افتتاحية العدد

افتتاحية العدد

إن حقل الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية ومناهج دراستها من بين الحقول المعرفية التي أصبحت تلقى عناية خاصة من طرف دوائر البحث الأكاديمي في مختلف البلدان ولدى المنظمات الدولية المعنية بالثقافة والبحث،نظرا للإدراك المتزايد لأهميتها في معرفة الشعوب لذواتها ولبعضها،في إطار العلاقات بين ثقافات الشعوب البشرية المختلفة التي تطمح في بداية الألفية الجديدة إلى التحاور والتعايش في كنف تواصل إنساني يستبعد الهيمنة وفرض الرؤى المركزية الموروثة عن عهد الاستعمار والتبعية، وكذلك بغرض توجيه تغييرات وتطورات حياة الجماعات البشرية بالاعتماد على حريتها الثقافية التاريخية واستنادا إلى وعي الأجيال الجديدة بخصوصيتها وهويتها الثقافية.

ويأتي إصدار "دفاتر إنسانيات" في سياق يعرف تطورا منهجيا متسارعا في مجال البحوث الإنسانية والأنثروبوجية التي أصبحت تمثل ملمحا عالميا يتزايد الاهتمام به من طرف الأوساط العلمية المختلفة، كما أنه أصبح يشكل قطبا يجتذب إليه مختلف المقاربات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويسمح بتحليل النصوص ومختلف الظواهر الثقافية بمراعاة زوايا النظر المتعددة الاختصاص،مما يمكن من رؤية شاملة.

إن الباعث الحقيقي على إصدار "دفاتر إنسانيات" هو البحث عن إقامة جسر متين من الحوار العلمي والفكري بين الباحثين في الوطن العربي،بالإضافة إلى إفاء الحركة الثقافية بالجزائر حقها في الانتشار، خاصة وأن إخواننا بالمشرق العربي كثيرا ما يشكون من غياب هذا التواصل بين المغرب والمشرق العربيين.

ينبثق هذا المولود الجديد من رحم ممارسة علمية ظلت لسنوات تكابد من أجل التأسيس لتقاليد صلبة ومنتظمة في النشر والبحث، وبإصدار العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" يحقق مركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية والثقافية مشروعا ظل رهن التفكير لمدة طويلة،ويحقق هدفا أساسيا من أهداف مجلة إنسانيات، رغم حداثة سنها،فهي لم تتجاوز بعد عامها السادس (1997-2003)، لكنها على حداثة عمرها الزمني استطاعت بفضل القائمين عليها أن تخطو خطوات هامة من خلال نشر العديد من الدراسات والبحوث التي استرعت اهتمام القراء والنقاد المتخصصين على المستوى الوطني والدولي. وقد كان هذا المشروع ممكن الإنجاز قبل هذا الأوان ؛ لكن الأمل في نضج الفكرة والعمل على توفير الشروط التي تضمن تحقيق الحد الأدنى للنوعية والدوام من جهة، والاستجابة لأفق انتظار القارئ في الوطن العربي من جهة أخرى، هما العاملان اللذان حالا دون تحقيق هذه الرغبة من قبل. ولئن تأخر صدور هذا النوع من التأليف للأسباب المذكورة ولغيرها، فقد حان الأوان لإنجاز هذه المحاولة، وستعقبها محاولات أخرى.

لقد تزامن ميلاد "دفاتر إنسانية" مع تجسيد استراتيجية مجلة "إنسانيات" الرامية إلى توسيع مقروئيتها في اتجاه الوطن العربي أملا في ترقية البحث العلمي وتشجيع الاحتكاك بين الباحثين العرب في مجال الأنثروبولوجية والعلوم الاجتماعية والآداب.

يقدم العدد الأول من "دفاتر إنسانيات" إلى القارئ العربي مستخلصات بحثية منتقاة من ثلاثة أعداد (العدد الثامن، العاشر والحادي عشر) من مجلة إنسانيات سبق نشرها في الفترة ما بين سنة 1999 و 2000 وهي فترة شهدت أحداثا كثيرة وتحولات عميقة في الجزائر.

وتأتي أهمية النصوص المختارة كونها تتناول قضايا في غاية من الأهمية على المستوى الفكري وحرية التعبير، وعمق الطرح والمساءلة، وهي أبعاد أساسية تركز عليها مجلة إنسانيات في نشر موادها.

وانطلاقا من هذا الموقع لا يمكن النظر إلى المواد المختارة باعتبارها بناء فكريا أو إسقاطا نظريا مفصولا عن واقع الجزائر،وما جري فيها من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية، بل هي نصوص أقرب إلى الممارسة والمعيش التاريخي المتأصل في "مجتمعنا بتراثه وبؤسه، بنجاحاته ومآسيه،بانتماءاته وتمزقاته، بجاذبيته وتنافره، بقطيعاته واستمراريته."

تتوزع مادة العدد الأول عبر محاور ثلاثة : العنف، مساهمات في النقاش-الحركات الاجتماعية،الحركات الجمعوية-المقدس والسياسي، وهي مادة تعكس آراء متباينة بالنظر إلى تعدد المناهج والتوجهات الفكرية ومعالجة المسلمات التي تنطلق منها،بالإضافة إلى كيفية التعامل مع المعطيات العلمية والمرجعيات التاريخية والجغرافية والدينية واللغوية. فهو عدد يشتمل على دراسات تتبنى في مجملها مادة متداخلة الثقافات، قابلة لعمليات التهجين الخطابي لمختلف الحقول المعرفية المتقاطعة، خاصة عندما يتعلق الأمر بخطاب المقدس والسياسي، العنف والحركات الجمعوية.

وعلى الرغم من أن كل محور صدر أصلا عن مسعى مرتبط بحقل بحث معين،تسهل مقابلة ومقارنة الموضوعات المقترحة فيه،ويتيسّر من خلالها النظر إلى المضمون تارة في شموليته وتطوره، وتارة أخرى في تراكيبه وديناميته الجدلية الفاعلة، فإنه لا يمكن اختزال أبحاث هذا العدد في ظل سياق مغلق.

وقد حرصنا أن يكون مستوى التداخل بين المحاور الثلاثة أكثر انفتاحا،ذلك أن الصلة البارزة/الخفية التي تخترق أبحاث هذا العدد يجمع بينها السياق التاريخي، الإقليمي، السياسي والإيديولوجي، فهي حصيلة فكرية تؤسس لخطاب يرمي إلى وضع مورفولوجية ثقافية، مستلهمة من الترسبات التاريخية والدينية والفكرية العميقة. لذلك تتجلى النصوص المختارة في شكل نسيج من القضايا المتشابكة، وهي في عمومها تحيل على تراثنا الثقافي والتاريخي الذي طبعته آثار الشعوب التي تداولت على احتلال أراضيه وسواحله لفترات طويلة، بالإضافة إلى التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الجزائري المعاصر على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى العمراني.

إن إنجازا مثل هذا خليق بالمباركة والدعم من طرف الباحثين الجامعيين ومن طرف الهيئات المعنية، لكي يتم ضمان استمراره وتطوره. إنه لبنة تضاف لأساس صرح البحث العلمي في الجزائر.



Text

PDF

Adresse

C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO, Bir El Djir, 31000, Oran Algérie

Phone

+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11

Fax

+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Support

Contact Us