعة.
"الانزلاق"[4] و عنف الذاكرة :
تنقل رواية "الانزلاق" القارئ إلى أجواء الرعب الذي تعيشه فئة الصحافيين الذين اعتبروا في بداية انفجار الأزمة السياسية و بداية الإرهاب المسلح، عائقا يحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة. و نظرا لكون هذه الفئة لا تملك الحماية الكافية و تشكل أهدافا سهلة لدى الجماعات الإسلامية المسلحة، فإن المس بها و تصفيتها جسديا أصبح أمرا هاما على المستوى الإعلامي و الدعائي لهذه الجماعات.
تحاول الرواية إعادة كتابة التاريخ في رحلة شاقة و ثاقبة للذاكرة، تنتقم للتاريخ من الزيف الذي بني عليه، أي تصفية الحساب مع أولئك الذين تسيبوا في الوضع الحالي متسترين وراء الشعارات الثورية أو الدينية.
إن الانزلاق و هو عنوان الرواية – يعني الخروج عن المعيار، عن ما هو يقيني و جلي، و هو في حد ذاته عنف، إنه تاريخ تكون العنف و تراكمه عبر المراحل السياسية، و ما يعيشه المجتمع من تفجر و إنحلال ارتبط بتكوين الدولة الوطنية بأجهزتها الأيديولوجية و القمعية. إنه الانزلاق الذي لا مس و تماهى مع تاريخ الجزائر، تاريخ العنف الشامل المؤسس على شرعية ثورية قابلة للنقاش.
وهي عبارة عن حكاية لصحافي – شاعر- عبد الله الهامل- تنقل القارئ إلى فضاءات مختلفة، فضاءات السلطة و فضاءات الممارسة الدينية ( المسجد و هامشه). و فضاءات الصحافة و كذا الفندق الذي لجأ إليه الصحافيون المهددون بالقتل. فضل هذه الرواية، أنها لا تتوقف عند عنف المرحلة الحالية، بل تشير إلى عنف الدولة، عنف السلطة، أي عنف يستشري في خبايا النظام الذي حكم البلاد و العباد و فرض هيمنته دون إجماع و رضا الجميع.
فعبد الله الهامل الذي يعيش محنته الشخصية أو الفردية يسافر بنا عبر ذاكرته و ذكريات جده إلى متاهة التراجيديا الجماعية التي تقاسيها بلدة بني مزغنة، تلك البلدة التي تعاقبت عليها مجموعة من القيادات العسكرية التي مارست كل أنواع القهر و البطش ضد المدنيين و السياسيين، سواء بالإبعاد أو الإغتيال و التصفية الجسدية.
التيه في زمن الوحشية و الموت
يحاول النص الروائي عبر لعبة السرد المتقنة إشراك القارئ باستعمال ضمير المتكلم، إذ تفتتح على جو قاتم يحيلنا نوعا ما على أدب الرعب لما يتضمنه من كوابيس و هواجس مخيفة و أحلام مزعجة. "إنه الحضور الكلي و المهووس للموت"[5]، إن لفظة الموت تتكرر باستمرار – حوالي ثمانية و ستين مرة –عبر كامل فصول الرواية : يضرب الموت حيثما يشاء، في أي وقت و في أي مكان، إنه كالكابوس يجثم على صدر هذه الأمة الجريحة. و في ظل هذه الأجواء، يعيش عبد الله الهامل وحيدا، معزولا، لا يملك سوى أن يتعمق في ثنايا طفولته و في دهاليز التاريخ السادي للبلاد، يواجه مصيره المحتوم، كبطل تراجيدي، يبحث عن شعاع ضوء في ظلام دامس و يحلم بأن رأسه قد انتزع من جسده بضربة خنجر صدئ"[6].
إن الحالة النفسية لهذا الصحفي الذي يشتغل في صحيفة "الرأي الجديد" و البالغ من العمر ثلاثين سنة، محطمة و متدهورة إلى حد جعلته يشعر بالغثيان و الدوران، و التقيوء "سائلا أزرق مختلطا بالدم"[7]. غادر منزله ليستقر بغرفة "بنزل حقير رواده من بائعات اللذة التعيسات رغم كل شيء"[8] أستقر بصفة مؤقتة بهذه الغرفة التعيسة التي تعبق برائحة الرطوبة و الإنغلاق، تاركا وراءه حي سان كلو الهادئ بالضحية الغربية للعاصمة. إنه حي الطفولة الجميلة و به تعلم مع جده "عشق البحر و الشعر و الحياة"[9] قبل مجيء كريمو بولحية و جماعته و كتائب الموت التابعة لتنظيم الأئمة الجدد الذي هددوه بالقتل و نشروا الرعب في أرجاء البلدة.
إن ظهور الجد، ممثل لنشأة الحركة الثورية الذي تربى في أحضان العمل النقابي بفرنسا و في صفوف الحركة الوطنية، كنموذج للطرح السياسي البديل، شهادة حية على مختلف مراحل التاريخية التي عرفتها البلدة منذ بداية القرن العشرين.
إن الروائي يؤرخ من خلال مذكرات الجد المتضمنة داخل النص- لمسار الحركة الوطنية بمختلف مراحلها و لانحرافاتها و صراعاتها الداخلية، و كذا التصفية الجسدية و السياسية التي تعرض لها "المتمردون" عن الخط السياسي الذي وضعه الزعماء.
إن علاقة الجد بحميدة الشاعر مبنية على التماثل بين عزلتين و تعاستين، فالأول ضحية رفاق السلاح الذي أختلف معهم حول الخط السياسي، فهمشوه و حاصروه إلى أن مات غما، لكنه زرع روح التمرد و حب الحياة في وعي حفيدة. هذا الذي يعيش مأساته بسبب تبنيه لمقولة الفارابي : "ليس الروح هو وحده الذي يؤدي إلى الله، بل الفعل كذلك"، و أضاف "إن إجلال مقدس ديني محل مقدس ثوري يؤدي إلى الهلاك المحتوم"[10] و هكذا تتبلور شخصية الشاعر النفسية و الاجتماعية و الإيديولوجية، شخصية متمردة لكنها عاجزة، إنها لا تصنع الحدث، بل ترضخ له، تشهد على تحولات الواقع و ترحل في الذاكرة. هذا هو منطق التاريخ الذي يسلب سعادة الأفراد و يسلط عليهم عنفا، الذي يسجل "لا معنى الحياة"[11].
يحاول الشاعر من خلال "حواره" مع جده إيجاد معنى لما يحدث له، لا شك أن حركة الأئمة الجدد ليس إلا امتداد لممارسات سياسية دشنت في عهد حكم الكولونيل الذي استحوذ على السلطة بالقوة و الذي "أراد أن يكون مثل نابليون بونابرت" فقلب كل شيء، حوّل الزعماء الحقيقيون إلى خونة، و أوجد زعماء جدد". لم يقم الكولونيل و حاشيته سوى بتزييف التاريخ و استعمال السلطة لقهر الناس، و أحتقر السياسيين، كما وظف رجال أمن غلاط "كانوا فيما مضى يشكلون أفراد عصابات التهريب و السرقة المنتشرة في الأحياء الشعبية". ففي ظل هذه الأجواء، تشكل وعي الشاعر، لما كان طفلا، إن العنف موجود في كل مكان، الإحتفال بالثورة عنف، المدرسة تلقن دروس مليئة بحكايات العنف، فالحرب و الدم و القتل و الأجساد المحروقة و الوجوه المشوهة هي ما يتعلمه الأطفال بالمدرسة.
أين المفر ؟ فالتوجه إلى المكتبات و إلى المركز الثقافي الفرنسي للبحث عن السعادة بين الكتب و القراءة في كنوز الأدب العالمي، لم يعد يجدي. كل شيء دمر و أغلق المركز الثقافي أبوابه و انتقل الصراع السياسي إلى قاعة التحرير، و أصبح الصحافيون أعداءا لبعضهم البعض، بسبب الانتماءات الأيديولوجية المتنافرة. لم تبق سوى المقاومة بالكتابة، و حمل مشعل الرسالة الثقافية التي عاد من أجلها من مدينة باريس، بعد أن قضى هناك تسعة أشهر.
الكتابة أو الموت، ذلك هو مصير المثقف الذي يعيش بين تهميش السلطة و تهديد الأئمة الجدد. إن الموت أصبح أكثر شراسة فهو كعجوز ضارية، متّسحة برداء أسود، و مرتدية جلبابا مرقعا و غطت وجهها بنقاب طويل، مثقوب عند العينين"[12] تنتصب كالمسكينة على حصيرة من الديس كل يوم جمعية لتحرض المصلين على قتل الشعراء أولا، و كل المعارضين ثانيا.
- 2. العنف و عودة المكبوت
إن العنف الذي يسجله النص الروائي "الإنزلاق" انبثق من رحم المجتمع ذات خريف، لم يكن عفويا، بل جاء نتيجة لتراكم الأحقاد و الخيبات و الإحباطات التي "تراكمت في نفوس الناس منذ أن رمي بالرومي ما وراء البحر. خرج المهمشون، و ذو و الأحلام الضائعة، و كل الذين نسيتهم الثورة (بعد أن و عدتهم كثيرا) و ألحقت بهم الأذى، و قد انحرفت عن مسارها"[13].
فكان خريف الغضب (أحداث أكتوبر 1988) عاصفة هوجاء انفجرت كالبركـان و دمرت و أحرقت كل الرموز التي تدل على السلطة من مباني و سيارات…، و تبع ذلك قمع وحشي (حملة الإعتقالات، و استيقظ الناس على وقع أحذية خشنة، ترفس كل شيء في طريقها، في اليوم السادس من هذا التمرد على السلطة. فممارسة التعذيب كان شبيهة بممارسة الرومي و كأن الزمن الكولونيالي قد عاد[14].
و استغل النظام هذا الشرخ الإجتماعي، لإصلاح السلطة بلفظ المحافظين من صفوفهم، و إعطاء المبادرة للأوجه الليبرالية، لكن المفاجأة أتت من مساجد الأحيان الشعبية الفقيرة. كانت السلطة تبغي من وراء ذلك ربح الوقت و إحلال السلم المدني، لكن ما لم يكن في حسابها هو التحالف الجديد الذي تشكل من الأئمة الجدد، الذين عادوا من أفغانستان و من المحافظين الذين لفظتهم السلطة، و من الأطفال الذين عذبوا في سجون النظام خلال خريف الغضب.
هذا التحالف الثلاثي سيقلب موازين القوى السياسية لصالحه، مما يدفع بالحاكم إلى محاولة الإعتماد عليه للبقاء في الحكم.
إن البحث عن متعة الحكم و المتعة ببساطة هو سبب إنهيار بلدة مزغنة، و دخولها في فوضى عارمة، كان ذلك منذ أن دخلها سي أحمد السرجان، النموذج لأولئك الذين انتسبوا للثورة و عاتوا فسادا في البلاد و العباد بعد حصول الجزائر على الإستقلال. و هم كثيرون و تكونوا في جمعيات أو طائفة الثوريين الذين استحوذوا على خيرات البلاد و ريوعها الوفيرة.
إن التوزيع اللامتكافئ للثروات الوطنية و الإستعمال الأقصى للقوة العمومية لقمع كل تمرد شعبي أو معارضة سياسية أو فكرية هو التربة التي ستبث العنف الدموي الذي يواجهه كل أفراد المجتمع و منهم الشعراء، بعد أن انقلبت السلطة على التحالف الجديد من خلال انتخابات اختلط فيها الحابل بالنايل وأجهضت في نهاية الأمر.
و لم يبق أمام الأئمة الجدد سوى الإنتقام من رموز النظام و من المجتمع فتدرجوا من الإغتيالات السياسية و المجازر الجماعية، و نكلوا بالنساء و الشيوخ و الأطفال.
ضمن هذه الأحداث المؤلمة، حيث العنف مستشري بصفة همجية، يحاول الشاعر و من خلال ذاتيته فهم و إدراك هذه التحولات المؤلمة، يحاول أن يهرب من الحب المزيف و الظرفي، بحثا عن حب حقيقي و عن حنان ترتوي به نفسه الظمآنة، فيلقي الموت كقدر محتوم، مثله مثل الأبطال الهوميريين.
إن القتل أصبح هو اللغة الجديدة، في عصر الهمجية و البربرية، يمارسه قتلة من نوع جديد، "أياديهم ملطخة بالدم" و بين أسنانهم بقايا لحم بشري"[15] يرددون آيات قرآنية غريبة، مقلوبة. إن الراوي يورد لهم صفات البدائية و الوحشية ليعمق جو الرعب الذي تعيشه بلدة بني مزغنة. و يربط ذلك ببعض الرموز التاريخية (الحجاج بن يوسف، الخوارج و هو معسكرون خارج أبواب البصرة، و الأزارقة، و كأن القرن السابع يعيد نفسه في ثوب و مكان جديدين، هما بلدة بني مزغنة.
المراسيم و الجنائز : العشق في زمن الهمجية
هي الأجواء نفسها : إرهاب و رعب و خوف و قتل همجي، تعيشها مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى الفضاء الثقافي (الجامعة و الصحافة)، و تحترف الكتابة و هي شهادة هذه الفئة المثقفة التي تحمل هم المرحلة الصعبة التي تعيشها الجزائر، تطالعنا بها رواية بشير المفتى.
إن هذا النص على عكس، النص الأول لا يحاول تصفية الحساب مع التاريخ، مع أسباب الانحراف السياسي التي تولد عنها العنف، و إنما هي عبارة عن رحلة عبر مخيال مجموعة من الأفراد و يبحثون عن ذواتهم و عن ذاتياتهم الضائعة بين الواقع و الممكن بين الخيبة و الأمل، بين الإرادة و الإحباط.
و لعل تداخل العلاقات بين أفراد هذه المجموعة التي تشكل عالم مصغر لجيل أصبح ضحية لتلاعبات سياسية تجاوزته معيقة كل رغبة في الحب و السعادة و الحلم.
إن النص الروائي يضع أمام القارئ مصائر كل من الصحفي و الأستاذ الجامعي (ب) و أصدقائه (فيروز و وردة قاسي و حميد عبد القادر و حميدي ناصري)، هؤلاء الذين يعيشون في خضم أحداث العنف، يبحثون عن الصفاء و الطمأنينة، و لكن أجواء الإضراب الذي شنه اتباع سعيد الهاشمي و احتلالهم للساحات الكبرى للمدينة، توحي لأن الأمور ستسير إلى ما لا تحمد عقباه. "كان حي بيلكور مملوءا بالحركة و التمرد"[16] و لا شيء يدل على الطمأنينة فالخوف، و القلق و البؤس، بالإضافة إلى الاغتيالات التي تمس المقربين، مثلما فعلوا" بعمر حلزون "الذين قطعوا رأسه. هؤلاء، احتلوا النفوس قبل الكراسي، نالوا في البداية تعاطف جميع الناس لأنهم حملوا شعار الحرية و الإنقاذ لكنهم انقلبوا على المجتمع و عاتوا فسادا في الأرض.
الرواية هي عبارة عن حكاية لعذاب هذا السفر، هذه الرحلة المؤلمة، يحكيها الراوي لفيروز، تلك الفتاة التي أحبها حبا كبيرا، لكنه متردد و لم يحسم موقفه منها.
و السبب يعود إلى أنه، أي الراوي (الصحافي ب)، كان متناقضا في علاقته بالنساء، يحب فيروز و يعشق وردة قاسي و يمارس حياته الجنسية مع أخريات... و هذا سبب ابتعاد فيروز عنه. و الرواية كلها عبارة عن بحث على هذه الفتاة الجميلة و المتمردة، و كأنها خلاصه من هذه الأزمة النفسية، الاجتماعية التي يعيشها في ظل أجواء الاضطرابات السياسية و الاغتيالات و المجازر الجماعية. و تبرز الرغبة في الكتابة، كحل وسط بين الهرب أو الموت، فالكتابة هي "السلاح الوحيد في هذه المعركة لتعرية الواجهة. نزع الأقنعة، فضح المسكوت عنه… لهذا بدأت أكتب روايتي الثانية… إنها تصف كل ما رأيت و شاهدت… كل ما عانيته… كل ما أقسمت بأن لا أقوله"[17].
لكن إلى أين المفر ؟ فما عسى أن تفعل هذه الشخصيات العاجزة عن تحقيق ذاتيتها. فالصحافي (ب) الذي حاول أن يستنبطن الهامش من المجتمع، ألتقي برحمة، الكاتبة المنسية، التي تفسر له أسباب إنقطاعها عن الكتابة بسبب الجو اللاثقافي للبلاد و قمع الحريات، كما يلتقي بجعفر المنسي، الذي يعلمه التاريخ و النضال من أجل الديمقراطية، فيؤسسان مع آخرين لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان. لكن الصحافي (ب) غارق في ذاتيته و متردد في حبه بين فيروز و وردة قاسي، و علاقته بصديقه حميدي ناصر و أحمد عبد القادر لم تكن إلا عبارة عن مأساة جماعية لجيل ضائع و عاجز. و لم يكتب لهذه العلاقات إلا النهاية التي رسمت لها، و هي نهاية مفجعة.
فيروز سافرت إلى مدينة الأنوار، هربا من هذه الأجواء الخانقة، ووردة قاسي انتحرت و قد كان فعلها هذا شجاعة كبيرة في نظر أصدقائها. أما حميدي ناصر فقد أصيب بانهيار عصبي أدى به إلى التوجه لمستشفى الأمراض العصبية، بعد أن أتم روايته "و قصة الثعالب و ممتلكات الذئاب"، أما أحمد عبد القادر فقد تحول إلى درويش، لم يعد يبرح المسجد، بعد أن أحرق أشعاره و هاجر عائلته و أبناءه.
و أمام تحلل هذا المجتمع الصغير، الذي لم يصمد أمام هول الكارثة، و أصيب في أعماقه من جراء هذا العنف الكبير، لم يبق أمام الصحافي (ب) سوى الفرار من الوطن و الإستسلام لإغراءات الذي يعرضها عليه أحد رجال الأعمال الخليجيين و هي تولي منصب رئيس تحرير لمجلة سياحية، أو انتظار فيروز الذي ستعود من باريس.
خلاصة
إن أحداث العنف التي تشهده الجزائر التي رافقت عمليات إصلاح النظام السياسي دون تغييره جذريا، أفرزت العديد من الأشكال التعبيرية، بعضها أنتج و نشر و وزع خارج الوطن، كما أفرزت مجموعة من النصوص الروائية التي تطرقت لهذه التحولات الاجتماعية و السياسية. و هذه النصوص هي عبارة عن شهادات كتبت تحت ضغط الأحداث، بصفة إستعجالية، لتسجل الراهن و الآني، و تندد بالمسكوت عنه، و هو قتل ذاتية الإنسان الجزائري، و بخاصة المثقف، قبل قتله ماديا و اغتياله جسديا.
و إذا كان للعنف دور في إعادة. ترتيب ميزان القوى السياسية و إعطاء رؤية جديدة للتاريخ، فإن الكتابة الأدبية، عندما تتخذه موضوعا لها، تضفي عليه أبعادا جديدة، تمارس عليه حساسيتها و جماليتها لتجعله أكثر بشاعة و وحشية، و القارئ في هذه الحالة لا يمكن له إلا أن يقف منه موقفا عدائيا.
محمد داود - Mohamed DAOUD
الهوامش
[1]- Michad, Yves.– Violence (Encyclopedia Universalis). - Paris – France, P. Editeur, 1996
[2]- Raimond, Michel.- Le roman.- Paris, Armand Colin, 1989.- p.31.
[3]- Todorov, Tzvetan.- Introduction à la littérature fantastique.- Paris, Editions du Seuil, 1970.- p. 81.
* ظهرت العديد من الروايات التي تمتاز بهذه الصفة، و التي أرادت أن تكون شاهدة على الوضع الحالي، و قد نشرت في معظمها باللغة الفرنسية ضمن مجلة "الجيري ليتيراتور- آكسيون" Algérie. Littérature / Action.
[4]- عبد القادر، حميد.- الإنزلاق. – الجزائر، منشورات مارينو، 1998.
[5]- الانزلاق… - ص.7.
[6]- م.س.- ص.7.
[7]- م.س.- ص.15.
[8]- م.س.- ص.16.
[9]- م.س.- ص.17.
[10]- م.س.- ص.13.
[11]- Raimond, Michel.- Le roman.- Paris, Armand Colin 3 ed., 1989.- p.69.
[12]- م.س.- ص.48.
[13]- م.س.- ص.56.
[14]- م.س.- ص.59.
[15]- م.س.- ص.10.
[16]- المراسيم و الجنائز.- ص.10.
[17]- م.س.- ص.28.a
Text
دفاتر إنسانيات
- عدد 01 : الجزائر تحولات اجتماعية و سياسية
- عدد 02 : الجزائر : الهوية والتاريخ والتحولات العمرانية
- عدد 03 : المجتمع المدني و المواطنة
- عدد 04 : أنثروبولوجيا المجتمعات المغاربية : بين الماضي و الحاضر
- عدد 05 : الشباب ومسألة الاعتراف في الجزائر دراسة حالات
- عدد 06 : الصحراء مجتمعات و ثقافات
- عدد 07 : في الهجرة و المنفى
- عدد 08 : التسمية بين الأعلام و المعالم